قال اللَّه تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح 1] قال في الكشاف: استفهم عن انتفاء الشرح على وجه الإنكار مبالغة في إثبات الشرح وإيجابه فكأنه قيل: شرحنا لك صدرك.
ولذلك عطف عليه «ووضعنا» اعتبارا للمعنى.
قال الطيبي: أي أنكر عدم الشرح فإذا أنكر ذلك ثبت الشرح لأن الهمزة للإنكار، والإنكار نفي، والنفي إذا دخل على النفي عاد إثباتا، ولا يجوز جعل الهمز للتقرير.
قال الراغب رحمه اللَّه تعالى: أصل الشرح بسط اللحم ونحوه يقال شرحت اللحم وشرحته ومنه شرح الصدر وهو بسطه بنور إلهي وسكينة من جهة اللَّه وروح منه.
النقاش [ (1) ] : الشرح التوسعة وكل ما وسعته فقد شرحته.
الراغب: الصدر الجارحة وجمعه صدور. قال بعض الحكماء: حيثما ذكر اللَّه تعالى القلب فإشارة إلى العقل والعلم نحو: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ [ق 37] وحيثما ذكر الصدر فإشارة إلى ذلك وإلى سائر القوى من الشهوة والهوى ونحوهما وقوله:
تعالى: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي [طه 25] سؤال لإصلاح قواه وكذا: وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ [التوبة 14] فإشارة إلى ذلك.
مكي: المراد بالصدر القلب، لأنه وعاء الفهم والعلم وإنما ذكر الصدر لقربه من القلب وامتزاجه به.
الحكيم الترمذي: ذكر الصدر دون القلب لأن محل الوسوسة في الصدر، فأزال اللَّه تلك الوسوسة وأبدلها بدواعي الخير وهي الشرح. وقيل القلب محل العقل والمعرفة وهو الذي
__________
[ (1) ] محمد بن الحسن بن محمد بن زياد بن هارون الموصلي ثم البغدادي أبو بكر النقاش المقري المفسر، كان إمام أهل العراق في القراءات والتفسير. قرأ القرآن على هارون بن موسى الأخفش. وابن أبي مهران (1) وجماعة. وقرأ عليه خلائق.
منهم أبو بكر أحمد بن الحسين بن مهران، وأبو الحسين الحمامي وجماعة. وروى الحديث عن أبي مسلم الكجّيّ، ومطيّن. والحسن بن سفيان وآخرين. وروى عنه الدارقطني، وابن شاهين، وأبو أحمد الفرضيّ، وأبو علي بن شاذان وجماعة. ورحل وطوّف من مصر إلى ما وراء النهر في لقي المشايخ. وصنف التفسير وسماه «شفاء الصدور» وله «الإشارة في غريب القرآن» و «الموضح في معاني القرآن» و «دلائل النبوة» و «القراءات» بعلها، وأشياء آخر. ضعّفه جماعة. قال البرقاني: كل حديث النّقّاش منكر. وقال طلحة بن محمد بن جعفر: كان يكذب في الحديث. وقال الخطيب: في حديثه مناكير بأسانيد مشهورة. وقال الذهبي: متروك، ليس بثقة على جلالته ونبله. وقال هبة اللَّه اللاكائي: تفسير النقاش، إشفاء الصدور، ليس شفاء الصدور. طبقات لمفسرين للسيوطي 80، 81، وتذكرة الحفاظ 3/ 908.
يقصده الشيطان فإن الشيطان يجيء الصدر الذي هو حصن القلب فإذا وجد مسلكا أغار عليه فيضيق القلب ولا يجد للطاعة لذة ولا للإسلام حلاوة فإذا طرد العدو في الابتداء حصل الأمن وزال الضيق وانشرح الصدر وتيسر له القيام بأداء العبودية.
الأستاذ أبو علي الدقاق رحمه اللَّه تعالى: كان موسى صلى الله عليه وسلم مريدا إذ قال: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وكان نبينا صلى الله عليه وسلم مرادا إذ قيل له أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ الإمام الرازي رحمه اللَّه تعالى: وإنما لم يقل: ألم نشرح صدرك دون «لك» لوجهين:
أحدهما: أراد شرحته لأجلك كما تفعل أنت الطاعة لأجلي. الثاني: أن فيه تنبيها على أن منافع الرسالة عائدة إليه عليه الصلاة والسلام، كأنه قيل إنما شرحنا لك صدرك لأجلك لا لأجلي.
وإنما قال «نشرح» بنون العظمة لأن عظمة المنعم تدل على عظمة النعمة، وكان صلى الله عليه وسلم يضيق صدره من منازعة الجن والإنس فآتاه اللَّه تعالى من آياته ما اتسع لكل ما حمله صلى الله عليه وسلم.
واختلف المفسرون في معنى الآية على أقوال: فقال الإمام البيضاوي رحمه اللَّه تعالى:
ألف نفسحه حتى وسع مناجاة الحق ودعوة الخلق وكان غائبا حاضرا أو: ألم نفسحه بما أودعنا فيه من الحكم وأزلنا عنه ضيق الجهل. أو: بما يسرناه لك من تلقي الوحي بعد ما كان يشق عليك.
وقيل: إنه إشارة إلى ما روي أن جبريل أتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في صباه أو يوم أخذ الميثاق فاستخرج قلبه فغسله فملأه إيمانا وعلما ولعله إشارة إلى نحو ما سبق انتهى.
قال الشيخ رحمه اللَّه تعالى في حواشيه: إن أراد بقوله «يوم الميثاق» يوم أخذه في عالم الذر فلا أصل له. وإن أراد به يوم بعث ونبئ. وبيض الشيخ هنا. قلت: وكأنه أراد: فله أصل.
كما سيأتي في المرة الثالثة.
ولا منافاة بين هذه الأقوال السابقة وبين شق صدره صلى الله عليه وسلم فإن من جملة شرح صدره شقه وإخراج ما فيه من أذى كما أشار إلى ذلك الحافظان أبو جعفر محمد بن جرير الطبري وابن كثير رحمهما اللَّه تعالى.
وقد تكرر شق صدره الشريف صلى الله عليه وسلم أربع مرات:
الأولى: وهو صلى الله عليه وسلم صغير في بني سعد.
روى البيهقي عن إبراهيم بن طهمان- بفتح الطاء المهملة رحمه اللَّه تعالى: قال:
سألت سعدا عن قوله تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ فحدثني به عن قتادة عن أنس رضي اللَّه تعالى عنه قال: شق بطنه صلى الله عليه وسلم من عند صدره إلى أسفل بطنه فاستخرج قلبه الخ.
وروى الإمام أحمد ومسلم عن أنس رضي اللَّه تعالى عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه فشق عن قلبه واستخرج القلب ثم شق القلب فاستخرج منه علقة فقال: هذا حظ الشيطان منك. ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم ثم لأمه فأعاده مكانه. وجعل الغلمان يسعون إلى أمه- يعني ظئره- فقالوا: إن محمدا قد قتل فجاؤوه وهو منتقع اللون. قال أنس: فلقد كنت أرى أثر المخيط في صدره صلى الله عليه وسلم.
وروى الإمام أحمد والدارمي والحاكم وصححه والطبراني والبيهقي وأبو نعيم، عن عتبة بن عبد- بغير إضافة- السلمي [ (1) ] رضي اللَّه تعالى عنه، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: كانت حاضنتي من بني سعد بن بكر، فانطلقت أنا وابن لها في بهم لنا ولم نأخذ معنا زادا فقلت: يا أخي أذهب فائتنا بزاد من عند أمنا. فأنطلق أخي ومكث عند البهم فأقبل إلي طائران كأنهما نسران فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ قال: نعم فأقبلا يبتدراني فأخذاني فبطحاني للقفا فشقّاه بطني ثم استخرجا قلبي شقّاه فأخرجا منه علقتين سوداوين فقال أحدهما لصاحبه: إيتني بماء ثلج فغسلا به جوفي- ثم قال: إيتني بماء برد فغسلا به قلبي. ثم قال: إيتني بالسكينة فذراها في قلبي. ثم قال أحدهما لصاحبه حصه. فحاصه وختم عليه بخاتم النبوة. وذكر الحديث.
,
عن أبي ذر رضي اللَّه تعالى عنه قال: قلت يا رسول اللَّه كيف علمت أنك نبي حتى علمت ذلك واستيقنت أنك نبي؟ قال: يا أبا ذر أتاني ملكان وأنا في بعض بطحاء مكة فوقع أحدهما بالأرض وكان الآخر بين السماء والأرض، فقال أحدهما لصاحبه، هو هو؟ فقال: هو هو. فقال: زنه برجل فوزنت برجل فرجحت. فقال: زنه بعشرة فوزنني بعشرة فوزنتهم. فقال:
زنه بمائة فوزنني بمائة فرجحتهم. ثم قال: زنه بألف. فوزنني بألف فرجحتهم فجعلوا ينتثرون علي من كفة الميزان. فقال أحدهما للآخر: لو وزنته بأمته رجحها. ثم قال أحدهما لصاحبه:
شق بطنه فشق بطني ثم قال أحدهما لصاحبه: اغسل قلبه فشق قلبي فأخرج منه مغمز الشيطان وعلق الدم فطرحهما ثم قال أحدهما لصاحبه: اغسل بطنه غسل الإناء واغسل قلبه غسل الملاءة، ثم دعا بسكينة كأنها برهرة بيضاء فأدخلت قلبي، ثم قال احدهما لصاحبه: خط بطنه. فخاط بطني فجعلا الخاتم بين كتفي فما هو إلا أن وليا عني فكأنما أعاين الأمر معاينة.
رواه الدارمي والبزّار والرّوياني وابن عساكر والضياء في المختارة.
وروى البيهقي عن يحيى بن جعدة [ (1) ] رحمه اللَّه تعالى: مرسلا. قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: إن ملكين جاءاني في صورة كركيين معهما ثلج وبرد وماء بارد فشق أحدهما صدري ومج الآخر بمنقاره فيه فغسله.
وروى أبو نعيم عن يونس بن ميسرة بن حلبس [ (2) ] بمهملتين في طرفيه وموحدة وزن جعفر رحمه اللَّه تعالى- مرسلا. قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أتاني ملك بطست من ذهب فشق بطني فاستخرج حشوة جوفي فغسلها ثم ذرّ عليه ذرورا ثم قال: قلب وكيع يعي ما وضع [ (3) ] فيه عينان [ (4) ] بصيرتان وأذنان تسمعان وأنت محمد رسول اللَّه المقفي الحاشر، قلبك سليم ولسانك صادق ونفسك مطمئنة وخلقك قيم وأنت قثم.
وروى الدارمي وابن عساكر، عن ابن غنم [ (5) ]- بغين معجمة مفتوحة فنون ساكنة- وهو
__________
[ (1) ] يحيى بن جعدة بن هبيرة بن أبي وهب المخزومي، ثقة وقد أرسل عن ابن مسعود ونحوه. [التقريب 2/ 344] .
[ (2) ] يونس بن ميسرة بن حلبس بفتح المهملة والموحدة بينهما لام ساكنة وآخره مهملة الحميري الدّمشقي الزاهد عن معاوية وواثلة. وعنه الأوزاعي ومروان بن جناح. وثقة الدارقطني قتلته المسودة سنة اثنتين وثلاثين ومائة بدمشق.
[الخلاصة 3/ 194] .
[ (3) ] في: أ: وقع.
[ (4) ] في أ: عيناك.
[ (5) ] عبد الرحمن بن غنم، بفتح المعجمة وسكون النون، الأشعري، مختلف في صحبته، وذكره العجلي في كبار ثقات التابعين، مات سنة ثمان وسبعين. [التقريب 1/ 494] .
مختلف في صحبته رضي اللَّه تعالى عنه قال: نزل جبريل على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم وسلم فشق قلبه ثم قال جبريل: قلبك وكيع فيه أذنان سميعتان وعينان بصيرتان محمد رسول اللَّه المقفي الحاشر خلقك قيم ولسانك صادق ونفسك مطمئنة.