وقعت في شهر جمادى الأولى من السنة الثامنة للهجرة، وسميت غزوة خلافا لغيرها من السرايا بسبب كثرة عدد الجيش حيث بلغ ثلاثة الآف مقاتل، وتعدد الأمراء، وحصول القتال فيها. وسبب هذه الغزوة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسل من ضمن رسله إِلى ملوك الأَّرض وأمرائها، الحارث بن عمير الأزدي رسولًا إِلى ملك بُصْرى، فعرض له شرحبيل بن عمرو الغساني واعتقله وضرب عنقه، فغضب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وجهز جيشا أمّر عليه ثلاثة أمراء خلافا لسراياه، حيث جعل الأمير زيد بن حارثة، فإِن قُتِل فجعفر بن أبي طالب، فإن قُتل فعبد الله بن رواحة (1)، وأرسل الجيش إِلى المكان الذي قُتِل فيه رسوله الحارث بن عمير، وأمرهم بدعوة من هناك إِلى الإِسلام، فإن أجابوا وإِلا قاتلوهم، وخرج مودعا لهم حتى بلغ ثنية الوداع، وقال لهم "اغزوا باسم الله، فقاتلوا عدو الله وعدوكم، إِنكم ستدخلون الشام وستجدون رجالا في الصوامع معتزلين فلا تتعرضوا لهم، ولا تقتلوا امرأة، ولا صغيرا، ولا كبيرًا فانيا، ولا تقطعوا شجرة، ولا تهدموا بناءً" (2)، وعندما وصل الخبر الروم جهز هرقل مائة ألف مقاتل، وتبعه مائة ألف أخرى من العرب، من لخم وجذام وبلقين وبهراء وبلي، فلما بلغ جيش المسلمين مَعّان تشاوروا في أمرهم وقالوا: نكتب إِلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنخبره بعدد عدونا، فإِما أن يمدنا بالرجال، وإِما أن يأمرنا بأمره فنمضي، فشجعهم عبد الله بن رواحة قائلا: يا قوم إِن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون، الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إِلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإِنما هي إِحدى الحسنيين إما ظهور وإما شهادة. فقال الناس: قد صدق والله عبد الله بن رواحة (3).
__________
(1) صحيح البخاري حديث رقم 4261.
(2) ابن عساكر، تاريخ دمشق 1/ 391 وانظر: بريك أبو مايله، غزوة مؤتة ص 269.
(3) ابن هشام، السيرة النبوية 2/ 375.
وتحرك جيش المسلمين والتقى بالروم عند قرية مؤتة، وهناك دارت رحى معركة غير متكافئة في العَدد والعُدد، ولكن الله ثبت عباده ووفقهم، حيث أثخنوا في جيش العدو، قال خالد بن الوليد: انقطع في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف (1). فهذه الأسياف التي انقطعت في يده كم من الرقاب والدماء أزالت وأسالت؟ وقُتِل القائد الأول زيد بن حارثة برماح الأعداء، فأخذ الراية جعفر بن أبي طالب فاقتحم عن فرسه ثم عقرها حتى لا يستفيد منها العدو، وثبت ثبات الأبطال حتى قطعت يده التي تحمل الراية، فأخذ الراية باليسرى؛ وظل يقاتل فقطعت أيضًا فحملها بعضديه فصرعه أحد الفرسان، وقد عوضه الله بجناحين يطير بهما في الجنة (2). وأخذ الراية عبد الله بن رواحة وتردد قليلًا ثم جالد الأعداء حتى سقط صريعا، ولما سقطت راية المسلمين حملها ثابت بن أقرم الأنصاري وقال: يا قوم اصطلحوا على رجل منكم. فقالوا: أنت، فقال: ما أنا بفاعل. ثم اصطلح الناس على خالد بن الوليد فدفعها إِليه (3). وكان ذلك في آخر النهار، وقد بَرَد القتال، فاتخذ خالد خطة حربية محكمة حيث غير مواقع الجند، فجعل الميمنة ميسرة، والميسرة ميمنة، والمقدمة مؤخرة، والمؤخرة مقدمة، واختار عددًا من الفرسان وأمرهم بأن يثيروا الغبار فيظن العدو بأن هناك مددا قادما، فأوقع الله في قلوب الروم الرعب فانسحبوا وبذلك نصر الله جنده، ودليل النصر وهزيمه الكفار قوله - صلى الله عليه وسلم -: ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم (4).
ومع ما حصل من قتل القادة والشدة على جيش المسلمين إِلا أن عدد القتلى من
__________
(1) صحيح البخاري، ح 4017.
(2) المصدر السابق ح 3709، 4264.
(3) ابن هشام 2/ 379.
(4) صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة مؤتة ح رقم 4262.
المسلمين كان من القلة بمكان. قال ابن كثير: وهذا عظيم جدًا أن يتقاتل جيشان متعاديان في الدين أحدهما وهو الفئة التي تقاتل في سبيل الله عدتها ثلاثة آلاف، وأخرى كافرة وعدتها مائتا ألف مقاتل، من الروم مائة ألف، ومن نصارى العرب مائة ألف أخرى، يتبارزون ويتصاولون ثم مع هذا كله لا يقتل من المسلمين إِلا اثنا عشر رجلًا، وقد قتل من المشركين خلق كثير (1).