* قال أصحاب السير لما رأت قريش انّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم أصابوا منعة وأصحابا بغير بلدهم ونزلوا دارا ووجدوا مهاجرا قريبا يهاجر اليه بقية أصحابه عرفوا انه قد عزم أن يلحق بهم وسيحميه المدنيون فخافوا خروجه اليهم وحذروا تفاقم أمره فاجتمعوا بدار الندوة للمشاورة وهى دار قصى بن كلاب وكانت قريش لا تقضى أمرا الا فيها وفيها يتشاورون وحجبوا الناس عن الدخول اليهم لئلا يدخل أحد من بنى هاشم فيطلع على حالهم فزعم ابن دريد فى الوشاح انهم كانوا خمسة عشر رجلا* وفى المولد لابن دحية كانوا مائة رجل ولما قعدوا للتشاور تبدى لهم ابليس فى صورة شيخ نجدى جليل فوقف على باب الدار فلما رأوه قالوا من الشيخ قال شيخ من أهل نجد سمع بالذى تواعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون وعسى أن لا يعدمكم منه رأى ونصح* وفى معالم التنزيل سمعت باجتماعكم فأردت أن أحضركم ولن تعدموا منى رأيا ونصحا قالوا ادخل فدخل معهم وقد اجتمع فيها أشراف قريش من كل قبيلة وفى رواية تبدى لهم الشيطان فى صورة شيخ نجدى لابس مرقع وجلس* وفى المواهب اللدنية تمثل لهم الشيطان فى صورة شيخ نجدى لانهم قالوا كما ذكره بعض أهل السير لا يدخلن فى المشاورة معكم أحد من أهل تهامة لانّ هواهم مع محمد فلذلك تمثل فى صورة شيخ نجدى قالوا من الشيخ ومن أدخلك فى خلوتنا هذه بغير اذننا قال أنا شيخ من قبيلة نجد وجدت وجوهكم مليحة ورائحتكم طيبة أردت أن أسمع كلامكم وأقتبس منه شيئا ولقد أعرف مقصودكم وان كنتم
تكرهون جلوسى معكم فاخرج قالت قريش بعضهم لبعض هذا رجل من نجد لا من مكة فلا يضركم حضوره معكم فشرعوا فى الكلام وقال بعضهم لبعض ان هذا الرجل يعنى محمدا صلّى الله عليه وسلم قد كان من أمره ما كان وانا والله لا نأمن منه الوثوب علينا بمن اتبعوه فأجمعوا فيه رأيا فقال أبو البخترى ابن هشام* وفى رواية قال هشام بن عمرو رأيى أن تحبسوه فى بيت وتشدّوا وثاقه وتسدّوا بابه غير كوّة تلقون اليه طعامه وشرابه منها وتربصوا به ريب المنون حتى يهلك فيه كما هلك من الشعراء من كان قبله كزهير والنابغة فصرخ عدوّ الله الشيخ النجدى فقال بئس الرأى رأيتم والله لو حبستموه لخرج أمره من وراء الباب الى أصحابه فوثبوا وانتزعوه من أيديكم قالوا صدق الشيخ* وقال هشام بن عمرو وفى رواية أبو البخترى رأيى أن تحملوه على جمل وتخرجوه من بين أظهركم فلا يضرّكم ما صنع واسترحتم فقال الشيخ النجدى والله ما هذا لكم برأى ألم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه وغلبته على قلوب الرجال بما يأتى به فو الله لو فعلتم ذلك ما أمنتم أن يحل على حىّ من العرب فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يبايعوه ثم يسير بهم حتى يطؤكم بهم فقالوا صدق والله الشيخ فقال أبو جهل والله انّ لى فيه لرأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد قالوا وما هو يا أبا الحكم فقال رأيى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابا جلدا نسيبا وسيطا فينا ثم نعطى كل فتى سيفا صار ما ثم يعمدون اليه فيضربونه ضربة رجل واحد فيقتلونه فنستريح منه فانهم اذا فعلوا ذلك تفرّق دمه فى القبائل كلها فلا تقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا فرضوا منا بالعقل فعقلناه لهم قال الشيخ النجدى القول ما قال هذا الفتى هو أجودكم رأيا لا رأى لكم غيره* وفى خلاصة الوفاء وصوّب ابليس قول أبى جهل لما اختلفوا فيما يفعلون بالنبىّ صلّى الله عليه وسلم أرى أن يعطى خمسة رجال من خمسة قبائل سيفا سيفا فيضربونه ضربة رجل واحد فيتفرّق دمه فى هذه البطون فلا يقدر لكم بنو هاشم على شئ فتفرّقوا على رأى أبى جهل مجمعين على قتله فأخبر جبريل بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم* وفى سيرة ابن هشام قال ابن اسحاق وكان مما أنزل الله فى ذلك اليوم وما كانوا أجمعوا له واذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين وقوله عز وجل أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون قال ابن هشام المنون الموت وريب المنون ما يريب ويعرض منها قال أبو ذئب الهذلى
أمن المنون وريبها تتوجع ... والدهر ليس بمعتب من يجزع
الاعتاب الارضاء
* (الركن الثالث فى الوقائع من أول هجرته صلّى الله عليه وسلم الى وفاته
وفيه أحد عشر موطنا) **
(الموطن الاوّل) * فى وقائع السنة الاولى من الهجرة
وهى السنة التى فى الثامن والعشرين من صفرها أو فى غرّة ربيع الاوّل منها وقعت الهجرة الى المدينة وهى السنة الرابعة عشر من المبعث والرابعة والثلاثون من ملك كسرى برويز والتاسعة من ملك هرقل وأوّل هذه السنة المحرم وفيه فصلان) *
* (الفصل الاوّل فى خروجه صلّى الله عليه وسلم مع أبى بكر من مكة الى الغار
ولبثهما فيه ثلاثة أيام وخروجهما منه الى المدينة وما وقع لهم فى الطريق من لحوق سراقة اياهما ومرورهما بخيمتى أمّ معبد ولقيهم بريدة بن الحصيب ولقيهم طلحة أو الزبير فى الطريق وموت براء بن معرور واستقبال أهل المدينة ونزوله بقباء ولبثه فى بنى عمرو بن عوف وتأسيسه مسجد قباء) * قال أصحاب السير لما استقرّ رأى قريش بعد المشاورة على قتله صلّى الله عليه وسلم أتاه جبريل وأخبره بذلك وقال لا تبت هذه الليلة على فراشك الذى كنت تبيت عليه وأذن الله له عند ذلك
بالخروج الى المدينة كذا فى معالم التنزيل* وفى رواية قال له جبريل ان الله يأمرك بالهجرة* وفى شواهد النبوّة لما أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالهجرة سأل جبريل عمن يهاجر معه قال أبو بكر الصدّيق فمن ذلك اليوم سماه الله صديقا* وعن ابن عباس قال ان الله آذن نبيه فى الهجرة بهذه الآية وقل رب أدخلنى مدخل صدق وأخرجنى مخرج صدق واجعل لى من لدنك سلطانا نصيرا أخرجه الترمذى وصححه هو والحاكم كذا فى الوفاء والمواهب اللدنية* وفى العمدة أمر أن يقول له عند الهجرة وفى سيرة ابن هشام قال ابن اسحاق وآذن الله تبارك وتعالى نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلم عند ذلك فى الهجرة وكان أبو بكر رجلا ذا مال فكان حين استأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى الهجرة قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا تعجل لعلّ الله أن يجعل لك صاحبا فطمع أبو بكر بأنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم انما يعنى نفسه حين قال له ذلك فابتاع راحلتين فحبسهما فى داره يعلفهما اعدادا لذلك فحدّثنى من لا أتهم عن عروة بن الزبير عن عائشة أمّ المؤمنين أنها قالت كان لا يخطأ أن يأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بيت أبى بكر أحد طرفى النهار امّا بكرة وامّا عشية حتى اذا كان اليوم الذى أذن الله تعالى فيه لرسوله فى الهجرة والخروج من مكة من بين ظهرانى قومه أتانا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالهاجرة فى ساعة كان لا يأتى فيها قالت فلما رآه أبو بكر قال ما جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى هذه الساعة الا لأمر حدث قالت فلما دخل تأخر له أبو بكر عن سريره فجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلم عليه وليس عند أبى بكر الا أنا وأختى أسماء بنت أبى بكر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرج عنى من عندك فقال يا نبىّ الله انما هى ابنتاى وما ذاك فداك أبى وأمى قال انّ الله تعالى قد أذن لى فى الخروج والهجرة قالت فقال أبو بكر الصحبة يا رسول الله قال نعم* وفى المنتقى قالت عائشة فبينا نحن جلوس فى بيت أبى بكر فى نحر الظهيرة قال قائل لابى بكر هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلم متقنعا فى ساعة لم يكن يأتينا فيها فقال أبو بكر فدى له أبى وأمّى والله ما جاء به فى هذه الساعة الا أمر فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم فاستأذن فأذن له فدخل فقال لابى بكر أخرج من عندك فقال أبو بكر انما هم أهلك بأبى أنت وأمى يا رسول الله قال فانى قد أذن لى فى الخروج قال أبو بكر الصحبة بأبى أنت وأمّى يا رسول الله قال نعم* وفى رواية أذن له باذن الله أن يصحبه قالت عائشة رأيت أبا بكر يبكى من الفرح وما كنت أظنّ الى ذلك الوقت أن يبكى أحد من الفرح قال فخذ احدى راحلتىّ هاتين قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالثمن* قال الواقدى ثمنها ثمانمائة درهم وان المأخوذة كانت هى القصوى وانها كانت من نعم بنى قشير كان اشتراها أبو بكر منهم وانها عاشت حتى ماتت فى خلافة ابى بكر الصدّيق وكانت مرسلة ترعى فى البقيع وكذا فى طبقات ابن سعد أن ثمنها كان ثمانمائة درهم كذا فى الوفاء* وفى رواية قال ابو بكر عندى ناقتان قد كنت أعددتهما للخروج فأعطى النبىّ احداهما وهى الجدعاء قاله ابن اسحاق وقال انها كانت من نعم بنى الحريش وكذا فى رواية ابن حبان انها الجدعاء كذا فى الوفاء قالت عائشة فجهزناهما احث الجهاز وصنعنا لهما سفرة فى جراب فقطعت اسماء بنت ابى بكر قطعة من نطاقها فربطت به فم الجراب فلذلك سميت ذات النطاقين هكذا رواية ابن عباس* وفى رواية عن أسماء قالت فلم نجد لسفرته ولا لسقائه ما نربطهما به فقلت لابى بكر والله ما أجد شيئا أربط به الانطاقى قال فشقيه باثنتين فاربطى بواحدة السقاء وبالاخرى السفرة ففعلت فلذلك سميت ذات النطاقين رواه البخارى وسيجىء غير ذلك* وفى سيرة ابن هشام قال ابن اسحاق وأمر أبو بكر ابنه عبد الله بن أبى بكر أن يتسمع لهما ما يقول الناس فيهما نهاره ثم يأتيهما
اذا أمسى فى الغار بما يكون فى ذلك اليوم من الخبر وكان يفعل ذلك وأمر عامر
ابن فهيرة مولى أبى بكر أن يرعى عليهما منحة لابى بكر ليشربا من لبنها واستأجر أبو بكر رجلا من بنى الدئل هاديا حريتا أى ماهرا بالهداية ليدلهما على الطريق يقال له عبد الله بن الاريقط الديلى الليثى* قال النووى لا نعلم له اسلاما وفى الرياض النضرة الليث بن عبد الله بن الاريقط* وفى الوفاء ذهب أبو بكر الى عبد الله بن أريقط قاله ابن عقبة* وفى تهذيب بن هشام عبد الله بن أرقد وفى رواية الاموى عن ابن اسحاق أريقد وفى العتبية رقيط من بنى الدئل بن بكر بن كنانة وأمّه امرأة من بنى سهم بن عمرو وكان مشركا أو قال على دين الكفار فأمنه ودفع اليه لراحلتين وواعده غار ثور بعد ثلاث ليال* وفى سيرة ابن هشام بلفظ التثنية فى استأجرا ودفعا اليه راحلتيهما فكانتا عنده لميعادهما* وفى أنوار التنزيل الغار ثقب فى أعلا ثور وثور جبل بمنى مكة على مسيرة ساعة مكثا فيه ثلاثا* وفى القاموس يقال له ثور أطحل واسم الجبل اطحل نزله ثور بن عبد مناة فنسب اليه ذلك الجبل ذكر ابن جبير أن جبل ثور من مكة على ثلاثة أميال* وفى معجم ما استعجم انه من مكة على ميلين وارتفاعه نحو ميل وفى أعلاه الغار الذى دخله النبىّ صلّى الله عليه وسلم مع أبى بكر وهو المذكور فى القرآن والبحر يرى من أعلا هذا الجبل وفيه من كل نبات الحجاز وشجره وفيه شجرة البان وفيه شجرة من حمل منها شيئا لم تلدغه الهامة انتهى* ولما كانت العتمة اجتمع المشركون بمكة على باب النبىّ صلّى الله عليه وسلم ثم ترصدوه متى ينام فيثبون عليه فيهلكونه* وفى الوفاء اجتمعت قريش الى باب الدار فقال أبو جهل لا تقتلوه حتى تجتمعوا يعنى الخمسة من القبائل الخمس وجعل يقول لهم هذا محمد كان يزعم لكم انكم ان تابعتموه كنتم ملوك العرب والعجم ويكون لكم فى الآخرة جنات تأكلون منها وان لم تتابعوه يكون له فيكم ذبح فى الدنيا ويوم القيامة نار تحرقون فيها فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم نعم والله كذا أقول وكذا يكون وأنت أحدهما فلما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم مكانهم واجتماعهم قال لعلىّ نم على فراشى واتشح ببردى الحضرمى الاخضر فانه لا يخلص اليك شئ تكرهه منهم وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم ينام فى برده ذلك اذا نام* وفى خلاصة الوفاء فلن يخلص اليك منهم أمر فردّ هذه الودائع الى أهلها وكانت الودائع توضع عنده لصدقه وأمانته* وفى سيرة ابن هشام قال ابن اسحاق ان رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيما بلغنى أخبر عليا بخروجه وأمره أن يتخلف بعده بمكة حتى يؤدّى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم الودائع التى عنده وليس بمكة أحد عنده شئ يخشى عليه الاوضعه عنده لما يعلم من صدقه وأمانته فبات علىّ على فراش النبىّ صلّى الله عليه وسلم تلك الليلة وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم الى الغار ولما خرج قام على رؤسهم وقد ضرب الله على أبصارهم* وفى رواية أخذ الله أبصارهم عنه ونزل تلك الليلة أوّل سورة يس فأخذ قبضة من تراب وجعل ينثره على رؤسهم وهو يقرأ انا جعلنا فى أعناقهم أغلالا الى قوله فهم لا يبصرون وتلا واذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا ثم أتى منزل ابى بكر فخرجا من خوخة كانت له فى ظهر البيت وعمدا الى غار ثور* وفى الاستيعاب أذن الله له فى الهجرة الى المدينة يوم الاثنين وكانت هجرته فى ربيع الاوّل وهو ابن ثلاث وخمسين سنة وقدم المدينة يوم الاثنين قريبا من نصف النهار فى الضحى الاعلى لاثنتى عشرة ليلة خلت من ربيع الاوّل هذا قول ابن اسحاق وكذا قال غيره الا أنه قال كان مخرجه الى المدينة لهلال ربيع الاوّل وقال أبو عمرو وقد يروى عن ابن شهاب أنه قدم المدينة لهلال ربيع الاوّل وقال عبد الرحمن ابن المغيرة قدم المدينة يوم الاثنين لثمان خلون من ربيع الاوّل* وقال الكلبى خرج من الغار ليلة الاثنين أوّل يوم من ربيع الاوّل وقدم المدينة يوم الجمعة لاثنتى عشرة ليلة خلت منه
قال أبو عمرو
وهو قول ابن اسحاق الا فى تسمية اليوم فان ابن اسحاق يقول يوم الاثنين والكلبى يقول يوم الجمعة واتفقا لاثنتى عشرة ليلة خلت من ربيع الاوّل وغيرهما يقول لثمان خلت منه فالاختلاف أيضا فى تاريخ قدومه المدينة كما ترى* وفى الصفوة قال يزيد بن حبيب خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم من مكة فى صفر وقدم المدينة فى ربيع الاوّل* وفى الوفاء ذكر موسى بن عقبة عن الزهرى أن الخروج كان فى بقية تلك الليلة وكان ذلك بعد العقبة بشهرين وليال وقال الحاكم بثلاثة أشهر أو قريبا منها ويرجح الاوّل ما جزم به ابن اسحاق من انه خرج أوّل يوم من ربيع الاوّل فيكون بعد العقبة بشهرين وبضعة عشر يوما وكذا جزم به الاموى فقال خرج لهلال ربيع الاوّل وقدم المدينة لاثنتى عشرة ليلة خلت منه قال فى فتح البارى وعلى هذا كان خروجه يوم الخميس وهو الذى ذكره محمد بن موسى الخوارزمى لكن قال الحاكم تواترت الاخبار بأن الخروج كان يوم الاثنين والدخول يوم الاثنين وجمع الحافظ ابن حجر بينهما بأنّ خروجه من مكة كان يوم الخميس أىّ فى أثناء ليلته لما قدمناه وخروجه من الغار يعنى غار ثور ليلة الاثنين لانه أقام فيه ثلاث ليال ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الاحد وخرج فى أثناء ليلة الاثنين كذا فى المواهب اللدنية ومن روى لليلتين لعله لم يحسب أوّل ليلة وكانت مدّة اقامته صلّى الله عليه وسلم بمكة بعد النبوّة بضع عشرة سنة ويدل عليه قول صرمة
ثوى فى قريش بضع عشرة حجة ... يذكر لو ألفى صديقا مؤاتيا
وقال عروة عشرا وقال ابن عباس خمس عشرة سنة* وفى رواية عنه عشر سنين ولم يعلم بخروجه الا علىّ وآل أبى بكر* وفى سيرة اليعمرى ولما بلغ ثلاثا وخمسين سنة هاجر من مكة الى المدينة يوم الاثنين لثمان خلون من ربيع الاوّل وأقام المشركون ساعة فجعلوا يتحدّثون فأتاهم آت وقال ما تنتظرون قالوا ننتظر أن نصبح فنقتل محمدا قال قبحكم الله وخيبكم أو ليس قد خرج عليكم وجعل على رؤسكم التراب قال أبو جهل أو ليس ذاك مسجى ببرده والآن كلمنا فلما أصبحوا قام علىّ عن الفراش فقال أبو جهل صدقنا ذلك المخبر فاجتمعت قريش وأخذت الطرق وجعلت الجعائل لمن جاء به فانصرفت عيونهم ولم يجدوا شيئا وفى رواية لما قال القائل قد خرج ونثر على رؤسكم التراب فما ترون ما بكم وضع كل رجل منهم يده على رأسه فاذا فيه التراب ثم جعلوا يتطلعون وينظرون من شق الباب فيرون عليا على الفراش متسج ببرد رسول الله صلّى الله عليه وسلم يحسبونه النبىّ صلّى الله عليه وسلم فيحرسونه ويقولون ان هذا المحمد تائم عليه برده فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا فوثبوا عليه فقام علىّ من الفراش فقالوا له أين صاحبك قال لا علم لى قيل انهم ضربوا عليا وحبسوه ساعة ثم تركوه واقتصوا أثر النبىّ صلّى الله عليه وسلم فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم وروى أنه لم يبق أحد من الذين وضع على رؤسهم التراب الا قتل يوم بدر وأنشأ علىّ فى بيوتته فى بيت النبىّ صلّى الله عليه وسلم هذه الابيات
وقيت بنفسى خير من وطئ الثرى ... ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر
رسول اله خاف أن يمكروا به ... فنجاه ذو الطول الاله من المكر
وبات رسول الله فى الغار آمنا ... موقى وفى حفظ الاله وفى ستر
وبت أراعيهم وما يثبتوننى ... وقد وطنت نفسى على القتل والاسر
قال الغزالى فى الاحياء ان ليلة بات علىّ بن أبى طالب على فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلم أوحى الله تعالى الى جبريل وميكائيل انى آخيت بينكما وجعلت عمر أحد كما أطول من عمر الاخر فأيكما يؤثر صاحبه بحياة فاختار كلاهما الحياة وأحباها فأوحى الله اليهما أفلا كنتما مثل علىّ بن أبى طالب آخيت بينه وبين محمد فبات علىّ على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة اهبطا الى الارض
فاحفظاه من عدوّه فكان جبريل عند رأسه وميكائيل عند رجليه ينادى بخ بخ من مثلك يا ابن أبى طالب تباهى بك الملائكة فأنزل الله تعالى ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤف بالعباد* وفى عمدة المعانى الاية نزلت فى الزبير والمقداد وقيل فى صهيب وخباب وعمار ابن ياسر وقيل فى علىّ حين نام على فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليلة الغار* وروى أن أبا بكر حين خرج الى الغار احتمل ماله كله وكان ذا مال وهو خمسة آلاف درهم أو ستة آلاف درهم فانطلق بها معه* وفى الاستيعاب روى سفيان بن عيينة عن هشام بن عروة عن أبيه قال أسلم أبو بكر وله أربعون ألفا أنفقها كلها على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وفى سبيل الله وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما نفعنى مال الا مال أبى بكر* وفى معالم التنزيل ان أبا بكر حين انطلق مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم الى الغار جعل يمشى ساعة بين يديه وساعة خلفه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك يا أبا بكر قال أذكر الطلب فأمشى خلفك ثم أذكر الرصد فأمشى بين يديك وفى دلائل النبوّة فجعل مرّة يمشى أمامه ومرّة خلفه ومرّة عن يمينه ومرة عن يساره فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما هذا يا أبا بكر ما أعرف هذا من فعلك فقال يا رسول الله أذكر الرصد فأكون أمامك وأذكر الطلب فأكون خلفك ومرة عن يمينك ومرة عن يسارك لا آمن عليك وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد خلع نعليه فى طريق الغار وكان يمشى على أطراف أصابعه لئلا يظهر أثرهما على الارض حتى حفيت رجلاه فلما رآه أبو بكر وقد حفيت رجلاه حمله على كاهله وجعل يشتدّ حتى أتى الغار كذا فى دلائل النبوّة (قوله) حفيت رجلاه أى رقتا من كثرة المشى ويشبه أن يكون ذلك من خشونة الجبل وكان حافيا والا فلا يحتمل بعد المكان ذلك أو لعلهم ضلوا طريق الغار حتى بعدت المسافة ويدل عليه قوله فمشى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليلته ولا يحتمل ذلك مشى ليلة الا تقدير ذلك أو سلوك غير الطريق تعمية على الطلب كذا فى الرياض النضرة وأما ما وقع فى رواية ابن هشام عن عروة عند ابن حبان انهما ركبا حتى أتيا المغار فتواريا فلا ينافى مواعدتهما الدليل الديلى بأن يأتى بالراحلتين بعد ثلاث لاحتمال أن يكون ما ركبا غير راحلتيهما أو اياهما ثم ذهب بهما عامر بن فهيرة الى الدليل كذا فى الوفاء وأيضا لا ينافى ذلك ما ذكر من نقب القدم وحمل أبى بكر اياه لاحتمال أن يكون كل واحد منهم فى بعض الطريق وروى عن أبى بكر أنه قال لعائشة لو رأيتنى ورسول الله صلّى الله عليه وسلم اذ صعدنا الغار فأما قدما رسول الله صلّى الله عليه وسلم فتفطرتا وأما قدماى فعادتا كأنهما صفوان قالت عائشة ان رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يتعوّد الحفية ولا الرعية وروى عن أبى بكر أنه قال نظرت الى قدمى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى الغار وقد قطرتا دما فاستبكيت فعلمت أنه صلّى الله عليه وسلم لم يتعوّد الحفاء والجفوة قال ابن هشام وحدّثنى بعض أهل العلم أن الحسن البصرى قال انتهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبو بكر الى الغار ليلا فدخل أبو بكر الى الغار قبل رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلمس الغار لينظر أفيه سبع أوحية ليقى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بنفسه* وفى معالم التنزيل قال أبو بكر يا رسول الله مكانك حتى استبرئ الغار وكان ذلك الغار مشهورا بكونه مسكن الهوام والوحش قال ادخل فدخل فرأى غارا مظلما فجلس وجعل يلتمس بيده كلما وجد حجرا أدخل فيه اصبعه حتى انتهى الى حجر كبير فأدخل رجله الى فخذه فأخرجه* وفى رواية كلما وجد حجرا شق ثوبه فألقمه اياه حتى فعل ذلك بثوبه كله فبقى حجر فألقمه عقبه* وفى الرياض النضرة فجعل الحيات والافاعى يضربنه ويلسعنه انتهى وعلى كلا التقديرين لدغته الحية تلك الليلة قال أبو بكر فلما ألقمت عقبى الجحر لدغتنى الحية وان
كانت اللدغة أحب الىّ من أن يلدغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم
انتهى ثم قال أبو بكر ادخل يا رسول الله فانى سوّيت لك مكانا فدخل فاضطجع رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأما أبو بكر فكان متألما من لدغة الحية ولما أصبحا رأى النبىّ صلّى الله عليه وسلم على أبى بكر أثر الورم فسأل عنه فقال من لدغة الحية فقال النبىّ صلّى الله عليه وسلم هلا أخبرتنى قال كرهت أن أوقظك فسجه النبىّ صلّى الله عليه وسلم بيده فذهب ما به من الورم والالم ثم قال فأين ثوبك يا أبا بكر فأخبره بما فعل فعند ذلك رفع النبىّ صلّى الله عليه وسلم يديه فقال اللهم اجعل أبا بكر فى درجتى يوم القيامة فأوحى الله اليه قد استجاب لك كذا فى المنتقى خرجه الحافظ أبو الحسين بن بشر والملا فى سيرته عن ميمون بن مهران عن ضبة بن محصن الغنوى* وعن ابن عباس قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم رحمك الله صدّقتنى حين كذبنى الناس ونصرتنى حين خذلنى الناس وآمنت بى حين كفر بى الناس وآنستنى فى وحشتى فأى منة لاحد علىّ مثلك خرجه فى فضائله ذكره فى الرياض النضرة* وفى معالم التنزيل قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لابى بكر أنت صاحبى فى الغار وصاحبى على الحوض* قال الحسن بن الفضل من قال ان أبا بكر لم يكن صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلم فهو كافر لانكاره نص القرآن وفى سائر الصحابة اذا أنكر يكون مبتدعا لا كافرا* وفى المشكاة عن عمر بن الخطاب أنه قال لما انتهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم الى الغار قال أبو بكر والله لا تدخله حتى أدخل قبلك فان كان فيه شىء أصابنى دونك فدخل فكسبه فوجد فى جانبه تقبا فشق ازاره فسدّها وبقى منها اثنان فألقمهما رجليه ثم قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلم ادخل فدخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم ووضع رأسه فى حجر أبى بكر ونام فلدغ أبو بكر فى رجله من الحجر ولم يتحرّك مخافة أن ينتبه رسول الله صلّى الله عليه وسلم فسقطت دموعه على وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم فانتبه فقالى مالك يا أبا بكر قال لدغت فداك أبى وأمى فتفل فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم فذهب ما يجده ثم انتقض عليه وكان سبب موته رواه رزين وفى حديث الخجندى ثم قال أبو بكر بعد سدّ الحجر انزل يا رسول الله دليل على أن باب الغار من أعلاه كذا فى الرياض النضرة* وحكى الواقدى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما دخل الغار دعا بشجرة كانت أمام الغار فأقبلت حتى وقفت على باب الغار فحجبت أعين الكفار* وذكر ثابت بن قاسم فى الدلائل أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما دخل الغار وأبو بكر معه أنبت الله على بابه الراءة قال هشام هى شجرة معروفة وهى أمّ غيلان فحجبت عن الغار أعين الكفار وعن أبى حنيفة أنها تكون مثل قامة الانسان لها خيطان وزهر أبيض يحشى به المخاد فيكون كالريش لخفته ولينه لانه كالقطن وخرج أبو بكر البزار فى مسنده من حديث أبى مصعب المكى قال أدركت زيد بن أرقم والمغيرة بن شعبة وأنس بن مالك يحدّثون أن النبىّ صلّى الله عليه وسلم لما كانت ليلة بات فى الغار أمر الله تبارك وتعالى شجرة أو قال الراءة فنبتت فى وجه الغار فسترت وجه النبى صلّى الله عليه وسلم وأمر الله العنكبوت فنسجت على وجه الغار وأمر الله حمامتين وحشيتين فوقعتا بفم الغار فعششتا على بابه* قال السهيلى وحمام الحرم من نسلهما كذا فى سيرة مغلطاى* وفى معالم التنزيل حتى باضتافى أسفل النقب* وفى القصة أنبت الله ثمامة على فم الغار* وفى المواهب اللدنية أخرج أبو نعيم فى الحلية عن عطاء ابن ميسرة قال نسجت العنكبوت مرتين مرة على داود حين كان طالوت يطلبه ومرّة على النبىّ صلّى الله عليه وسلم فى الغار انتهى قيل وكذا نسجت على الغار الذى دخله عبد الله بن أنيس لما بعثه النبىّ صلى الله عليه وسلم لقتل سفيان بن خالد بن نبيح الهذلى بالعرنة فقتله ثم احتمل رأسه ودخل فى غار فنسجت عليه العنكبوت وجاء الطلب فلم يجدوا شيئا فانصرفوا راجعين* وفى تاريخ ابن عساكران العنكبوت
نسجت أيضا على عورة زيد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب لما صلب عريانا فى سنة احدى وعشرين ومائة وسيأتى فى الخاتمة أنه قتل بالكوفة فى المصاف وكان قد خرج وبايعه خلق فحاربه نائب العراق يوسف بن عمر وظفر به يوسف فقتله وصلبه عريانا وبقى جسده مصلوبا أربع سنين* روى أن المشركين كانوا يعلمون محبة النبىّ صلّى الله عليه وسلم لابى بكر رضى الله عنه فذهبوا لطلبه فوقفوا على بابه وفيهم أبو جهل فخرجت اليهم أسماء بنت أبى بكر فقالوا لها أين أبوك قالت لا أدرى فرفع أبو جهل يده وكان فاحشا خبيثا فلطم خدّها لطمة خرج منها قرطها فسقط ثم انصرفوا فوقعوا فى طلبهما* وفى الاكتفاء ولما فقدت قريش رسول الله صلّى الله عليه وسلم طلبوه بمكة أعلاها وأسفلها وبعثوا القافة يتبعون أثره فى كل وجه فوجد الذى ذهب قبل ثور أثره هناك فلم يزل يتبعه حتى انقطع لما انتهى الى ثور وشق على قريش خروج رسول الله صلّى الله عليه وسلم وجزعوا لذلك فطفقوا يطلبونه بأنفسهم فيما قرب منهم ويرسلون من يطلبه فيما بعد عنهم وجعلوا مائة بعير لمن ردّه عليهم ولما انتهوا الى فم الغار وقد كانت العنكبوت ضربت على بابه بعشاش بعضها على بعض بعد أن دخله رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال قائل منهم ادخلوا الغار فقال أمية بن خلف ما أربكم فى الغار ان عليه لعنكبوتا أقدم من ميلاد محمد* وفى الشفاء وعليه من نسج العنكبوت ما أرى أنه قبل أن يولد محمد قالوا فنهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن قتل العنكبوت وقال انها جند من جنود الله* وفى رواية أقبل فتيان من مشركى قريش من كل بطن رجل بعصيهم وسيوفهم ومعهم قائف من قافة بنى مدلج وهم المشهورون بالقيافة بين العرب فالتمسوا أثرهما فوجدوه وقصوه الى أن بلغ قرب جبل ثور ففقدوه هناك فقال القائف ما أدرى أين وضعا أقدامهما بعد هذا ولما دنوا من الغار قال القائف والله ما جاوز مطلوبكم من هذا الغار فعند ذلك حزن أبو بكر فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا تحزن ان الله معنا قال يا رسول الله لو نظر فى موضع قدميه لرآنا* وفى رواية لا بصرنا تحت قدميه* وفى الرياض النضرة فيه دلالة على أن باب الغار كان من أعلاه فقال له النبىّ صلّى الله عليه وسلم يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما* وفى تفسير الكورانى قد روى أنه عليه السلام لما رآى بالصدّيق اضطرابا قال له انظر الى جانب الغار فنظر فرأى بحرا على ساحله سفينة* وفى معالم التنزيل لم يكن حزن أبى بكر جبنا منه وانما كان اشفاقا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال ان أقتل فأنا رجل واحد وان قتلت هلكت الامّة* وفى معالم التنزيل أيضا فجعل الطلب يضربون يمينا وشمالا حول الغار يقولون لو دخلا الغار انكسر بيضة الحمام وتفسخ بيت العنكبوت* وفى الشفاء وقعت حمامتان على فم الغار فقالت قريش لو كان فيه أحد لما كان هناك الحمام روى أن المشركين لما مرّوا على باب الغار طارت الحمامتان فلما رأوا بيضة الحمام ونسج العنكبوت قالوا ذلك فلما سمع النبىّ صلّى الله عليه وسلم حديثهم علم أن الله قد حمى حماهما بالحمام وصرف عنهما كيدهم بالعنكبوت
وما حوى الغار من خير ومن كرم ... وكل طرف من الكفار عنه عمى
فالصدق فى الغار والصدّيق لم يرما ... وهم يقولون ما بالغار من أرم
ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على ... خيرا لبرية لم تنسج ولم تحم
وقاية الله أغنت عن مضاعفة ... من الدروع وعن عال من الأطم
ولله در القائل
والعنكبوت أجادت حوك حلتها ... فما تخال خلال النسج من خلل
وما أحسن قول النقيب
ودود القزان نسجت حريرا ... يجمل لبسه فى كل شى
فان العنكبوت أجل منها ... بما نسجت على رأس النبى
ولقد حصل للعنكبوت الشرف بذلك كذا فى المواهب اللدنية* روى ابن وهب أن حمام مكة أظلت النبىّ صلّى الله عليه وسلم يوم فتحها فدعا لها بالبركة ونهى عن قتل العنكبوت وقال هى جند من جنود الله* وفى العمدة روى عن أبى بكر رضى الله عنه أنه قال لا أزال أحب العنكبوت منذ رايت النبىّ صلّى الله عليه وسلم أحبها ويقول جزى الله العنكبوت عنا خيرا فانها نسجت علىّ وعليك يا أبا بكر فى الغار حتى لم يرنا المشركون الا أن البيوت تطهر من نسجها لما روى عن علىّ أنه قال طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت فان تركه فى البيت يورث الفقر* وفى الاكتفاء وأتى المشركون من كل بطن حتى اذا كانوا من النبىّ صلّى الله عليه وسلم على قدر أربعين ذراعا معهم قسيهم وعصيهم تقدّم أحدهم فنظر فرآى حمامتين فرجع فقال لاصحابه ليس فى الغار شىء رأيت حمامتين على فم الغار فعرفت أن ليس فيه أحد فسمع قوله النبىّ صلّى الله عليه وسلم فعلم أن الله قد دارأ بهما عنه فأثنى عليهما وفرض جزاءهما وانحدرن فى حرم الله ففرّخن أحسبه قال فأضل كل حمام فى الحرم من فراخهما وفى حياة الحيوان ان حمام الحرم من نسل تلك الحمامتين* روى أيضا أن أبا بكر لما رآى القائف اشتدّ حزنه على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقال ان قتلت فانما أنا رجل واحد الى آخر ما سبق فعند ذلك قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا تحزن ان الله معنا يعنى بالنصرة فأنزل الله سكينته أى أمنه الذى يسكن عنده القلوب عليه أى على النبىّ صلّى الله عليه وسلم أو على أبى بكر وهو الاظهر لانه كان منزعجا وأيده يعنى النبىّ صلّى الله عليه وسلم بجنود لم تروها يعنى الملائكة أنزلهم يحرسونه فى الغار وليصرفوا وليضربوا وجوه الكفار وأبصارهم عن رؤيته وألقوا الرعب فى قلوبهم حتى انصرفوا خائبين كذا فى معالم التنزيل* أنظر لما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم حزن الصدّيق قد اشتدّ لكن لا على نفسه قوّى قلبه ببشارة لا تحزن ان الله معنا وكانت تحفة ثانى اثنين مدخرة له فهو الثانى فى الاسلام والثانى فى بذل النفس والعمر وسبب الموت ولما وقى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بماله ونفسه جوزى بمواراته معه فى رمسه وقام مؤذن التشريف ينادى على منائر الامصار ثانى اثنين اذهما فى الغار ولقد أحسن حسان بن ثابت حيث قال
وثانى اثنين فى الغار المنيف وقد ... طاف العدوّ به اذ صاعد الجبلا
وكان حب رسول الله قد علموا ... من الخلائق لم يعدل به بدلا
وتأمّل فى قول موسى عليه السلام لبنى اسرائيل كلا ان معى ربى سيهدين وقول النبىّ صلّى الله عليه وسلم للصدّيق ان الله معنا فموسى خص بشهود المعية ولم يتعدّ منه الى أتباعه ونبينا صلّى الله عليه وسلم تعدّى منه الى الصدّيق لم يقل معى لانه أمدّ أبا بكر بنوره فشهد سرّ المعية ومن ثم سرى سر السكينة الى أبى بكر والا لم يثبت تحت أعباء هذا التجلى والشهود وأين معية الربوبية فى قصة موسى عليه السلام من معية الالهية فى قصة نبينا صلّى الله عليه وسلم قاله العارف شمس الدين بن اللبان كذا فى المواهب اللدنية عن ابن عباس رضى الله عنهما قال كان أبو بكر مع النبىّ صلّى الله عليه وسلم فى الغار فعطش عطشا شديدا فشكى الى النبىّ صلّى الله عليه وسلم فقال له النبى صلّى الله عليه وسلم اذهب الى صدر الغار فاشرب قال أبو بكر فانطلقت الى صدر الغار فشربت ماء أحلى من العسل وأبيض من اللبن وأزكى رائحة من المسك ثم عدت الى النبىّ صلّى الله عليه وسلم فقال شربت فقلت نعم قال ألا أبشرك يا أبا بكر قلت بلى يا رسول الله قال ان الله تبارك وتعالى أمر الملك الموكل بأنهار الجنة أن اخرق نهرا من جنة
الفردوس الى صدر الغار ليشرب أبو بكر فقلت يا رسول الله ولى عند الله هذه المنزلة فقال النبىّ صلّى الله عليه وسلم نعم وأفضل والذى بعثنى بالحق لا يدخل الجنة مبغضك ولو كان له عمل سبعين نبيا خرجه الملا فى سيرته كذا فى الرياض النضرة ثم أمر أبو جهل مناديا ينادى فى أعلا مكة وأسفلها من جاء بمحمد أو دل عليه فله مائة بعير أو جاء بابن أبى قحافة أو دل عليه فله مائة بعير فلم يزل المشركون يطوفون على جبال مكة يطلبونهما وكان مكثهما فى الغار ثلاث ليال وقيل بضعة عشر يوما والاوّل هو المشهور كذا فى المواهب اللدنية وكان عبد الله بن أبى بكر وفى معالم التنزيل عبد الرحمن ابن أبى بكر وهو مخالف لرواية غيره شابا خفيفا ثقفا لقنا يختلف عليهما فيبيت عندهما بالغار ويدلج من عندهما بالسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت فلا يسمع أمرا يكاد ان به الاوعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام وكانت أسماء بنت أبى بكر تأتيهما من مكة اذا أمست بما يصلحهما وكان عامر بن فهيرة مولى أبى بكر يرعى عليهما منحة من غنم كانت لابى بكر فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء فيبيتان فى رسل وهو لبن المنحة فيرجع عنهما بغلس فيرعاها فلا يتفطن له أحد من الرعيان ففعل ذلك كل ليلة من الليالى الثلاث* وفى سيرة ابن هشام قال ابن اسحاق كان عامر بن فهيرة مولى أبى بكر يرعى فى رعيان أهل مكة فاذا أمسى أراح عليهما غنم أبى بكر فاحتلبا وذبحا فاذا غدا عبد الله بن أبى بكر من عندهما تبع عامر بن فهيرة أثره بالغنم حتى يعفى عليه فخرج معهما حتى قدم المدينة فاستشهد يوم بئر معونة كما سيجىء فى الموطن الرابع* وفى الاستيعاب وأسد الغابة عامر بن فهيرة مولى أبى بكر كان مولدا من مولدى الازد أسود اللون مملوكا للطفيل بن عبد الله بن سخبرة أخى عائشة لامّها وكان من السابقين الى الاسلام أسلم وهو مملوك وكان حسن الاسلام عذب فى الله اشتراه أبو بكر فأعتقه وكان يرعى فى ثور فى رعيان أهل مكة الى آخر ما ذكر فى رواية ابن هشام آنفا* فلما سار النبى صلّى الله عليه وسلم وأبو بكر من الغار الى المدينة هاجر معه فأردفه أبو بكر خلفه وشهد بدرا وأحدا وقتل يوم بئر معونة وهو ابن أربعين سنة قتله عامر بن الطفيل ذكر ذلك كله موسى بن عقبة وابن اسحاق عن ابن شهاب ويقال قتله جبار بن سلمى كما سيجىء فى الموطن الرابع فى سرية المنذر الى بئر معونة ان شاء الله تعالى*