وفى جمادى الاولى من هذه السنة كانت سرية مؤتة وهى بضم أوّله واسكان ثانيه بعده تاء مثناة فوقية* وفى المواهب اللدنية بضم الميم وسكون الواو بغير همز لاكثر الرواة وبه جزم المبرد وجزم ثعلب والجوهرى وابن فارس بالهمز* وحكى غيرهم الوجهين وهى موضع من أرض الشام من عمل البلقاء والبلقاء دون دمشق وكان لقاؤهم الروم بقرية يقال لها مشارف من تخوم البلقاء ثم انحاز المسلمون الى مؤتة كذا فى معجم ما استعجم* وفى مورد اللطافة وكانت وقعة مؤتة بالكرك* وقال فى الاكتفاء ولما صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمرة القضاء الى المدينة أقام بها نحوا من ستة أشهر ثم بعث الى الشام فى جمادى الاولى من سنة ثمان بعث الذين أصيبوا بمؤتة* روى انه صلى الله عليه وسلم بعث الحارث بن عمير الازدى الى ملك بصرى بكتاب فلما نزل مؤتة عرض له شرحبيل بن عمرو الغسانى وهو من أمراء قيصر فقتله ولم يقتل لرسول الله صلى الله عليه وسلم رسول غيره فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبر عن قتل الحارث وقاتله ودعا الناس وعسكر بالجرف وهم ثلاثة آلاف فقال النبىّ صلى الله عليه وسلم أمير الناس زيد بن حارثة فان قتل أو قال أصيب فجعفر بن أبى طالب فان قتل أو قال أصيب فعبد الله بن رواحة فان قتل أو قال أصيب فيتربص المسلمون بينهم رجلا* روى ان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين عين أمراء السرية كان يهودى عنده فقال ان كان محمد نبيا فيقتل هؤلاء الذين عينهم للامارة فانّ أنبياء بنى اسرائيل كانوا اذا عينوا الامراء مثل ما عينه يقتلون البتة ثم قال لزيد ودّع أبا القاسم فانك مقتول ثم عقد النبىّ صلى الله عليه وسلم لواء أبيض ودفعه الى زيد بن حارثة وخرج مشيعا لهم حتى بلغ ثنية الوداع فوقف وودّعهم وأمرهم أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير وأن يدعوا من هناك الى الاسلام فان أجابوا والا فقاتلوهم* وفى الصفوة عن محمد بن جعفر بن الزبير قال فلما تجهز الناس وتهيؤا للخروج الى مؤتة قال المسلمون صحبكم الله ودفع عنكم السوء وردّكم سالمين غانمين فقال عبد الله بن رواحة عند ذلك شعرا
لكننى أسأل الرحمن مغفرة ... وضربة ذات قرع تقذف الزبدا
أو طعنة بيدى حران مجهزة ... بحربة تنفذ الاحشاء والكبدا
حتى يقولوا اذا مرّوا على جدثى ... أرشدك الله من غاز وقد رشدا
فلما فصلوا من المدينة سمع العدوّ بمسيرهم فجمعوا لهم وتهيؤا لحربهم وقام فيهم شرحبيل بن عمرو فجمع
أكثر من مائة ألف وقدّم الطلائع أمامه* قال ابن اسحاق لما نزل المسلمون معان وهو حصن كبير بين الحجاز والشام على خمسة أيام من دمشق بطريق مكة* وفى الصفوة لما نزلوا معان من أرض الشام بلغهم ان هرقل قد نزل ماب من أرض البلقاء فى مائة ألف من الروم وانضمت اليه المستعربة من لخم وجذام والقين وبلى وبهراء ووائل فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على معان ليلتين ينظرون فى أمرهم وقالوا نكتب الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره بعدد عدوّنا فاما أن يمدّنا بالرجال واما أن يأمرنا بأمر فنمضى له فشجعهم عبد الله بن رواحة فقال والله يا قوم ان الذى تكرهونه للذى خرجتم له تطلبون الشهادة وما نقاتل الناس بعدّة ولا قوّة ولا كثرة وما نقاتلهم الا بهذا الدين الذى أكرمنا الله به فانطلقوا فانما هى احدى الحسنيين اما الظهور واما الشهادة قال الناس قد والله صدق ابن رواحة فمضوا لوجوههم* وفى الاكتفاء ثم مضى الناس حتى اذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب بقرية من قرى البلقاء يقال لها مشارف وانحاز المسلمون الى قرية يقال لها مؤتة فالتقى الناس عندها فتعبى لهم المسلمون فجعلوا على ميمنتهم رجلا من بنى عذرة يقال له قطبة بن قتادة وعلى ميسرتهم رجلا من الانصار يقال له عباية بن مالك ويقال عبادة ثم التقى الناس فاقتتلوا فقاتل زيد براية رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شاط فى رماح القوم ثم أخذها جعفر فقاتل حتى اذا لحمه القتال اقتحم عن فرس له شقراء ثم عرقبها ثم قاتل القوم حتى قتل رحمه الله تعالى وهو يقول
يا حبذا الجنة واقترابها ... طيبة وباردا شرابها
والروم روم قددنا عذابها ... علىّ اذ لاقيتها ضرابها
وكان جعفر أوّل من عقر فى الاسلام وفى رواية فأخذ اللواء زيد بن حارثة فوقع بين الجمعين قتال فقتل سدوم أخو شرحبيل وهرب أصحابه وخاف شرحبيل ودخل حصنا وبعث أخاه الاخر الى هرقل يستمدّه فبعث هرقل زها مائتى ألف ولما التقى الجمعان أخذ اللواء زيد بن حارثة فقاتل حتى قتل بطعنة رمح ثم أخذ اللواء جعفر فنزل عن فرسه فعرقبها وكان أوّل فرس عرقبت فى الاسلام فقاتل حتى قطعت يده اليمنى فأخذ اللواء بيده اليسرى فقطعت فضمه بعضديه أو قال احتضنه فضربه رجل من الروم فقطعه نصفين* وفى الاكتفاء قتل وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة فأثابه الله بذلك جناحين يطير بهما فى الجنة حيث يشاء قال ابن عمر كنت فى تلك الغزوة فالتمسنا جعفرا فوجدناه فى القتلى ووجدنا فيما أقبل من بدنه ما بين منكبينه تسعين ضربة بين طعنة برمح وضربة بسيف* وفى رواية قال عددت خمسين جراحة من قدامه وفى رواية وجدت فى أحد نصفيه بضعا وثلاثين جراحة* ذكر عبد الله بن رواحة عن النعمان بن بشير أن جعفر بن أبى طالب حين قتل دعا الناس يا عبد الله بن رواحة وهو فى جانب العسكر ومعه ضلع جمل ينتهشه ولم يكن ذاق طعاما منذ ثلاث فرمى الضلع وجعل يلوم نفسه فقال قتل جعفر وأنت مع الدنيا ثم تقدّم وأخذ اللواء فقاتل فأصيبت اصبعه فنزل عن فرسه وجعلها تحت رجله ومدّ حتى طرحها عنه وجعل يرتجز ويقول
هل أنت الا اصبع دميت ... وفى سبيل الله ما لقيت
فجعل يستنزل نفسه ويتردّد بعض التردّد ثم قال يا نفس الى أىّ شئ تتوقين الى فلانة امرأة له فهى طالقة ثلاثا أو الى فلان وفلان غلامان له فهما حرّان أو الى معجف حائط له فهو لله ولرسوله ثم قال
أقسم يا نفس لتنزلته ... طائعة لى أو لتكرهنه
قد طال ما كنت مطمئنة ... هل أنت الا نطفة فى شنه
قد أجلب الناس وشدّوا الرنة ... مالى أراك تكرهين الجنة
* وفى الاكتفاء قال
يا نفس ان لا تقتلى تموتى ... هذى حياض الموت قد صليت
وما تمنيت فقد أعطيت ... ان تفعلى فعلهما هديت
وان تأخرت فقد شقيت
يعنى صاحبيه زيدا وجعفرا ثم نزل فأتاه ابن عم له بعرق من لحم فقال شدّ بها صلبك فانك قد لقيت أيامك فأخذه من يده فانتهش منه نهشة ثم سمع الحطمة فى ناحية الناس فقال وأنت فى الدنيا ثم ألقاه من يده ثم أخذ سيفه فتقدّم فقاتل حتى قتل فبادر ثابت بن قيس بن الارقم الانصارى أخو بنى العجلان وأخذ الراية فجعل يصيح يا آل الانصار فجعل الناس يثوبون اليه فقال يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم فقالوا أنت قال ما أنا بفاعل فنظر الى خالد بن الوليد فقال يا أبا سليمان خذ اللواء قال لا آخذه أنت أحق به منى لك سن قد شهدت بدرا قال ثابت خذ أيها الرجل فو الله ما أخذته الا لك وقال ثابت للناس اصطلحتم على خالد قالوا نعم فأخذ خالد اللواء وحمل بأصحابه ففض جمعا من جمع المشركين كذا فى الصفوة وقد جاء فى بعض الروايات اصطلح الناس على خالد بن الوليد وأخذ اللواء وانكشف المسلمون وكانت الهزيمة فلما سمع أهل المدينة بجيش مؤتة قادمين تلقوهم فجعلوا يحثون فى وجوههم التراب ويقولون يا فرار أفررتم فى سبيل الله فقال النبىّ صلى الله عليه وسلم ليسوا بفرار ولكنهم كرار ان شاء الله تعالى* وفى الاكتفاء فلما أخذ خالد الراية دافع القوم وحاشى بهم ثم انحازوا حتى انصرف الناس قافلا ودنوا من المدينة تلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون ولقيهم الصبيان يشتدّون ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقبل مع القوم على دابة فقال خذوا الصبيان فاحملوهم وأعطونى ابن جعفر فأتى بعبد الله بن جعفر فأخذه وحمله بين يديه وجعل الناس يحثون على الجيش التراب ويقولون يا فرار فررتم فى سبيل الله فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسوا بالفرار ولكنهم بالكرار ان شاء الله تعالى* وقالت أمّ سلمة زوج النبىّ صلى الله عليه وسلم لامرأة سلمة بن هشام بن المغيرة مالى لا أرى سلمة يحضر الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت انه والله لا يستطيع أن يخرج كلما خرج صاح به الناس يا فرار فررتم فى سبيل الله حتى قعد فى بيته* وعن أبى هريرة أنه قال لما قتل ابن رواحة انهزم المسلمون فجعل خالد يدعوهم فى أخراهم ويمنعهم عن الفرار وهم لا يسمعون حتى نادى قطبة ابن عامر أيها الناس لان يقتل الرجل فى حرب الكفار خير من ان يقتل حال الفرار فلما سمعوا كلام قطبة تراجعوا* وروى ان خالدا لما أصبح أخذ اللواء فبعد ما صفوا للقتال غير صفوف جيشه فجعل المقدمة مكان الساقة والساقة مكان المقدمة والميمنة مكان الميسرة والميسرة مكان الميمنة فوقع الكفار من ذلك فى غلط فحسبوا أن لحق المسلمين مدد فوقع فى قلوبهم من ذلك الرعب فانهزموا فتعهم المسلمون يقتلونهم كيف شاؤا فغنم المسلمون من أموالهم فرجعوا الى المدينة وفى مقفلهم مروا بمدينة لها حصن وقد كان أهل الحصن قتلوا رجلا من المسلمين فى مرورهم الى مؤتة فحاصروهم وفتحوا حصنهم وقتل خالد كثيرا منهم* وعن أنس ان النبىّ صلى الله عليه وسلم نعى زيدا وجعفرا وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم فقال أخذ الراية زيد فأصيب ثم أخذ جعفر فأصيب ثم أخذ ابن رواحة فأصيب وعيناه تذرفان حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله خالد بن الوليد ففتح الله عليهم* وفى معجم ما استعجم فأصيبوا متتابعين وخرج الى الظهر من ذلك اليوم تعرف الكابة فى وجهه فخطب الناس بما كان من أمرهم وقال أخذ اللواء سيف من سيوف الله يعنى خالد بن الوليد فقاتل حتى فتح الله عليه فيومئذ سمى خالد سيف الله* وفى الاكتفاء لما أصيب القوم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ
الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قتل شهيدا ثم أخذها جعفر فقاتل بها حتى قتل شهيدا ثم صمت؟؟؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تغيرت وجوه الانصار وظنوا انه قد كان فى عبد الله بن رواحة بعض ما يكرهون ثم قال أخذها عبد الله بن رواحة فقاتل بها حتى قتل شهيدا ثم قال لقد رفعوا الى الجنة فيما يرى النائم على سرر من ذهب فرأيت فى سرير عبد الله بن رواحة ازورارا عن سريرى صاحبيه قلت عمّ هذا فقيل لى مضيا وتردّد عبد الله بعض التردّد ثم مضى* وروى انه لما قدم يعلى بن أمية بخبر أهل مؤتة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ان شئت فاخبرنى وان شئت فأخبرتك قال فأخبرنى يا رسول الله فأخبره صلى الله عليه وسلم بخبرهم كله ووصفه له فقال يعلى والذى بعثك بالحق ما تركت من حديثهم حرفا واحدا لم تذكره وان أمرهم لكما ذكرت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع لى الارض حتى رأيت معركتهم كذا رواه البخارى* وفى الصحيح عن خالد بن الوليد أنه قال انقطع فى يدى يوم مؤتة تسعة أسياف فما بقى فى يدى الا صفيحة يمانية* وفى الصفوة صبرت فى يدى صفيحة يمانية وفيها أيضا عن أبى عبيدة بن الجراح قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول خالد بن الوليد سيف من سيوف الله نعم فتى العشيرة قال العلماء بالسير بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فى السرايا وخرج معه فى غزاة الفتح والى حنين وتبوك وحجة الوداع فلما حلق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه أعطاه ناصيته وكانت فى مقدمة قلنسوته وكان لا يلقى أحدا الا هزمه ولما خرج أبو بكر الى أهل الردّة كان خالد بن الوليد يحمل لواءه فلما تلاحق الناس به استعمل خالدا ورجع الى المدينة وستجىء وفاة خالد بن الوليد فى الخاتمة فى خلافة عمر بن الخطاب رضى الله عنهم*