ولنذيّل كلامه بالكلام على عمرة القضاء؛ توفية للمقام، ولأنّ من جملة ما اشتمل عليه عقد الصلح أن يرجعوا هذا العام، ويأتوا العام القابل، فكان للنفس تشوّف إلى خبر العام القابل: هل أتوا مكة؟ وكم كانت إقامتهم بها؟ إلى غير ذلك ممّا سيتلى عليك، فأقول:
في السنة السّابعة على الصحيح، في شهر ذي القعدة، خرج عليه الصّلاة والسّلام من المدينة محرما بالعمرة، حسبما وقع عليه الاتفاق بينه وبين كفار قريش، وتسمّى هذه العمرة بعمرة القصاص؛ لنزول قوله تعالى: وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ
فيها، بل هي أولى بذلك، كما قال السهيليّ، وبعمرة القضية، من المقاضاة التي كان قاضاهم عليها، على أن يرجع عنهم عامهم هذا، ثمّ يأتي في العام القابل، ولا يدخل مكة إلّا في جلبان السلاح، وألّا يقيم أكثر من ثلاثة أيام، لا من القضاء مقابل الأداء؛ لأنّها كانت عمرة صحيحة، وعدّت من جملة عمره صلى الله عليه وسلم.
وهذه العمرة هي المذكورة في قوله تعالى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ الآية.
وخلاصة الكلام عليها أخذا من كلام ابن إسحاق وغيره:
أنّه عليه الصّلاة والسّلام لمّا رجع من خيبر إلى المدينة.. أقام بها فيما بين الربيعين وشوال يبعث سراياه، حتى إذا كان في ذي القعدة.. خرج وخرج معه المسلمون، ممّن كان صدّ معه في عمرته تلك، واستعمل على المدينة عويف بن الأضبط الدّؤليّ، وساق ستين بدنة وقلّدها، وجعل عليها ناجية بن جندب، وحمل عليه الصّلاة والسّلام السلاح والدروع والرماح، وقاد مئة فرس، وجعل عليها محمّد بن مسلمة رضي الله عنه، وعلى السلاح بشير بن سعد، ولم يكن قصده عليه الصّلاة والسّلام أن يدخلها بالسلاح، ولكن يكون بالقرب إن هاجهم هيج من القوم، وجعل السلاح في بطن يأجج بالقرب من الحرم، وجعل عليه نحو المئتين من أصحابه.
ولمّا سمع به أهل مكة.. خرج أكابرهم عنها، وتحدثت قريش بينها أنّ محمّدا في عسرة وجهد وشدة، فلمّا دخل صلى الله عليه وسلم المسجد.. رمل واضطبع بردائه، وأخرج عضده اليمنى، وهذا أول رمل واضطباع في الإسلام، ثمّ قال: «رحم الله امرأ أراهم اليوم من نفسه قوة» ثمّ استلم الركن، ثمّ أخذ يهرول، ويهرول أصحابه معه ثلاثة أطواف، ومشى سائرها.
قال ابن عباس: كان الناس يظنون أنّها ليست عليهم، وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّما صنعها لهذا الحيّ من قريش؛ للّذي بلغه عنهم، حتى حجّ حجّة الوداع فلزمها، فمضت السّنّة بها، ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلّا الإبقاء عليهم، وحين رأت قريش هذا الموقف الرائع الرهيب من الرسول الأعظم وأصحابه.. قالت قريش: هؤلاء الذين زعمتم أنّ الحمّى قد وهنتهم! لهؤلاء أجلد من كذا، وكذا، إنّهم لينفرون نفر الظبي؛ أي: الغزال.
قال ابن كثير: (روى البيهقي من غير وجه عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزّهري عن أنس قال: لمّا دخل النّبيّ صلى الله عليه وسلم مكّة في عمرة القضاء.. مشى عبد الله بن رواحة بين يديه وهو آخذ بغرزه، وهو يقول:
خلّوا بني الكفّار عن سبيله ... قد نزّل الرّحمن في تنزيله
بأنّ خير القتل في سبيله ... نحن قتلناكم على تأويله
وفي رواية بهذا الإسناد بعينه:
خلّوا بني الكفّار عن سبيله ... اليوم نضربكم على تنزيله
ضربا يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله
يا ربّ إنّي مؤمن بقيله
هذا تأويل الرؤيا التي كان رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاءت مثل فلق الصّبح، وذكر أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: مه يا ابن رواحة، بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي حرم الله تقول الشعر؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خلّ عنه يا عمر؛ فلهو أسرع فيهم من نضح النّبل» .
ولمّا تمّت الثلاثة الأيام التي هي غاية الصلح.. جاء حويطب بن عبد العزّى ومعه سهيل بن عمرو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يطلبان منه الخروج هو وأصحابه، فقالوا: نناشدك الله والعقد إلّا ما خرجت من أرضنا؛ فقد مضت الثلاث، فخرج عليه الصّلاة والسّلام وفاء بالعقد والعهد.
قال في «الإمتاع» : (وأمر عليه الصّلاة والسّلام أبا رافع
ثمّ لخيبر ورشّح النّبي ... حيدرة وبالعقاب قد حبي
بالرحيل، وقال: «لا يمسين بها أحد من المسلمين» وركب حتى نزل بسرف، وخلف أبا رافع؛ ليحمل إليه ميمونة حين يمسي، فخرج بها مساء فبنى عليه الصّلاة والسّلام على ميمونة بسرف، ولم ينزل بمكة، وإنّما ضربت له قبة من أدم بالأبطح، وكان هناك حتى سار منها، وبعث بمئتي رجل ممّن طافوا بالبيت إلى بطن يأجج، فأقاموا عند السلاح حتى أتى الآخرون، فقضوا نسكهم، وقدم المدينة عليه الصّلاة والسّلام في ذي الحجة من السنة السابعة) .