وقعت غزوة "أحد"1 في شهر شوال من السنة الثالثة: بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم بواحد وثلاثين شهرًا، وبعد غزوة "بدر" بثلاثة عشر شهرًا، وقد استخلف النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة عبد الله بن أم مكتوم رضي الله عنه، ونسبة الغزوة إلى "أحد" نسبة للمكان الذي حدثت فيه، وهي من الغزوات المليئة بالدروس، والعبر، التي لا بد منها لحركة الحياة السليمة، وكان عدوان قريش على المسلمين في المدينة سببًا لفرض الجهاد لمقاتلة المعتدي، وصده عن العدوان، وهي المرحلة الثالثة في تشريع الجهاد.
وقد وقعت غزوة "أحد" في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة بالإجماع إلا أنهم اختلفوا في يومها فذكر البعض أنها كانت في اليوم السابع، والبعض ذكر أنها كانت في اليوم الحادي عشر وآخرون ذكروا أنها كانت في اليوم الخامس عشر.
والإحاطة بالغزوة تحتاج إلى دراسة الموضوعات التالية:
__________
1 "أحد" جبل مشهور يقع على بعد خمسة أميال من المدينة، وسمي بذلك لظهوره جبلا واحدًا، منقطعًا عن جبال أخر موجودة قريبًا منه، ويقال له: ذو عينين بكسر العين, وفتحها مثنى عين.
,
عاد أهل مكة إلى موطنهم من غزوة "بدر" بعدما رأوا ذل الهزيمة وعار الانكسار وعز عليهم أن يحدث ذلك لهم من جماعة خرجت فارة من بينهم منذ أقل من عام، فأخذوا يعدون العدة للثأر، وهزيمة المسلمين.
كما أنهم رأوا أن المسلمين أخذوا يسدون منافذ كل طرقهم إلى الشام، المارة في الحجاز، أو في نجد، وهذا بوار لهم، ولتجارتهم التي هي أهم أسباب حياتهم, وتصوروا أن استمرار هذا الحال يمثل موتًا بطيئًا لمكة كلها.
وقف صفوان بن أمية في قريش بعد بدر، وقال لهم: إن محمدًا وأصحابه قد غوروا علينا متجرنا فما ندري كيف نصنع بأصحابه، وهم لا يبرحون الساحل، وأهل الساحل قد وادعهم، ودخل عامتهم معه، فما ندري أين نسكن؟ وإن أقمنا في دارنا هذه أكلنا رءوس أموالنا فلم يكن لها من بقاء وإنما حياتنا بمكة على التجارة إلى الشام في الصيف وإلى الحبشة في الشتاء.
قال له الأسود بن المطلب: تنكب طريق الساحل، وخذ طريق العراق، فخرج منهم تجار، فيهم أبو سفيان بن حرب، ومعه فضة كثيرة، وهي أعظم تجارتهم، واستأجروا رجلا من بني بكر بن وائل، يقال له فرات بن حيان، يدلهم على ذلك الطريق الجديد الذي دلهم عليه الأسود.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة، فلقيهم، فأصاب تلك العير وما فيها، وأعجزه الرجال، فقدم بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم1.
وبهذا فقدت قريش طريق العراق كما فقدوا من قبله طريق الساحل.
وأدرك القرشيون من غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لغطفان وسليم حينما هموا بمهاجمة المدينة وفرارهم حين علموا بسيره صلى الله عليه وسلم إليهم أن قوة المسلمين لا يستهان بها، وأن طرقهم التجارية إلى الشام أصبحت غير مأمونة، وأن القبائل المتحالفة معهم أصبحت غير قادرة.
__________
1 المغازي ج1 ص202.
على حمايتهم وبدأت تشك في قوتهم وصمودهم.
ورأى المكيون كذلك أن الوثنيين، وأعراب البوادي، واليهود يشاركونهم في كراهية الإسلام، والعداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فاتصلوا بهم، وتصوروا أن اتحادهم في الهدف سبب رئيسي لتوحيد صفوفهم أمام المسلمين، الأمر الذي يؤدي إلى قهر المسلمين، والقضاء عليهم وعلى دعوتهم, ولذلك نشطوا في الإعداد للحرب، وأسرعوا في مهاجمة المسلمين، وجمعوا ما أمكنهم من العتاد والعدة وتحركوا لحرب المسلمين فكانت وقعة "أحد".
,
,
...
ثانيًا: موقف أطراف معركة أحد قبل القتال
علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بنوايا القرشيين، فأخذ يعد للأمر عدته، واجتهد القرشيون في تحقيق غاياتهم في محاربة المسلمين، والقضاء عليهم، وعلى دينهم، وتأمين حركتهم التجارية، وتأديب أي خارج عليهم، وانطلقوا بجمعهم إلى المدينة، فوقعت الوقعة المعروفة في "أحد" وكان لكل فريق موقفه، وخطته، ولذلك لزم معرفة موقف كل طرف قبل المعركة.
1- موقف المشركين:
اتخذ القرشيون صورًا عملية عديدة بعد هزيمة "بدر" مباشرة، واستمرت جهودهم على نشاطها حتى وقعت المعركة، فلقد نشطوا في جمع الأموال، وتكثير الجنود والتأثير على القبائل، وخططوا لتحركهم بدقة عالية، لكن الله غالب على أمره ومن أهم مواقفهم ما يلي:
أ- الإعداد المالي:
بدأ القرشيون يعدون للحرب عقب "بدر" مباشرة، وبدءوا في جمع أموال يستعدون بها، فلما رجعوا إلى مكة من "بدر" وجدوا العير التي عاد بها أبو سفيان
موقوفة عند دار الندوة، لم توزع لأصحابها بعد، فمشى إلى أبي سفيان مجموعة من أشراف مكة هم: الأسود بن المطلب بن أسد، وجبير بن مطعم، وصفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل والحارث بن هشام، وعبد الله بن أبي ربيعة، وحويطب بن عبد العزى، وحجير بن أبي إهاب، فقالوا: يا أبا سفيان، انظر هذه العير التي قدمت بها فاحتبسها، فقد عرفت أنها أموال أهل مكة، ولطيمة قريش، وهم طيبوا الأنفس، يجهزون هذه العير جيشًا كثيفًا إلى محمد، وأنت ترى من قتل من آبائنا وأبنائنا وعشائرنا وأهلنا.
قال أبو سفيان: وهل طابت أنفس قريش بذلك؟
قالوا نعم.
قال: فأنا أول من أجاب إلى ذلك وبنو عبد مناف معي، فأنا والله الموتور الثائر قد قتل ابني حنظلة وأشراف قومي ببدر فلم تزل العير موقوفة حتى تجهزوا، واقترب موعد الخروج إلى أحد.
قالوا: يا أبا سفيان، بع العير ثم اعزل أرباحها، وكانت العير ألف بعير، وكان المال خمسين ألف دينار، وكانوا يربحون في تجارتهم للدينار دينارًا، وكان متجرهم من الشام غزة لا يعدونها إلى غيرها، وكان أبو سفيان قد حبس عير بني زهرة لأنهم رجعوا من طريق بدر ولم يقاتلوا، وسلم ما كان لمخرمة بن نوفل، ولبني أبيه، وبني عبد مناف بن زهرة، فأبى مخرمة أن يقبل عيره حتى يسلم إلى بني زهرة جميعًا.
وتكلم الأخنس فقال: ما لعير بني زهرة من بين عيرات قريش؟
قال أبو سفيان: لأنهم رجعوا عن قريش.
قال الأخنس: أنت أرسلت إلى قريش أن ارجعوا فقد أحرزنا العير، لا تخرجوا في غير شيء، فرجعنا، فأخذت زهرة عيرها، وأخذ أقوام من أهل مكة كل ما كان لهم في العير1.
وهكذا اجتمعت قريش على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودفعوا أموالهم للإعداد
__________
1 المغازي ج1 ص199، 200.
وجلب العدد، وأخذوا يحرضون غيرهم معهم، فوافقهم الأحباش وهم أقوام من غير العرب، وقبائل كندة، وأهل تهامة، وغيرهم.
ب- التعبئة العامة للمشركين:
نشط المكيون في جمع أكبر عدد لقتال المسلمين، فأخذوا يمرون على القبائل ويدورون على سائر المجتمعات العربية، مستفيدين في ذلك بشعرائهم ومشاهيرهم، وخطبائهم فاجتمعوا على أن يبعثوا أربعة من قريش لهذه المهمة، فبعثوا عمرو بن العاص وهبيرة بن أبي وهب، وابن الزبعرى، وأبا عزة الجمحي.
وكان أبو عزة عمرو بن عبد الله الجمحي من الشعراء المشهورين, المعروفين عند الناس، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد منّ عليه يوم "بدر" وأطلق سراحه بلا فداء لأنه كان فقيرًا ذا عيال وحاجة، فلما عرضوا عليه أن يشترك معهم في التحريض على قتال المسلمين، عرفهم بأنه مدين لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين منّ عليه، وأطلق سراحه يوم "بدر"، بلا فداء بسبب عوزه وبنيه، ورفض أن يشترك معهم.
فقال له صفوان بن أمية: يا أبا عزة إنك امرؤ شاعر، فأعنا بلسانك، فأخرج معنا فقال له أبو عزة: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد من علي فلا أريد أن أظاهر عليه.
قال صفوان: فأعنا بنفسك، فلك الله إن رجعت أن أغنيك، وإن أصبت أن أجعل بناتك مع بناتي، يصيبهن ما أصابهن من عسر ويسر، وما زال به حتى وافق على الخروج معهم.
فخرج أبو عزة في تهامة يحرضهم ويهيجهم بشعره وخطبه.
وخرج مسافح بن عبد مناف بن وهب إلى بني مالك بن كنانة يحرضهم ويدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ودعا جبير بن مطعم غلامًا له حبشيًا يقال له: وحشي، يقذف بحربة له قذف الحبشة، قلما يخطئ بها، فقال له: اخرج مع الناس فإن أنت قتلت حمزة عم محمد بعمي طعيمة بن عدي فأنت عتيق.
وقصد المكيون كل من أصيب ببدر في ماله وأهله، ودفعوهم إلى المشاركة بالمال أو بالنفس، أو بالتحريض لقتال المسلمين، ورحبوا بكل قادم غريب ليكون معهم في حربهم ضد المسلمين.
ولحق أبو عامر الفاسق بالمكيين وخرج إليهم في خمسة عشر رجلا من الأوس، وتابع قريشًا وسار معها، وهو يعدها أن قومه يؤازرونهم.
واسم أبي عامر هذا: عبد عمرو بن صيفي الراهب، وكان رأس الأوس في الجاهلية وكان مترهبًا، فلما جاء الإسلام خذل، فلم يدخل فيه، وجاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعداوة فدعا عليه صلى الله عليه وسلم فخرج من المدينة إلى مكة ولم يرجع إليها إلا مع جيش المكيين يوم أحد.
وقد اجتمع العرب على ما دعتهم إليه قريش، غير أنهم رفضوا الخروج بالنسوة، وقالوا: إننا نخشى أن تكون الدائرة علينا، ونعيش العار والفضيحة1.
ج- اصطحاب قريش للنسوة:
خرجت قريش بحدها، وجدها، وحديدها، وأحابيشها، ومن تابعها من بني كنانة، وأهل تهامة، ثم أمر أبو سفيان باصطحاب عدد من النسوة ليباشرن عملية التحريض، ويقمن بشحن المقاتلين، ومنعهم من الفرار حرصًا على الكرامة وحماية للعرض، فلما وجه أبو سفيان قومه لذلك خرج كبارهم بالظعن معهم التماس الحفيظة والحماسة، وبذل أقصى الجهد لحماية العرض والشرف، وقد بلغ عدد الخارجات خمس عشرة امرأة كلهن من قريش بعد أن رفض الأعراب والأحابيش خروج النساء.
وقد خرج أبو سفيان بن حرب وهو قائد الناس بهند بنت عتبة زوجته.
وخرج عكرمة بن أبي جهل بأم حكيم بنت الحارث بن هشام بن المغيرة.
وخرج الحارث بن هشام بن المغيرة بفاطمة بنت الوليد بن المغيرة.
وخرج صفوان بن أمية ببرزة بنت مسعود بن عمرو بن عمير الثقفية، وهي أم عبد الله بن صفوان بن أمية.
__________
1 المغازي ج1 ص201، 202.
وخرج عمرو بن العاص بريطة بنت منبه بن الحجاج، وهي أم عبد الله بن عمرو وخرج طلحة بن أبي طلحة، وأبو طلحة عبد الله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بسلافة بنت سعد بن شهيد الأنصارية وهي أم بني طلحة مسافع، والجلاس، وكلاب وقد قتلوا يومئذ مع أبيهم.
وخرجت خناس بنت مالك بن المضرب إحدى نساء بني مالك بن حسل مع ابنها أبي عزيز بن عمير، وهي أم مصعب بن عمير.
وخرجت عمرة بنت علقمة إحدى نساء بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة.
وكانت هند بنت عتبة كلما مرت بوحشي أو مر بها قالت: ويها أبا دسمة اشف واستشف، وكان وحشي يكنى بأبي دسمة1.
وكان لهؤلاء النسوة دور بارز خلال المعركة، فكن ينشدن الشعر، ويحمسن الرجال، ويخوفونهم من عار الهزيمة وذل الانكسار، الأمر الذي ظهر أثره في سير القتال يوم "أحد".
د- التحرك نحو المدينة:
تابع جيش مكة سيره على الطرق الغربية الرئيسية المعتادة، ولما وصل إلى "الأبواء"2. اقترحت هند بنت عتبة -زوج أبي سفيان- أن ينبش القرشيون قبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنة رضي الله عنها، بيد أن قادة الجيش رفضوا هذا الطلب، وحذروا من العواقب الوخيمة التي تلحقهم لو فتحوا هذا الباب، فلعل الدارة تكون عليهم؛ ولأنه عمل يجلب الخزي والعار لفاعله3.
واصل جيش مكة سيره حتى اقترب من المدينة فاستراح عند مدينة تسمى "الصمغة" وأطلق الإبل والخيل ترعى، وبعدها تابع الجيش مسيرته، فسلك وادي العقيق، ثم انحرف منه إلى ذات اليمين، حتى نزل قريبًا من جبل "أحد" في مكان يقال له عينين4، في بطن السبخة، ومن قناة على شفير الوادي، الذي يقع شمالي المدينة، فعسكر هناك يوم الجمعة
__________
1 سيرة الرسول ج2 ص60.
2 الأبواء بفتح الهمزة وسكون الباء قرية صغيرة قرب المدينة.
3 المغازي ج1 ص206.
4 عينين "بفتح العين تثنية عين" اسم من أسماء جبل أحد، أو اسم جزء منه.
السادس من شهر شوال سنة ثلاث من الهجرة1.
هـ- التعبئة النفسية:
أدى اصطحاب النسوة إلى بعث روح الحماس في جيش قريش، فقد كن يولولن ويذكرن بقتلى "بدر" ويدرن على المقاتلين محرضات حتى لا يضعفون.
وقد أخذ أبو سفيان يحرض رجاله كذلك على الثبات والقتال بوسائل ماكرة، فقال لأصحاب اللواء من بني عبد الدار: يا بني عبد الدار، إنكم قد وليتم لواءنا يوم بدر، فأصابنا ما قد رأيتم، وإنما يؤتى الناس من قبل راياتهم، إذا زالت زالوا، فإما أن تكفونا لواءنا وإما أن تخلوا بيننا وبينه فنكفيكموه فهموا به وتواعدوه وقالوا: نحن نسلم إليك لواءنا، ستعلم غدًا إذا التقينا كيف نصنع! وذلك الذي أراده أبو سفيان.
وشاركت هند زوجها أبا سفيان في هذه المهمة مع باقي النسوة، فإنه لما التقى الناس، ودنا بعضهم من بعض، قامت هند بنت عتبة في النسوة اللاتي معها، وأخذن الدفوف يضربن بها خلف الرجال، ويحرضنهم على القتال، فقالت هند فيما تقول:
ويها بني عبد الدار ... ويها حماة الأدبار
ضربًا بكل بتار
وتقول:
إن تقبلوا نعانق ... ونفرش النمارق
أو تدبروا نفارق ... فراق غير وامق
و الحرب المعنوية:
قبيل نشوب المعركة حاولت قريش إيقاع الفرقة والنزاع داخل صفوف المسلمين فأرسل أبو سفيان إلى الأنصار يقول لهم: خلوا بيننا وبين ابن عمنا فننصرف عنكم، فلا حاجة لنا إلى قتالكم، ولكن أين هذه المحاولة أمام إيمان الأنصار الراسخ، ولذا رد عليه الأنصار ردًا عنيفًا، وأسمعوه ما يكره.
__________
1 المغازي ج1 ص207.
واقتربت ساعة الصفر، وتدانت الفئتان، فقامت قريش بمحاولة أخرى لنفس الغرض، فقد خرج إليهم عميل خائن يسمى أبو عامر الفاسق، واسمه عبد عمرو بن صيفي، وكان يسمى الراهب، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق، وكان رأس الأوس في الجاهلية، فلما جاء الإسلام شرق به، وجاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعداوة، فخرج من المدينة، وذهب إلى قريش يؤلبهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحضهم على قتاله، ووعدهم بأن قومه إذا رأوه أطاعوه, ومالوا معه، فكان أول من خرج إلى المسلمين في الأحابيش وعبدان أهل مكة، فنادى قومه وتعرف عليهم، وقال: يا معشر الأوس، أنا أبو عامر فقالوا: لا أنعم الله بك عينا يا فاسق.
فقال: لقد أصاب قومي بعدي شر وقاتلهم قتالا شديدًا ورماهم بالحجارة.
وهكذا فشلت قريش في محاولتها الثانية للتفريق بين صفوف أهل الإيمان مما جعلهم يزدادون خوفًا من المسلمين، ويمتلئون هيبة من لقائهم1.
ز- عدة الجيش المكي وتنظيمه:
تجمع مشركو مكة، والأحباش، وأعراب البوادي، وبنو ثقيف لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحصار المدينة حتى بلغ عددهم ألفين وتسعمائة مقاتل، منهم سبعمائة دارع، والباقون رماة وكان مع الجيش مائتا فرس وثلاثة آلاف بعير بالإضافة إلى ما كان معهم من نساء.
سار الجيش المكي حتى قرب من المدينة وعند "أحد" نظم القرشيون جيشهم للقتال فاصطفوا صفًا واحدًا، وأمنوا الميمنة، والميسرة، فجعلوا على الميمنة خالد بن الوليد، وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل، وحمل اللواء طلحة بن أبي طلحة من بني عبد الدار، وولوا قيادة الخيل لـ"صفوان بن أمية" وجعلوا قيادة الرماة لـ"عبد الله بن أبي ربيعة"2.
وتولى القيادة العامة أبو سفيان بن حرب لهلاك أكابرهم في "بدر".
__________
1 السيرة النبوية ج2 ص67.
2 سيرة النبي ج2 ص67.
2- ,
,
:
اشتد وطيس المعركة، وكان أول البشائر فيها مقتل حامل لواء قريش طلحة بن أبي طلحة بعدما نادى بالمبارزة، فخرج إليه الزبير بن العوام رضي الله عنه ووثب على جمله، وأمسك به وأنزله على الأرض، وذبحه بسيفه، فكبر المسلمون، وسر رسول الله صلى الله عليه وسلم لمقتل طلحة الذي كان يعرف بـ"كبش الكتيبة" لشجاعته، وقوته1.
واندلع القتال بعد مقتل طلحة في كل أرض المعركة، وشد المسلمون على لواء المشركين لأهميته في هزيمتهم، وقد تمكن المسلمون من حملة اللواء حتى أفنوهم جميعًا، لأنه بعد مقتل طلحة حمل اللواء، أخوه عثمان بن طلحة فحمل عليه حمزة بن عبد المطلب فضربه على عاتقه ضربة بترت يده مع كتفه حتى وصلت إلى سرته، فبانت رئته.
ثم رفع اللواء أبو سعد بن أبي طلحة، فرماه سعد بن أبي وقاص بسهم أصاب حنجرته فأدلع لسانه ومات لحينه، وقيل: بل خرج أبو سعد يدعو إلى المبارزة، فتقدم إليه علي بن أبي طالب فاختلفا ضربتين فضربه علي فقتله.
ثم رفع اللواء مسافع بن طلحة بن أبي طلحة فرماه عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح بسهم فقتله.
فحمل اللواء بعده أخوه كلاب بن طلحة بن أبي طلحة، فانقض عليه الزبير بن العوام وقاتله حتى قتله.
ثم حمل اللواء أخوهما الجلاس بن طلحة بن أبي طلحة، فطعنه طلحة بن عبيد الله طعنة قضت على حياته، وقيل: بل رماه عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح بسهم فقضى عليه.
ثم حمله من بني عبد الدار أرطأة بن شرحبيل، فقتله علي بن أبي طالب، وقيل حمزة بن عبد المطلب.
ثم حمله شريح بن قارظ فقتله قزمان، وكان منافقًا قاتل مع المسلمين حمية، لا عن الإسلام ثم حمله أبو زيد بن عبد مناف العبدري فقتله قزمان أيضًا.
ثم حمله ولد لشرحبيل بن هاشم العبدري فقتله قزمان أيضًا.
فتقدم غلام حبشي اسمه صواب فحمل اللواء، وأبدى من صنوف الشجاعة والثبات، ما فاق به مواليه من حملة اللواء الذين قتلوا قبله، فقد قاتل حتى قطعت يداه، فبرك على اللواء بصدره وعنقه، لئلا يسقط حتى قتل وهو يقول: اللهم هل أعذرت،
__________
1 إمتاع الأسماع ج1 ص125.
يعني هل أعذرت؟ أمام سادته المكيين.
وبعد أن قتل هذا الغلام -صواب- سقط اللواء على الأرض، ولم يبق أحد يحمله فبقي ساقطًا1.
وأخذ المسلمون يهتفون بشعار يوم أحد "أمت، أمت"، وينزلون بأعدائهم الضرب والقتل، ويشدون عليهم في كل ناحية، ويبرزون من ضروب الفداء والتضحية ما يعده المؤرخون أمثلة خالدة في إطار الجهاد، وحب الله ورسوله ومن هذه الأمثلة:
1- قتال أبي دجانة رضي الله عنه:
أقبل أبو دجانة رضي الله عنه معلمًا بعصابته الحمراء، آخذًا بسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، مقبلا على الجهاد والنصر، فقاتل حتى أمعن في المشركين، وكان لا يلتقي بمشرك إلا وقتله، وأخذ يهد صفوف المشركين هدًا ويفرقهم بددًا.
يقول الزبير بن العوام رضي الله عنه: وجدت في نفسي حين سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف فمنعنيه، وأعطاه أبا دجانة، وقلت في نفسي: أنا ابن صفية عمته، ومن قريش، وقد قمت إليه، فسألته إياه قبله، فآتاه إياه، وتركني، والله لأنظرن ما يصنع؟
فاتبعته فرأيته قد أخرج من جيبه عصابة له حمراء، فعصب بها رأسه.
فقالت الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت، فلبسها وخرج وهو يقول:
أنا الذي عاهدني خليلي ... ونحن بالسفح لدى النخيل
أن لا أقوم الدهر في الكيول ... أضرب بسيف الله والرسول
فجعل لا يلقى أحدًا إلا قتله، وكان في المشركين رجل لا يدع لنا جريحًا إلا أجهز عليه، فجعل كل واحد منهما يدنو من صاحبه، فدعوت الله أن يجمع بينهما فالتقيا، فاختلفا ضربتين، فضرب المشرك أبا دجانة فاتقاه أبو دجانة بدرقته، فعضه بسيفه، فضربه أبو دجانة فقتله.
ثم أمعن أبو دجانة في هد الصفوف، حتى خلص إلى قائدة نسوة قريش وهو لا يدري بها.
__________
1 المغازي ج1 ص225-228 بتصرف.
قال أبو دجانة: رأيت إنسانًا يخمش الناس خمشًا شديدًا فصمدت له، فلما حملت عليه السيف ولول فإذا هو امرأة، فأكرمت سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضرب به امرأة، وكانت تلك المرأة هي هند بنت عتبة.
يقول الزبير بن العوام: رأيت أبا دجانة قد حمل السيف على مفرق رأس هند بنت عتبة، ثم عدل السيف عنها، فقلت: الله ورسوله أعلم1.
2- قتال حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه:
وقاتل حمزة بن عبد المطلب قتال الليوث الأبطال، فقد اندفع إلى قلب جيش المشركين في شجاعة منقطعة النظير، ففر من أمامه أبطال قريش، وتطايروا كما تتطاير الأوراق أمام الرياح العاتية، واستمر في اندفاعه رضي الله عنه حتى صرعه وحشي، وهو مختبئ في مكنه، أملا في الحرية التي وعده بها سيده جبير بن مطعم، ولينال رضى هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان.
يروي البخاري بسنده قصة استشهاد حمزة كا رواها وحشي بعدما أسلم فيقول: إن حمزة قتل طعيمة بن عدي بن الخيار ببدر، فقال لي مولاي جبير بن مطعم، إن قتلت حمزة بعمي فأنت حر.
فلما خرج الناس عام عينين خرجت مع الناس، إلى القتال، فلما اصطفوا للقتال، خرج سباع فقال: هل من مبارز؟
فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب فقال: يا سباع يابن أم أنمار، مقطعة البظور أتحاد الله روسوله صلى الله عليه وسلم؟
ثم شد عليه فكان كأمس الذاهب، وكمنت لحمزة تحت صخرة، فلما دنا مني رميته بحربتي، فوضعتها في ثنيته، حتى خرجت من بين وركيه، فكان ذاك العهد به.
فلما رجع الناس رجعت معهم، فأقمت بمكة، حتى فشا فيها الإسلام، ثم خرجت إلى الطائف، فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولا، فقيل لي: إنه لا يهيج الرسل، فخرجت معهم حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
1 البداية والنهاية ج4 ص15، 16.
فلما رآني قال صلى الله عليه وسلم: "أنت وحشي"؟.
قلت: نعم.
قال صلى الله عليه وسلم: "أنت قتلت حمزة"؟.
قلت: قد كان من الأمر ما بلغك.
قال: "فهل تستطيع أن تغيب وجهك عني"؟.
قال: فخرجت1.
وبهذه الطريقة استشهد حمزة رضي الله عنه يوم "أحد"، وجاءت هند إلى جسده فمثلت به، وأخرجت كبده، ولاكته في فمها لغلها الدفين، وحقدها الكامن، ولكنها لم تتمكن من أكله، فلفظته، وقد حزن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا لموت حمزة رضي الله عنه ولذلك أبعد وجهه عن رؤية وحشي رغم أن وحشيًا كان قد أسلم، وحسن إسلامه.
وقد غسلت الملائكة حمزة بعدما احتلم في نومه، أثناء النعاس الذي رزقه الله للمؤمنين أثناء المعركة.
ومن العجيب أن وحشيًا لم يشترك في القتال ولم يقتل غير حمزة يوم أحد لأنه لم يأت مع الجيش إلا لهذه الغاية، ولما أسلم اشترك في حرب الردة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتل مسيلمة الكذاب وجاهد في الله حق الجهاد، ولله في خلقه شئون2.
3- تعدد البطولات:
برغم هذه الخسارة الفادحة التي لحقت بالمسلمين بقتل أسد الله، وأسد رسوله صلى الله عليه وسلم ظل المسلمون مسيطرين على الموقف كله، فقد قاتل يومئذ أبو بكر، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، ومصعب بن عمير، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الله بن جحش، وسعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وسعد بن الربيع، وأنس بن النضر، وأمثالهم رضي الله عنهم قتالا فل عزائم المشركين، وفتت أعضادهم، وفرق جمعهم، ودفعهم إلى ترك ميدان المعركة ففروا إلى قمم الجبل3.
__________
1 صحيح البخاري. ك المغازي باب قتل حمزة ج6 ص303.
2 صحيح البخاري كتاب المغازي باب قتل حمزة ج6 ص302، 304.
3 البداية والنهاية ج4 ص21.
4- بطولة حنظلة الغسيل:
وكان من أبطال الجهاد يومئذ حنظلة الغسيل, وهو حنظلة بن أبي عامر، وأبو عامر هذا هو الذي سمي بالفاسق، كان حنظلة حديث عهد بالعرس، فلما سمع هواتف الحرب، وهو على امرأته، انخلع من أحضانها، وقام من فوره إلى الجهاد، فلما التقى بجيش المشركين في ساحة القتال، أخذ يشق الصفوف، حتى خلص إلى قائد المشركين أبي سفيان بن حرب، وكاد يقضي عليه لولا أن أتاح الله له الشهادة، فقد شد على أبي سفيان، فلما استعلاه، وتمكن منه رآه شداد بن الأسود فضربه بالسيف حتى قتله، فغسلته الملائكة ولذلك سمي بحنظلة الغسيل1.
5- جهاد الرماة:
وكان للفصيلة التي عينها الرسول صلى الله عليه وسلم على جبل الرماة يد بيضاء في إدارة دفة القتال لصالح الجيش الإسلامي، فقد هجم فرسان من جيش مكة بقيادة خالد بن الوليد، يساندهم أبو عامر الفاسق، ثلاث مرات على الرماة ليحطموا جناح الجيش الإسلامي الأيسر، ويتسربوا إلى ظهور المسلمين، فيحدثوا البلبلة والارتباك في صفوفهم، وينزلوا عليهم هزيمة ساحقة، ولكن هؤلاء الرماة رشقوهم بالنبل حتى فشلت هجماتهم2.
وهكذا ظهرت البطولات الإسلامية، وانهارت مقاومة المكيين فولوا الأدبار، وفروا هاربين فوق الجبل، وكادت أن تنتهي المعركة بهذا النصر الحاسم، لولا خطأ وقع فيه الرماة، أدى إلى تغير الوضع، وتحول النصر إلى هزيمة وانكسار، وهو ما حدث في المرحلة الثانية.
__________
1 المرجع السابق ج3 ص22.
2 انظر الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد الشيباني ج21 ص53، 54.
,
:
لما انهزم المشركون، وولوا الأدبار، أقبل المسلمون على الغنائم والأسلاب، وهنا جاء خطأ الرماة تركوا الجبل، وخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكره لهم وهو ينظم المعركة، وغرتهم الأسلاب والغنائم، وقال بعضهم لبعض: تقيمون ها هنا في غير شيء؟
قد هزم الله العدو، وهؤلاء إخوانكم ينتهبون عسكرهم! فادخلوا عسكر المشركين فاغنموا مع إخوانكم!!
فقال بعضهم: ألم تعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لكم: "احموا ظهورنا، ولا تبرحوا مكانكم، وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن غنمنا فلا تشركونا".
فقال الآخرون: لم يرد رسول الله هذا، وانطلقوا، فلم يبق منهم مع أميرهم عبد الله بن جبير إلا دون العشرة، وذهبوا إلى عسكر المشركين ينتهبون1.
انتهز خالد بن الوليد فرصة ترك الرماة لمكانهم، وكان قريبًا منه على ميمنة خيل المشركين، فهجم على موضع الرماة، واحتله بفرسانه، وتمكن وجنوده من قتل قائد الرماة عبد الله بن جبير رضي الله عنه وجرح من بقي معه، ولم يفطن المسلمون لهذه المباغتة, وصاح خالد في قريش ليعودوا إلى الميدان مرة أخرى، ويلتقوا وراء المسلمين، فعادت قوات قريش المهزومة للقيام بهجوم جديد، بينما خالد وفرسانه يحكمون قبضتهم على جبل الرماة، الموجود خلف المسلمين، وبذلك أصبح المسلمون محاطين من كافة جوانبهم، وتحرج موقفهم وصاروا عرضة للسهام تأتيهم من كل جانب، فانهارت مقاومتهم، وبخاصة أن صفوفهم لم تكن ثابتة في مواضعها، لتستطيع الصمود بعد تبعثر أفرادها لجمع الغنائم.
تفككت صفوف المسلمين وقام إبليس بمهمته فنادى عند جبل عينين وظهر للناس في صورة جعال بن سراقة وصرخ في الناس إن محمدًا قد قتل، ثلاث صرخات دوت في الوادي2.
وبهذه الصورة تحول الموقف بسرعة كبيرة، وعاد المشركون من هزيمتهم إلى انتصار يتحقق، وبعدما كان المسلمون يعيشون فرحة الانتصار صاروا إلى هزيمة مؤلمة، وتخبط حالهم، واختلط توجههم، وتداخل المسلمون، وصاروا يقتتلون فيما بينهم، ويضرب بعضهم بعضًا ولا يشعرون بسبب ما هم فيه من العجلة، والدهشة، والمفاجأة.
وجرح أسيد بن حضير جرحين، ضربه أحدهما أبو بردة بن نيار وهو لا يدري.
__________
1 انظر صحيح البخاري كتاب المغازي ج6 ص287.
2 المغازي ج1 ص232 وهذا ابتلاء نزل بجعال لأنه كان يقاتل في صفوف المسلمين فظن المسلمون أنه ارتد حين صاح إبليس فيهم.
وضرب أبو زعنة أبا بردة ضربتين وما يشعر.
والتقت أسياف المسلمين على اليمان حسيل بن جابر وهم لا يعرفونه حين اختلطوا، وحذيفة يقول أبي، أبي حتى قتل، فقال حذيفة: يغفر الله لكم، وهو أرحم الراحمين، فزادته مقالته هذه عند رسول الله خيرًا، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته أن تخرج، فتصدق حذيفة بن اليمان بديته على المسلمين، ويقال: إن الذي أصابه عتبة بن مسعود، وأقبل الحباب بن المنذر بن الجموح يصيح: يا آل سلمة!! فأقبلوا إليه جماعة واحدة: لبيك داعي الله! فيضرب يومئذ جبار بن صخر في رأسه وما يدري1.
ولم ينقذهم من هذا الاضطراب إلا ظهور صيحتهم التي تميز المسلم من المشرك فأظهروا الشعار بينهم، فجعلوا يصيحون: أمت أمت! فكف بعضهم عن بعض.
وأصاب الوهن المسلمين، وتصوروا أن دولتهم قد زالت، وأن كيانهم تهدم، وبخاصة بعدما سمعوا صيحة إبليس المؤذنة بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لقد زعزعت صيحة إبليس المعسكر الإسلامي كله، وفي نفس الوقت قوت عزيمة المشركين لشعورهم بقرب تحقيق أمانيهم، ولم يدم ذلك الحال طويلا، فلقد جاء الخبر بسلامة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونجاته.
وكان أول من بشرهم بسلامة رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك، فجعل يصيح ورسول الله صلى الله عليه وسلم يشير إليه بإصبعه على فيه أن "اسكت". ودعا بلأمة كعب فلبسها، ونزع لأمته فلبسها كعب، وقاتل كعب حتى جرح سبعة عشر جرحًا لشدة قتاله.
وأخذ أبو سفيان في البحث عن حقيقة خبر مقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم لتهدأ نفسه، ويتيقن من تحقيق هدف المشركين الأول، فأخذ يسأل من يقابله، ويقول: يا معشر قريش أيكم قتل محمدًا؟
فقال ابن قمئة: أنا قتلته.
قال أبو سفيان: نسورك كما تفعل الأعاجم بأبطالها.
وأخذ أبو سفيان يطوف بأبي عامر في أرض المعركة عساه يرى محمدًا ويتأكد من قتله؟
__________
1 المغازي ج1 ص234.
ولما تصفح أبو سفيان القتلى قال: ما نرى مصرع محمد؟ كذب ابن قميئة.
ولقي أبو سفيان خالد بن الوليد فقال: هل تبين عندك قتل محمد؟
قال خالد: رأيته قبل قليل في نفر من أصحابه، مصعدين في الجبل.
قال أبو سفيان: هذا حق، كذب ابن قمئة، زعم أنه قتله1.
وهنا تغير الأمر ثانية وانكسرت شوكة الحماس القرشي وفترت حدتهم، وثبتت فئة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ المسلمون يفيئون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتماسكت قوتهم، وتمكنوا من الصمود حتى انتهت المعركة.
__________
1 المغازي ج1 ص236، 237.
,
:
أدت مخالفة الرماة للأوامر التي تلقوها من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى انكسار الجيش الإسلامي وتفكك صفوفه، وفرار المسلمين إلى الجبل في كل جوانبه.
ولما انكشف المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبق منهم معه صلى الله عليه وسلم إلا نفر يسير، ولم يبق للمسلمين لواء قائم ولا فئة ثابتة، وأخذت خيل المشركين تجوسهم مقبلة ومدبرة، في جنبات الوادي، وتجمع المشركون، يلتقون ولا يتفرقون، ما يرون أحدًا من الناس يردهم بعدما فر المسلمون، وصعدوا إلى الجبل، وقد استشهد من المسلمين من أكرمه الله تعالى بالشهادة ولولا ثبات النبي صلى الله عليه وسلم وشجاعته لكانت النكسة الماحقة، ولوقعت الهزيمة التي لا انتصار بعدها.
روى البيهقي عن المقداد بن عمرو رضي الله عنه قال: أوجع المشركون والله فينا قتلا ذريعًا، ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نالوا، ألا والذي بعثه بالحق ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم شبرًا واحدًا، وإنه لفي وجه العدو، ويفيء إليه طائفة من أصحابه مرة، وتفترق عنه مرة، فربما رأيته قائمًا يرمي عن قوسه ويرمي بالحجر حتى تحاجزوا، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في عصابة ثبتت معه1.
وقال محمد بن عمر: ثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانه، ما يزول قدمًا واحدًا بل وقف في
__________
1 المغازي ج1 ص204.
وجه العدو، وما يزال يرمي عن قوسه، حتى تقطع وتره، وبقيت في يده منه قطعة تكون شبرًا في سية القوس، فأخذ القوس عكاشة بن محصن ليوتره له.
فقال عكاشة رضي الله عنه: يا رسول الله لا يبلغ الوتر.
فقال صلى الله عليه وسلم: "مده فيبلغ".
قال عكاشة رضي الله عنه: فوالذي بعثه بالحق لمددته حتى بلغ، وطويت منه لبتين أو ثلاثًا على سية القوس1.
ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قوسه، فما زال يرمي به، وأبو طلحة يستره متترسًا عنه، حتى تحطمت القوس وصارت شظايا، وفنيت نبله، فأخذ القوس قتادة بن النعمان فلم تزل عنده، ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجارة وكان أقرب الناس إلى العدو.
وثبت معه صلى الله عليه وسلم خمسة عشر رجلًا، ثمانية من المهاجرين هم: أبو بكر، وعمر، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، وسبعة من الأنصار هم: الحباب بن المنذر، وأبو دجانة، وعاصم بن ثابت والحارث بن الصمة، وسهل بن حنيف, وسعد بن معاذ، وقيل: سعد بن عبادة، ومحمد بن مسلمة رضي الله عنه ويقال: ثبت بين يديه يومئذ ثلاثون رجلا كلهم يقول: وجهي دون وجهك، ونفسي دون نفسك، وعليك السلام غير مودع! 2.
وصان الله رسوله من كيد أعدائه في هذه المحنة القاسية فشتت رميهم، وأفسد سهامهم وأرسل ملائكته لحفظ رسول صلى الله عليه وسلم.
وروى الطبراني عن ابن عباس: أن ابن مسعود ثبت يومئذ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انكشف الناس عنه إلى الجبل لا يلوون عليه، يدعوهم في أخراهم ويقول: "إليّ يا فلان، أنا رسول الله"، فما يعرج عليه أحد، هذا والنبل يأتيه صلى الله عليه وسلم من كل ناحية، والله تعالى يصرف ذلك عنه3.
وروى محمد بن عمر الأسلمي عن نافع بن جبير قال: سمعت رجلا من المهاجرين
__________
1 المغازي ج1 ص242، بلوغ الأماني ج22 ص327.
2 المغازي ج1 ص241، 242.
3 البداية والنهاية ج4 ص30، المغازي ج1 ص238.
يقول: شهدت أحدًا فنظرت إلى النبل من كل ناحية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطها، كل ذلك يصرفه الله عنه، ولقد رأيت عبد الله بن شهاب الزهري يقول يومئذ: دلوني على محمد، لا نجوت إن نجا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه ما معه أحد، ثم جاوزه ولم يره فعاتبه صفوان بن أمية في ذلك، فقال له: والله ما رأيته، أحلف بالله أنه منا ممنوع أما والله لقد خرجنا فتعاهدنا، وتعاقدنا على قتله، فلم نخلص إليه1.
وكان أربعة من قريش قد تعاهدوا، وتعاقدوا على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرفوا المشركين بذلك، وهم: عبد الله بن شهاب، وعتبة بن أبي وقاص، وعمرو بن قمئة، وأبي بن خلف، وزاد بعضهم عبد الله بن حميد بن زهير بن الحارث بن أسد بن عبد العزى بن قصي.
قال ابن سعد: قال أبو النمر الكناني وهو جد شريك بن عبد الله بن أبي نمر: شهدت أحدًا مع المشركين، ورميت يومئذ بخمس رميات، فأصبت منها بأسهم، وإني لأنظر إلى رسول الله صلى الله علي وسلم، وإن أصحابه لمحدقون به، وإن النبل لتمر عن يمينه، وعن شماله، وتقصر بين يديه، وتخرج من ورائه، ثم هداني الله للإسلام2.
وروى عبد الرزاق عن الزهري قال: ضرب وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم "أحد" سبعين ضربة بالسيف، وقاه الله شرها كلها.
وبايعه يومئذ على الموت ثمانية: ثلاثة من المهاجرين وهم: علي، والزبير، وطلحة وخمسة من الأنصار: أبو دجانة، والحارث بن الصمة، والحباب بن المنذر، وعاصم بن ثابت، وسهل بن حنيف، فلم يقتل منهم أحد3.
وروى أبو يعلى بسند حسن، عن علي رضي الله عنه قال: لما انجلى الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم "أحد" نظرت في القتلى، فلم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: والله ما كان ليفر وما أراه في القتلى، ولكن أرى أن الله تعالى غضب علينا بما صنعنا، فرفع نبيه صلى الله عليه وسلم، فما لي خير من أن أقاتل حتى أقتل، فكسرت جفن سيفي، ثم حملت على القوم فأفرجوا لي، فإذا أنا
__________
1 البداية والنهاية ج4 ص30.
2 الطبقات ج2 ص42.
3 البداية والنهاية ج4 ص29.
برسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم أي يقاتلهم صلى الله عليه وسلم1.
وتكاثر المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرادوا قتله، رمى عتبة بن أبي وقاص -لعنه الله- رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعة أحجار فكسر حجر منها رباعيته اليمنى السفلى، وجرح شفته السفلى2.
وشجه عبد الله بن شهاب الزهري في وجهه، وسال الدم من الشجة حتى أخضل الدم لحيته الشريفة3.
ورماه عبد الله بن قَمِئة -بفتح القاف وكسر الميم وبعدها همزة- فشج وجنته فدخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته وعلاه بالسيف، وكان عليه درعان، فوقع صلى الله عليه وسلم في حفرة أمامه على جنبه، وهي من الحفر التي عملها أبو عامر الفاسق ليقع فيها المسلمون وهم لا يعلمون، فأغمي عليه صلى الله عليه وسلم، فأخذه علي بن أبي طالب بيده ورفعه طلحة حتى استوى قائمًا فجحشت ركبتاه، ولم يصنع سيف ابن قمئة شيئًا إلا وهن الضربة بثقل السيف، ومكث صلى الله عليه وسلم يجد وهن الضربة على عاتقه شهرًا أو أكثر من شهر، ورمته جماعة كثيرة بالحجارة حتى وقع لشقه4.
لقد دبت روح الإيمان في نفوس المسلمين ودفعتهم إلى قوة المجابهة، وطلب الشهادة في سبيل الله صادقين، مخلصين عندما رأوا الأعداء يقصدون رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد أدى ثبات رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام هاتيك الضربات الموجعة، وهذا الحصار المحكم وتلك الرميات المتتابعة، أدى إلى عودة الروح إلى قلوب المؤمنين، فاندفعوا لحماية دينهم الذي تحملوا مسئوليته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرتضوا لأنفسهم الحياة الذليلة المهينة وبخاصة أن استشهادهم في سبيل الله يحقق لهم الحياة عند الله فرحين مستبشرين.
ذلك أن فريقًا من الصحابة حينما سمعوا صائحًا يقول: قتل محمد طار صوابهم، وانهارت عزيمتهم، فمر بهم أنس بن النضر، وقال لهم: ما تنظرون؟
__________
1 المغازي ج1 ص160، 161.
2 صحيح البخاري كتاب المغازي باب ما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد ج6 ص203.
3 المصدر السابق ج 6 ص204.
4 البداية والنهاية ج4 ص29، 30.
قالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: ما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، يعني المسلمين، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء يعني المشركين، ثم تقدم فلقيه سعد بن معاذ، فقال: أين يا أبا عمر؟
فقال أنس: واها لريح الجنة يا سعد، إني أجده دون أحد، ثم مضى فقاتل القوم حتى قتل، فما عرف حتى عرفته أخته بعد نهاية المعركة ببنانه وبه بضع وثمانون ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم1.
ونادى ثابت بن الدحداح أنس بن النضر، وهو يتشحط في دمه فقال له: يا فلان أشعرت أن محمدًا قد قتل؟!
فقال أنس: إن كان محمد قد قتل فقد بلغ، فقاتلوا عن دينكم2.
وبمثل هذا الاستبسال والفداء عادت إلى جنود المسلمين روحهم المعنوية، ورجع إليهم رشدهم وصوابهم، وأخذوا سلاحهم، وانطلقوا يهاجمون تيارات المشركين، الذين يحاولون الوصول إلى رسول الله بعدما بلغهم أن خبر مقتل النبي صلى الله عليه وسلم كذب مختلق.
ولما تأكد المسلمون من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ازدادوا قوة، وتمكنوا من الإفلات من التطويق وتجمعوا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن باشروا القتال المرير، وجالدوا بضراوة بالغة، وثبتوا ثبوت الجبال الرواسي، ولم يتمكن المشركون من زحزحتهم، وإبعادهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أبدى المسلمون بعد تجمعهم حول رسول الله صلى الله عليه وسلم شجاعة نادرة، وأصروا على الصمود، حتى الموت، ولم يرضوا لأنفسهم الذل والهوان، ولم يقبلوا أن يؤتى الإسلام من قبلهم، وجاهدوا مخلصين، وفدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأرواحهم، ومن هؤلاء:
1- سعد بن أبي وقاص: قد نثل له رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانته، وقال: "ارم فداك أبي وأمي". ولم يجمع النبي صلى الله عليه وسلم أبويه فداء لأحد في يوم أحد لغير سعد رضي الله عنه3.
2- طلحة بن عبيد الله: يروي النسائي بسنده عن جابر بن عبد الله يقول: أدرك
__________
1 المرجع السابق ج4 ص32.
2 البداية والنهاية ج4 ص31.
3 صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة أحد ج6 ص293.
المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: "من للقوم"؟.
فقال طلحة: أنا.
فلما قتل الأنصار كلهم، تقدم طلحة فقاتلهم كقتال الأحد عشر، حتى ضربت يده وقطعت أصابعه، فقال: حس.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لو قلت: "بسم الله لرفعتك الملائكة، والناس ينظرون".
وقد جرح طلحة يوم "أحد" تسعًا وثلاثين جرحًا، أو خمسًا وثلاثين، وشلت إصبعه السبابة والتي تليها1.
وروى الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه يومئذ: "من نظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله" 2.
وروى أبو داود الطيالسي عن عائشة قالت: كان أبو بكر إذا ذكر يوم "أحد" قال: هذا يوم طلحة.
وكان صلى الله عليه وسلم يقول إذا رأى طلحة رضي الله عنه: "هذا سلفي في الدنيا وسلفي في الآخرة" 3.
يا طلحة بن عبيد الله قد وجبت ... لك الجنان وبوأت المها العينا
يقول أبو بكر الصديق: لما كان يوم "أحد" انصرف الناس كلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم فكنت أول من فاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرأيت بين يديه رجلا يقاتل عنه، ويحميه، قلت: كن طلحة، فداك أبي وأمي، كن طلحة فداك أبي وأمي، فلم أنشب أن أدركني أبو عبيدة بن الجراح، وإذا هو يشتد كأنه طير حتى لحقني، فدفعنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا طلحة بين يديه صريعًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دونكم أخاكم فقد أوجب".
وقد رمى النبي صلى الله عليه وسلم في جبهته ووجنته، حتى غابت حلقتان من حلق المغفر في وجنته فذهبت لأنزعهما عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو عبيدة: نشدتك بالله يا أبا بكر ألا تركتني.
فأخذ بفيه، فجعل ينضضه كراهية أن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استل السهم بفيه
__________
1 الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان ج1 ص286.
2 سنن الترمذي كتاب المناقب باب مناقب طلحة ج5 ص644.
3 فتح الباري ج7 ص361.
فندرت ثنية أبي عبيدة، قال أبو بكر: ثم ذهبت لآخذ الآخر، فقال أبو عبيدة: نشدتك بالله يا أبا بكر إلا تركتني فأخذ بفيه، فجعل ينضضه حتى استله فندرت ثنية أبي عبيدة الأخرى، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دونكم أخاكم، فقد أوجب".
يقول أبو بكر: فأقبلنا على طلحة نعالجه، وقد أصابته بضع وثلاثون بين ضربة وطعنة ورمية.
وهذا أيضًا يدل على مدى كفاءة طلحة ذلك اليوم وتفانيه في الكفاح والنضال1.
3- ومن المسلمين الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدوا أعداءه عنه أبو دجانة، ومصعب بن عمير، وعلي بن أبي طالب، وسهيل بن حنيف، ومالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري، وأم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية، وقتادة بن النعمان، وعمر بن الخطاب، وحاطب بن أبي بلتعة، وسهل بن حنيف، وأبو طلحة.
4- كان أبو طلحة رضي الله عنه يسور نفسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرفع صدره ليقيه من سهام العدو، يقول أنس: لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو طلحة بين يديه مجوب عليه بحجفه له، وكان رجلا راميًا شديد النزع، كسر يومئذ قوسين، أو ثلاثًا، وكان الرجل يمر معه بجعبة من النبل، فيقول: "انثرها لأبي طلحة". ويشرف النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى القوم، فيقول أبو طلحة، بأبي أنت وأمي لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك.
يقول أنس: كان أبو طلحة يتترس مع النبي صلى الله عليه وسلم بترس، وكان أبو طلحة حسن الرمي، فكان إذا رمى تشرف النبي صلى الله عليه وسلم فينظر إلى موقع نبله.
5- حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه تعقب حاطب رضي الله عنه عتبة بن أبي وقاص الذي كسر الرباعية الشريفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فضربه بالسيف حتى طرح رأسه، ثم أخذ فرسه وسيفه، وكان سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه شديد الحرص على قتل أخيه عتبة هذا إلا أنه لم يظفر به، بل ظفر به حاطب.
6- وكان سهل بن حنيف رضي الله عنه أحد الرماة الأبطال، بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت،
__________
1 الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان ج6 ص286.
ثم قام بدور فعال في رد المشركين.
7- وقاتل عبد الرحمن بن عوف حتى أصيب فوه يومئذ فهتم، وجرح عشرين جراحة أو أكثر، بعضها في رجله فعرج.
8- وامتص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من وجنته صلى الله عليه وسلم حتى أنقاه، فقال: "مجه".
فقال: والله لا أمجه أبدًا، ثم أدبر يقاتل.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا"، فقتل شهيدًا.
9- وكانت أم عمارة "نسيبة بنت كعب بن عمرو بن عوف" وقد شهدت أحدًا هي وزوجها وابنها، ومعها شن تسقي به الجرحى، فقاتلت وأبلت بلاء حسنًا يومئذ، وهي حاجزة ثوبها على وسطها، حتى جرحت اثني عشر جرحًا، بين طعنة برمح، أو ضربة بسيف: وذلك أنها كانت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم هي وابناها عبد الله وحبيب ابنا زيد بن عاصم، وزوجها غزية بن عمرو، يذبون عنه.
فلما انهزم المسلمون أخذت أم عمارة تباشر القتال، وتذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف، وترمى بالقوس، ولما أقبل ابن قمئة -لعنه الله- يريد النبي صلى الله عليه وسلم كانت فيمن اعترض له، فضربها على عاتقها ضربة صار لها فيما بعد ذلك غور أجوف، وضربته هي ضربات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لمقام نسيبه بنت كعب اليوم خير من مقام فلان وفلان".
وقال صلى الله عليه وسلم: "ما التفت يمينًا ولا شمالا إلا وأنا أراها تقاتل دوني".
وقال صلى الله عليه وسلم لابنها عبد الله بن زيد: "بارك الله عليكم من أهل بيت، مقام أمك خير من مقام فلان وفلان، ومقام ربيبك -يعني زوج أمه- خير من مقام فلان وفلان، ومقامك خير من مقام فلان وفلان، رحمكم الله أهل بيت".
قالت أم عمارة: "ادع الله أن نرافقك في الجنة".
قال صلى الله عليه وسلم: "اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة ".
قالت: ما أبالي ما أصابني من الدنيا1.
__________
1 إمتاع الأسماع ج1 ص148 والمغازي ج1 ص269، 273.
10- وقاتل مصعب بن عمير بضراوة بالغة، يدافع عن النبي صلى الله عليه وسلم هجوم ابن قمئة وأصحابه، وكان اللواء بيده، فضربوا على يده اليمنى حتى قطعت، فأخذ اللواء بيده اليسرى، وصمد في وجوه الكفار حتى قطعت يده اليسرى، ثم برك عليه بصدره وعنقه حتى قتل، وكان الذي قتله هو ابن قمئة، وهو يظنه رسول الله صلى الله عليه وسلم -لشبهه به- فانصرف ابن قمئة إلى المشركين وصاح: إن محمدًا قد قتل1.
11- وخرج محمد بن مسلمة يطلب من النساء ماء، وكن قد جئن أربع عشرة امرأة مسلمة منهن فاطمة وأم سليم بنت ملحان، وعائشة أم المؤمنين وحمنة بنت جحش ومنهن أم أيمن رضي الله عنهن، وكن يسقين العطشي، ويداوين الجرحي، ويناولن الطعام، ويحملن على ظهورهن ما يحتاج إليه المقاتلون من طعام، وشراب، وسلاح.
خرج إليهم محمد بن مسلمة فلم يجد عندهم ماء، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عطش عطشًا شديدًا، فذهب محمد إلى قناة بها ماء حتى استقى وأتى بماء عذب، فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا له بخير، وجعل الدم لا ينقطع.
فلما رأت فاطمة الدم لا يرفأ، وهي تغسله وعلي يصب الماء عليها بالمجن، أخذت قطعة حصير فأحرقته حتى صار رمادًا، ثم ألصقته بالجرح فاستمسك الدم، ويقال: إن فاطمة رضي الله عنها داوته بصوفه محترقة، وكان صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يداوي الجرح في وجهه بعظم بال حتى يذهب أثره، ومكث يجد وهن ضربة ابن قمئة على عاتقه شهرًا أو أكثر من شهر2.
12- وكان شماس بن عثمان بن الشريد المخزومي لا يرمي رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصره يمينًا وشمالا إلا رآه في ذلك الوجه يذب بسيفه، حتى غشي رسول الله صلى الله عليه وسلم فترس بنفسه دونه حتى قتل رحمه الله، فذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما وجدت لشماس شبهًا إلا الجنة" 3.
13- ولقي رشيد الفارسي مولى بني معاوية رجلا من المشركين قد ضرب سعدًا مولى حاطب، فضربه على عاتقه فقتله، فاعترض له أخوه فقتله أيضًا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحسنت يا أبا عبد الله وكناه يومئذ ولا ولد له" 4.
__________
1 صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة أحد ج6 ص288.
2 البداية والنهاية ج4 ص30.
3 إمتاع الأسماع ج1 ص144.
4 المرجع السابق ج1 ص146.
14- وقال مخيريق من أحبار يهود لقومه: يا معشر يهود! والله إنكم لتعلمون أن محمدًا لنبي، وأن نصره عليكم لحق! ثم أخذ سلاحه، وحضر أحدًا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقتل؛ وقال حين خرج: إن أصبت فأموالي لمحمد يضعها حيث أراد الله، فهي عامة صدقات رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال فيه صلى الله عليه وسلم: "مخيريق خير يهود".
في ذلك الظرف الدقيق، والساعة الحرجة، أنزل الله نصره على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرسل ملائكته لحمايته والدفاع عنه، وتخذيل المشركين وصرفهم من أن ينالوه صلى الله عليه وسلم بسوء، وقد كان هدفهم الأول قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي الصحيحين عند سعد قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم "أحد"، ومعه رجلان يقاتلان عنه، عليهما ثياب بيض كأشد القتال ما رأيتهما قبل ولا بعد، يعني جبريل وميكائيل2.
وقد نزلت الملائكة يوم أحد، إلا أنها لم تقاتل لعدم صبر المؤمنين، الذي جعله الله تعالى شرطًا لاشتراك الملائكة في القتال، وقيل: بل نزلوا فرادى دفاعًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومنّ الله على المجاهدين، الذين أحاطوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وتكاتفوا في الدفاع والصمود منّ عليهم سبحانه وتعالى بنعاس، فناموا وذهب ما بهم من حزن وتعب.
يقول طلحة بن عبيد الله: غشينا النعاس حتى كان جحف القوم تتناطح.
ويقول الزبير بن العوام: غشينا النعاس فما منا رجل إلا وذقنه في صدره من النوم فأسمع متعب بن قشير يقول، وإني لكالحالم {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} 3.
فأنزل الله تعالى فيه: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} 4.
يقول أبو اليسر: لقد رأيتني يومئذ في أربعة عشر رجلا من قومي إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أصابنا النعاس أمنة منه، ما منهم رجل إلا يغط غطيطًا حتى إن الحجف لتتناطح لقد رأيت سيف بشر بن البراء بن معرور يسقط من يده وما يشعر به، وأخذه بعدما تثلم وإن
__________
1 المغازي ج1 ص262، 263.
2 صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة أحد ج6 ص292.
3 سورة آل عمران: 154.
4 سورة آل عمران: 154.
المشركين لتحتنا1.
ويقول أبو طلحة: ألقي علينا النعاس، فكنت أنعس حتى سقط سيفي من يدي، وكان النعاس لم يصب أهل النفاق والشك يومئذ، فكل منافق يتكلم بما في نفسه، وإنما أصاب النعاس أهل اليقين والإيمان2.
وقعت هذه الأحداث كلها بسرعة هائلة، في لحظات خاطفة، وأدرك المصطفون الأخيار من صحابته صلى الله عليه وسلم الذين كانوا في مقدمة المسلمين عند بدء القتال خطورة الموقف، وضرورة الصمود، والتصدي لأعداء الله، وأعداء رسوله، وزاد حماسهم لما سمعوا صوته صلى الله عليه وسلم فأسرعوا إليه، لئلا يصل إليه شيء يكرهونه، إلا أنهم وصلوا وقد لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لقي من الجراحات، وسعد وطلحة يكافحان أشد الكفاح، فلما وصلوا أقاموا حوله سياجًا من أجسادهم وسلاحهم، وبالغوا في وقايته من ضربات العدو ورد هجماتهم.
وانتهت الجولة الثالثة بتكافؤ الفريقين، بعدما أصابهما التعب والإرهاق، فلقد عاشوا اليوم كله بين الكر والفر، وكثرت الجراحات، وتكسرت الرماح وقل النبل، وعقرت الخيل، ورأت قريش ضرورة الانسحاب والرجوع إلى مكة قبل أن يتغير الأمر.
سئل عمرو بن العاص عن كيفية افتراق المشركين والمسلمين يوم أحد وكان وقتها في معسكر المشركين, فقال: لما كررنا عليهم أصبنا من أصبنا منهم، وتفرقوا في كل وجه وفاءت لهم فئة بعد، فتشاورت قريش فقالوا: لنا الغلبة، فلو انصرفنا فإنه بلغنا أن ابن أبي انصرف بثلث الناس وقد تخلف ناس من الأوس والخزرج، ولا نأمن أن يكروا علينا، وفينا جراح، وخلينا عامتها قد عقرت منه النبل فمضوا3.
وبدأ القرشيون في الانسحاب، والرجوع إلى مكة، وأقبل أبو سفيان يفاخر بانتصار المشركين، وسار حتى أشرف على المسلمين، وهم في عرض الجبل، فأخذ يصيح بأعلى صوته: اعل هبل, أين ابن أبي كبشة؟ أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطاب؟ يوم بيوم ببدر، ألا إن الأيام دول، وإن الحرب سجال
__________
1 إمتاع الأسماع ج1 ص159.
2 المغازي ج1 ص296.
3 المغازي ج1 ص299.
وحنظلة بحنظلة.
فقال عمر رضي الله عنه: ألا أجيبه يا رسول الله؟
فقال صلى الله عليه وسلم: "بلى فأجبه".
فقال أبو سفيان: اعل هبل!
فقال عمر رضي الله عنه: الله أعلى وأجل!
قال أبو سفيان: إنها قد أنعمت فعلا، أين ابن أبي كبشة؟ أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطاب؟
فقال عمر رضي الله عنه: هذا رسول الله، وهذا أبو بكر، وهذا عمر.
فقال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، ألا إن الأيام دول، وإن الحرب سجال.
فقال عمر: لا سواء! قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار.
قال أبو سفيان: إنكم لتقولون ذلك، لقد خبنا إذا وخسرنا! لنا العزى ولا عزى لكم.
فقال عمر: الله مولانا، ولا مولى لكم.
قال أبو سفيان: إنها قد أنعمت يابن الخطاب علينا، قم إليّ يابن الخطاب أكلمك فقام عمر فقال أبو سفيان: أنشدتك بدينك هل قتلنا محمدًا؟
قال عمر: اللهم لا، وإنه ليسمع كلامك الآن.
قال أبو سفيان: أنت أصدق عندي من ابن قمئة.
ثم قال أبو سفيان ورفع صوته: إنكم واجدون في قتلاكم عنتًا ومثلا، ألا إن ذلك لم يكن عن رأي سراتنا، أما إذا كان ذاك فلم نكرهه, ثم نادى: ألا إن موعدكم بدر الصفراء على رأس الحول.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قل نعم! ".
فقال عمر رضي الله عنه: نعم.
وانصرف أبو سفيان إلى أصحابه، وأخذوا في الرحيل1.
__________
1 صحيح البخاري. ك المغازي باب غزوة أحد ج6 ص287.
فأشفق رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون من أن يغير المشركون على المدينة فتهلك الذراري والنساء، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص لينظر وقال له: "إن ركبوا الإبل، وجنبوا الخيل فهو الظعن، وإن ركبوا الخيل، وجنبوا الإبل فهي الغارة".
ثم قال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لئن ساروا إليها لأسيرن إليهم، ثم لأناجزنهم".
فذهب سعد يسعى إلى العقيق، فإذا هم قد ركبوا الإبل، وجنبوا الخيل بعدما تشاوروا حول نهب المدينة، فأشار عليهم صفوان بن أمية ألا يفعلوا، فإنهم لا يدرون ما يغشاهم، فعاد فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم1.
وقدم أبو سفيان مكة فلم يصل إلى بيته حتى أتى هبل فقال: قد أنعمت ونصرتني وشفيت نفسي من محمد وأصحابه، وحلق رأسه.
وكان أول من قدم مكة بخبر أحد، وانصراف المشركين عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة فكره أن يأتيهم هزيمة أهلهم، فقدم الطائف وأخبر أن أصحاب محمد قد ظفروا وانهزمنا.
ثم قدم وحشي مكة فأخبرهم بمصاب المسلمين، ووقف على الثنية التي تشرف على الحجون فنادى: يا معشر قريش! أبشروا، قد قتلنا أصحاب محمد مقتلة لم يقتل مثلها في زحف قط، وجرحنا محمدًا فأثبتناه بالجراح، وقتل حمزة، فسروا بذلك.
وبعد انتهاء القتال أخذ المسلمون يتفقدون قتلاهم، ليقفوا على مدى مصابهم يقول زيد بن ثابت رضي الله عنه: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد أطلب سعد بن الربيع، فقال لي: "إن رأيته فأقرئه مني السلام، وقل له: يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تجدك"؟.
فجعلت أطوف بين القتلى، فأتيته، وهو بآخر رمق، وفيه سبعون ضربة، ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم، فقلت: يا سعد، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ عليك السلام، ويقول لك: "أخبرني كيف تجدك"؟.
فقال سعد: وعلى رسول الله السلام، قل له: يا رسول الله أجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله إن خلص عدوكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم عين تطرف، وفاضت نفسه من وقته فجاء زيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره خبره2.
__________
1 فتح الباري ج7 ص347.
2 المغازي ج1 ص292، 293.
يقول ابن إسحاق: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم -فيما بلغني- يلتمس حمزة بن عبد المطلب وجعل يقول: "ما فعل عمي"؟. ويكرر ذلك، فخرج الحارث بن الصمة يلتمسه فأبطأ، فخرج علي فوجد حمزة ببطن الوادي مقتولا، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فخرج يمشي حتى وقف عليه فوجده قد بقر بطنه عن كبده، ومثل به، فجدع أنفه، وأذناه، فنظر إلى شيء لم ينظر إلى شيء قط كان أوجع لقلبه منه، ونظر وقد مثل به.
فقال صلى الله عليه وسلم: "أحتسبك عند الله رحمة الله عليك يا عمي، فإنك كنت كما علمتك فعولا للخير، وصولا للرحم، ولولا حزن من بعدي عليك، وتكون سبة من بعدي لتركتك، حتى تحشر في بطون السباع، وحواصل الطير" 1.
ثم قال صلى الله عليه وسلم لمن حوله: "أبشروا جاءني جبريل فأخبرني أن حمزة مكتوب في أهل السماوات السبع، حمزة بن عبد المطلب أسد الله، وأسد رسوله صلى الله عليه وسلم".
وقال صلى الله عليه وسلم: "لئن أظهرني الله تعالى على قريش في موطن من المواطن لأمثلن ثلاثين رجلا منهم" 2.
فلما رأى المسلمون حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغيظه على من فعل بعمه ما فعل قالوا: والله لئن ظفرنا الله تعالى بهم يومًا من الدهر لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب, وفي توعده صلى الله عليه وسلم وتوعد أصحابه لكفار مكة مخالفة للعقوبة الشرعية المقررة، ولذلك نزل جبريل والنبي صلى الله عليه وسلم واقف عند أحد بعد مقالته بخواتيم سورة النحل وفيها يقول الله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} 3.
فكفر النبي صلى الله عليه وسلم عن يمينه وأمسك عن الذي أراد وصبر، وفعل أصحابه مثل ما فعل4 يقول ابن إسحاق أيضًا: وأقبلت صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها لتنظر إلى حمزة وكان أخاها لأمها وأبيها، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تراه، فقال صلى الله عليه وسلم: "المرأة. المرأة".
__________
1 أسباب النزول للنيسابوري ص164.
2 سيرة النبي ج2 ص96، بغية الرائد ج6 ص173 وفيه: سبعون بدل ثلاثين.
3 سورة النحل: 126.
4 أسباب النزول ص164.
فقال الزبير بن العوام: فتوسمت أنها أمي صفية.
فقال صلى الله عليه وسلم له: "القها فأرجعها لا ترى ما بأخيها". فخرج الزبير يسعى فأدركها، قبل أن تنتهي إلى القتلى، فردها فلكمت صدره، وكانت امراة جلدة وقالت: إليك عني لا أرض لك1.
فقال الزبير لها: يا أمه إن رسول الله يأمرك أن ترجعي.
قالت: ولِمَ؟ وقد بلغني أنه قد مثل بأخي, وذلك في الله، فما أرضانا بما كان من ذلك فلأصبرن، وأحتسبن إن شاء الله.
فجاء الزبير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره.
فقال صلى الله عليه وسلم: "خل سبيلها".
فأتته فنظرت إليه، واسترجعت، واستغفرت له2.
وروى الإمام أحمد وأبو يعلى والبزار عن الزبير والطبراني بسند رجاله ثقات، عن ابن عباس: أن صفية رضي الله عنها أتت بثوبين معها فقالت: هذان ثوبان جئت بهما لأخي حمزة، فقد بلغني مقتله فكفنوه فيهما.
يقول ابن عباس رضي الله عنه: فجئنا بالثوبين لنلفه فيهما، فإذا إلى جنبه رجل من الأنصار، فعل به مثل ما فعل بحمزة، فوجدنا غضاضة وحياء أن نكفن حمزة في ثوبين، والأنصاري لا كفن له.
فقلنا: لحمزة ثوب، وللأنصاري ثوب، فكان أحدهما أكبر من الآخر، فأقرعنا بينهما فكفنا كلا منهما في الثوب الذي صار3.
وأراد أبو قتادة الأنصاري رضي الله عنه أن ينال من قريش، لما رأى من غم رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل حمزة وما مثل به، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يشير إليه أن اجلس وكان قائمًا، ثم قال صلى الله عليه وسلم له: "يا أبا قتادة، إن قريشًا أهل أمانة من بغاهم العواثر أكبه الله تعالى لفيه، وعسى
__________
1 بغية الرائد في تحقيق مجمع الزوائد ج6 ص170.
2 سيرة النبي ج2 ص97.
3 بغية الرائد في تحقيق مجمع الزوائد ج6 ص170.
إن طالت بك حياة أن تحقر عملك مع أعمالهم، وفعالك مع فعالهم، ولولا أن تبطر قريش لأخبرتها بما لها عند الله تعالى" 1.
فقال أبو قتادة: يا رسول الله، ما غضبت إلا لله عز وجل، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، حين نالوا من حمزة ما نالوا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدقت، بئس القوم كانوا لنبيهم".
ووجد المسلمون في الجرحى الأصيرم -عمرو بن ثابت- وبه رمق يسير، وكانوا من قبل يعرضون عليه الإسلام فيأباه، فقالوا: إن هذا الأصيرم ما جاء به؟
لقد تركناه وإنه لمنكر لهذا الأمر، ثم سألوه: ما الذي جاء بك؟ أحربًا على قومك أم رغبة في الإسلام؟
فقال: بل ربغة في الإسلام، آمنت بالله ورسوله وأسلمت ثم أخذت سيفي فغدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قاتلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصابني ما ترون، ومات من وقته، فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "هو من أهل الجنة" 2.
ووجدوا في الجرحى قزمان, وكان قد قاتل قتال الأبطال، قتل وحده سبعة، أو ثمانية من المشركين, وجدوه قد أثخنته الجراح، فاحتملوه إلى دار بني ظفر، وبشره المسلمون, فقال: والله ما قاتلت إلا عن أحساب قومي، ولولا ذلك ما قاتلت، فلما اشتد به الجراح نحر نفسه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا ذكر له: "إنه من أهل النار" 3.
__________
1 إمتاع الأسماع ج1 ص145.
2 الفتح الرباني لترتيب مسند أحمد الشيباني ج22 ص203.
3 المغازي ج1 ص224.
رابعًا: نتائج المعركة
اختلفت نتيجة معركة "أحد" عن نتيجة معركة "بدر" فقد استشهد من المسلمين عدد كبير ما بين السبعين إلى خمسة وسبعين شهيدًا، ولحقت الجراح بسائر أفراد الجيش الإسلامي، ولم يقتل من المشركين إلا أربعة وعشرون رجلا، ولم يؤسر منهم أحد مع قلة الجرحى منهم.
يروي الإمام أحمد والشيخان والنسائي عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: أصاب المشركون منا يوم أحد سبعين1.
وروى ابن حبان والحاكم والبيهقي عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: أصيب يوم أحد من الأنصار أربعة وستون ومن المهاجرين ستة يقول الحافظ: وكان الخامس سعد مولى حاطب بن أبي بلتعة، والسادس ثقف بن عمرو الأسلمي حليف بني عبد شمس2.
ونقل الحافظ محب الدين الطبري عن الإمام مالك رحمه الله أن شهداء "أحد" خمسة وسبعون من الأنصار، أو أحد وسبعون.
وعن الإمام الشافعي رحمه الله أنهم اثنان وسبعون شهيدًا3.
وقد دفن الشهداء بملابسهم التي كانوا يلبسونها، بلا غسل ما عدا حمزة وأبا حنظلة فقد غسلتهم الملائكة.
وأما الصلاة عليهم فقد روى ابن إسحاق عن من لا يتهم عن مقسم عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بعمه حمزة فسجي ببردة، ثم صلى عليه فكبر سبع تكبيرات، ثم أتى بالقتلى ووضعهم بجوار حمزة وصلى عليهم واحدًا بعد واحد، فصلى عليه وهو مع كل منهم ثنتين وسبعين صلاة4.
__________
1 الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد الشيباني ج21 ص53.
2 فتح الباري ج7 ص351.
3 يرجح المفسرون أن عدد الشهداء سبعون شهيدًا ويستدلون بقوله: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} لأن المسلمين أصابوا المشركين يوم "بدر" بمائة وأربعين ما بين قتيل وأسير، والآية تشير إلى أن إصابة المشركين في "بدر" ضعف إصابة المسلمين في "أحد".
4 سيرة النبي ج2 ص98.
ولم يأخذ بهذا الحديث فقهاء الحجاز ولا الأوزاعي، وذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على أحد من الشهداء، واستدلوا على رأيهم بوجوه:
الوجه الأول:
ضعف إسناد هذا الحديث؛ لأن ابن إسحاق قال: حدثني من لا يتهم، يعني: الحسين بن عمارة -فيما ذكروا- ولا خلاف في ضعف الحسين بن عمارة عند أهل الحديث، وأكثرهم لا يرونه شيئًا، وإن كان الذي عناه ابن إسحاق في قوله: حدثني من لا أتهم غير الحسين، فهو مجهول، والجهل يضعف الحديث، وكل الروايات الواردة في هذا الموضوع تعتمد على رواية ابن إسحاق وبذلك تكون كل الروايات ضعيفة.
الوجه الثاني:
حديث الصلاة على شهداء أحد لم يصحبه العمل بما دل عليه، لأن الثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل على شهيد في شيء من مغازيه كلها ولم ترد رواية في هذا الشأن إلا هذه الرواية التي رواها ابن إسحاق في شهداء أحد.
وكذلك لم يثبت ولم يرو أن الخليفتين أبا بكر وعمر رضي الله عنهما صليا على شهداء أبدًا وحكمة عدم الصلاة على الشهداء والله أعلم، تحقيق حياة الشهداء، ومعاملتهم معاملة الأحياء تصديقًا لقوله سبحانه: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} 1 فالتعامل معهم على اعتبار هذه الحياة التي ذكرتها الآية.
والقائلون بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل على الشهداء يؤولون ما رواه الشيخان من أنه صلى الله عليه وسلم صلى على قتلى أحد، ويذكرون أن ذلك كان بعد ثماني سنوات حيث صلى عليهم صلى الله عليه وسلم كالمودع للأحياء والأموات، فيكون المراد بالصلاة حينئذ الدعاء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو للموتى عمومًا بلا تكبير، ولا نية2.
يروي البخاري بسنده عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على قتلى "أحد" بعد ثماني سنين، كالمودع للأحياء والأموات، ثم طلع المنبر، فقال: "إني بين
__________
1 سورة آل عمران: 169.
2 الروض الأنف ج3 ص178.
أيديكم فرط، وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض, وإني لأنظر إليه من مقامي هذا، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها" 1.
يؤيد ذلك ما رواه البخاري بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد، في ثوب واحد ثم يقول: "أيهم أكثر أخذًا للقرآن"؟. فإذا أشير له إلى أحد، قدمه في اللحد وقال صلى الله عليه وسلم: "أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة"، وأمر بدفنهم بدمائهم، ولم يصل عليهم ولم يغسلوا2.
الوجه الثالث:
إن المسلمين حملوا قتلاهم إلى المدينة، ودفنوهم بالبقيع، ولم يتمكنوا من إعادتهم إلى "أحد" ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليهم لدفنهم عقب الصلاة كما رغب.
ومما يذكر هنا أن الناس، أو عامتهم قد حملوا قتلاهم إلى المدينة، ودفنوهم بالبقيع، فلما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بردهم إلى أحد لم يتمكنوا من ذلك، ولم يردوا إلا رجلا واحدًا أدركه المنادي قبل أن يدفن، وهو شماس بن عثمان المخزومي رضي الله عنه، الذي حمل إلى المدينة وبه رمق فأدخل على عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم.
فقالت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: ابن عمي يدخل على غيري!
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: احملوه إلى أم سلمة، فحمل إليها فمات عندها.
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برده إلى "أحد"، فرد إليها، ودفن هناك كما هو في ثيابه التي مات فيها بلا غسل ولا صلاة، وكان قد مكث يومًا وليلة في المدينة ولكنه لم يذق شيئًا, وما ذهب إليه فقهاء الحجاز أقرب للفضل لأن ترك الصلاة عليهم إقرار باستمرار حياتهم، وفي ترك الغسل محافظة على أسر عبادة قاموا بها لأن الشهيد يأتي يوم القيامة وجرحه يثغب دمًا اللون لون الدم، والريح ريح المسك فكيف نزيل عنه هذا الطيب، ونحرمه من أثر العبادة المشرق.
ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من دفن الشهداء جمع أصحابه، وقال لهم: "تعالوا نثني على الله". وصفهم صفين، وجعل النساء خلفهم، ثم دعا صلى الله عليه وسلم فقال:
__________
1 صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة أحد ج6 ص286.
2 صحيح البخاري كتاب المغازي باب من قتل من المسلمين يوم أحد ج6 ص306.
"اللهم لك الحمد كله, اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مباعد لما قربت! اللهم ابسط علينا من بركاتك، ورحمتك، وفضلك، وعافيتك، ورزقك!
اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول!
اللهم إني أسألك العون يوم العيلة، والأمن يوم الخوف، والغناء يوم الفاقة.
اللهم إني أعوذ بك من شر ما أعطيتنا، ومن شر ما منعت منا!
اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين! اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين!
اللهم عذب الكفرة الذين يكذبون رسولك، ويصدون عن سبيلك!
اللهم أنزل عليهم رجسك وعذابك! اللهم اقتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحق! آمين" 1.
وبعدها أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم سيره إلى المدينة في جو من الألم والأسف.
وامتلأت بيوت الأنصار والمهاجرين بالحزن على قتلاهم، فلما رجع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة سالمًا وجد الجميع العزاء في سلامته صلى الله عليه وسلم فواساهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبشرهم بأن ذويهم في الجنة وأنهم سيشفعون لهم، فرضوا بما قدر لهم، وصبروا على ما أصابهم، وهو أليم شديد.
لقد قتل من بني عبد الأشهل اثنا عشر رجلا، وجاءت أم سعد بن معاذ فعزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ابنها عمرو بن معاذ، وقال لها: "يا أم سعد أبشري، وبشري أهليهم أن قتلاهم ترافقوا في الجنة جميعًا، وقد شفعوا في أهليهم".
قالت: رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن يبكي عليهم بعد هذا.
ثم قالت: ادع يا رسول الله لمن خلفوا.
قال صلى الله عليه وسلم: "اللهم أذهب حزن قلوبهم، وأجبر مصيبتهم، وأحسن الخلف على
__________
1 بغية الرائد في تحقيق مجمع الزوائد ج6 ص177 يقول الهيثمي ورجاله رجال الصحيح.
من خلفوا"1.
ثم قال صلى الله عليه وسلم لأبي عمرو سعد بن معاذ: "يا أبا عمرو، إن الجراح في أهل دارك فاشية، وليس منهم مجروح، إلا يأتي يوم القيامة وجرحه كأغرز ما كان، اللون لون الدم، والريح ريح المسك، فمن كان مجروحًا، فليقر في داره، وليداري جرحه، ولا يبلغ معي بيتي، عزمة مني"، وكان في بني عبد الأشهل وحدهم ثلاثون جريحًا يوم "أحد".
فنادى فيهم سعد: عزمة من رسول الله ألا يتبعه جريح من بني عبد الأشهل.
فتخلف الجرحى، وباتو,
ترك المسلمون مكة، وتركوا فيها أموالهم، وديارهم، ليحافظوا على دينهم، ويتحركوا به للناس في أمن واستقرار، ولم يرتض القرشيون ذلك، فاستولوا على الأموال واغتصبوا الدور، وحرموا المهاجرين من اصطحاب نسائهم، وذراريهم، ومنعوهم من دخول المسجد الحرام.
وحاولوا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعقبوه أثناء هجرته، وأخذوا يؤلبون أعراب البوادي ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أن "كرز بن جابر الفهري" أغار على المدينة1 واستاق بعض إبلها استهانة بقوة المسلمين.
وحاول القرشيون تأليب غير المسلمين من سكان المدينة فأخذ اليهود وعبدة الأصنام، والمنافقون يجاهرون بعداوتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ووجد المسلمون أنفسهم أمام عداوة ظاهرة، وحرب موجهة إليهم من كل جانب، ورأوا أن قريشًا تعمل بلا كلل في تكثير أعداء الإسلام، وتوحيد أنشطتهم، وأعمالهم لمحاصرة المسلمين في المدينة، والقضاء عليهم.
رأى المسلمون ذلك، فتيقنوا من ضرورة العمل لحماية دينهم، وموطنهم، وأنفسهم، وتأكدوا من أهمية التأهب، والاستعداد لمواجهة هذا الإجرام المتنامي من أعداء الله تعالى.
إن للمسلمين حقوقًا تركوها في مكة، فعملوا للوصول إليها وأخذها ليفيق المكيون من غيهم، ويتعلموا أن الأمن لن يتحقق لهم إلا بأداء حقوق الآخرين، وليعرفوا أن المهاجرين ليسوا هملا لا حقوق لهم، وليسوا جماعة خائفة لا تقدر على المواجهة.
وكان الله تعالى مع حق المسلمين العادل، فأمرهم بالاستعداد، والتهيؤ، للتصدي لأعدائهم، وأنزل قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ
__________
1 فتح الباري ج7 ص850.
رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} 1.
وقوله تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا} 2.
والآيات واضحة الدلالة في أن إعداد القوة، والتهيئة للقتال، وقبول التضحية، يضمن الحقوق، ويمنع الحرب؛ لأن العدو المعتدي إذا رأى أمامه قوة تخيفه، وترهبه يمسك عن الظلم، ويخشى عاقبة عدوانه على غيره.
وإعداد القوة يرهب عدو المسلمين الظاهر، وهم أهل مكة، ويرهب كذلك العدو المستتر وهم المنافقون، واليهود، ومن على شاكالتهم من الأعراب والرعاة.
وكانت السرايا والغزوات قبل بدر جزءًا من هذا الاستعداد، والمواجهة، وقد اشترك في هذه السرايا المهاجرون وحدهم لأنهم أصحاب حق مسلوب يبحثون عنه، ولذلك قصدوا القوافل التجارية لأهل مكة الذاهبة إلى الشام، أو العائدة منها, وفي نفس الوقت لإظهار قوتهم وعزيمتهم، وشجاعتهم أمام أعدائهم.
ونلاحظ حكمة التوجيه النبوي لأصحابه في هذه السرايا والغزوات، فلقد تم توجيهها إلى أماكن عديدة، وإلى قبائل مختلفة تقطن الطرق بين مكة والمدينة.
كما نلاحظ أن السرايا كما قصدت القوافل المتجهة إلى الشام قصدت القوافل المتجهة إلى اليمن أيضًا في مكان وزمن لم يتوقعه القرشيون، ذلك أن سرية عبد الله بن جحش اتجهت إلى "نخلة" وهي مكان بين مكة والطائف في الطرق المتجهة إلى الجنوب وكان هدف هذه السرية هو المراقبة والاستطلاع.
وقضى الله تعالى بنجاة كل قوافل قريش، وعدم وقوع إحداها في يد المهاجرين ولذلك بقي الأمر على ما كان عليه، واستمر الإذن بالقتال للمظلومين الذين أخرجوا
__________
1 سورة الأنفال: 60.
2 سورة النساء: 84.
من ديارهم، وسلبت أموالهم.
وفي غزوة العشيرة خرج عدد من المسلمين بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم للتصدي لقافلة قرشية أثناء ذهابها إلى الشام، ولكنها أفلتت منهم، فأخذ المسلمون يترقبون رجوعها، وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم طلحة بن عبيد الله، وسعد بن زيد، إلى شمال المدينة لاكتشاف القافلة حين رجوعها، فقبعا في "الحوراء"1 حتى مرت بهم راجعة، فأسرعا إلى المدينة، وأخبرا رسول الله صلى الله عليه وسلم برجوعها2.
كانت القافلة مكونة من ألف بعير محملة بثروات ضخمة، وكان يحرسها أربعون قرشيًا بقيادة أبي سفيان بن حرب3.
إن الاستيلاء على هذه القافلة فرصة طيبة للمهاجرين، وضربة قاصمة لأهل مكة، وإعلان واضح يظهر قوة المسلمين، ويبين حرصهم على نيل حقوقهم، ومدى عزتهم وشجاعتهم.
أخذت الأحداث تجري بقدر الله إلى حيث يشاء وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها" 4.
فخرج عدد قليل بأسلحة عادية ظنًا منهم أنها واحدة من السرايا السابقة، وبخاصة أن الرسول لم يأمر بقتال، ولم يكلفهم به، وكانت الحالة التي تصورها المسلمون أن الخروج خاص بالمهاجرين ليأخذوا أموال القافلة عوضًا عن أموالهم، والذين خرجوا من الأنصار خرجوا لمساعدة إخوانهم، نظرًا لضخامة القافلة، ومصاحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
1 الحوراء بفتح الحاء وسكون الواو مكان يقع شمال المدينة.
2 المغازي ج1 ص20.
3 سيرة النبي ج1 ص606.
4 بغية الرائد في تحقيق مجمع الزوائد ج6 ص67.