هل تخيلت الموكب المقدس لرسول الله وهو يقود 100 ألف مسلم من المدينة يسيرون نحو مكة البلد الحرام لتأدية أول مناسك حج، وتحفهم الملائكة ويتنزل جبريل عليه السلام بآيات الله على نبيهم، فيعلمه المناسك والشعائر.
في الحديث نرى وصفًا لهذا المشهد: «مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة تسع سنين لم يحجّ، ثم أذّن في الناس في العاشرة أن رسول الله سيذهب للحج، فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله ويعمل مثل عمله.وخرج صلى الله عليه وسلم من المدينة 5 ذي القعدة، قال جابر: فلما استوت به ناقته في البيداء، نظرت إلى مدّ بصري بين يدي رسول الله من راكب وماش، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن» . [متفق عليه]
23 عامًا من الجهاد تكلَّلت بتلك اللحظات العظيمة، تحقق هنا الوعد الإلهي ففُتحت مكة وجاءت الوفود من اليمن والشام والحجاز وغيرها تدخل في دين الله أفواجًا ..
النبي المهيب والقريب: كان صلى الله عليه وسلم قريبًا من الناس، والناس قريبون منه، يهابه كل أحد ويدنو منه كل أحد؛ يسعهم بالخُلق العظيم الذي فطره عليه ربه، فكان - في قبّة حمراء في الأبطح، فإذا توضأ لصلاته خرج بلال ببقية وضوئه فيفيضها على الناس [رواه أبوداود]، فمن أصاب منها شيئًا تمسح به، ومن لم يصب منها أصاب من بلل صاحبه، ثم يخرج فيصلي بهم فحدث أبو جحيفة - رضي الله عنه- أنه أخذ يد الرسول ووضعها على وجهه فإذا هي أبرد من الثلج وأطيب رائحةً من المسك.
-جاءت النبي امرأة تسأل علة أبيها وإمكانية الحج عنه، لاحظ النبي صلى الله عليه وسلم انتباه صاحبه الفضل له فجعل النبي يدير وجهه إليه. (كان بإمكان النساء سؤاله مباشرة)
-وجد النبي أن السيدة عائشة تبكي لأن دم الحيض منعها من استكمال مناسك الحج والصلاة، فقال : «لا يضيرك، إنما أنت امرأة من بنات آدم، كتب الله عليك ما كتب عليهن». وقد قال النبي - صلى الله عليه و سلم - لها: «طوافك يسعك لحجك وعمرتك» [رواه مسلم].
-قائد الجموع الملبية: سار صلى الله عليه وسلم بهذه الجموع الزاحفة حوله ما بين راكب وماشٍ تحيط به كما تحيط الهالة بالقمر، فقال: «أتاني جِبريلُ عليه السلام فأمرني أن آمر أصحابي ومَن معي أن يرفعَوا أصواتَهُم بالإهلالِ" أو قال "بالتلبيةِ"» [رواه أبي داوود]
استحضار العبرة: وفي أودية مكة كان النبي كمن يرى رؤي العين هودًا وصالحًا وموسى ويونس وعيسى، وكيف كانت هيئتهم بسيطة حفاة يؤمون البيت العتيق وماذا كان قولهم لربهم [حديث لابن عباس برواية المنذري]
-مرض النبي في الحج: في الطريق بين المدينة ومكة، مرض صلى الله عليه وسلم في مسيره، واشتد به صداع الشقيقة فاحتجم في وسط رأسه .
-التسامح: أضاع أحد الغلمان البعير التي تحمل متاع النبي، وكاد أبو بكر أن يعنفه بشدة لولا رحمة الحبيب وقوله لأبي بكر مذكرا إياه بإحرامه ورحمة بالغلام: « انْظُرُوا إِلَى هَذَا الْمُحْرِمِ مَا يَصْنَعُ » ولم يلبثوا طويلًا حتى وُجدت الزاملة [الحقيبة]. [رواه أبو داوود]
-رفقه بالمسلمين : سار صلى الله عليه وسلم بمن معه حتى نزل شرق مكة، وأقام بهم أربعة أيام، ومن رفقه بهم أنه لم يذهب إلى المسجد الحرام والكعبة المشرفة خلال تلك المدة؛ لأنه لو ذهب لسارت معه هذه الجموع العظيمة، ولشق ذلك عليهم [صفة حج النبي للطريري].
احترام الإنسان: مر النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالكعبة بإنسان ربط يده إلى إنسان يمشي خشية التفرق، فقطعه النبي الرباط بيده ثم قال صلى الله عليه وسلم: « قده بيده » [أي: لا تعامله كبهيمة تساق بحبل!]
-حكمته في الهدي: جاء علي بن أبي طالب من اليمن محرمًا فوجد زوجته فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت قد حلت من عُمرتها، وجدها قد لبست ثيابًا مصبوغة، واكتحلت، وطيبت بيتها، فأغضبه ذلك ولما أخبر رسول الله صدَّقها بأنه هو مَن أمرها بأن تفعل، ثم أمره بألا يحل لأنه كان معه الهدي [يقصد أنه سيقرن كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم] [الألباني]
استغرقت رحلة النبي لمكة نحو ثمانية أيام، وقد طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة، ولم يتحلل من إحرامه، لأنه كان قارنًا قد ساق معه الهدي، فنزل بأعلى مكة عند الحجون، وأقام هناك، ولم يعد إلى الطواف غير طواف الحج.
وأمر من لم يكن معه هدي من أصحابه أن يجعلوا إحرامهم عمرة، فيطوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم يُحلوا ، فترددوا، فقال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت. [رواه البخاري].
وهو ما يفيد تيسير النبي على المسلمين بالحج المتمتع والذي يَقِل مشقة عن الإقران بإحرام واحد.
وصاياه الإنسانية في خطبة الوداع: جاء رسول الله رحمة للعالمين، وفي اليوم الثامن من ذي الحجة- وهو يوم التروية- توجه إلى منى، فصلى بها حتى الفجر ومكث حتى طلعت الشمس، فانطلق نحو عرفة، وعند قبة نمرة نزل، وفي أكثر من مائة وخمسين ألف حاج خطب خطبته الجامعة التي تسمى خطبة الوداع وتبعتها خطبته يوم النحر ويوم التشريق وهي خطبة العيد؛ أكد فيها الولاء لدين الله والبراء من الجاهلية وأفعالها وشركها، حرمة الدماء، حرمة الربا، تأكيد العدل، أخوة المؤمنين، أركان الإسلام الخمسة، طاعة أولي الأمر بالمعروف، وأوصى بالنساء، وأشهد الأمة على إبلاغ الرسالة فشهدوا جميعًا. [بتصرف من خطبة الوداع برواية جابر وللاستزادة يرجع للدرس مفصلًا]
وبعد أن فرغ النبيّ صلى الله عليه وسلم من إلقاء الخطبة نزل عليه قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ } [المائدة: 3] وعندما سمعها عمر بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: إنه ليس بعد الكمال إلا النقصان. [ابن كثير].
المثابرة في تعليم المؤمنين: ظل النبي يعلم أمته المناسك فبعد الخطبة صلى رسول الله بالناس واستقبل القبلة وظل حتى غربت الشمس يعبد ربه فانطلق للمزدلفة وصلى المغرب والعشاء بأذان وإقامتين، وبعدها استكمل شعائر البيت الحرام بالطواف والتهليل ومنها انطلق إلى مِنى قبل طلوع الشمس ليشهد رمي الجمرات..
-المشاركة بنحر الإبل: انصرف النبي صلى الله عليه وسلم إلى المنحر، فنحر ثلاثًا وستين بدنة بيده (وكانت الإبل تساق إليه لينحرها شوقا إليه)، ثم أعطى عليًا فنحر ما غبر- وهي سبع وثلاثون بدنة، وأمر بطبخ اللحم وتزود الصحابة منه
-من رفق النبي صلى الله عليه وسلم أن دعا للمحلقين والمقصرين بالرحمة [رواه البخاري]، وكان أبو طلحة قد نال شرف حيازة شعر النبي المقدس. [صفة حج النبي]
-تواضعه في شرب زمزم: ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت، فصلى بمكة الظهر، فأتى على بني عبد المطلب يسقون على زمزم، فأرادها للمسلمين عامة، وكان من تواضع النبي أن رفض شرب مشروبًا خاصًّا قدمه إليه العباس بن عبدالمطلب كي يشارك أصحابه في الشرب من ماء زمزم ويستفاد كذلك من بركتها.
-الرفق في الطواف: تحلل النبي بعد الجمرات والنحر من إحرامه، وطيبته عائشة وركب إلى البيت الحرام مع أسامة بن زيد، فلما وصل الكعبة طاف راكبًا يستلم الحجر بمحجن [عصا] كان معه [أي أنه أشار إلى الحجر ولم يستلمه بيده..وهو من رفقه بالأمة لمنع التدافع]
-رحمته بالمؤمنين: في يوم النفر الثاني- الثالث عشر من ذي الحجة- نفر النبيّ صلى الله عليه وسلم من منى، فنزل بخيف بني كنانة من الأبطح، وأقام هناك بقية يومه ذلك، وليلته، وصلى هناك الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم رقد رقدة، ثم ركب إلى البيت، فطاف به طواف الوداع.
ولما قضى مناسكه حث الركاب إلى المدينة المطهرة، لا ليأخذ حظًّا من الراحة، بل ليستأنف الكفاح والكدح لله وفي سبيل الله. [السيرة النبوية لابن هشام 4/605]