بعد أن حُبِّبت العُزلة والخلوة إلى نفس المصطفى صلى الله عليه وسلم، ظل يتردد على جبل النور، ذلك الجبل القابع في شمال مكة، والذي طالما قضى في رحابه الأيام والليالي الطوال، مختليا بنفسه في غار حراء على قمة الجبل، يتعبد لله، ويتأمل في ملكوت السماوات والأرض، ويتأمل حياة البشر من حوله وما هم عليه من ظلم وضلال وفساد استشرى في جسد المجتمع المكي، فتُفتح عليه صلى الله عليه وسلم من حين لآخر نفحات إلهية من السماء تحمل إلى قلبه وعقله النور الإلهي المقدّس.
فكانت إرهاصات النبوة تأتيه بين الحين والآخر، لتهيئ روحه تدريجيًّا لتلقّي السرّ الإلهي (النبوة)، فما كان الله تعالى ليمُنَّ عليه بالنبوة ويصطفيه لمقام الرسالة إلا وقد هيَّأه لتلك المنزلة السامية، وهي تلقيه وحي السماء وبعثه لهداية الناس وإرشادهم.
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الحين والآخر يرى ضوءًا ويسمع صوتًا، دون أن يرى أثرًا لأحد! فكان -صلوات ربي وسلامه عليه- لا يمر بحجر ولا شجر إلا سلَّم عليه، يسمع صوت «السلام عليك يا رسول الله»،
وإذا التفت رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرى أحدًا، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بذلك: «إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ إِنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآنَ» (رواه أحمد).
وظل على ذلك الحال: يسمع صوتا ويرى ضوءًا، دون أن يرى أثرًا لأحد، حتى خشي صلى الله عليه وسلم على نفسه الجنون، فحكى ذلك لزوجته خديجة -رضي الله عنها-: «إِنِّي أَرَى ضَوْءًا، وَأَسْمَعُ صَوْتًا، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَكُونَ بِي جَنَنٌ» (رواه أحمد)، فأشفقت عليه وهدَّأت من روعه
ثم ذهبت إلى ابن عمها ذلك القس الطاعن في السن (ورقة بن نوفل)، فقصَّت عليه ما يحدث لزوجها، فيقول لها: «إِنْ يَكُ صَادِقًا، فَإِنَّ هَذَا نَامُوسٌ مِثْلُ نَامُوسِ مُوسَى، فَإِنْ بُعِثَ وَأَنَا حَيُّ فَسَأُعَزِّزُهُ وَأَنْصُرُهُ وَأُومِنُ بِهِ» (رواه أحمد). وكأن ذلك القس النصراني كان يحس ويترقب... فالحال على الأرض أكثر من سيئ، والبشر غارقون في ظلمات الضلالة، وهم بحاجة إلى منقذ يأخذ بيد هذا الإنسان المرتكس في الوحل، ويرتقى به إلى خالقه، وإلى ما يصلحه ويرشده، بعد أن انقطع وحي السماء عن الأرض أكثر من ستمائة عام.