,
وكان الناس- كما فى السير وغيرها- إنما يجتمعون إلى الصلاة لتحين مواقيتها، من غير دعوة.
وأخرج ابن سعد فى الطبقات، من مراسيل سعيد بن المسيب: أن بلالا كان ينادى للصلاة بقوله: الصلاة جامعة الحديث.
وشاور رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أصحابه فيما يجمعهم به للصلاة- وكان ذلك فيما قيل فى السنة الثانية- فقال بعضهم: ناقوس كناقوس النصارى، وقال آخرون: بوق كبوق اليهود «1» ، وقال بعضهم: بل نوقد نارا ونرفعها فإذا رآها الناس أقبلوا إلى الصلاة.
فرأى عبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه فى منامه رجلا فعلمه الأذان والإقامة، فلما أصبح أتى النبى- صلى الله عليه وسلم- فأخبره بما رأى، وفى رواية معاذ بن جبل عند الإمام أحمد قال: يا رسول الله إنى رأيت فيما يرى النائم- ولو قلت إنى لم أكن نائما لصدقت- رأيت: شخصا عليه ثوبان أخضران فاستقبل القبلة فقال: الله أكبر، الله أكبر، مثنى مثنى، حتى فرغ من الأذان. الحديث، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «إنها لرؤيا حق إن شاء الله تعالى، قم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به، فإنه أندى صوتا منك» . قال: فقمت مع بلال فجعلت ألقيه ويؤذن.
قال: فسمع بذلك عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- وهو فى بيته، فخرج يجر رداءه يقول: والذى بعثك بالحق يا رسول الله، لقد رأيت مثل ما رأى «2» .
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (604) فى الأذان، باب: بدء الأذان، ومسلم (377) فى الصلاة، باب: بدء الأذان، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.
(2) صحيح: أخرجه أبو داود (499) فى الصلاة، باب: كيف الأذان، وأحمد فى «مسنده» (4/ 42 و 43) ، وابن حبان فى «صحيحه» (1679) ، وابن خزيمة فى «صحيحه» (371) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
ووقع فى الأوسط للطبرانى: أن أبا بكر أيضا رأى الأذان.
وفى الوسيط للغزالى: أنه رآه بضعة عشر رجلا.
وعبارة الجيلى فى شرح التنبيه: أربعة عشر.
وأنكره ابن الصلاح ثم النووى، وفى سيرة مغلطاى: أنه رآه سبعة من الأنصار.
قال الحافظ أبو الفضل بن حجر- رحمه الله-: ولا يثبت شىء من ذلك إلا لعبد الله بن زيد، وقصة عمر جاءت فى بعض الطرق: انتهى. قال السهيلى: فإن قلت: ما الحكمة التى خصت الأذان بأن يراه رجل من المسلمين فى نومه. ولم يكن عن وحى من الله لنبيه كسائر العبادات والأحكام الشرعية، وفى قوله- صلى الله عليه وسلم- له: «إنها لرؤيا حق» . ثم بنى حكم الأذان عليها، وهل كان ذلك عن وحى من الله له أم لا؟
وأجاب: بأنه- صلى الله عليه وسلم- قد أريه ليلة الإسراء. فروى البزار عن على قال:
لما أراد الله تعالى أن يعلم رسوله الأذان جاء جبريل- عليه السّلام- بدابة يقال لها البراق فركبها حتى أتى بها الحجاب الذى يلى عرش الرحمن، فبينما هو كذلك خرج ملك من الحجاب، فقال: يا جبريل من هذا؟ قال: والذى بعثك بالحق، إنى لأقرب الخلق مكانا، وإن هذا الملك ما رأيته منذ خلقت قبل ساعتى هذه. فقال الملك: الله أكبر، الله أكبر، فقيل له من وراء الحجاب:
صدق عبدى، أنا أكبر، أنا أكبر.. وذكر بقية الأذان.
قال السهيلى: وهذا أقوى من الوحى، فلما تأخر فرض الأذان إلى المدينة وأراد إعلام الناس بوقت الصلاة تلبث الوحى حتى رأى عبد الله الرؤيا فوافقت ما رأى- صلى الله عليه وسلم- فلذلك قال: إنها لرؤيا حق إن شاء الله تعالى، وعلم حينئذ أن مراد الله بما رآه فى السماء أن يكون سنة فى الأرض وقوى ذلك عنده موافقة رؤيا عمر للأنصارى. انتهى.
وتعقب: بأن حديث البزار فى إسناده زياد بن المنذر أبو الجارود، وهو متروك «1» .
وقال فى فتح البارى: وقد استشكل إثبات حكم الأذان برؤيا عبد الله ابن زيد، فإن رؤيا غير الأنبياء لا يا بنى عليها حكم شرعى:
وأجيب: باحتمال مقارنة الوحى لذلك. ويؤيده ما رواه عبد الرزاق وأبو داود فى المراسيل، من طريق عبيد بن عمير الليثى- أحد كبار التابعين- أن عمر لما رأى الأذان جاء ليخبر النبى- صلى الله عليه وسلم- فوجد الوحى قد ورد بذلك، فما راعه إلا أذان بلال، فقال له النبى- صلى الله عليه وسلم-: «سبقك بذلك الوحى» «2» .
وهذا أصح مما حكى الداودى عن ابن إسحاق: أن جبريل أتى النبى صلى الله عليه وسلم- بالأذان قبل أن يخبره عبد الله بن زيد وعمر بثمانية أيام.
وقد عرفت رؤيا عبد الله بن زيد برواية ابن إسحاق وغيره: وذلك أنه قال:
«طاف بى- وأنا نائم- رجل يحمل ناقوسا فى يده، فقلت يا عبد الله أتبيع الناقوس؟
قال: وما تصنع به؟ قلت: ندعو به إلى الصلاة، قال: أفلا أدلك على ما هو خير لك من ذلك؟ فقلت [له] «3» بلى، قال: تقول الله أكبر، الله أكبر وذكر بقية كلمات الأذان.
قال: ثم استأخر عنى غير بعيد ثم قال [ثم تقول] إذا أقمت ... الصلاة فقل: الله أكبر، الله أكبر، إلى آخر كلمات الإقامة» «4» . ورواه أبو داود بإسناد صحيح.
__________
(1) انظر «فتح البارى» للحافظ ابن حجر (2/ 78) .
(2) أخرجه أبو داود فى «مراسيله» (21) .
(3) زيادة من سنن أبى داود.
(4) صحيح: وقد تقدم قريبا.
ولم تعرف كيفية رؤيا عمر حين رأى النداء، وقد قال: رأيت مثل الذى رأى.
وفى مسند الحارث: أول من أذن بالصلاة جبريل، أذن فى سماء الدنيا فسمعه عمر وبلال، فسبق عمر بلالا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأخبره بها، فقال- عليه السّلام- لبلال «سبقك بها عمر» «1» وظاهره: أن عمر وبلالا سمعا ذلك فى اليقظة.
وقد وردت أحاديث تدل على أن الأذان شرع بمكة قبل الهجرة.
منها للطبرانى من طريق سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه قال: لما أسرى بالنبى- صلى الله عليه وسلم- أوحى الله إليه الأذان فنزل به وعلمه بلالا.
وفى إسناده طلحة بن زيد وهو متروك.
ومنها: للدار قطنى فى «الأفراد» من حديث أنس أن جبريل أمر النبى صلى الله عليه وسلم- بالأذان حين فرضت الصلاة. وإسناده ضعيف.
ومنها: حديث البزار عن على، المتقدم.
قال فى فتح البارى: والحق أنه لا يصح شىء من هذه الأحاديث وقد جزم ابن المنذر بأنه- صلى الله عليه وسلم- كان يصلى بغير أذان منذ فرضت الصلاة بمكة إلى أن هاجر إلى المدينة، إلى أن وقع التشاور فى ذلك «2» . والله سبحانه أعلم.
فإن قلت: هل أذن- صلى الله عليه وسلم- بنفسه قط؟
أجاب السهيلى: بأنه قد روى الترمذى من طريق يدور على عمر بن الرماح، قاضى بلخ يرفعه إلى أبى هريرة أنه- صلى الله عليه وسلم- أذن فى سفر وصلى وهم على رواحلهم «3» . الحديث. قال: فنزع بعض الناس بهذا الحديث إلى أنه- صلى الله عليه وسلم- أذن بنفسه. انتهى.
__________
(1) ذكره الحافظ فى «الفتح» (2/ 78) وعزاه للحارث بن أبى أسامة فى «مسنده» بسند واه.
(2) انظر «الفتح» (2/ 79) .
(3) ضعيف: أخرجه الترمذى (411) فى الصلاة، باب: ما جاء فى الصلاة على الدابة فى الطين والمطر، بسند ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» .
وليس هذا الحديث من حديث أبى هريرة، إنما هو من حديث يعلى بن مرة.
وكذا جزم النووى بأنه- عليه الصلاة والسلام- أذن مرة فى السفر، وعزاه للترمذى وقواه.
ولكن روى الحديث الدار قطنى وقال فيه: أمر بالأذان، ولم يقل: أذن.
قال السهيلى: والمفصل يقضى على المجمل المحتمل.
وفى مسند أحمد من الوجه الذى أخرج منه الترمذى هذا الحديث: فأمر بلالا فأذن «1» ، قال فى فتح البارى فعرف أن فى رواية الترمذى اختصارا، وأن قوله أذن: أمر، كما يقال: أعطى الخليفة فلانا ألفا، وإنما باشر العطاء غيره، ونسب للخليفة لكونه أمر «2» . انتهى.
فإن قلت هل صلى النبى- صلى الله عليه وسلم- خلف أحد من أصحابه؟ قلت:
نعم، ثبت فى صحيح مسلم وغيره أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى خلف عبد الرحمن بن عوف، ولفظه: عن المغيرة بن شعبة أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم- تبوك، فتبرز رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قبل الغائط، فحمل معه إداوة قبل صلاة الفجر ... الحديث إلى أن قال: فأقبلت معه حتى نجد الناس قد قدموا عبد الرحمن بن عوف فصلى بهم، فأدرك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إحدى الركعتين، فصلى مع الناس الركعة الأخيرة، فلما سلم عبد الرحمن بن عوف قام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يتم صلاته، فأفزع ذلك المسلمين، فأكثروا التسبيح، فلما قضى النبى- صلى الله عليه وسلم- صلاته أقبل عليهم ثم قال، أحسنتم، أو قال:
أصبتم يغبطهم أن صلوا لوقتها «3» .
__________
(1) ضعيف: أخرجه أحمد فى «مسنده» (4/ 173) ، وانظر ما قبله.
(2) قاله الحافظ فى «الفتح» (2/ 79) .
(3) صحيح: أخرجه مسلم (274) (81) فى الطهارة، باب: المسح على الناصية والعمامة، و (274) (105) فى الصلاة، باب: استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض وسفر وغيرهما، وأبو داود (149 و 152) فى الطهارة، باب: المسح على الخفين.
ورواه أبو داود فى السنن بنحوه ولفظه: ووجدنا عبد الرحمن وقد ركع بهم ركعة من صلاة الفجر، فقام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فصف مع المسلمين فصلى وراء عبد الرحمن بن عوف الركعة الثانية، ثم سلم عبد الرحمن، فقام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى صلاته «1» الحديث.
قال النووى: فيه جواز اقتداء الفاضل بالمفضول، وجواز اقتداء النبى صلى الله عليه وسلم- خلف بعض أمته.
قال: وأما بقاء عبد الرحمن فى صلاته وتأخر أبى بكر- رضى الله عنه- ليتقدم النبى- صلى الله عليه وسلم-، فالفرق بينهما أن عبد الرحمن كان قد ركع ركعة، فترك النبى صلى الله عليه وسلم- التقدم لئلا يختل ترتيب صلاة القوم، بخلاف صلاة أبى بكر.
نعم فى السيرة الهشامية: أن أبا بكر كان الإمام وأن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يأتم به.
لكنه- كما قال السهيلى- حديث مرسل فى السيرة، والمعروف فى الصحاح أن أبا بكر كان يصلى بصلاة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، والناس يصلون بصلاة أبى بكر «2» .
لكن قد روى عن أنس من طريق متصل: أن أبا بكر كان الإمام يومئذ، واختلف فيه خبر عائشة- رضى الله عنها-. انتهى.
وفى الترمذى مصححا من حديث جابر: أن آخر صلاة صلاها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى ثوب واحد متوشحا به خلف أبى بكر «3» .
قال ابن الملقن: وقد نصر هذا القول غير واحد من الحفاظ: منهم الضياء، وابن ناصر، وقال: صح وثبت أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى خلف أبى بكر
__________
(1) صحيح: وقد تقدم فيما قبله.
(2) صحيح: والحديث الدال على ذلك أخرجه البخارى (683) فى الأذان، باب: من قام إلى جنب الإمام لعلة، ومسلم (418) فى الصلاة، باب: استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض وسفر وغيرهما، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(3) إسناده صحيح: والحديث أخرجه الترمذى (363) فى الصلاة، باب: منه، وقال الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» : إسناده صحيح.
مقتديا به فى مرضه الذى مات فيه ثلاث مرات، ولا ينكر هذا إلا جاهل لا علم له بالرواية.
وقيل: إنه كان مرتين، جمعا بين الأحاديث، وبه جزم ابن حبان.
وروى الدار قطنى من طريق المغيرة بن شعبة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «ما مات نبى حتى يؤمه رجل من أمته» «1» .
ولما كان بعد شهر من مقدمه- عليه الصلاة والسلام- لاثنتى عشرة خلت من ربيع الآخر- قال الدولابى يوم الثلاثاء، وقال السهيلى بعد الهجرة بعام أو نحوه- زيد فى صلاة الحضر ركعتان ركعتان، وتركت صلاة الفجر لطول القراءة فيها، وصلاة المغرب لأنها وتر النهار، وأقرت صلاة السفر.
وفى البخارى عن عائشة (فرضت الصلاة ركعتين [ركعتين] ) ثم هاجر النبى- صلى الله عليه وسلم-[إلى المدينة] ففرضت أربعا. وتركت صلاة الفجر لطول القراءة فيها، وصلاة المغرب لأنها وتر النهار، وأقرت صلاة السفر) «2» .
وفى البخارى عن عائشة فرضت الصلاة ركعتين ثم هاجر النبى ففرضت أربعا، وتركت صلاة السفر على الفريضة الأولى «3» .
وقيل إنما فرضت أربعا، ثم خفف عن المسافر. ويدل له حديث: (إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة) «4» .
__________
(1) ضعيف: أخرجه أحمد فى «مسنده» (1/ 13) ، من حديث أبى بكر الصديق- رضى الله عنه-، والحاكم فى «مستدركه» (1/ 370) ، والدار قطنى فى «سننه» (1/ 282) ، من حديث المغيرة بن شعبة- رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف الجامع» (1803 و 4764) .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (3935) فى المناقب، باب: التاريخ من أين أرخوا التاريخ، ومسلم (685) فى صلاة المسافرين، باب: رقم (1) ، وهو ليس فيها بهذا اللفظ، بل بلفظ الحديث الآتى.
(3) صحيح: وانظر ما قبله.
(4) صحيح: وهو جزء من حديث أخرجه أبو داود (2408) فى الصوم، باب: اختيار الفطر، والترمذى (715) فى الصوم، باب: ما جاء فى الرخصة فى الإفطار للحبلى والمرضع، وأحمد فى «مسنده» (5/ 29) ، من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
وقيل: إنما فرضت فى الحضر أربعا، وفى السفر ركعتين، وهو قول ابن عباس، قال- رضى الله عنه-: (فرض الله الصلاة على لسان نبيكم- صلى الله عليه وسلم- فى الحضر أربعا، وفى السفر ركعتين) «1» رواه مسلم وغيره.
وسيأتى مزيد لذلك إن شاء الله تعالى فى أول الصلاة من مقصد عباداته عليه الصلاة والسلام-.
قال ابن إسحاق وغيره: ونصبت أحبار يهود العداوة للنبى- صلى الله عليه وسلم- بغيا وحسدا، وسحره لبيد بن الأعصم، وهو من يهود بنى زريق، فكان يخيل إليه أنه يفعل الفعل وهو لا يفعله، وجعل سحره فى مشط ومشاطة، ودفنه فى بئر ذى أروان- وأكثر أهل الحديث يقول: ذروان- تحت راعوفة البئر «2» ، كما ثبت فى الصحيح.
وليس هذا بقادح فى النبوة، فإن الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- يبتلون فى أبدانهم بالجراحات والسموم والقتل وغير ذلك مما جوّزه العلماء عليهم.
وانضاف إلى اليهود جماعة من الأوس والخزرج، منافقون، على دين آبائهم من الشرك والتكذيب بالبعث، إلا أنهم قهروا بظهور الإسلام، فأظهروه واتخذوه جنة من القتل، ونافقوا فى السر، منهم عبد الله بن أبى ابن سلول، وكان رأس المنافقين، وهو الذى قال: لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ «3» . كما سيأتى- إن شاء الله- فى غزوة بنى المصطلق.
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (687) فى صلاة المسافرين، باب: رقم (1) .
(2) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (5763) فى الطب، باب: السحر، ومسلم (2189) فى السلام، باب: السحر، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(3) سورة المنافقون: 8.
مغازيه وسراياه وبعوثه «1» صلى الله عليه وسلم
وأذن الله تعالى لرسوله- صلى الله عليه وسلم- بالقتال. قال الزهرى: أول آية نزلت فى الإذن بالقتال أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ «2» . أخرجه النسائى بإسناد صحيح «3» .
قال فى البحر: والمأذون فيه- أى فى الآية- محذوف، أى: فى القتال، لدلالة «يقاتلون» عليه، وعلل الإذن: بأنهم ظلموا، كانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم- من بين مضروب ومشجوج، فيقول لهم: اصبروا، فإنى لم أومر بالقتال، حتى هاجر فأذن له بالقتال بعد ما نهى عنه فى نيف وسبعين آية.
انتهى.
وقال غيره: وإنما شرع الله تعالى الجهاد فى الوقت اللائق به، لأنهم لما كانوا بمكة كان المشركون أكثر عددا، فلو أمر المسلمون- وهم قليلون- بقتال الباغين لشق عليهم، فلما بغى المشركون، وأخرجوه- صلى الله عليه وسلم- من بين أظهرهم وهموا بقتله، واستقر- عليه الصلاة والسلام- بالمدينة واجتمع عليه أصحابه، وقاموا بنصره، وصارت المدينة لهم دار إسلام، ومعقلا يلجئون إليه، شرع الله تعالى جهاد الأعداء، فبعث- صلى الله عليه وسلم- البعوث والسرايا وغزا وقاتل هو وأصحابه حتى دخل الناس فى دين الله أفواجا أفواجا.
وكان عدد مغازيه- صلى الله عليه وسلم- التى خرج فيها بنفسه، سبعا وعشرين. قاتل فى تسع منها بنفسه الشريفة- صلى الله عليه وسلم-: بدر، وأحد، والمريسيع، والخندق،
__________
(1) جرى أهل السير والمغازى على تسمية كل حرب حضرها النبى- صلى الله عليه وسلم- بغزوة، وما لم يحضرها بسرية أو بعثا.
(2) سورة الحج: 39.
(3) قلت: هو عند النسائى (6/ 2) فى الجهاد، باب: وجوب الجهاد، من قول ابن عباس رضى الله عنهما-.
وقريظة، وخيبر، وفتح مكة، وحنين، والطائف. وهذا على قول من قال:
فتحت مكة عنوة.
وكانت سراياه التى بعث فيها سبعا وأربعين سرية. وقيل: إنه قاتل فى بنى النضير.
وأفاد فى فتح البارى: أن السرية- بفتح المهملة وكسر الراء وتشديد التحتانية- هى التى تخرج بالليل- والسارية: التى تخرج بالنهار.
قال: وقيل سميت بذلك- يعنى السرية- لأنه يحفى ذهابها. وهذا يقتضى أنها أخذت من السر، ولا يصح، لاختلاف المادة.
وهى قطعة من الجيش تخرج منه وتعود إليه، وهى من مائة إلى خمسمائة، فما زاد على خمسمائة يقال له منسر- بالنون ثم المهملة- فإن زاد على الثمانمائة سمى جيشا، [وما بينهما يسمى هبطة] «1» ، فإن زاد على أربعة آلاف سمى جحفلا، والخميس: الجيش العظيم، وما افترق من السرية يسمى بعثا، والكتيبة ما اجتمع ولم ينتشر، انتهى ملخصا.
وكان أول بعوثه- صلى الله عليه وسلم- على رأس سبعة أشهر، فى رمضان، وقيل فى ربيع الأول سنة اثنتين. بعث عمه حمزة، وأمره على ثلاثين رجلا من المهاجرين.
وقيل من الأنصار، وفيه نظر، لأنه لم يبعث أحدا من الأنصار حتى غزا بهم بدرا، لأنهم شرطوا له أن يمنعوه فى دارهم.
فخرجوا يعترضون عيرا لقريش، فيها أبو جهل اللعين، فلقيه فى ثلاثمائة راكب فبلغوا سيف البحر من ناحية العيص، فلما تصافوا حجز بينهم مجدى بن عمرو الجهنى، وكان- عليه السّلام- قد عقد له لواء أبيض.
«واللواء هو العلم الذى يحمل فى الحرب، يعرف به موضع صاحب الجيش، وقد يحمله أمير الجيش، وقد يدفعه لمقدم المعسكر» .
وقد صرح جماعة من أهل اللغة بترادف اللواء والراية، لكن روى
__________
(1) ليست فى الأصل، وهى زياة من «الفتح» (8/ 70) للحافظ ابن حجر.
أحمد والترمذى عن ابن عباس: كانت راية رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سوداء، ولواؤه أبيض «1» ، ومثله عند الطبرانى عن بريدة، وعند ابن عدى عن أبى هريرة وزاد: مكتوب فيه لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وهو ظاهر فى التغاير، لعل التفرقة بينهما عرفية.
وذكر ابن إسحاق، وكذا أبو الأسود عن عروة: أن أول ما حدثت الرايات يوم خيبر، وما كانوا يعرفون قبل ذلك إلا الألوية. انتهى.
ثم سرية عبيدة بن الحارث إلى بطن رابغ، فى شوال، على رأس ثمانية أشهر، فى ستين رجلا، وعقد له لواء أبيض، حمله مسطح بن أثاثة، يلقى أبا سفيان بن حرب.
وكان على المشركين- وقيل مكرز بن حفص، وقيل عكرمة بن أبى جهل- فى مائتين، ولم يكن بينهم قتال، إلا أن سعد بن أبى وقاص رمى بسهم، فكان أول سهم رمى فى الإسلام «2» .
وقال ابن إسحاق: وكانت راية عبيدة- فيما بلغنا- أول راية عقدت فى الإسلام، وبعض الناس يقول: راية حمزة. قال: وإنما أشكل أمرهما لأنه عليه الصلاة والسلام- بعثهما معا، فاشتبه ذلك على الناس. انتهى.
وهذا يشكل بقولهم: إن بعث حمزة كان على رأس سبعة أشهر، لكن يحتمل أن يكون- صلى الله عليه وسلم- عقد رايتيهما معا، ثم تأخر خروج عبيدة إلى رأس الثمانية، لأمر اقتضاه، والله أعلم.
ثم سرية سعد بن أبى وقاص إلى الخرار- بخاء معجمة وراءين مهملتين، وهو واد بالحجاز يصب فى الجحفة- وكان ذلك فى ذى القعدة، على رأس تسعة أشهر، وعقد له لواء أبيض، حمله المقداد بن عمرو، فى
__________
(1) حسن: أخرجه الترمذى (1681) فى الجهاد، باب: ما جاء فى الرايات، وابن ماجه (2818) فى الجهاد، باب: الرايات والألوية، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(2) انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (1/ 595 و 596) ، وابن سعد فى «طبقاته» (2/ 7) ، وابن كثير فى «البداية والنهاية» (2/ 338 و 339) .
عشرين رجلا، يعترض عيرا لقريش، فخرجوا على أقدامهم، فصبحوها صبح خامسة فوجدوا العير قد مرت بالأمس «1» .
ثم غزوة ودان، وهى الأبواء «2» ، وهى أول مغازيه، كما ذكره ابن إسحاق وغيره. وفى البخارى: أن أولها الأبواء.
خرج- صلى الله عليه وسلم- فى صفر على رأس اثنى عشر شهرا من مقدمه المدينة، يريد قريشا، فى ستين رجلا، وحمل اللواء حمزة بن عبد المطلب. فكانت الموادعة- أى المصالحة- على أن بنى ضمرة لا يغزونه ولا يكثرون عليه جمعا، ولا يعينون عليه عدوّا.
واستعمل على المدينة سعد بن عبادة» .
وليس بين ما وقع فى سيرة ابن إسحاق وبين ما نقله عنه البخارى اختلاف، لأن الأبواء وودان مكانان متقاربان بينهما ستة أميال أو ثمانية.
ثم غزوة بواط- بفتح الموحدة وقد تضم وتخفيف الواو وآخره مهملة- وهى الثانية، غزاها- صلى الله عليه وسلم- فى شهر ربيع الأول، على رأس ثلاثة عشر شهرا من الهجرة، حتى بلغها من ناحية رضوى- بفتح الراء وسكون المعجمة، مقصور- فى مائتين من أصحابه، يعترض عيرا لقريش فيهم أمية بن خلف الجمحى واستعمل على المدينة السائب بن عثمان بن مظعون.
فرجع ولم يلق كيدا، أى حربا، قال ابن الأثير: والكيد الاحتيال والاجتهاد، وبه سميت الحرب كيدا «4» .
__________
(1) انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (1/ 600) ، وابن سعد فى «طبقاته» (2/ 7) ، والخرار: من أودية المدينة، وقيل: إنه آبار عن يسار المحجة قريب من خم.
(2) الأبواء: قرية من عمل القرح، بينها وبين الجحفة ثلاثة وعشرون ميلا.
(3) انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (1/ 591) ، وابن سعد فى «طبقاته» (2/ 8) ، والطبرى فى «تاريخه» (2/ 259) ، وابن كثير فى «البداية والنهاية» (2/ 352) .
(4) انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (1/ 598) ، وابن سعد فى «طبقاته» (2/ 8 و 9) ، والطبرى فى «تاريخه» (2/ 260 و 261) ، وابن كثير فى «البداية والنهاية» (2/ 361) .
ثم غزوة العشيرة- بالشين المعجمة، والتصغير، آخره هاء. لم يختلف أهل المغازى فى ذلك، وفى البخارى: العشيراء، أو: العسيرة، والأولى بالمعجمة بلا هاء، والثانية: بالمهملة وبالهاء- وأما غزوة العسرة- بالمهملة بغير تصغير- فهى غزوة تبوك، وستأتى إن شاء الله تعالى.
ونسبت هذه إلى المكان الذى وصلوا إليه، وهو موضع لبنى مدلج بينبع «1» .
وخرج إليها- صلى الله عليه وسلم- فى جمادى الأولى- وقيل: الآخرة- على رأس ستة عشر شهرا من الهجرة، فى خمسين ومائة رجل- وقيل فى مائتى رجل- ومعهم ثلاثون بعيرا يتعقبونها، وحمل اللواء- وكان أبيض- حمزة، يريد عير قريش التى صدرت من مكة إلى الشام بالتجارة. فخرج إليها ليغنمها فوجدها قد مضت.
ووداع بنى مدلج من كنانة «2» .
وكانت نسخة الموادعة فيما ذكره غير ابن إسحاق.
بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من محمد رسول الله لبنى ضمرة، فإنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم، وأن لهم النصر على من رامهم أن لا يحاربوا فى دين الله ما بل بحر صوفة، وأن النبى إذا دعاهم لنصر أجابوه، عليهم بذلك ذمة الله ورسوله.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد.
ثم غزوة بدر الأولى. قال ابن إسحاق: ولما رجع- عليه الصلاة والسلام- أى: من غزوة العشيرة- لم يقم إلا ليالى، وقال ابن حزم: بعد العشيرة بعشرة أيام، حتى أغار كرز بن جابر الفهرى على سرح المدينة،
__________
(1) ينبع: قرية كبيرة بها حصن على بعد سبع مراحل من المدينة.
(2) انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (1/ 598 و 600) ، وابن سعد فى «طبقاته» (2/ 9 و 10) ، والطبرى فى «تاريخه» (2/ 260 و 261) ، وابن كثير فى «البداية والنهاية» (2/ 361) .
فخرج النبى- صلى الله عليه وسلم- فى طلبه حتى بلغ سفوان- بفتح المهملة والفاء- موضع من ناحية بدر، ففاته كرز بن جابر. وتسمى بدرا الأولى «1» .
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة زيد بن حارثة، وحمل اللواء على ابن أبى طالب- رضى الله تعالى عنه-.
ثم سرية أمير المؤمنين عبد الله بن جحش فى رجب على رأس سبعة عشر شهرا، وكان معه ثمانية- وقيل اثنا عشر- من المهاجرين، إلى نخلة على ليلة من مكة، فى رجب يترصد قريشا، فمرت بهم عيرهم تحمل زبيبا وأدما من الطائف، فيها عمرو بن الحضرمى، فتشاور المسلمون وقالوا: نحن فى آخر يوم من رجب، فإن قتلناهم هتكنا حرمة الشهر، وإن تركناهم الليلة دخلوا حرمة مكة، فأجمعوا على قتلهم فقتلوا عمرا واستأسروا عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، وهرب من هرب، واستاقوا العير، وكانت أول غنيمة فى الإسلام، فقسمها ابن جحش، وعزل الخمس من ذلك قبل أن يفرض، ويقال: بل قدموا بالغنيمة كلها.
فقال النبى- صلى الله عليه وسلم-: «ما أمرتكم بقتال فى الشهر الحرام» فأخر الأسيرين والغنيمة حتى رجع من بدر فقسمها مع غنائمها.
وتكلمات قريش: إن محمدا سفك الدماء، وأخذ المال فى الشهر الحرام، فأنزل الله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ.. «2» الآية.
وفى ذلك يقول عبد الله بن جحش:
تعدون قتلا فى الحرام عظيمة ... وأعظم منه لو يرى ذاك راشد
صدودكم عما يقول محمد ... وكفر به والله راء وشاهد
سقينا من ابن الحضرمى رماحنا ... بنخلة لما أوقد الحرب واقد
وبعثت قريش إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى فداء الأسيرين، وهما: عثمان
__________
(1) انظر ابن سعد فى «طبقاته» (2/ 9) .
(2) سورة البقرة 217.
ابن عبد الله والحكم بن كيسان، ففاداهما رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. فأما الحكم فأسلم وحسن إسلامه، وأقام عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى قتل يوم بئر معونة شهيدا، وأما عثمان فلحق بمكة فمات بها كافرا «1» .
ثم حولت القبلة إلى الكعبة، وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلى إلى بيت المقدس بالمدينة ستة عشر شهرا «2» .
وقيل سبعة عشر، وقيل ثمانية عشر شهرا.
وقال الحربى: قدم- صلى الله عليه وسلم- المدينة فى ربيع الأول، فصلى إلى بيت المقدس تمام السنة وصلى من سنة اثنين ستة أشهر. ثم حولت القبلة.
وقيل: كان تحويلها فى جمادى، وقيل: كان يوم الثلاثاء فى نصف شعبان، وقيل يوم الإثنين نصف رجب.
وظاهر حديث البراء فى البخارى: أنها كانت صلاة العصر «3» .
ووقع عند النسائى من رواية سعيد بن المعلى: أنها الظهر.
وأما أهل قباء فلم يبلغهم الخبر إلى صلاة الفجر من اليوم الثانى، كما فى الصحيحين عن ابن عمر أنه قال: بينما الناس بقباء فى صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة «4» .
__________
(1) انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (1/ 601 و 604) ، وابن سعد فى «طبقاته» (2/ 10 و 11) ، وابن كثير فى «البداية والنهاية» (2/ 364 و 371) .
(2) صحيح: وانظر الخبر فى صحيح البخارى (41) فى الإيمان، باب: الصلاة من الإيمان، ومسلم (525) فى المساجد، باب: تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة، من حديث البراء ابن عازب- رضى الله عنه-.
(3) صحيح: انظر ما قبله.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (403) فى الصلاة، باب: ما جاء فى القبلة ومن لم ير الإعادة على من سها فصلى إلى غير القبلة، ومسلم (526) فى المساجد، باب: تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة.
وفى هذا دليل على أن الناسخ لا يلزم حكمه إلا بعد العلم به، وإن تقدم نزوله، لأنهم لم يؤمروا بإعادة العصر والمغرب والعشاء والله أعلم.
وروى الطبرى عن ابن عباس- رضى الله عنهما-: لما هاجر- صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، واليهود أكثر أهلها يستقبلون بيت المقدس أمره الله تعالى أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها سبعة عشر شهرا، وكان- صلى الله عليه وسلم- يحب أن يستقبل قبلة إبراهيم، فكان يدعو وينظر إلى السماء فنزلت الآية «1» .
قال فى فتح البارى وظاهر حديث ابن عباس هذا أن استقبال بيت المقدس إنما وقع بعد الهجرة إلى المدينة. لكن أخرج أحمد من وجه آخر عن ابن عباس- رضى الله عنهما-: كان- صلى الله عليه وسلم- يصلى بمكة نحو بيت المقدس، والكعبة بين يديه «2» ، قال: والجمع بينهما ممكن: بأن يكون أمر لما هاجر أن يستمر على الصلاة لبيت المقدس.
وأخرج الطبرى أيضا من طريق ابن جريج قال: صلى النبى- صلى الله عليه وسلم- أول ما صلى إلى الكعبة، ثم صرف إلى بيت المقدس وهو بمكة، فصلى ثلاث حجج، ثم هاجر، فصلى إليه بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرا، ثم وجهه الله إلى الكعبة «3» .
وقوله فى حديث ابن عباس الأول: «أمره الله تعالى» يرد قول من قال:
إنه صلى إلى بيت المقدس باجتهاد.
وعن أبى العالية: أنه صلى إلى بيت المقدس يتألف أهل الكتاب. وهذا لا ينفى أن يكون بتوقيف.
واختلفوا فى المسجد الذى كان يصلى فيه:
فعند ابن سعد فى الطبقات: أنه صلى ركعتين من الظهر فى مسجده
__________
(1) أخرجه ابن جرير الطبرى فى «تفسيره» (1/ 502) ، (2/ 5 و 20) .
(2) أخرجه أحمد فى «مسنده» (1/ 325) .
(3) مرسل: أخرجه ابن جرير فى «تفسيره» (2/ 5) عن ابن جريج مرسلا.
بالمسلمين، ثم أمر أن يتوجه إلى المسجد الحرام، فاستدار إليه ودار معه المسلمون.
ويقال: إنه- صلى الله عليه وسلم- زار أم بشر بن البراء بن معرور فى بنى سلمة، فصنعت له طعاما، وكانت الظهر، فصلى- عليه الصلاة والسلام- بأصحابه ركعتين، ثم أمر فاستدار، إلى الكعبة، واستقبل الميزاب، فسمى مسجد القبلتين. قال ابن سعد قال الواقدى: هذا عندنا أثبت «1» .
ولما حول الله تعالى القبلة حصل لبعض الناس من المنافقين والكفار واليهود ارتياب وزيغ عن الهدى وشك، وقالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التى كانوا عليها، أى: ما لهؤلاء تارة يستقبلون كذا، وتارة يستقبلون كذا، فأنزل الله جوابهم فى قوله قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ «2» . أى الحكم والتصرف، والأمر كله لله، فحيثما توجهنا فالطاعة فى امتثال أمره، ولو وجهنا كل يوم مرات إلى جهات متعددة فنحن عبيده، وفى تصريفه وخدامه حيثما وجهنا توجهنا.
ولله تعالى بنبينا- عليه السّلام- وبأمته عناية عظيمة، إذ هداهم إلى قبلة خليله، قال- عليه السّلام- فيما رواه أحمد من حديث عائشة- رضى الله عنها-: إن اليهود لا يحسدوننا على شىء كما يحسدوننا على يوم الجمعة، التى هدانا الله إليها وضلوا عنها. وعلى القبلة التى هدانا الله إليها وضلوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام: آمين «3» .
وقال بعض المؤمنين: فكيف صلاتنا التى صليناها نحو بيت المقدس؟
وكيف من مات من إخواننا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ «4» .
__________
(1) انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 186) .
(2) سورة البقرة: 142.
(3) أخرجه أحمد فى «مسنده» (6/ 134) .
(4) سورة البقرة: 143.
وقيل قالت اليهود: اشتاق إلى بلد أبيه، وهو يريد أن يرضى قومه، ولو ثبت على قبلتنا لرجونا أن يكون هو النبى الذى ننتظر أن يأتى. فأنزل الله تعالى وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ «1» . يعنى أن اليهود الذين أنكروا استقبالكم الكعبة وانصرافكم عن بيت المقدس يعلمون أن الله سيوجهك إليها بما فى كتبهم عن أنبيائهم.
ثم فرض صيام شهر رمضان، بعد ما حولت القبلة إلى الكعبة بشهر، فى شعبان على رأس ثمانية عشر شهرا من مقدمه- صلى الله عليه وسلم-.
وزكاة الفطر قبل العيد بيومين: أن يخرج عن الصغير والكبير والحر والعبد والذكر والأنثى صاع من تمر، أو صاع من زبيب، أو صاع من شعير أو صاع من بر، وذلك قبل أن تفرض زكاة الأموال.
وقيل إن زكاة الأموال فرضت فيها، وقيل: قبل الهجرة والله أعلم.
ثم غزوة بدر الكبرى، وتسمى العظمى، والثانية، وبدر القتال.
وهى قرية مشهورة، نسبت إلى بدر بن يخلد بن النضر بن كنانة، كان نزلها، وقيل: بدر بن الحارث، حافر بئرها، وقيل بدر اسم البئر التى بها سميت لاستدارتها، أو لصفائها ورؤية البدر فيها.
وقال ابن كثير: وهو يوم الفرقان، والذى أعز الله فيه الإسلام وأهله، ودمغ فيه الشرك وخرب محله، وهذا مع قلة عدد المسلمين، وكثرة العدو مع ما كانوا فيه من سوابغ الحديد، والعدة الكاملة، والخيول المسومة، والخيلاء الزائدة، فأعز الله تعالى رسوله وأظهر وحيه وتنزيله، وبيض وجه النبى صلى الله عليه وسلم- وقبيله، وأخزى الشيطان وجيله، ولهذا قال تعالى ممتنّا على عباده المؤمنين وحزبه المتقين: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ «2» . أى قليل عددكم، لتعلموا أن النصر إنما هو من عند الله، لا بكثرة العدد والعدد.
انتهى.
__________
(1) سورة البقرة: 144.
(2) سورة آل عمران: 123.
فقد كانت هذه الغزوة أعظم غزوات الإسلام، إذ منها كان ظهوره، وبعد وقوعها أشرق على الآفاق نوره، ومن حين وقوعها أذل الله الكفار، وأعز من حضرها من المسلمين، فهو عنده من الأبرار.
وكان خروجهم يوم السبت لثنتى عشرة خلت من رمضان، على رأس تسعة عشر شهرا، ويقال: لثمان خلون منه. قاله ابن هشام.
واستخلف أبا لبابة الأنصارى.
وخرج معه الأنصار، ولم تكن قبل ذلك خرجت معه، وكان عدة من خرج معه ثلاثمائة وخمسة، وثمانية لم يحضروها، إنما ضرب لهم بسهمهم وأجرهم فكانوا كمن حضرها.
وكان معهم ثلاثة أفراس: «بعزجة» فرس المقداد، و «العيسوب» فرس الزبير وفرس لمرثد الغنوى، لم يكن لهم خيل يومئذ غير هذه، وكان معهم سبعون بعيرا.
وكان المشركون ألفا ويقال: تسعمائة وخمسون رجلا، معهم مائة فرس، وسبعمائة بعير.
وكان قتالهم يوم الجمعة لسبع عشرة خلت من رمضان، وقيل يوم الإثنين وقيل غير ذلك.
وكانت من غير قصد من المسلمين إليها ولا ميعاد، كما قال الله تعالى:
وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا «1» .
وإنما قصد- صلى الله عليه وسلم- والمسلمون التعرض لعير قريش. وذلك أن أبا سفيان كان بالشام فى ثلاثين راكبا منهم عمرو بن العاصى، فأقبلوا فى قافلة عظيمة، فيها أموال قريش، حتى إذا كانوا قريبا من بدر، فبلغ النبى- صلى الله عليه وسلم- ذلك، فندب أصحابه إليهم وأخبرهم بكثرة المال وقلة العدو، وقال: «هذه عير لقريش فيها أموال فاخرجوا إليها، لعل الله أن ينفلكموها» .
__________
(1) سورة الأنفال: 42.
فلما سمع أبو سفيان بسيره- عليه السّلام-، استأجر ضمضم بن عمرو الغفارى أن يأتى قريشا بمكة، فيستنفرهم ويخبرهم أن محمدا قد عرض لعيرهم فى أصحابه.
فنهضوا فى قريب من ألف ولم يتخلف أحد من أشراف قريش إلا أبا لهب، وبعث مكانه العاصى بن هشام بن المغيرة.
وخرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى أصحابه، حتى بلغ الروحاء، فأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عن عيرهم، فاستشار النبى- صلى الله عليه وسلم- الناس فى طلب العير، أو حرب النفير، وقال: «إن الله وعدكم إحدى الطائفتين: إما العير وإما قريش» وكانت العير أحب إليهم.
فقام أبو بكر فقال فأحسن، ثم قام عمر فقال فأحسن.
ثم قام المقداد بن عمرو، فقال: يا رسول الله امض لما أمرك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إناها هنا قاعدون «1» .
ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون، فو الذى بعثك بالحق لو سرت بنا برك الغماد- يعنى مدينة الحبشة- لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه.
فقال له- صلى الله عليه وسلم-: «خيرا» ودعا له بخير. ثم قال- صلى الله عليه وسلم-: «أيها الناس أشيروا على» وإنما يريد الأنصار. لأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى دارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت فى ذمامنا، نمنعك مما نمنع منه أنفسنا وأبناءنا ونساءنا. وكان- صلى الله عليه وسلم- يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم. فلما قال ذلك- صلى الله عليه وسلم-:
قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله. قال: «أجل» .
__________
(1) إشارة إلى الآية (24) ، من سورة المائدة.
قال: قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فو الذى بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن نلقى عدونا، إنا لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء، لعل الله أن يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله تعالى.
فسر- صلى الله عليه وسلم- بقول سعد، ونشطه ذلك، ثم قال: «سيروا على بركة الله تعالى وأبشروا، فإن الله قد وعدنى إحدى الطائفتين، والله لكأنى أنظر الآن إلى مصارع القوم» قال ثابت عن أنس- رضى الله عنه- قال- صلى الله عليه وسلم-: «هذا مصرع فلان» ويضع يده على الأرض، هاهنا وهاهنا. قال فما ماط أحدهم- أى ما تنحى- عن موضع يده- عليه الصلاة والسلام- «1» .
تنبيه: قال ابن سيد الناس فى «عيون الأثر» : روينا من طريق مسلم أن
__________
(1) ذكره الحافظ ابن كثير فى «تفسيره» (2/ 289- 290) ، وفى «البداية والنهاية» (2/ 395) من طريق ابن إسحاق وأخرج البخارى (3952) منه من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه- عنه يقول: شهدت من المقداد مشهدا، لأن أكون صاحبه أحب إلى مما عدل به، أتى النبى صلى الله عليه وسلم- وهو يدعو على المشركين، فقال: لا نقول كما قال قوم موسى: اذهب أنت وربك فقاتلا، ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك، فرأيت النبى صلى الله عليه وسلم- أشرق وجهه وسره يعنى قوله. وأخرجه مسلم (1779) منه من حديث أنس أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- شاور حين بلغه إقبال أبى سفيان، قال فتكلم أبو بكر فأعرض عنه ثم تكلم عمر فأعرض عنه فقام سعد بن عبادة فقال: إيانا تريد يا رسول الله، والذى نفسى بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا ... إلى آخر الحديث، إلا أن هناك إشكالا فى قول المتكلم سعد بن عبادة، وهو ممن لم يشهد بدرا وإن كان ممن ضرب له بسهم فيهم، وهنا يقول الحافظ ابن حجر فى «الفتح» (7/ 288) : ويمكن الجمع بأن النبى- صلى الله عليه وسلم- استشارهم فى غزوة بدر مرتين، الأولى وهو بالمدينة أول ما بلغه خبر العير مع أبى سفيان وذلك بين فى رواية مسلم، ولفظه: أن النبى- صلى الله عليه وسلم- شاور حين بلغه إقبال أبى سفيان والثانية: كانت بعد أن فرج كما فى حديث الباب، ووقع عند الطبرانى أن سعد بن عبادة قال ذلك بالحديبية، وهذا أولى بالصواب.
الذى قال ذلك: سعد بن عبادة سيد الخزرج، وإنما يعرف ذلك عن سعد بن معاذ، كذا رواه ابن إسحاق وغيره.
واختلف فى شهود سعد بن عبادة بدرا، ولم يذكره ابن عقبة ولا ابن إسحاق فى البدريين، وذكره الواقدى والمدائنى وابن الكلبى منهم. انتهى.
ثم ارتحل- صلى الله عليه وسلم- قريبا من بدر، ونزلت قريش بالعدوة القصوى من الوادى، ونزل المسلمون على كثيب أعفر تسوخ فيه الأقدام وحوافر الدواب، وسبقهم المشركون إلى ماء بدر فأحرزوه، وحفروا القلب لأنفسهم.
وأصبح المسلمون بعضهم محدث وبعضهم جنب، وأصابهم الظمأ، وهم لا يصلون إلى الماء، ووسوس الشيطان لبعضهم وقال: تزعمون أنكم على الحق، وفيكم نبى الله. وأنكم أولياء الله، وقد غلبكم المشركون على الماء، وأنتم عطاش، وتصلون محدثين مجنبين، وما ينتظر أعداؤكم إلا أن يقطع العطش رقابكم ويذهب قواكم فيتحكموا فيكم كيف شاؤا.
فأرسل الله عليهم مطرا سال منه الوادى، فشرب المسلمون واغتسلوا وتوضئوا وسقوا الركاب وملئوا الأسقية، وأطفأ الغبار ولبد الأرض حتى ثبتت عليها الأقدام.
وزالت عنهم وسوسة الشيطان، وطابت أنفسهم، فذلك قوله تعالى:
وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ «1» . أى من الأحداث والجنابة وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ «2» أى وسوسته وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ «3» .
بالصبر وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ «4» . حتى لا تسوخ فى الرمل، بتلبيد الأرض.
وبنى لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- عريش فكان فيه.
ثم خرج عتبة بن ربيعة بين أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة، ودعا إلى المبارزة، فخرج فتية من الأنصار وهم: عوف ومعاذ ابنا الحارث
__________
(1) سورة الأنفال: 11.
(2) سورة الأنفال: 11.
(3) سورة الأنفال: 11.
(4) سورة الأنفال: 11.
- وأمهما عفراء- وعبد الله بن رواحة. فقالوا من أنتم؟ ف,
عن جابر بن سمرة قال: صليت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- العيدين غير مرة ولا مرتين بغير أذان ولا إقامة «1» . رواه مسلم وأبو داود والترمذى. وعن ابن عباس أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صلى العيد بلا أذان ولا إقامة «2» . رواه أبو داود.