وهى فى اللغة: النماء والتطهير. والمال ينمى بها من حيث لا يرى، وهى مطهرة لمؤديها من الذنوب، وقيل: ينمى أجرها عند الله تعالى. وسميت فى الشرع زكاة لوجود المعنى اللغوى فيها. وقيل: لأنها تزكى صاحبها وتشهد بصحة إيمانه، وهى قيد النعمة، وسميت الصدقة صدقة لأنها دليل لتصديق صاحبها وصحة إيمانه بظاهره وباطنه.
وقد فهم من شرعه- صلى الله عليه وسلم- أن الزكاة وجبت للمواساة، وأن المواساة لا تكون إلا فى مال له بال، وهو النصاب. ثم جعلها- صلى الله عليه وسلم- فى الأموال النامية، وهى أربعة أصناف:
الأول: الذهب والفضة اللذان بهما قوام العالم.
والثانى: الزروع والثمار.
والثالث: بهيمة الأنعام: الإبل والبقر والغنم.
والرابع: أموال التجارة على اختلاف أنواعها.
وحدد- صلى الله عليه وسلم- نصاب كل صنف بما يحتمل المواساة: فنصاب الفضة خمس أواق، وهى مائتا درهم بنص الحديث والإجماع، وأما الذهب فعشرون مثقالا، وأما الزروع والثمار فخمسة أوسق، وأما الغنم فأربعون شاة، والبقر ثلاثون بقرة، والإبل خمس.
ورتب- صلى الله عليه وسلم- مقدار الواجب بحسب المؤنة والتعب فى المال. فأعلاها وأقلها تعبا الركاز، وفيه الخمس لعدم التعب فيه، ولم يعتبر له حولا بل أوجب فيه الخمس متى ظفر به. ويليه الزروع والثمار، فإن سقى بماء السماء ونحوه ففيه العشر، وإلا فنصفه. ويليه الذهب والفضة والتجارة، وفيها ربع العشر، لأنه يحتاج إلى العمل فيه جميع السنة. ويليه الماشية، فإنه يدخلها الأوقاص بخلاف الأنوع السابقة.
ولما كان نصاب الإبل لا يحتمل المواساة من جنسه أوجب فيها شاة، فإذا صارت الخمس خمسا وعشرين احتمل نصابها واحدا، فكان هو الواجب. ثم إنه قد سنّ هذا الواجب فى الزيادة والنقصان بحسب كثرة الإبل وقلتها. وفى كتابه- صلى الله عليه وسلم- الذى كتبه فى الصدقة ولم يخرجه إلى عماله حتى قبض: فى خمس من الإبل شاة، وفى عشر شاتان، وفى خمسة عشر ثلاث شياه، وفى عشرين أربع شياه، وفى خمس وعشرين بنت مخاض إلى خمس وثلاثين، فإذا زادت واحدة ففيها ابنة لبون إلى خمس وأربعين، فإذا زادت واحدة ففيها حقة إلى ستين، فإن زادت واحدة ففيها جذعة إلى خمس وسبعين، فإذا زادت واحدة ففيها ابنتا لبون إلى تسعين فإذا زادت واحدة ففيها حقتان إلى عشرين ومائة، فإذا كانت الإبل أكثر من ذلك ففى كل خمسين حقة، وفى كل أربعين ابنة لبون، وفى الغنم فى كل أربعين شاة شاة، إلى عشرين ومائة، فإذا زادت واحدة فشاتان إلى المائتين، فإذا زادت على المائتين ففيها ثلاث شياه، إلى ثلاثمائة، فإن كانت الغنم أكثر من ذلك ففى كل مائة شاة شاة، ثم ليس فيها شئ حتى تبلغ المائة «1» . رواه أبو داود والترمذى من حديث سالم بن عبد الله بن عمر.
وفرض- صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر صاعا من تمر، أو صاعا من شعير على
__________
(1) صحيح: أخرجه الترمذى (621) فى الزكاة، باب: ما جاء فى زكاة الإبل والغنم، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة «1» ، رواه البخارى ومسلم من حديث ابن عمر. وفى رواية أبى داود من حديث ابن عباس، فرض- صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين «2» .
وقال- صلى الله عليه وسلم-: «إن الله لم يرض بحكم نبى ولا غيره فى الصدقات حتى حكم فيها، فجزأها ثمانية أجزاء» «3» . رواه أبو داود من حديث زياد بن الحارث الصدائى. وهذه الثمانية الأجزاء يجمعها صنفان من الناس:
أحدهما: من يأخذ لحاجته، فيأخذ بحسب شدة الحاجة وضعفها، وكثرتها وقلتها، وهم الفقراء والمساكين وفى الرقاب وابن السبيل.
والثانى: من يأخذ لمنفعته، وهم العاملون عليها والمؤلفة قلوبهم والغارمون لإصلاح ذات البين، والغزاة فى سبيل الله، فإن لم يكن الآخذ محتاجا، ولا فيه منفعة للمسلمين فلا سهم له فى الزكاة.
واعلم أن الأنبياء لا تجب عليهم الزكاة، لأنهم لا ملك لهم مع الله حتى تجب عليهم الزكاة فيه، وإنما تجب عليك زكاة ما أنت له مالك، إنما كانوا يشهدون ما فى أيديهم من ودائع الله لهم يبذلونه فى أوان بذله، ويمنعونه فى غير محله، ولأن الزكاة إنما هى طهرة لما عساه أن يكون ممن وجبت عليه لقوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها «4» ، والأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- مبرؤون من الدنس، لوجوب العصمة
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1503) فى الزكاة، باب: فرض صدقة الفطر، ومسلم (984) فى الزكاة، باب: زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير.
(2) حسن: أخرجه أبو داود (1609) فى الزكاة، باب: زكاة الفطر. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(3) ضعيف: أخرجه أبو داود (1630) فى الزكاة، باب: من يعطى من الصدقة وحد الغنى، من حديث زياد بن الحارث الصدائى- رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .
(4) سورة التوبة: 103.
لهم، ولهذا لم يوجب أبو حنيفة على الصبيان زكاة لعدم دنس المخالفة، والمخالفة لا تكون إلا بعد جريان التكليف، وذلك بعد البلوغ. وإذا كان أهل المعرفة بالله المشاهدون لأحديته لا يشهدون لهم مع الله ملكا كما هو مشهور من حكاياتهم، فما ظنك بالأنبياء والرسل، وأهل التوحيد والمعرفة إنما غرفوا من بحارهم واقتبسوا من أنوارهم. انتهى ملخصا من كتاب «التنوير» للعارف الكبير أبى الفضل بن عطاء الله الشاذلى، أذاقنا الله حلاوة مشربه.
تنبيه: ما حكى إن الإمام الشافعى وأحمد بن حنبل كانا جالسين، إذ أقبل شيبان الراعى، فقال أحمد بن حنبل للشافعى: أريد أن أسأل هذا المشار إليه فى هذا الزمن، فقال الشافعى: لا تفعل، فقال: لا بد من ذلك، فقال: يا شيبان ما تقول فيمن نسى أربع سجدات من أربع ركعات؟ فقال: يا أحمد، هذا قلب غافل عن الله، يجب أن يؤدب حتى لا يعود إلى مثل ذلك. قال:
فخر أحمد مغشيّا عليه، ثم أفاق فقال: ما تقول فيمن له أربعون شاة، ما زكاتها؟ فقال: على مذهبنا أو على مذهبكم؟ فقال: أو هما مذهبان؟ فقال:
نعم، أما على مذهبكم ففى الأربعين شاة شاة، وأما على مذهبنا فالعبد لا يملك مع سيده شيئا. فقد نقل شيخنا فى «المقاصد» عن ابن تيمية أن ذلك باطل باتفاق أهل المعرفة، لأن الشافعى وأحمد لم يدركا شيبان الراعى والله أعلم. انتهى.
وقد كان- صلى الله عليه وسلم- إذا أتاه قوم بصدقة قال: «اللهم صل على آل فلان» ، فأتاه أبو أوفى بصدقة فقال: «اللهم صل على آل أبى أوفى» «1» . رواه البخارى ومسلم. واختلف فى أول وقت فرض الزكاة. فذهب الأكثرون إلى أنه وقع بعد الهجرة، فقيل: كان فى السنة الثانية قبل فرض رمضان أشار إليه النووى فى باب السير من الروضة.
وجزم ابن الأثير فى التاريخ بأن ذلك كان فى التاسعة، وفيه نظر: لما
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1498) فى الزكاة، باب: صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة، ومسلم (1078) فى الزكاة، باب: الدعاء لمن أتى بصدقة، من حديث عبد الله ابن أبى أوفى- رضى الله عنه-.
فى حديث ضمام بن ثعلبة، وحديث وفد عبد القيس، ومخاطبة أبى سفيان مع هرقل وكان فى أول السابعة، وقال فيها: يأمرنا بالزكاة.
وقوى بعضهم ما ذهب إليه ابن الأثير بما وقع فى قصة ثعلبة بن حاطب المطولة ففيها: لما أنزلت آية الصدقة بعث النبى- صلى الله عليه وسلم- عاملا: فقال: ما هذه إلا الجزية أو أخت الجزية، والجزية إنما وجبت فى التاسعة، فتكون الزكاة فى التاسعة. لكنه حديث ضعيف لا يحتج بمثله. وادعى ابن خزيمة فى صحيحه أن فرضها كان قبل الهجرة، واحتج بما أخرجه من حديث أم سلمة فى قصة هجرتهم إلى الحبشة، وفيها: أن جعفر بن أبى طالب قال للنجاشى فى جملة ما أخبره به عن الرجل: الذى يأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام. انتهى.
وفى الاستدلال بذلك نظر، لأن الصلوات الخمس لم تكن فرضت بعد، ولا صيام رمضان، فيحتمل أن تكون مراجعة جعفر لم تكن فى أول ما قدم على النجاشى، وإنما أخبره بذلك بعد مدة قد وقع فيها ما ذكر من فريضة الصلاة والصيام، وبلغ ذلك جعفرا فقال: يأمرنا، يعنى أمته، وهو بعيد جدّا. وأولى ما حمل عليه حديث أم سلمة هذا- إن سلم من قدح فى إسناده- أن المراد بقول جعفر «يأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام» أى فى الجملة، ولا يلزم من ذلك أن يكون المراد بالصلاة الصلوات الخمس ولا بالصيام صيام شهر رمضان، ولا بالزكاة هذه الزكاة المخصوصة ذات النصاب والحول.
ومما يدل على أن فرض الزكاة كان قبل التاسعة حديث أنس فى قصة ضمام بن ثعلبة. وقوله: «أنشدك الله، آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا؟» «1» وكان قدوم ضمام سنة خمس، وإنما الذى وقع فى التاسعة بعث العمال لأخذ الصدقات، وذلك يستدعى تقدم فريضة الزكاة قبل ذلك.
ومما يدل على أن فرض الزكاة وقع بعد الهجرة اتفاقهم على أن صيام
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (63) فى العلم، باب: ما جاء فى العلم وقوله تعالى «وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً» من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-.
رمضان إنما فرض بعد الهجرة، لأن الآية الدالة على فرضيته مدنية بلا خوف.
وثبت عند أحمد وابن خزيمة والنسائى وابن ماجه والحاكم من حديث قيس بن سعد بن عبادة قال: أمرنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة، ثم نزلت فريضة الزكاة، فلم يأمرنا ولم ينهنا ونحن نفعله «1» . إسناده صحيح، ورجاله رجال الصحيح، إلا أبا عمار، الراوى عن قيس بن سعد، وقد وثقه أحمد وابن معين. وهو دال على أن فرض صدقة الفطر كان قبل فرض الزكاة، فيقتضى وقوعه بعد فرض رمضان. قاله الحافظ أبو الفضل بن حجر- رحمه الله-.
وكان- صلى الله عليه وسلم- يقبل الهدية ويثيب عليها «2» . رواه البخارى من حديث عائشة. وإذا أتى بطعام سأل عنه أهدية أم صدقة، فإن قيل صدقة قال لأصحابه: كلوا ولم يأكل، وإن قيل هدية ضرب بيده فأكل معهم «3» . رواه البخارى ومسلم من حديث أبى هريرة. وقال- صلى الله عليه وسلم- لعائشة: «هل عندكم شئ» فقالت: لا، إلا شئ بعثت به إلينا نسيبة من الشاة التى بعثت بها إليها من الصدقة، قال: «إنها بلغت محلها» «4» . رواه البخارى ومسلم. وقوله:
«محلها» بكسر الحاء، أى زال عنها حكم الصدقة وصارت حلّا لنا. وأتى بلحم قد تصدق به على بريرة فقال: «هو عليها صدقة، ولنا هدية» «5» . رواه
__________
(1) صحيح: أخرجه النسائى (5/ 49) فى الزكاة، باب: فرض صدقة الفطر قبل نزول الزكاة، من حديث قيس بن سعد- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .
(2) صحيح: أخرجه البخارى (2585) فى الهبة وفضلها والتحريض عليها، باب: المكافأة فى الهبة. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (2576) فى الهبة وفضلها والتحريض عليها، باب: قبول الهدية، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (1494) فى الزكاة، باب: إذا تحولت الصدقة، ومسلم (1076) فى الزكاة، باب: إباحة الهدية للنبى ولبنى هاشم وبنى المطلب. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(5) صحيح: أخرجه البخارى (1493) فى الزكاة، باب: الصدقة على موالى أزواج النبى، ومسلم (1504) فى العتق، باب: إنما الولاء لمن أعتق، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
البخارى ومسلم وأبو داود والنسائى. وفى حديث عائشة عند البخارى ومسلم: دخل- صلى الله عليه وسلم- وعلى النار برمة تفور، فدعا بالغداء، فأتى بخبز وأدم من أدم البيت، فقال: «ألم أر برمة على النار تفور؟» قالوا: بلى يا رسول الله، لكنه لحم تصدق به على بريرة، وأهدت إلينا منه، وأنت لا تأكل الصدقة، فقال: «هو صدقة عليها، وهدية لنا» «1» .