تمهيد:
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العالم كله فأخذ يبلغ الإسلام، ويتحرك به وفق منهج واقعي، فبدأ بالدعوة في مكة حيث بدأ نزول الوحي فيها، واستمرت الدعوة في مكة موطنها الأول ثلاثة عشر عامًا، تنوعت فيها الوسائل، وتعددت الأساليب، وتحمل المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مسئولية تبليغ الإسلام، ونشره بين الناس.
ومع أن الإسلام دين الخلق الكريم، والمعاملات النبيلة، والعقيدة الصافية الصادقة، ومسلكه الحسن الدائم، وغايته تكريم الإنسان، والمحافظة على كافة الحقوق وتحقيق السعادة الحقيقية في الدنيا والآخرة.
رغم أن الإسلام هكذا فإن أهل مكة، وبخاصة كبراؤها وسادتها لم يؤمنوا بدعوة الله، وإنما أخذوا في ردها، وصد الناس عنها، يدفعهم الحقد، وتغذيهم العصبية، ويحركهم الحرص على وضعيتهم الظالمة التي جعلوها منهج حياتهم.
وقد رأينا في دراسة العهد المكي مدى عدوانية كفار مكة، واضطهادهم لكل من أسلم ووقوفهم سدًا يصد الناس عن استماع دعوة الله, وأخذوا يتهمون محمدًا صلى الله عليه وسلم بالأكاذيب المضللة حتى لا يسمعه أحد، مستفيدين من كثرتهم ومنزلتهم في قلوب الناس وتحكمهم في التجارة والمال، وقد نجحوا في عدوانيتهم إلى حد بعيد.
إن عرب الجزيرة كانوا يقولون: "أهل الرجل أعرف به" فنأوا بأنفسهم عن الصراع الموجود في مكة، منتظرين نتائجه ليتخذوا بعد ذلك الموقف الذي يرونه.
لقد دخل في الإسلام عدد قليل من مكة، ولو استمر إيمان الناس بالوتيرة التي سارت عليها خلال العهد المكي لاحتاج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الزمن كله ليصل الإسلام إلى الناس في العالم كله، لأن جملة من دخل في الإسلام خلال العهد المكي لم يزد عن المائتين إلا قليلا، على خوف من طواغيت مكة واعتداء كبرائها.
أمام هذا كان لا بد لدعوة الله تعالى أن تتخذ منهجًا جديدًا، ومسارًا آخر تحقق
به انطلاقة كبرى للإسلام.
وكان قدر الله تعالى مع حاجات الدعوة وواقعها، ومع آمال رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين فأمرهم بالهجرة العامة من مكة إلى بلد آخر.
وقد سبق للمسلمين أن هاجر نفر منهم إلى الحبشة، تدريبًا لهم على ترك مكة، واكتشافًا لمعرفة حياة الآخرين ومذاهبهم، وليعلموا أن ترك الديار والأهل والمال والولد من أجل العقيدة والدين أمر مشروع، ولربما كان واجبًا حين لا يأمن المسلم على دينه وعقيدته.
وقد بلغ عدد المهاجرين إلى الحبشة قريبًا من ثمانين مسلمًا ومسلمة، ولذلك فهي هجرة خاصة في عدد المهاجرين وفي الأهداف المقصودة، أما الهجرة إلى المدينة فإنها تعرف بالهجرة العامة لأن جميع المسلمين كلفوا بها كما تعرف بالهجرة النبوية لأن النبي صلى الله عليه وسلم هاجر فيها مع المسلمين.
ولما اشتد عنت الكفار، وغلظ عدوانهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه نزل أمر الله تعالى بالهجرة إلى المدينة, فهاجر إليها المسلمون جميعًا ومعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم1.
والحديث عن الهجرة يتناول النقاط التالية:
النقطة الأولى: تحديد موطن الهجرة.
النقطة الثانية: أهمية الهجرة.
النقطة الثالثة: تنظيم الهجرة.
النقطة الرابعة: وقفات بارزة في الهجرة.
وذلك في الصفحات التالية:
والله الموفق.
__________
1 انظر سيرة ابن هشام ج1 ص480.
,
إن ترك موطن الصبا والبعد عن الأهل والأحبة إلى مكان جديد لشاق على النفس يحتاج إلى تفهم لسببه، واقتناع بأهميته، والوقوف على الغايات السامية التي تقتضيه.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم صعوبة الأمر بالهجرة على أصحابه ولذلك تدرج في أمرهم بالهجرة، وإخبارهم بمكانها ووجهتها.
ففي البداية قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "إني أريت دار هجرتكم، ذات نخل بين لابتين"1.
فبدأهم بأنها رؤيا منامية، ورؤيا الأنبياء حق، ولم يحدد لهم مكان الهجرة لتنشغل نفوسهم بالبحث عنها والتفكير في شأنهم معها، وليعلموا أنها حصينة لوصفها بأنها بين لابتين، وغنية لأنها ذات نخل.
وقد ظن الصحابة بعد أن أخبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم برؤياه تلك أنها اليمامة2.
أو هجر3، أو يثرب4، أو قنسرين5 لوجود الصفات التي أخبرهم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، ومع هذا الظن لم يتصرفوا من تلقاء أنفسهم وإنما انتظروا تحديد دار هجرتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبدو أن هذا التحديد تم بعد مراحل تمهيدية.
ففي المرحلة الأولى أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم برؤياه.
يحدث أبو موسى الأشعري أن البداية كانت في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلي إلى أنها اليمامة، أو هجر
__________
1 صحيح البخاري كتاب المناقب ج6 ص208, واللابة الأرض الصخرية المرتفعة، وهي الحرة.
2 اليمامة تقع في الجنوب الغربي لجزيرة العرب. فتحها خالد بن الوليد وقتل فيها مسيلمة سنة 12هـ.
3 بلد معروف بالبحرين يسكنها عبد القيس، وبها كانت تصنع القلال التي كانت تباع بالمدينة.
4 هي مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سماها صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة طابة وطيبة.
5 قنسرين بكسر القاف وفتح النون الأولى مشددة، وهي إحدى مدن بلاد الشام.
فإذا هي المدينة " يثرب""1.
وبعد ذلك نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم يخيره في الهجرة إلى واحد من أماكن ثلاثة هي: المدينة، أو البحرين، أو قنسرين فعن جرير بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله أوحى إليّ أي هؤلاء الثلاث نزلت فهي دار هجرتك، المدينة، أو البحرين، أو قنسرين" 2.
ثم كان تحديد دار الهجرة بعد ذلك، يروي الترمذي في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أخبر أصحابه بالهجرة من مكة بأيام خرج إليهم مسرورًا، وهو يقول لهم: "قد أخبرت بدار هجرتكم وهي يثرب، فمن أراد الخروج فليخرج إليها" 3.
وإنما كان التدرج حول أمر الهجرة لحال المهاجرين حتى يسهل عليهم ترك الأهل والدار، وربما كان لأحدهم ارتباط معين يحتاج إلى وقت لينتهي منه ويؤدي ما عليه.
ولعل تأخير تحديد المكان يؤدي إلى صرف أذهان القرشيين عن أهمية الهجرة، وإدراك خطورتها عليهم وعلى تجارتهم لأنهم كانوا يخافون من دخول أهل المدينة في الإسلام لتأثيرهم على أهل مكة وبخاصة إذا انضم الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم، وقادهم بدينه الذي يدعو إليه.
ولم يتصور أهل مكة أن الهجرة هذه المرة ستكون شاملة للرسول والمسلمين جميعًا وظنوها واحدة تشبه سابقيها، ولذا لما بدأ المسلمون في الرحيل إلى المدينة لم يتعرض لهم أحد، مع أنهم كانوا يخرجون أرسالا4 ظنًا من أهل مكة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لن يلحق بهم كما فعل مع مهاجري الحبشة.
وقد رحلت عائلات بأكملها فقبيلة بني غنم رحل منهم، أربعة عشر رجلا، وسبع نسوة، كما تحرك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأهله، وعشيرته وحلفاؤه في عشرين رجلا وامرأة.
واستمر رحيل المسلمين من مكة حتى لم يبق منهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنوه، وأبو بكر وبنوه، وعلي بن أبي طالب، وأسامة بن زيد حيث أبقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر الله تعالى، فلما علم أهل مكة بإعداد الرسول صلى الله عليه وسلم للهجرة خافوا من الأمر ووقع في أيديهم، فأخذوا في التخطيط لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا يقع ما يحذرون منه.
__________
1 صحيح البخاري كتاب مناقب الأنصار باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ج7 ص226.
2 سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي. ك المناقب. باب فضل المدينة ج10 ص292.
3 سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي. ك المناقب. باب فضل المدينة ج10 ص292.
4 أرسالا: أي جماعة إثر جماعة.
,
الهجرة هي الترك مطلقًا، وتشمل ترك المحسوسات والمعنويات ولذلك فهناك ترك المعاصي، وترك الأفكار الضالة، وهناك ترك الديار والبلاد والرحيل عنها إلى مكان آخر، وكلاهما هجرة وترك، والفاعل لأحدهما مهاجر وتارك.
ومن الهجرة الحسية ما تقوله الملائكة للمستضعفين الذين ظلموا أنفسهم، وبقوا تحت سيطرة الطغاة أذلاء مستعبدين ليقيموا عليهم الحجة، ويبينوا لهم أن الضعف معصية وجريمة يعاقب الله من رضي به، وهو قادر على الخلاص وذلك في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} 1.
ومن الهجرة المعنوية جاء قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه" 2.
وقد هاجر المسلمون إلى الحبشة تاركين مكة وما فيها من ضلال وشرك، فهي هجرة حسية، وهجرة معنوية معًا.
والهجرة إذا أطلقت فإنها تنصرف إلى هجرة المسلمين ومعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
1 سورة النساء: 97.
2 صحيح البخاري كتاب الإيمان ج1 ص53 وهذه رواية الحميدي ط الأوقاف.
من مكة إلى المدينة المنورة، والذين قاموا بالهجرة هم المهاجرون الذين قال الله فيهم: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} 1.
ويندرج معهم كل من ترك موطنه أيا كان موقعه، ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة يقول ابن الأثير: "والمراد بالمهاجر في الشريعة من فارق أهله، ووطنه، وجاء إلى بلد الإسلام، وقصد النبي صلى الله عليه وسلم رغبة فيه، وإيثارًا له"2.
وكلام ابن الأثير لا يقيد الهجرة بمكان خاص وإنما يجعل الهجرة شاملة لأى مكان ما دامت تقصد الرسول صلى الله عليه وسلم في بلد الإسلام رغبة في صحبته، وإيثارًا للتعلم منه، وابتعادًا عن أعداء الله الذين يبغونهم الفتنة والضرر.
وعلى ذلك فمن ترك دار الشرك، ولحق بدار الإسلام فهو مهاجر، يقول ابن عباس رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر من المهاجرين، لأنهم هجروا دار الشرك إلى دار الإسلام، وكان من الأنصار مهاجرون تركوا المدينة يوم أن كانت دار شرك وقصدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة"3.
والهجرة المقصودة من الدراسة هي الهجرة إلى المدينة المنورة.
وترجع أهمية الهجرة إلى المدينة المنورة إلى أنها تمثل الانطلاقة الكبرى لانتشار الإسلام بعد ما وقف أهل مكة من الإسلام والمسلمين موقف العنت والكبرياء، وأخذوا يصدون عن سبيل الله بكل وسيلة ممكنة، مهما كان فيها من الكذب والغلو والبعد عن الحق والسداد.
يصور القرآن الكريم موقف أهل مكة من الدعوة إلى الله تعالى ويبين بوضوح أنهم لم يتدبروا حقيقتها، ولم يتفهموا ما تدعوهم إليه، وإنما كانت اعتراضاتهم تتسم بالفوضوية، واللجوء إلى السفه والجهل، وتبتعد ابتعادًا كليًا عن المناقشة الهادفة الصحيحة.
__________
1 سورة الحشر: 8.
2 جامع الأصول ج1 ص241.
3 انظر ص468 من الكتاب الثاني.
فالرسول صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى دين الله تعالى، ويدلل على الحق بالحسنى، ويبين الإسلام بكافة الوسائل والأساليب، ويقدم أمامهم الآيات الواضحات، ومع ذلك استمروا على عنتهم وغلوهم متعللين بالحجج الواهية والأجوبة الباهتة.
فمرة يبرزون تميزهم بالغنى المادي والوجاهة الاجتماعية والسلطان القوي وما دروا أن ما هم فيه من فضل هو من الله، والأولى بهم أن يشكروا الرازق المعطي، يقول الله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} 1.
ومرة يطالبون الرسول صلى الله عليه وسلم بتبديل الآيات، والإتيان بغيرها، وكأنهم في حفلة راقصة، تغير فيها الراقصة الملابس مع كل مقطع وأغنية، متصورين رسول الله قادرًا على التغيير أو التبديل ... وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} 2.
ومرة يشعرون بالعجز، فيتهمون رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ليس فيه، ويصفونه بالكذب والسحر ومعاداة دين الآباء يقول الله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} 3.
ومرة يتعنتون في المناقشة، ويطلبون من الرسول أن يعيد لهم آباءهم من قبورهم ليشهدوا بصدقة, يقول الله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ
__________
1 سورة مريم: 73.
2 سورة يونس: 15.
3 سورة سبأ: 43.
حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 1.
ومرة يصيبهم الحنق والغيظ، وتتبدى منهم العداوة للمؤمنين يقول الله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} 2.
ومرة ينكرون الحق، الثابت مستدلين بعدم الفهم، وجنوحهم إلى الظن، والخيال يقول الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} 3.
ووصل الحال بأهل مكة أنهم حاولوا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة، وكان أن نجاه الله منهم.
وقد اشتد إيذاء الكفار لكل من أسلم لمنعهم من الإسلام، وإبعادهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولذلك كان الإذن بالهجرة نهاية لفترة مؤلمة عاشها المسلمون، وبداية لقوة الإسلام وتطبيقه في حركة الحياة والناس ... وكان هذا سبب رضى المؤمنين وسعادتهم.
لقد كانت هجرة المسلمين من مكة إلى المدينة مرحلة طبيعية، انطلقت فيها دعوتهم بعد حصارها الطويل، وكانت انفراجة حاسمة لا بد منها لنشر كلمة الحق بين القاضي والداني بلا عائق أو عناد.
وكان المسلمون قد أدركوا بعد أن استعصى عليهم الانطلاق إلى غايتهم الكبرى أن تغيير المكان والأقوام أمر ضروري لتحقيق النجاح المنشود.
__________
1 سورة الجاثية: 25.
2 سورة الحج: 72.
3 سورة الجاثية: 32.
ولم يعد ممكنًا للمسلمين أن يمارسوا نشاطهم المحدود المقيد في مكة بعد ثلاث عشرة سنة كانت محسوبة من عمر دعوتهم، وتيقنوا من حاجة الإسلام والمسلمين إلى منطلق أمين, يمكنهم من الوصول للناس في العالم كله, ولهذا كانت استجابتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمرهم بالهجرة إلى المدينة المنورة.
كانت الهجرة للمدينة إذن أمرًا ضروريًا، بعد أن هيأ أهلها للمسلمين المكيين الفرصة الطيبة للخلاص من مراقبة الأعداء، والبعد عن اضطهادهم وعنتهم.
كان المطلوب آنذاك أن يهاجر من مكة جميع القادرين على تركها، لتيخذوا المدينة مركزًا جديدًا للدعوة وقد تحقق هذا، ولم يبق في مكة إلا من حبس أو فتن.
ولا شك أن هجرة المسلمين كانت معروفة لأعدائهم لأنهم لم يكونوا يعيشون وحدهم في مجتمعات منعزلة، وإنما كانوا يعاشرون جماعات تعارضهم وتحرص على تعطيل دعوتهم، ولهم معهم كل يوم معارضات ومشاحنات، ولذلك كان أهل مكة يدركون رحيل المسلمين من بينهم كلما غابوا عنهم.
وخرج المسلمون من مكة غير آسفين عليها, وقدموا على المجهول تاركين أهلهم وأموالهم مرغمين، وكانوا مع ذلك راضين بالحياة الجديدة الآمنة، وكان طريق الهجرة مفتوحًا أمامهم فهاجر بعضهم أمام الناس، وتسلل بعضهم الآخر في ظلمات الليل في غفلة وستر.
ولم يكن في الهجرة عند بدايتها شيء من الخطر، ولم يقف أهل مكة ضدها، ولعلها كانت تبدو أمام المشركين نوعًا من الهروب من ميدان العمل، أو نوعًا من السلبية أمام الأخطار، ولعلهم قاسوها على هجرة المسلمين قبل ذلك إلى الحبشة، وظنوها مجرد رحيل فريق من المسلمين إلى غير بلدهم ليعيشوا غرباء مدة يعودون بعدها إلى مكة.
ولم يعجز القرشيون أن يوجدوا لأنفسهم بعض التعليلات المناسبة لأفهامهم، بسبب عدم معارضتهم للمسلمين وهم يرحلون عن مكة، فلقد تصوروا أن هجرة المسلمين راحة لهم مما يرون ويسمعون، وأملوا في افصل بينهم وبين رسولهم، وبخاصة
أن الرسول باق في مكة معهم كما تصوروا.
ولم يكن المسلمون آنذاك قوة تؤثر بالضرر على المنطقة أثناء الهجرة، فتركهم أعداؤهم يهاجرون بعد أن ضحوا بكل شيء في سبيل عقيدتهم، ولم يكن في الهجرة شيء من العنف أو الإثارة، ولذلك سمح القرشيون لكثير من المهاجرين بالهجرة بعد أن تركوا أموالهم وبيوتهم.
وبدت هجرة المسلمين أمام المشركين كأنها نوع من الهزيمة، أو صورة للفرار من ميدان التنافس والصراع.
إلا أن الهجرة لم تكن شيئًا من ذلك أبدًا؛ لأن المهاجرين ذهبوا إلى المدينة ليباشروا الأعمال الضخمة التي تخدم الدعوة، ويتحملوا مسئوليتها أمام الناس.
وقد تحول الإسلام بهم إلى مجتمع متكامل ينطق بالعمل والتطبيق في حيوية ونشاط، ويتوحد بأخوة العقيدة التي تربط بين القلوب والأرواح، وتجمع بين الأجساد والأعمال، وتجعل الطرق والهدف واحدًا، وتزيل جميع الفوارق المادية، وتقضي على غبش الهوى ونزغات الضلال.
إن المهاجرين لم يضيعوا وقتًا يخدمون فيه دينهم، وبخاصة بعد أن هاجر الجميع وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. لقد بدأت المواجهات الحاسمة، والأعمال المتتابعة في خدمة الدعوة إلى الله تعالى.
قد يتصور أحد أن هجرة المسلمين من مكة إلى المدينة المنورة كانت من أجل الراحة والهدوء، وإيثارًا للسلامة من اضطهاد يتعرضون له في مكة، أو سترًا لضعفهم وقلتهم, وكل هذا غير صحيح، ومردود.
أين هي السلامة وسط السرايا والغزوات التي اشتركوا فيها؟ والتي لم تنقطع طوال الفترة المدنية؟!
وأين هذا الهدوء وقد تحولت حياتهم كلها إلى عبادة، ودعوة، وجهاد؟
وأين هذا الضعف في المهاجرين وقد تنوعت غزواتهم في كل الجهات والقبائل المحيطة بالمدينة؟
إنهم هاجروا لله ورسوله، واستمروا على ذلك حتى ماتوا لله وروسوله.
وقد شجع المسلمون أهل مكة بصمتهم، وتواضعهم على قبول هذا التحليل الكاذب ليصرفوهم عن ملاحقتهم بالضرر.
وربما كان القرشيون يقنعون أنفسهم بقبول هذا الفهم ويصدقون خيالهم، ليفتخروا أمام الناس بانتصارهم على المسلمين بعد الخصومات الطويلة.
لقد تصور القرشيون صدق نظرتهم في المهاجرين لأن المهاجرين لم يتكلموا عن شيء، وكل ما اعتنوا به حين الهجرة هو خروجهم من مكة إلى حيث أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد بقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة ليكون آخر من يهاجر منها، ولعله كان يخشى على أصحابه إذا هاجر قبلهم فنصحهم بالرحيل قبله ليضمن لهم نوعًا من الأمن والسلامة، وليكون خلف ظهورهم كالقائد الذي اضطرته ظروف الحرب للانسحاب فإنه يبقى مع آخر المتراجعين من جيشه أملا في سلامتهم وتحقيقًا للغايات المطلوبة منهم.
ولعل الرسول صلى الله عليه وسلم كان يضلل أعداءه ببقائه بينهم ليوهمهم بأنه سيكون معهم بعد ذهاب أصحابه إلى المدينة, وبذلك تنتهي خطورته ويفقد أنصاره ويعيش صامتًا مداهنًا لأن القائد بمفرده لا يفعل شيئًا، وكل قوته في تنفيذ جنوده، واتباعهم لأوامره وتوجيهاته.
لقد تبخرت تصوراتهم كالسراب بعد أن هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولحق بأصحابه في المدينة، وبدأت دولة الإسلام تتعالى، وتنطلق في العالمين.
النقطة الثالثة: تنظيم الهجرة النبوية
,
هاجر المسلمون من مكة ورحلوا إلى المدينة ولم يبق في مكة أحد من المسلمين إلا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأبا بكر الصديق رضي الله عنه وأبناء أبي بكر، وأسامة بن زيد، وعامر بن فهيرة فلقد بقوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمره، وكان أبو بكر كثيرًا ما يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة.
فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبًا" 1، فيطمع أبو بكر أن يكون هو، وأخذ يستعد لذلك فابتاع راحلتين وحبسهما في داره، وأخذ في علفهما والاهتمام بهما، واستمر الحال على هذا مدة أربعة أشهر2 حتى تمت الهجرة النبوية، في إطار تنظيم قدرة الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم وقد اشتمل تنظيم الهجرة على ما يلي:
__________
1 صحيح البخاري كتاب المناقب ج6 ص208.
2 صحيح البخاري كتاب المناقب ج ص208.
أولا: تآمر القرشيين على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم
هاجر المسلمون إلى المدينة وبدأ أهل مكة يشعرون أن تجمع المسلمين في المدينة مع أهلها خطر عليهم، وبخاصة إذا لحق محمد صلى الله عليه وسلم بهم فأخذوا يتآمرون للقضاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بينهم قبل أن يتركهم إلى المدينة ويتعاظم شأنه.
يقول ابن إسحاق: ولما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صارت له شيعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم، ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم، وعرفوا أنهم قد نزلوا دارًا وأصابوا منهم منعة، فحذروا خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتمعوا له في دار الندوة، يتشاورون فيما يصنعون في أمره صلى الله عليه وسلم حين خافوه، وكان ذلك في شهر صفر من العام الثالث عشر للنبوة.
فلما غدوا في اليوم الذي اتعدوا له اعترضهم إبليس في هيئة شيخ جليل نجدي يتسم بالهدوء والوقار وعليه بتله1 فوقف على باب الدار فلما رأوه واقفًا على بابها، قالوا: من الشيخ؟
قال: شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى أن لا يعدمكم منه رأيًا ونصحًا.
قالوا: أجل، فأدخل فدخل معهم وقد اجتمع فيها أشراف قريش.
__________
1 في "بت" ... والبتلة والبت: الكساء الغليظ.
فقال بعضهم لبعض: إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم، فإنا والله ما نأمنه على الوثوب علينا مع من اتبعه من غيرنا، فأجمعوا فيه رأيًا.
قال قائل منهم: احبسوه في الحديد، وأغلقوا عليه بابًا، ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله، زهيرًا، والنابغة، ومن مضى منهم، حتى يصيبه ما أصابهم.
فقال الشيخ النجدي: لا والله، ما هذا لكم برأي، والله لئن حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه، فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينزعوه من أيديكم ثم يكاثروكم به حتى يغلبوكم على أمركم، ما هذا لكم برأي، فانظروا في غيره.
فتشاوروا ثم قال قائل منهم: نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلادنا، فإذا أخرج عنا فوالله ما نبالي أين ذهب ولا حيث وقع إذا غاب عنا، وفرغنا منه فأصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت.
فقال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حسن حديثه، وحلاوة منطقه، وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به، والله لو فعلتم ذلك ما أمنتم أن يحل على حي من العرب فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه، حتى يتابعوه عليه، ثم يسير بهم إليكم حتى يطأكم في بلادكم فيأخذ أمركم من أيديكم ثم يفعل بكم, دبروا فيه رأيًا غير هذا.
فقال أبو جهل بن هشام: والله إن لي فيه لرأيًا ما أراكم وقعتم عليه بعد.
قالوا: وما هو يا أبا الحكم؟
قال: أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابًا جليدًا نسبيًا وسيطًا فينا، ثم نعطي كل فتى منهم سيفًا صارمًا، ثم يعمدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد، فيقتلوه فنستريح منه، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعًا فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعًا، فرضوا منا بالعقل، فعقلناه لهم.
فقال الشيخ النجدي: القول ما قال الرجل، هذا الرأي الذي لا أرى غيره،
فتفرق القوم على ذلك، وهم مجمعون على تنفيذه1.
وقد وقع اختيارهم على أحد عشر رجلا من أكابر قريش وهم:
1- أبو جهل بن هشام.
2- الحكم بن أبي العاص.
3- عقبة بن أبي معيط.
4- النضر بن الحارث.
5- أمية بن خلف.
6- زمعة بن الأسود.
7- طعيمة بن عدي.
8- أبو لهب.
9- أبي بن خلف.
10- نبيه بن الحجاج.
11- منبه بن الحجاج.
اجتمع هؤلاء الرجال المختارون وفيهم أبو جهل بن هشام عند بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لتنفيذ المؤامرة المتفق عليها، فقال لهم أبو جهل وهم على بابه صلى الله عليه وسلم استهزاء وسخرية: إن محمدًا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم؛ ثم بعثتم من بعد موتكم فجعلت لكم جنان كجنان الأردن، وإن لم تفعلوا كان له فيكم ذبح ثم بعثتم من بعد موتكم، ثم جعلت لكم نار تحرقون فيها.
استمرت هذه الجماعة في حصارها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لتقتله فور خروجه إليهم، لكنه صلى الله عليه وسلم خرج عليهم وأخذ حفنة من تراب في يده وألقاها على رءوسهم وهم في عماية وغشاوة، ثم قال صلى الله عليه وسلم: "نعم أنا أقول ذلك، أنت أحدهم يا أبا جهل"، وأخذ الله تعالى على أبصارهم عنه فلم يروه صلى الله عليه وسلم، فجعل ينثر التراب على رءوسهم ويتلو هؤلاء الآيات من سورة يس، وفيها يقول الله تعالى: {يس، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ,
__________
1 سيرة النبي لابن هشام ج1 ص480-413.
إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ، لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ، لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ، وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} 1, فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قراءة هذه الآيات، لم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه ترابًا، ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب2.
__________
1 سورة يس: 1-9.
2 سيرة ابن هشام ج1 ص480.
ثانيًا: التخطيط للهجرة
قدرة الله غالبة، وأمره سبحانه وتعالى نافذ، وكان من اليسير أن يزيل الكفر والكافرين بـ: "كن", لكن إرادة الله قضت بجريان أمور الدعوة على عادة البشر وسنن الحياة، ليتملى المسلمون حركة القدرة الإلهية، وينظروا في مسار الأمور اعتبارًا وعظة، ولذلك كانت الهجرة عملا بشريًا، راعت كافة الاحتمالات، ورسمت منهجًا للحركة الصحيحة، وقد أعان الله تعالى رسوله والمسلمين على النجاح، وقدر لهم أن يتم أخطر عمل في حياة المسلمين بفكر البشر، ليكون دليلا للمستقبل ومبدأ للتأسي، وقد عالجت الخطة جميع الجوانب التي نلحظها في الأمور التالية:
1- الإعداد المسبق للهجرة:
أعد الرسول صلى الله عليه وسلم للهجرة عدتها قبل أن يتحرك من بيته.
تقول عائشة رضي الله عنها: فبينما نحن يومًا جلوس في بيت أبي بكر في نحر1 الظهيرة قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء متقنعًا2 في ساعة لم يكن يأتينا فيها!
__________
1 أي أول الزوال، وهو أشد ما يكون في حرارة النهار.
2 أي مغطيًا رأسه من شدة الحرارة.
فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر. تقول عائشة: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن، فأذن له.
فلما دخل صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: "أخرج من عندك".
فقال أبو بكر: إنما هم أهلك1 بأبي أنت يا رسول الله.
قال صلى الله عليه وسلم: "فإني قد أذن لي في الخروج".
فقال أبو بكر: الصحابة2 بأبي أنت يا رسول الله.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم".
قال أبو بكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بالثمن" 3.
قالت عائشة: فجهزناهما أحث الجهاز4 وصنعنا لهما سفرة في جراب5.
وقد نظم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الهجرة وحدد لجميع من سيساعده دوره وعمله، كما سيتضح ذلك من عمل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعبد الله بن أبي بكر، وعامر بن فهيرة، وعبد الله بن أريقط، وأسماء بنت أبي بكر.
2- مبيت علي رضي الله عنه على فراشه صلى الله عليه وسلم:
لما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الهجرة وعلمت قريش ذلك، وخافت على نفسها من أثر إيجاد قوة للمسلمين خارج مكة، قررت قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفق الخطة التي قرروها في اجتماع دار الندوة.
وفي الليلة التي عزم الرسول صلى الله عليه وسلم على الهجرة فيها، تجمع فتيان قريش حول
__________
1 أراد بذلك عائشة وأسماء، والمقصود أنهم من أهل دينك فلا تخش منهم، كما جاء في رواية موسى بن عقبة ففي روايته: "أخرج من عندك"، قال: لا عين عليك، إنما هما ابنتاي.
2 أي أريد مصاحبتك يا رسول الله.
3 مع أن أبا بكر أنفق الكثير من ماله على الدعوة ورسولها، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم حرص على دفع الثمن حتى لا تكون هجرته إلا من مال نفسه.
4 أفعل تفضيل من الحث وهو الإسراع، والجهاز: ما يحتاج إليه في السفر.
5 أي زادًا في جراب، وأصل السفرة الزاد ثم استعملت في وعاء الزاد، وإنما أرادت السيدة عائشة من اللفظة هنا أصلها اللغوي.
بيت النبي، يرصدونه حتى ينام، فيثبون عليه، فأخبر جبريل عليه الصلاة والسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمؤامرة القوم، وأمره أن لا يبيت هذه الليلة على فراشه الذي يبيت عليه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب: "نم على فراشي، وتسج ببردي هذا الحضرمي الأخضر، فنم فيه فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم" 1.
ولقد نجحت هذه الخطة نجاحًا واضحًا، فلقد رأى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخرج من بيته، ويضع على رءوسهم التراب، فجاء للفتيان وقال لهم: خيبكم الله، قد والله خرج عليكم محمد، ثم ما ترك فيكم رجلا إلا وقد وضع على رأسه ترابًا، أفما ترون ما بكم؟
فوضع كل رجل منهم يده على رأسه فإذا عليه تراب فظنوه بسبب الريح، أو بغيره، ولم يصدقوا الرجل في مقالته، واستمروا على ظنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخرج لرؤيتهم رجلا على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا ينظرون في الفراش بين الفينة والفينة فيجدون شخصًا مسجًا ببرد رسول الله، فيظنونه نائمًا ولذلك استمروا في مكانهم.
فلما جاء الصباح، وقام علي من نومه وخرج عليهم، علموا أنهم قد خدعوا، وقال بعضهم لبعض: لقد صدقنا الذي حدثنا2.
ونلاحظ دقة التخطيط وحسن الاختيار في مبيت علي رضي الله عنه مكان رسول الله، فلقد اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أخيه لينام مكانه لما في مبيته من تضحية، والموت فيها وارد، وما دام الأمر هكذا فلتكن التضحية بالأهل والأقارب أما في صحبة الهجرة فلقد اختار الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه ليعلم الجميع أن غاية رسول الله صلى الله عليه وسلم تبليغ رسالته التي كلف بها، ولو كان يقصد الزعامة لأخذ نفرًا من قبيلته مثل علي بن أبي طالب، أو حمزة بن عبد المطلب أو غيرهما.
ومن قدر الله أن الرجال الذين أحاطوا ببيت النبي صلى الله عليه وسلم انصرفوا عن اقتحامه وبقوا خارج الدار حتى الصباح، ولم يتعجل أهل مكة خبر مقتل محمد مع أن
__________
1 تهذيب السيرة ص112.
2 سيرة النبي لابن هشام ج1 ص483 بتصرف.
رجالهم جاءوا واستعدوا لتحقيق هذه الغاية.
يذكر السهيلي أن الرجال حينما هموا بالدخول لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعوا صياح امرأة من داخل الدار، فقال بعضهم لبعض: والله إنها لسبة في العرب أن يتحدث الناس عنا أنا تسورنا الحيطان على بنات العم، وهتكنا ستر حرمتنا1.
وهكذا جرى قدر الله، وخرج الرسول صلى الله عليه وسلم ليلا إلى دار أبي بكر، وصرف الله أهل مكة عن حراسة الطرق المؤدية إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ظنًا منهم أنهم أحكموا الخطة، ولن يتمكن محمد صلى الله عليه وسلم من الخروج من بيته ورجالهم يحيطون به.
ووصل محمد صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر فاصطحبه وذهبا سويًا إلى الغار.
3- الوصول إلى غار ثور:
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من داره ليلا وذهب مسرعًا إلى دار أبي بكر فوجده مستعدًا للرحيل، فخرجا سويًا من خوخة في ظهر بيت أبي بكر، وسارا معًا في نفس الليلة إلى الغار المتفق على الاختباء فيه، وعندما وصلا إلى الغار طلب أبو بكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينتظر حتى يدخل هو الغار ينظر ما فيه، وذلك من باب الحرص على سلامة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلربما كان في الغار حيوان مؤذ، يتصدى له أبو بكر فداء لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
عن ابن أبي مليكة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج هو وأبو بكر إلى ثور فجعل أبو بكر يكون أمام النبي صلى الله عليه وسلم مرة، وخلفه مرة، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: إذا كنت خلفك خشيت أن تؤتى من أمامك، وإذا كنت أمامك خشيت أن تؤتى من خلفك حتى انتهيا إلى الغار من ثور، قال أبو بكر: قف كما أنت حتى أدخل يدي فأحسه، وأقصه، فإذا كانت فيه دابة أصابتني قبلك. قال نافع2: فبلغني أنه كان في الغار جحر فألقم أبو بكر رجله ذلك الجحر تخوفًا أن تخرج منه دابة، أو شيء يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي الوصول للغار نلحظ الأعمال التالية:
- فلقد خرج الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر من الخوخة خلف البيت ليبتعدا عن أعين
__________
1 الروض الأنف ج1 ص229.
2 هو نافع بن عمر الجمحي الراوي عن ابن أبي مليكة.
القرشيين الذين يعملون على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم1 ومن المحتمل اهتمامهم بمراقبة بيت أبي بكر في هذه اللية الحاسمة.
- التحرك السريع ليلا فلقد وصل النبي وأبو بكر إلى الغار في نفس الليلة التي خرج فيها الرسول من بيته، مع أن جبل ثور يقع جنوب مكة بخمسة أميال، والطريق إليه وعر وشاق.
- الاتجاه نحو الجنوب جهة اليمن مع أن المدينة جهة الشمال؛ لأن القرشيين عندما يدركون هرب رسول الله صلى الله عليه وسلم سيبحثون عنه في كل أنحاء مكة، وبخاصة جهة المدينة المنورة التي هاجر إليها المسلمون.
يقول المباركفوري: ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن قريشًا ستجد في الطلب، وأن الطريق الذي ستتجه إليه الأنظار لأول وهلة هو طريق المدينة الرئيسي، المتجه شمالا، فقد سلك الطريق الذي يضاده تمامًا، وهو الطريق الواقع جنوب مكة، والمتجه نحو اليمن ... نعم سلك النبي صلى الله عليه وسلم هذا الطريق وسار فيه نحو خمسة أميال حتى بلغ إلى جبل يعرف بجبل ثور، وهو جبل شامخ، وعر الطريق، صعب المرتقى، ذو أحجار كثيرة2.
- المكث في الغار ثلاثة أيام، وهي المدة التي سوف ينشط فيها القرشيون للبحث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيها سيجندون الرجال، ويبحثون في كافة الجهات، ومن المنتظر أنهم بعد ثلاثة أيام سيصابون بالإحباط، ويهدءون.
- أمر الرسول صلى الله عليه وسلم مولى أبي بكر عامر بن فهيرة أن يرعى غنمه بالنهار، ويسير بها حيث سار الرسول وصاحبه لتنمحي آثارهما, فلا يستطيع أحد اقتفاء أثرهما، وقد قام عامر بن فهيرة بما كلف به خير قيام.
4- البقاء في الغار:
استقر الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر في الغار، ونشط المكيون في البحث عن محمد صلى الله عليه وسلم بعدما فر منهم، ورصدوا لمن يأتي به حيًا، أو ميتًا مائة من الإبل، ولم
__________
1 الخوخة وهي فتحة ضيقة كانت في ظهر بيت أبي بكر تجهد من يخرج منها، ويحتاج الخارج منها إلى مساعدة وعون.
2 الرحيق المختوم ص164 طبع ونشر دار السلام, الرياض سنة 1993م.
يقصروا في السعي فلقد أحضروا رجالا يقتفون الأثر، يقودونهم إلى الناحية التي سار فيها محمد صلى الله عليه وسلم وتتبع الدليل أثر الرسول وأبي بكر، فوجد أنهما أخذا طريق اليمن، وساروا فيه حتى وصلوا إلى غار ثور وتوقفوا، فأخذ القرشيون يفتشون في جبل ثور حتى وصلوا إلى الغار، ونظروا فيه فوجدوا على بابه نسيج العنكبوت، وحمامتين مع بيضهما في عشهما، فقالوا: لو دخل محمد هاهنا لانهدم بيت العنكبوت ولضاع عش الحمامة وانكسر بيضها!!
ونظر أبو بكر فرأى رجلا مواجهًا للغار فقال: يا رسول الله إنه ليرانا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلا إن الملائكة تسترنا بأجنحتها".
فجلس الرجل وبال جهة الغار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كان يرانا ما فعل ذلك1.
واشتد خوف أبي بكر رضي الله عنه وقال للنبي صلى الله عليه وسلم لو نظر أحدهم تحت أقدامه لرآنا!! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "اسكت يا أبا بكر, ما بلك باثنين الله ثالثهما" 2.
واستمر الرسول في الغار ثلاثة أيام بعيدًا عن الناس إلا أن التخطيط الذي وضعه الرسول صلى الله عليه وسلم للهجرة جعله يحيط بكل ما يدور بين المكيين، ويسهل له وصول كل ما يحتاجه من سبل الحياة وأخبار الناس.
- فلقد أمر أبو بكر ابنه عبد الله أن يتسمع ما يقوله الناس في النهار على أن يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم في المساء بما كان في ذلك اليوم من خبر.
- وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما بالطعام والشراب بما يصلحهما إذا أمست.
- وكان عامر بن فهيرة مولى أبي بكر يرعى الغنم بالنهار على أن يأتي بالغنم الغار ليلا ليسقيهما لبنًا، وليعفو أثر عبد الله وأسماء.
وبعد أن مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في الغار ثلاثة أيام سكن الناس، وشعروا أن محمدًا فر بعيدًا عن مكة، فأتاهما عبد الله بن أريقط الذي استأجره الرسول دليلا
__________
1 بغية الرائد في تحقيق مجمع الزوائد باب الهجرة ج6 ص66، 67.
2 صحيح البخاري كتاب المناقب باب الهجرة ج6 ص221.
للهجرة ومعه بعيراهما وثالث له، وأتتهما أسماء بزاد السفر الذي لم تجعل له حبلا يعلق به، فشقت نطاقها نصفين جعلت أحدهما حبلا للزاد فسميت بذات النطاقين لذلك1.
5- في الطريق إلى المدينة:
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغار بعد ثلاثة أيام، وقادهما الدليل إلى حيث يقصدون بكل أمان وصدق، وسيطر الحذر على الركب الكريم في مسيرته، وبرزت مواقف عديدة صنعها القدر الإلهي، وأبقاها عبرة، وعظة للناس, وأهم هذه المواقف ما يلي:
- استفاد الرسول صلى الله عليه وسلم في الهجرة بخبرة رجل مشرك هو عبد الله بن أريقط، وأستأجره ليكون الدليل لمعرفته بالطرق ومساراتها, وهذا أمر جائز شرعًا لتعين الرجل لذلك العمل وعدم وجود أحد من المسلمين للقيام بهذا الدور، وأيضًا فإن في اختيار رجل مشرك لقيادة الرحلة من الأمور التي تعمي على أهل مكة طريق الهجرة لأنهم لا يتصورون مشركًا يقود محمدًا وصحبه في الطريق.
- لم يسلك الركب الطريق إلى المدينة بعد الخروج من الغار وإنما أمعن في الاتجاه إلى الجنوب، ثم اتجه غربًا نحو الساحل حتى إذا وصل إلى طريق لم يألفه الناس اتجه شمالا على مقربة من شاطئ البحر الأحمر.
- إن الطرق بين مكة والمدينة وعرة، موحشة، لا يرى فيها المسافر ما يخفف عناء السفر من زرع وماء، وأساسها طريقان:
أحدهما شرقي محاذ لبلاد نجد.
والآخر: غربي محاذ لساحل البحر الأحمر.
وقد اختار الدليل الطريق الثاني. بيد أنه لم يسلك جادة هذه الطريق طوال الرحلة بل كان يلتوي هنا وهناك تفاديًا من أن يلحقهم من يقفوا أثرهم من القرشيين ممن كان يطمع في الحصول على الجائزة التي قررتها قريش لمن يأتي بالرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد وصف ابن هشام الطريق الذي سلكه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه من جبل ثور إلى المدينة لإظهار مدى التخفي والاستتار الذي سلكه الدليل بركب الهجرة، فقال: إن
__________
1 السيرة النبوية لابن هشام ج1 ص485، 486 بتصرف وقد أورد البخاري قصة الهجرة في حديث طويل رواه عن عائشة رضي الله عنها. انظر كتاب المناقب من صحيح البخاري ج69 ص206-210 ط الأوقاف.
عبد الله بن أريقط سلك بهما أسفل مكة، ثم مضى بهما إلى الساحل، حتى عارض الطريق أسفل عسفان1، التي تبعد عن مكة بستة وثلاثين ميلا, ثم سلك بهما الدليل على أسفل أمج2 ثم استجاز بهما الدليل حتى عارض الطريق بعد أن جاوز قديد، ثم سلك الخرار3، وهو واد يقع في نحو منتصف الطريق بين مكة والمدينة، ثم أخذ بهما الحداجد4، وتقع في أرض مستوية صلبة، ثم هبط بهما العَرِج5. ثم هبط وادي العتيق الذي يؤدي إلى المدينة6.
كان أبو بكر رضي الله عنه خير صديق يصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة، فلقد قام بحراسته وخدمته ومساعدته خير قيام.
يروي البراء بن عازب حديث الهجرة فيقول رضي الله عنه: ابتاع أبو بكر من عازب رحلا فحملته معه، فسأله عازب عن مسير رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال له أبو بكر: أخذ علينا بالرصد، فخرجنا ليلا، فأحثثنا ليلتنا ويومنا حتى قام قائم الظهيرة، ثم رفعت لنا صخرة، فأتيناها ولها شيء من ظل، ففرشت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فروة معي، ثم اضطجع عليها النبي صلى الله عليه وسلم، فانطلقت أنفض ما حوله فإذا أنا براع قد أقبل في غنيمة، يريد من الصخرة مثل الذي أردنا.
فسألته: لمن أنت يا غلام؟
فقال: أنا لفلان.
فقلت له: هل في غنمك من لبن؟
قال: نعم.
__________
1 بضم أوله وسكون ثانيه ثم فاء وآخره نون وهي قرية صغيرة قريبة من ساحل البحر الأحمر على حد تهامة على طريق المدينة، يكثر بها النخيل والمزارع، وسميت عسفان لتعسف الطريق، ويسمى الطريق بين عسفان وملل الساحل.
2 أمج بفتح الهمزة والجيم بلد صغير بين مكة والمدينة.
3 بفتح الخاء وتشديد الراء: موضع بالحجاز قرب الجحفة. معجم ما استعجم للبكري ج2 ص492.
4 جمع حدجد وهي الأرض المستوية الصلبة، ويجوز أن يكون جمع حدجد وهي البئر القديمة، ويظن ياقوت الحموي في معجمه أنها آبار قديمة.
5 بفتح أوله وسكون ثانيه وجيم: منزل بطريق مكة على طريق الحاج.
6 سيرة النبي لابن هشام ج1 ص491 بتصرف.
قلت له: هل أنت حالب؟
قال: نعم.
فأخذ شاة من غنمه فقلت له: انفض الضرع.
فحلب كثبة من لبن، ومعي إداوة من ماء عليها خرقة قد روأتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فصببت على اللبن حتى برد أسفله، ثم أتيت به النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: اشرب يا رسول الله، فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رضيت.
ثم قلت: قد آن الرحيل يا رسول الله.
قال: "بلى". فارتحلنا والقوم يطلبوننا، فلم يدركنا أحد منهم غير سراقة بن مالك بن جعشم على فرس له.
فقلت: هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله.
فقال: "لا تحزن إن الله معنا" 1.
والحديث واضح الدلالة في دور أبي بكر خلال رحلة الهجرة، فلقد كان رضي الله عنه يبحث لرسول الله عن ظل عند الظهيرة يأوى إليه، ويسوي له المكان، وكان يقوم بحراسة النبي صلى الله عليه وسلم، ويراقب له الطرق، وكان يعد له الطعام، ويبرد له الشراب، ويسقيه اللبن، وكان دائم الخوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كان يلتفت كثيرًا والرسول يقول له: "لا تحزن إن الله معنا"، وكان أبو بكر شيخًا معروفًا للعرب، مصدقًا لديهم يقابله أحدهم ويسأله: من هذا الرجل الذي معك؟
فيرد أبو بكر: هذا الرجل يهديني الطريق. فيظن السائل أنه طريق المدينة، بينما هو طريق الإسلام والرجل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم2.
لقد قام أبو بكر رضي الله عنه بدوره خير قيام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أثناء الهجرة، وكان حبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم يملك عليه جوارحه وحياته كلها، خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس مرة وقال: "إن من أمن الناس عليَّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت
متخذًا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوة الإسلام ومودته"3.
يذكر عمر بن الخطاب ليلة الهجرة فيقول: والذي نفسي بيده لتلك الليلة لأبي بكر خير من آل عمر4.
__________
1 صحيح البخاري كتاب المناقب، باب الهجرة ج6 ص219، 220.
2 صحيح البخاري كتاب المناقب ج6 ص215 ط الأوقاف.
3 صحيح البخاري كتاب فضائل الصحابة ج6 ص79 ط الأوقاف.
4 سيرة ابن كثير ج2 ص237.
ثالثًا: عناية الله بنبيه في الهجرة
امتدت رعاية الله لنبيه صلى الله عليه وسلم في كل أعمال الهجرة.
فلقد أعمى الله عقول وأبصار من أحاطوا ببيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة حتى خرج صلى الله عليه وسلم وألقى على رأسهم التراب، ولم يشعروا به.
وهدى الله رسوله صلى الله عليه وسلم إلى وضع تنظيم يتحرك فيه كل من اشترك في أعمال الهجرة وفق إمكانياته، وبصورة لا تعطي القرشيين أي خبر عن الهجرة.
وخلق الله في برهة وجيزة عند باب الغار ما يصرفهم عن الدخول فيه, الأمر الذي جعل كفار مكة لا يتصورون أن أحدًا دخل الغار من مدة طويلة.
وبعدما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغار، وأخذ طريقه إلى المدينة تجلت عناية الله، وبرزت المعونة الإلهية للرسول، وصاحبه في صور عديدة منها:
1- رد سراقة بن مالك:
رصدت قريش مائة من الإبل لمن يأتي برسول الله صلى الله عليه وسلم أو بأبي بكر حيًا أو ميتًا، وتلك ثروة يلهث وراءها الشباب والرجال في مكة وبخاصة إذا أتت من عمل يصون قوميتهم، ويحافظ على آلهتهم كما يتصورون.
ومن أكبر الذين اجتهدوا في نيل هذه الجائزة سراقة بن مالك وكان له في هذا المجال قصة يرويها البخاري في صحيحه بسنده عن سراقة بن مالك.
يقول سراقة بن مالك: جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر دية كل واحد منهما لمن قتله أو أسره.
فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج، إذ أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال: يا سراقة، إني قد رأيت آنفًا أسودة بالساحل، أراها محمدًا وأصحابه.
قال سراقة: فعرفت أنهم هم.
فقلت له: إنهم ليسوا هم، ولكنك رأيت فلانًا وفلانًا، انطلقوا بأعيننا.
ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت، فدخلت، فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي، وهي من وراء أكمة فتحبسها عليّ، وأخذت رمحي، فخرجت به من ظهر البيت، فحططت بزجة الأرض، وخفضت عاليه حتى أتيت فرسي فركبتها، فرفعتها تقرب بي، حتى دنوت منهم فعثرت بي فرسي، فخررت عنها فقمت، فأهويت يدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها: أضرهم أم لا؟
فخرج الذي أكره، فركبت فرسي وعصيت الأزلام، تقرب بي، حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات ساخت يدي فرسي في الأرض، حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت، فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها عثان ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان فوقفوا، فركبت فرسي حتى جئتهم.
ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزآني، ولم يسألاني إلا أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أخف عنا". فسألته أن يكتب لي كتاب أمن فأمر عامر بن فهيرة فكتب الأمان في رقعة من أديم1.
2- شاة أم معبد الخزاعية:
في أثناء رحلة الهجرة مر الرسول وصحبه بخيمة أم معبد، وهي امرأة بدوية كريمة تطعم وتسقي من يأتيها، واسمها عاتكة بنت خالد الخزاعية، تكنى باسم ولدها معبد.
__________
1 صحيح البخاري كتاب المناقب ج6 ص210، 211، ط الأوقاف.
وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه أمام خيمة أم معبد وسألاها: "هل عندك شيء".
فقالت: والله لو كان عندنا شيء ما أعوزكم القرى، والشاة عازب، والسنة سنة شهباء.
فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة في كسر الخيمة، فقال: "ما هذه الشاة يا أم معبد "؟.
قالت: شاة خلفها الجهد عن الغنم.
فقال صلى الله عليه وسلم: "هل بها من لبن"؟.
قالت: هي أجهد من ذلك.
فقال صلى الله عليه وسلم: "أتأذنين لي أن أحلبها"؟.
قالت: نعم بأبي وأمي، إن رأيت بها حلبًا فاحلبها.
فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ضرعها، وسمى الله ودعا، فتفاجت عليه ودرت، فدعا بإناء لها يربض الرهط، فحلب فيه حتى علته الرغوة، فسقاها، فشربت حتى رويت وسقى أصحابه حتى رووا، ثم شرب، وحلب فيه ثانيًا حتى ملأ الإناء، ثم ارتحلوا.
فما لبثت أن جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزًا عجافًا يتساوكن هزالا، فلما رأى اللبن عجب فقال: من أين لك هذا؟ والشاء عازب ولا حلوبة في البيت؟
فقالت: لا والله إلا أنه مر بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت، ومن حاله كذا وكذا.
قال لها: إني والله أراه صاحب قريش الذي تطلبه، صفيه لي يا أم معبد، فوصفته بصفته الرائعة, بكلام دقيق كأن السامع ينظر إليه، وهو أمامه.
فقال أبو معبد: والله هذا صاحب قريش الذي ذكروا من أمره ما ذكروا، لقد هممت أن أصحبه، ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلا1.
3- إسلام أبي بريدة:
في أثناء رحلة الهجرة، وفي الطريق على مقربة من المدينة المنورة لقي الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بريدة ونفرًا من قومه؛ جاءوا يطلبون النبي وأبا بكر ليفوزوا بالمكافأة التي رصدتها
__________
1 زاد المعاد في هدي خير العباد ج3 ص55-75 مؤسسة الرسالة سنة 1979.
قريش للقضاء عليهما.
كلم أبو بريدة رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلم صدقه وأمانته وأسلم لوقته، وتبعه سبعون رجلا من قومه، ثم خلع أبو بريدة عمامته، وعقدها برمح رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم عمامة له، وبذلك يعد أبو بريدة والمؤمنون معه من أوائل الأنصار الذين اتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة.
وبإيمان هؤلاء القوم صار للمسلمين قوة في الطريق1, وبدأ المسلمون في تكوين المجتمع القوي المتماسك.
4- تأمين الزاد:
ومر صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الطريق على راع فاستسقياه اللبن، فاعتذر بأنه لا لبن في شائه، إلا شاة جف لبنها قريبًا، وهنا ظهرت معجزته صلى الله عليه وسلم فلقد مسح ضرعها ودعا فرزقهم الله الكثير من اللبن، وكانت هذه آية كافية لتحويل قلب الراعي من الكفر إلى الإيمان، وتوسم فيه صلى الله عليه وسلم الكثير من الخير، فأخبره بأنه رسول الله، وطلب الراعي أن يسير معه فطلب منه صلى الله عليه وسلم أن يتمهل حتى يسمع بظهور أمره صلى الله عليه وسلم وحينذاك يلحق بالمدينة، ويهاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عن قيس بن النعمان قال: لما انطلق النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر مستخفين مرا بعبد يرعى غنمًا، فاستسقياه من اللبن، فقال: ما عندي شاة تحلب غير أن هاهنا عناقا حملت أول الشتاء، وقد أخدجت وما بقي لها لبن.
فقال صلى الله عليه وسلم: "ادع بها". فدعا بها، فاعتقلها النبي صلى الله عليه وسلم ومسح ضرعها، ودعا حتى أنزلت.
وجاء أبو بكر رضي الله عنه بمجن, فسقى أبا بكر، ثم حلب فسقى الراعي، ثم حلب فشرب.
فقال الراعي: بالله من أنت، فوالله ما رأيت مثلك قط.
قال صلى الله عليه وسلم: "أوتراك تكتم عليّ حتى أخبرك"؟.
__________
1 إمتاع الأسماع للمقروي ج1 ص42.
قال: نعم.
قال صلى الله عليه وسلم: "فإني محمد رسول الله".
فقال: أنت الذي تزعم قريش أنه صابئ.
قال صلى الله عليه وسلم: "إنهم ليقولون ذلك".
قال: فأشهد أنك نبي، وأشهد أن ما جئت به حق، وأنه لا يفعل ما فعلت إلا نبي، وأنا متبعك.
قال صلى الله عليه وسلم: "لا تستطيع ذلك يومك، فإذا بلغك أني قد ظهرت فأتنا " 1.
5- التبشير بالعودة إلى مكة:
ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وهي أحب البلاد إلى نفسه، ولذا رأيناه صلى الله عليه وسلم حينما ابتعد عن مكة نظر إليها، وودعها بكلمات تؤكد حبه لها، فعن عبد الله بن عدي عن الحمراء أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفًا على الحزورة وهو يقول: "والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت" 2.
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ينظر إلى مكة ليلة الهجرة: "ما أطيبك من بلد، وأحبك إليّ، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك" 3.
وقد كانت عناية الله تعالى برسوله إذ نزل عليه خلال رحلة الهجرة قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} 4.
يقول ابن عباس: والمعاد هي مكة، وفي الآية بشرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أنه سيعود إلى مكة ساعة أن يسلم أهلها، وتكون دار إسلام5.
__________
1 البداية والنهاية لابن كثير ج3 ص194.
2 سنن الترمذي بشرحه تحفة الأحوذي ج10 ص426 والحزورة مكان مرتفع في مكة.
3 سنن الترمذي بشرحه تحفة الأحوذي ج10 ص427.
4 سورة القصص: 85.
5 صحيح البخاري كتاب التفسير ج7 ص365 ط الأوقاف.
رابعًا: الوصول إلى المدينة
سار ركب الهجرة تحفه عناية الله تعالى حتى وصل إلى قباء في يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول من العام الأول للهجرة.
وكان أهل المدينة منذ أن عملوا بخروج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة يغدون كل غداة، ينتظرونه عند الحرة، حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يومًا بعدما طال انتظارهم إلى بيوتهم، وإذا بيهودي يقف على أحد المرتفعات حول المدينة ليرى أمرًا بعينه، فإذا به يبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في ثياب بيض، فلم يملك اليهودي نفسه، فأخذ يصيح بأعلى صوته: يا معشر العرب هذا جدكم الذي تنتظرونه1.
يقول ابن القيم: وسمعت الرجة والتكبير في ديار بني عمرو بن عوف، وكبر المسلمون فرحًا بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرجوا للقائه صلى الله عليه وسلم والترحيب به، فأحاطوا به يملأهم الحب، وتغشاهم السكينة، والوحي ينزل عليه بقوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} 2.
يقول عروة بن الزبير: فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، فقام أبو بكر للناس، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، صامتا، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيي أبا بكر ظنًا منهم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك3.
وكانت المدينة كلها قد زحفت لاستقبال ركب الهجرة الميمون، وكان يومًا مشهودًا لم تشهد المدينة مثله في تاريخها.
ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء على كلثوم بن الهدم4 ومكث علي بن أبي طالب
__________
1 صحيح البخاري كتاب ج1 ص215 ط الوقاف.
2 سورة التحريم: 4.
3 سيرة النبي ج1 ص494.
4 وقيل نزل على سعد بن خيثمة والجمهور على ما ذكرته.
بمكة ثلاثًا، حتى أدى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع التي كانت عنده للناس، ثم هاجر ماشيًا على قدميه حتى لحقهما بقباء ونزل على كلثوم بن الهدم مع رسول الله أيضًا.
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء أربعة أيام: الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس, وأسس مسجد قباء وصلى فيه، وكان موضع المسجد مربدًا لكلثوم بن الهدم، وقيل بل هو مكان كان يملكه بنو عمرو بن عوف وهو الأولى، وقد صلى الرسول صلى الله عليه وسلم الجمعة فيهم، وعلى كل فإن المكان اختيار الله تعالى1.
وهو أول مسجد أسس على التقوى بعد النبوة، فلما كان اليوم الخامس2 -يوم الجمعة- ركب صلى الله عليه وسلم ناقته وأبو بكر ردفه، وأرسل إلى أخواله بني النجار فجاءوا متقلدين سيوفهم وسار معهم نحو المدينة فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف، فجمع بهم في المسجد الذي في بطن الوادي، وكانوا مائة رجل.
وهذه أول جمعة يقيمها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام بعد هجرته في ديار بني سالم بن عوف، وألقى فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة الجمعة، وعرفهم بالله، وحثهم على التقوى، وذكرهم بنعيم الله في الآخرة.
يورد ابن كثير هذه الخطبة بنصها، وفيها يقول صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله أحمده, وأستعينه، وأستغفره, وأستهديه، وأومن به، ولا أكفره، وأعادي من يكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، أرسله الله بالهدى ودين الحق والنور والموعظة، على فترة من الرسل، وقلة من العلم، وضلالة من الناس، وانقطاع من الزمان، ودنو من الساعة، وقرب من الأجل، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى وفرط وضل ضلالا بعيدًا.
أوصيكم بتقوى الله فإنه خير ما أوصى به المسلم أن يحضه على الآخرة، وأن يأمره بتقوى الله، فاحذروا ما حذركم الله من نفسه، ولا أفضل من ذلك نصيحة،
__________
1 سبل الهدى والرشاد ج3 ص381.
2 اختلفت الروايات في المدة التي مكثها الرسول صلى الله عليه وسلم في قباء والمكثرون يرونها أربعة وعشرين يومًا والمقلون يرونها أربعة أيام، وهو الأولى.
ولا أفضل من ذلك ذكرى، وإنه تقوى لمن عمل به على وجل، ومخافة، وعون صدق على ما تبتغون من أمر الآخرة، ومن يصلح الذي بينه وبين الله من أمر السر والعلانية لا ينوي بذلك إلا وجه الله يكن له ذكرًا في عاجل أمره، وذخرًا فيما بعد الموت، حين يفتقر المرء إلى ما قدم، وما كان من سوى ذلك {تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} 1.
والذي صدق قوله، وأنجز وعده، لا خلف لذلك فإنه يقول سبحانه: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} 2.
واتقوا الله في عاجل أمركم، وآجله، في السر، والعلانية فإنه: {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} 3.
{يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} 4.
إن تقوى الله توقي مقته، وتوقي عقوبته، وتوقي سخطه وإن تقوى الله تبيض الوجوه، وترضي الرب، وترفع الدرجة.
خذوا بحظكم، ولا تفرطوا في جنب الله، قد علمكم الله كتابه، ونهج لكم سبيله، ليعلم الذين صدقوا، وليعلم الكاذبين، فأحسنوا كما أحسن الله إليكم، وعادوا أعداءه، وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وسماكم المسلمين ليهلك من هلك عن بينه، ويحيى من حيي عن بينه، ولا قوة إلا بالله، فأكثروا ذكر الله، واعملوا لما بعد الموت، فإنه من أصلح ما بينه وبين الله يكفه الله ما بينه وبين الناس.
__________
1 سورة آل عمران: 30.
2 سورة ق: 29.
3 سورة الطلاق: 5.
4 سورة الأحزاب: 71.
إن الله يقضي على الناس، ولا يقضون عليه، ويملك من الناس ولا يملكون منه، الله أكبر ولا قوة إلا بالله العلي العظيم"1.
__________
1 البداية والنهاية ج3 ص213.
هذا وقد تحدث الفقهاء عن حكم هجرة المسلم من ديار الكفر إلى ديار الإسلام بعد فتح مكة، وذهبوا إلى أن المسلمين أنواع ثلاثة، ولكل نوع حكمه الشرعي.
النوع الأول: مسلم قادر على الهجرة من ديار الشرك، حيث لا يمكنه إظهار دينه فيها، ولا أداء واجباته إذا أقام بين غير المسلمين، فالهجرة عليه واجبة، ويكون عاصيًا بتركها، ودليل ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97] , وهذا الوعيد الشديد لا يكون إلا في ارتكاب المحرم وترك الواجب وحينئذ لا يحل له البقاء إلا إذا كان مضطرًا.
ومن أدلة السنة المشرفة ما أخرجه النسائي بسند صحيح من حديث عبد الله بن واقد السعدي قال: "وفدنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل أصحابي فقضى حاجتهم، وكنت آخرهم دخولا فقال صلى الله عليه وسلم: "ما حاجتك"؟.
قلت: يا رسول الله، متى تنقطع الهجرة؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار".
النوع الثاني: مسلم يوجد بين المشركين، وهو عاجز عن الهجرة، لعذر كالأسر أو المرض أو ال,
لما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة في بني عمرو بن عوف أرسل إلى أخواله بني النجار فجاءوا متقلدين السيوف، وتقاطر الأنصار جميعًا خلفهم، حتى اجتمعوا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم مرحبين به، فركب الرسول صلى الله عليه وسلم ناقته، والناس عن يمينه وشماله وخلفه، منهم الراكب ومنهم الماشي يهللون ويكبرون.
اجتمع بنو عمرو بن عوف وقالوا: يا رسول الله أخرجت ملالا لنا، أم تريد دارًا خيرًا من دارنا؟
فقال صلى الله عليه وسلم: "أمرت بقرية تأكل القرى، فخلوها، فإنها مأمورة".
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من قباء يريد المدينة فوجد الناس قد ملئوا الطرق ومعهم الخدم والصبيان وهم يقولون: الله أكبر، جاءنا محمد، جاءنا رسول الله.
يقول أنس بن مالك: إني لأسعى مع الغلمان يقولون: محمد جاء فننطلق فلا نرى شيئًا حتى أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر فكنا في بعض جرار المدينة، فبعث لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من أهل البادية ليؤذن بهما الأنصار، فخرج الأنصار واستقبلهما زهاء خمسمائة منهم، حتى انتهوا إليها فقالت الأنصار: انطلقا آمنين مطاعين، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه بين أظهرهم، وخرج أهل المدينة حتى إن العوائق فوق البيوت يتراءينه ويقلن: أيهم هو؟ أيهم هو؟ فما رأينا منظرًا شبيهًا به يومئذ1.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جعل النساء والصبيان والولائد يقلن:
طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا ... جئت بالأمر المطاع2
__________
1 الفتح الرباني لترتيب مسند أحمد الشيباني ج20 ص291.
2 رحمة الله للعالمين ج1 ص106, والحرار بكسر الحاء وفتح الراء جمع حرة وهي الأرض الصلبة السوداء، والعوائق جمع عائق وهي الفتاة التي بلغت ولم تتزوج.
وعن البراء رضي الله عنه قال: ما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله صلى الله عليه وسلم1.
ويقول أنس: ما رأيت يومًا قط أنور ولا أحسن من يوم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر المدينة2.
وقد تجلى الترحيب العام برسول الله صلى الله عليه وسلم من كافة قبائل المدينة، وكان كل منهم يتمنى أن ينزل الرسول صلى الله عليه وسلم عنده، ويعده بالعدة، والعدد، والثروة، والطاعة، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يعرفهم بأنه سيترك الناقة تبرك حيث يريد الله لها.
ويقول لهم: "دعوها فإنها مأمورة" 3.
ولما علم الأنصار بذلك لم يتعرضوا للناقة، وكل منهم يدعو الله أن يكون بيته هو المكان المختار لنزول رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم راكبًا ناقته، حتى إذا أتت دار بني عدي بن النجار قامت إليه وجوههم تأمل في نزوله عندها، ثم إن ناقته صلى الله عليه وسلم لما أتت موضع مسجده بركت وهو عليها وأخذه الذي كان يأخذه عند الوحي ثم وثبت فسارت غير بعيد ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع لها زمامها لا يثنيها به، ثم التفتت خلفها فرجعت إلى مبركها أول مرة، فبركت فيه ثم تحلحلت، وأرزمت ووضعت جرانها، وجعل جبار بن صخر ينخسها رجاء أن تقوم فتنزل في دار بني سلمة فلم تفعل، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها وقال: هنا المنزل إن شاء الله وقرأ قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} 4.
وجاء أبو أيوب فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أي بيوت أهلنا أقرب"؟.
فقال أبو أيوب: أنا يا نبي الله هذه داري وهذا بابي، وقد حططنا رحلك فيها
__________
1 صحيح البخاري كتاب المناقب باب مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ج6 ص222.
2 الفتح الرباني لترتيب مسند أحمد الشيباني ج20 ص290.
3 بغية الرائد في تحقيق مجمع الزوائد ج6 ص79.
4 سورة "المؤمنون": 29.
قال صلى الله عليه وسلم: "فانطلق فهيئ لنا مقيلا". فذهب فهيأ لهما مقيلا1.
يروي الطبراني عن عبد الله بن الزبير أنه كان هناك عريش يرشونه، ويعمرونه ويتبردون فيه، حتى نزل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن راحلته فأوى على الظل فنزل فيه فأتاه أبو أيوب فقال: يا رسول الله منزلي أقرب المنازل إليه أأنقل رحلك إليه.
قال صلى الله عليه وسلم: "نعم". فذهب برحله إلى المنزل.
فأتاه آخر فقال: يا رسول الله انزل عليّ.
فقال صلى الله عليه وسلم: "المرء مع رحله حيث كان".
فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزل أبي أيوب وقر قراره، واطمأنت داره، ونزل معه زيد بن حارثة2.
يقول عبد الله بن سلام رضي الله عنه: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس إليه فجئت لأنظر إليه، فلما تبينت وجهه علمت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أول شيء سمعته يتكلم به أن قال: "يا أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام، وصلوا والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام" 3.
ويقول أبو أيوب رضي الله عنه: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، كان في السفل، وأنا وأم أيوب في العلو.
فقلت له: يا نبي الله، بأبي أنت وأمي، إني لأكره وأعظم أن أكون فوقك وتكون تحتي، فاظهر أنت فكن في العلو وننزل نحن فنكون في السفل.
فقال صلى الله عليه وسلم: "إن أرفق بنا وبمن يغشانا أن نكون في سفل البيت".
يقول أبو أيوب فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفله، وكنا فوقه في المسكن، وكنا نحرص على تحقيق ما يرضيه ويريحه.
حدث مرة أن انكسرت جرة لنا فيها ماء، فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا ما لنا لحاف غيرها، ننشف بها الماء، تخوفًا أن تقطر على رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شيء فيؤذيه،
__________
1 صحيح البخاري كتاب المناقب، باب الهجرة ج6 ص216.
2 بغية الرائد في تحقيق مجمع الزوائد ج6 ص79.
3 سبل الهدى والرشاد ج3 ص391, سنن الترمذي.
ويقال إن أبا أيوب بعد هذه الحادثة ألح على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسكنه العلو1.
وقد تكفل أهل المدينة بخدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتجهيز طعامه وشرابه، وتحقيق كل ما يحتاج إليه، يهدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم حبًا، وتقديرًا.
ولقد كان أبو أيوب يصنع له الطعام، ويقدمه، وينتظر فضله ليأكله.
يقول زيد بن ثابت: لقد كنا في بني مالك بن النجار، ما من ليلة إلا على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيت أبي أيوب ثلاث، أو أربع جفان، وما كانت تخطئه.
جفنة سعد بن عبادة، وجفنة أسعد بن زرارة كل ليلة2.
وكان الأنصار يتحرون الطعام الذي يحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لإعداده له فبرغم أنه صلى الله عليه وسلم لم يعب طعامًا، ولم يأمر بطعام، فإنهم لاحظوا إقبال رسول الله صلى الله عليه وسلم على نوع من المرق يسمى "الطفيشل" وعلى الهريس ولذلك كانوا يكثرون له صلى الله عليه وسلم منهما.
وكان صلى الله عليه وسلم لا يأكل وحده، وإنما كان يطعم معه من أصحابه عددًا يتراوح بين خمسة إلى ستة عشر رجلا، حسب كمية الطعام المهدى إليه.
وهكذا عاشت المدينة حياة البهجة، والسرور، وقدرت الخير الذي وفد عليها وأقبلوا على الإسلام فهمًا وعلمًا، وتطبيقًا, وشعروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءهم بخيري الدنيا والآخرة، فسعدوا بهجرته، وأنزلوه فيهم منزلة الروح والعقل، وجعلوا حبه فوق حبهم لأنفسهم، فهو وهم معه برسالته يعيشون الإسلام نقيًا واضحًا.
وفي نفس الوقت تقوقع الكفار والمنافقون واليهود في المدينة، وأدركوا أن دولتهم قد انهارت، ولا سلطان لهم في المدينة بعد اليوم, وعبر بعضهم عما في قلبه من حقد وغضب، ومن ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رغب في أن ينزل على سيد الخزرج عبد الله بن أبي بن سلول فقال له عبد الله: اذهب إلى الذين دعوك فانزل إليهم ورفض أن ينزله عنده كراهية له.
ولم يأبه النبي صلى الله عليه وسلم بهذه المعارضة من أهل الشرك والنفاق فهي معارضة ضعيفة خائفة ... وأنى تلك المعارضة مما كان يراه في مكة!!
ولقد اعتذر الأنصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن موقف أبي، وبينوا له أن سببه ضياع المجد الذي كان يأمل فيه3.
ومن الملاحظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يطلب من أحد أن ينزل عليه إلا ابن أبي، ولعلها حكمة قدرها الله تعالى لرسوله ليعلم طبائع الناس، وبخاصة هؤلاء الذين أضيروا بظهور الإسلام.
__________
1 الفتح الرباني لترتيب مسند أحمد الشيباني ج20 ص293.
2 إمتاع الأسماع ج1 ص47.
3 كان الأوس والخزرج يتفاوضون في جعل عبد الله بن أبي ملكًا عليهم، وكادوا أن يملكوه، فلما أسلموا وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ضاعت المملكة على ابن أبي فعاش بحقده منافقًا.
ثانيًا: تأمين سكن النبي صلى الله عليه وسلم وزوجاته
أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أبي أيوب الأنصاري سبعة أشهر حتى أقام بيوتًا لزوجاته رضي الله عنهن.
وقد أسس النبي صلى الله عليه وسلم تسعة بيوت حول المسجد في الجهة الجنوبية والشرقية والشمالية.
وقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم في تأسيسها بعد الهجرة، واحدًا بعد الآخر فبنى أولا بيتًا لسودة بنت زمعة، كما بنى بيتًا ثانيًا لعائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما، فهما زوجتاه حين الهجرة وبعد ذلك كان صلى الله عليه وسلم كلما أحدث أهلا بنى بيتًا، واستمر هكذا حتى بنى سائر البيوت، وعددها تسعة.
والأرض التي أقيمت فيها البيوت كانت مملوكة لحارثة بن النعمان الخزرجي رضي الله عنه وكان يتنازل لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأرض بقدر الحاجة، فكلما بنى النبي بزوجة تنازل الحارث لرسول الله عن أرض لإقامة بيت لها فيه!!
وأول البيوت تأسيسا هو بيت سودة وثانيها هو بيت عائشة الذي يلي الروضة مباشرة من جهة الشرق، وفيه دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي يعرف الآن بالحضرة النبوية وقد أقيم فوقها قبة خضراء بعد وفاته صلى الله عليه وسلم وبعدها كان بيت سودة بنت زمعة رضي الله عنها ملاصقًا لبيت عائشة من جهة الشرق، وقد بنى النبي صلى الله عليه وسلم بيتًا لابنته
فاطمة حين تزوجها ابن عمها علي رضي الله عنه في شمال بيت عائشة عن يسار المصلى إلى القبلة في الروضة الشريفة، أي أنه كان خلف بيت عائشة، وقد اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم طريقًا إلى بيت فاطمة يعرف بخوخة علي حيث كان يأتي بابها كل يوم، ويأخذ بعضادتيه ويقول: "الصلاة, {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} " 1.
يقول عمر بن علي بن الحسين رضي الله عنه: كان في بيت فاطمة كوة إلى بيت عائشة رضي الله عنها، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج اطلع من الكوة إلى فاطمة وعلي يعلم خبرهم2.
وقد توزعت بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حول مسجده فلقد أقيم بيت زينب بنت خديجة الهلالية شرق بيت فاطمة وشمال بيت سودة رضي الله عنهن.
كما أقيم بيت زينب بنت خزيمة، وزينب بنت جحش إلى الشرق من بيت سودة وزينب الهلالية وأقيم بيت حفصة بنت عمر أمام بيت عائشة من جهة الجنوب وقد أقيمت الحجر الباقية خلف المسجد من الجهة الشمالية، والشمالية الغربية المواجهة للقبلة وتعرف هذه البيوت ببيوت النبي، أو بيوت أزواج النبي، أو حجر النبي صلى الله عليه وسلم.
وكان البيت مكونًا من حجرة وفناء، حيث حوائط الحجرة من جريد النخل المغطى من الخارج بالشعر والوبر، والمطين من الداخل، وللحجرة باب يفتح على الموجود أمامها وللبيت باب مرتبط بالخارج.
وقد بلغت مساحة كل واحدة من الحجرة والفناء ثمانية أذرع طولا، وعرضًا، وبذلك بلغ الطول ستة عشر ذراعًا أني أن مجموعهما معًا كان مائة وثمانية وعشرين ذراعًا.
ويبدو أن مساحة البيوت لم تكن واحدة لأن خمسة منها كان مكونًا من فناء فقط.
يقول عمران بن أنس: ترك النبي صلى الله عليه وسلم أربعة أبيات بلبن، لها حجر من جريد وخمسة أبيات مطينة لا حجر لها, على أبوابها مسوح الشعر، أي أنها لم تكن على
__________
1 سورة الأحزاب آية 32.
2 رحلة المحبين إلى سيد المرسلين ص162.
مساحة واحدة1.
يروي ابن سعد في طبقاته: أن حوائط بيوت النبي صلى الله عليه وسلم كانت مكونة من جريد مطين بالطين، وسقفها من الجريد، وأبوابها من خشب العرعر الذي كان ينبت في بلاد العرب وللباب حلقة من ساج2.
وقد استدل بعض العلماء بما ورد من أن الصحابة كانوا ينقرون باب النبي صلى الله عليه وسلم بأظافرهم على أن الأبواب لم تكن بها حلقة، إلا أن الظاهر من قوله بأظافرهم أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يفعلون ذلك تأدبًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مخافة إزعاجه إذا ضربوا بأيديهم على الحلقة.
وكانت الحجرة متوسطة الارتفاع، ينال الواقف فيها السقف بيده، وكانت بسيطة الفرش.
وقد أعد النبي صلى الله عليه وسلم مكانًا خلف بيت فاطمة من جهة الشمال وجعله لمبيت الفقراء وهو المعروف بمكان الصفة.
أمر الوليد بن عبد الملك واليه على المدينة عمر بن عبد العزيز بهدم حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وضمها للمسجد فبكى أبناء الصحابة وقالوا: ليتها تركت ولم تهدم حتى يطلع الناس على البناء، ويروا ما رضي الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، ومفاتيح خزائن الدنيا بيده3.
ولعل في هدم الحجرات أسبابًا من أهمها عدم الحاجة إليها، وللاستفادة بها في توسعة المسجد، وحتى لا يتخذها المسلمون مزارًا يعبد، ولذلك لم يؤثر عن أحد من التابعين إنكارا، ولم يحدث أن عارض عمر بن عبد العزيز الأمر إليه بالهدم وهو من هو؟ إنه عمر بن عبد العزيز, وكفى!! لقد رضي بالهدم، ولم ينكر.
وعن عبد الله بن زيد الهذلي قال: رأيت بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، حين هدمها عمر بن عبد العزيز والي المدينة بأمر الوليد، كانت بيوتًا باللبن وبها حجر من جريد مطرورة بالطين، عددها تسعة بيوت، وهي ما بين بيت عائشة رضي الله عنها
__________
1 سبل الهدى والرشاد ج3 ص507.
2 طبقات ابن سعد ج1 ص499.
3 سبل الهدى والرشاد ج3 ص507.
إلى الباب الذي يلي باب النبي صلى الله عليه وسلم.
ورأيت بيت أم سلمة وحجرتها من لبن فسألت ابن ابنها: من بناها؟
فقال: لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة دومة الجندل بنت أم سلمة حجرتها بلبن، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى اللبن فدخل عليها فقال: ما هذا البناء؟
فقالت: أردت يا رسول الله أن أكف أبصار الناس.
فقال: "يا أم سلمة إن شر ما ذهب فيه مال المسلمين البنيان" 1.
وعن الحسن البصري قال: كنت أدخل بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، في خلافة عثمان بن عفان، فأتناول سقفها بيدي2.
وقد كان الحسن صغيرًا آنذاك فإنه ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر، وليس له عند المحدثين سماع من عثمان مما يدل على انخفاض السقف3.
ثم إن هذا الارتفاع لحجراته صلى الله عليه وسلم وهو أن الواقف يتناول سقفها بيده، هو الذي تثبته النصوص، ولقد سبق أنه صلى الله عليه وسلم جعل ارتفاع مسجده على هذه الوتيرة، وما كان ليجعل حجراته أعلى من المسجد، وقد قال صلى الله عليه وسلم في شأن البنيان: "النفقة كلها في سبيل الله إلا البناء فلا خير فيه" 4.
وقد بقيت أمهات المؤمنين، بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كل في حجرتها على هيئتها التي بنيت عليها ما عدا عائشة رضي الله عنها فإنها لما أذنت بدفن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بجوار أبيها أقامت جدارًا داخليًا قسم بيتها إلى قسمين هما:
القسم الأول: هو الفناء، ويضم القسم الجنوبي من البيت وفيه دفن النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وعمر رضي الله عنهما.
القسم الثاني: وهو الحجرة ويقع شمال القسم الأول، وهو الذي اتخذته عائشة رضي الله عنها بيتًا لها.
__________
1 الطبقات الكبرى ج1 ص499.
2 طبقات ابن سعد 1/ 500.
3 التهذيب 2/ 263 رقم 488.
4 سنن الترمذي كتاب صفة القيامة باب 40 ج4 ص650 وقال حسن غريب.
واستمر الحال على هذا الوضع حتى هدمت البيوت جميعا في عهد الوليد بن عبد الملك.
صفحة إسكانر؟؟؟؟؟؟؟؟
ثالثًا: هجرة آل النبي صلى الله عليه وسلم
لما استقر المقام برسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة ونزل عند أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه كلف عبد الله بن أريقط الدؤلي، دليله في رحلة الهجرة أن يقوم برحلة ثانية يأتي فيها بأهله وأهل أبي بكر، وأرسل معه زيد بن حارثة، وأبا رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وزودهم بجملين، وخمسمائة درهم، ليشتروا بها إبلا من "قديد"1.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اختبر عبد الله بن أريقط وعلم أمانته، وخبرته، ولذلك اختاره ليأتي بأهله، وهي ولا شك مهمة أسهل من مهمته الأولى.
فذهب ابن أريقط ومن معه، وجاءوا بمن كلفوا بالإتيان بهم وهم:
1- سودة بنت زمعة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد دخل بها في مكة.
2- عائشة بنت أبي بكر زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم التي لم يدخل بها إلا بعد أن بنى لها بيتًا في المدينة.
3- أم رومان زوج أبي بكر، وأم عائشة رضي الله عنها.
4- فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
5- أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم2.
6- أسماء بنت أبي بكر وزوج الزبير بن العوام.
7- عبد الله بن أبي بكر.
8- أسامة بن زيد.
9- أيمن بن زيد أخو أسامة.
10- أم أيمن، حاضنة النبي صلى الله عليه وسلم وأم أسامة وأيمن.
__________
1 قديد تصغير قد وهو موضع قرب مكة ينسب إلى أحد الخزاعيين.
2 هذا وقد توفي أولاد النبي صلى الله عليه وسلم الذكور قبل الهجرة، وأما بناته فقد هاجرت رقية مع زوجها عثمان بن عفان رضي الله عنه وكانت وفاتها بالمدينة حين رجوع المسلمين من بدر، وبقيت زينب رضي الله عنها مع زوجها بمكة أبي العاص بن الربيع بن عبد شمس بن أمية حيث لم ينزل تحريم بقاء المسلمة عند المشرك بعد، وقد تمت هجرتها إلى أبيها بعد غزوة بدر.
11- أم أبي بكر رضي الله عنها1.
وكانت عائشة تركب جملا مع أمها، فشرد بهما، فأخذت أم رومان تقول واعروساه! وابنتاه!.
تقول عائشة رضي الله عنها: فسمعت قائلا يقول: أرسلي خطامه، فأرسلته، فوقف بإذن الله تعالى، وسلمنا الله عز وجل وسرنا حتى نزلنا بـ"السنح"2، وذهب كل إلى وليه، وأقامت سودة وأبناء النبي صلى الله عليه وسلم في دار أبي أيوب، أما عائشة فقد ذهبت للإقامة مع أبيها، ولم يدخل بها صلى الله عليه وسلم إلا بعد إقامة بيتها بعد أن انتهى من بناء بيت سودة رضي الله عنها3.
تقول عائشة رضي الله عنها: وبنى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي هذا، الذي أنا فيه، وهو الذي توفي فيه، ودفن فيه صلى الله عليه وسلم4.
وقد تصادف أن طلحة بن عبد الله رضي الله عنه خرج يريد الهجرة فتقابل مع آل النبي صلى الله عليه وسلم خارج مكة فهاجر معهم وصحبهم حتى وصلوا جميعًا إلى المدينة المنورة.
__________
1 بغية الرائد في تحقيق مجمع الزائد ج9 ص366.
2 السنح بضم أوله وسكون ثانيه، وهو أحد ضواحي المدينة كان به منزل أبي بكر الصديق رضي الله عنه وبين السنح وبين منزل النبي صلى الله عليه وسلم ميل واحد.
3 البداية والنهاية ج3 ص221.
4 بغية الرائد في تحقيق مجمع الزوائد ج9 ص367.
رابعًا: إقامة المسجد النبوي
استقر مقام النبي صلى الله عليه وسلم عند أبي أيوب قريبًا من المكان الذي بركت فيه الناقة، وكان مبرك الناقة مربدًا لبني النجار دفن المشركون في جزء منه، وفي جزء آخر نخل وشجر، والباقي خراب يملؤه ماء السيول والأمطار.
أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم لبني النجار وقال لهم: ثامنوني على حائطكم هذا. فقالوا: والله لا نطلب ثمنه إلا من الله تعالى.
وكان المربد مملوكًا لغلامين يتيمين من بني النجار هما: سهل وسهيل أبناء رافع بن أبي عمرو، وكانا في حجر أسعد بن زرارة، فدعاهما الرسول وساومهما على شراء المربد ليتخذه مسجدًا.
فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبله منهما هبة، واستمر معهما حتى ابتاعه ليكون مسجدًا فلما اشتراه النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالنخل فقطع، وبالقبور فنبشت، وبالعظام فغيبت، وبالخرب فسويت، وبما فيه من مياه فجففت، وبذلك أصبح المكان جاهزًا للبناء فيه.
أخذ الصحابة في البناء، ومعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكان صلى الله عليه وسلم ينقل معهم اللبن ويقول:
اللهم إن الأجر أجر الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرة1
وأدى اشتراك رسول الله صلى الله عليه وسلم في العمل جميع الصحابة إلى بذل الجهد، وتحمل مشاق العمل بنفس راضية.
رأى الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع رداءه ويحمل اللبن، حتى أن صدره اغبر من التراب فوضعوا أرديتهم وأكسيتهم وجعلوا يرتجزون ويعملون ويقولون:
لئن قعدنا والني يعمل ... ذاك إذا العمل المضلل
وفي أثناء العمل رأى الصحابة عثمان بن مظعون رضي الله عنه يحمل لبنة، ويبعدها عن
__________
1 صحيح البخاري كتاب المناقب باب مقدم النبي المدينة ج6 ص227.
ثوبه، فإذا وضعها نفض كمه، ونظر إلى ثوبه فإذا أصابه غبار نفضه، فنظر إليه علي ابن أبي طالب وقال:
لا يستوي من يعمر المساجدا ... يدأب فيها قائمًا وقاعدا
ومن يرى عن الغبار عائدا
فسمع عمار بن ياسر مقالة علي، فأخذ يرددها، وهو لا يدري من يعني بها علي رضي الله عنه فسمعه عثمان بن مظعون فظن أنه يعرض به فقال له: يابن سمية ما أعرفني بمن تعرض.
وكان مع عثمان جريدة فقال لعمار: لتكفن أو لأعرضن بها وجهك.
فسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب وقال: "إن عمار بن ياسر جلدة ما بين عيني وأنفي، ووضع يده بين عينيه"، فكف الناس عن عمار إلا أنهم قالوا له: إن النبي غضب فيك، ونخاف أن ينزل فينا قرآن.
فقال عمار: أنا أرضيه كما غضب.
فذهب عمار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: ما لي ولأصحابك؟.
فقال صلى الله عليه وسلم: "ما لك ولهم"؟.
قال عمار: يريدون قتلي يحملون لبنة لبنة، ويحملون علي لبنتين لبنتين.
فأخذ النبي بيده وطاف به المسجد، وأخذ يمسح جلد رأسه بيديه من التراب وهو صلى الله عليه وسلم يقول: "يابن سمية ليسوا بالذين يقتلونك، تقتلك الفئة الباغية تدعوهم إلى الجنة، ويدعونك إلى النار".
فقال عمار: أعوذ بالله من الفتن1.
يروي البخاري بسنده عن أبي سعيد الخدري أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يحملون لبنة لبنة وعمار لبنتين لبنتين، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فجعل ينفض التراب ويقول: "ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار" 2.
__________
1 سبيل الهدى والرشاد ج3 ص487، 488.
2 صحيح البخاري كتاب الصلاة، باب الحدث في المسجد ج1 ص302.
وكان الرسول يعلم ذلك مما يؤكد أن قول عمار لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن أصحابك يريدون قتلي هي من الدعابة مع رسول الله ليذهب عنه الغضب.
وقد حاول الصحابة أن يستريح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العمل فأبى, يقول أسامة بن زيد: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ومعه حجر يحمله على كتفه فلقيه أسيد بن حضير فقال أسيد: يا رسول الله أعطينيه.
فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "اذهب فاحتمل غيره فإنك لست بأفقر إلى الله مني" 1.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكل الأعمال التي تحتاج لخبرة إلى من يملك هذه الخبرة، فلقد جاء طلق بن علي، وهو رجل من بني حنيفة، يحسن عجين الطين، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: "إن هذا الحنفي لصاحب طين، قربوا الحنفي من الطين، فإنه أحسنكم له سبكًا، وأشدكم منكبًا" 2.
وكانت سعة المسجد حين بناه النبي صلى الله عليه وسلم أول مرة سبعين ذراعًا، في ستين أو يزيد، وجعل جدره من خشب، ولم يسطح، فلما اشتكى الصحابة الحر والمطر، جعل صلى الله عليه وسلم جدره من الخشب، والسواري من جذوع النخل، وظللوه بالخوص والجذوع، فكان الظل ثم طينوه بالطين فانقطع المطر، وأبقوا وسط المسجد رحبة بلا سقف.
وقبلة المسجد كانت أولا إلى بيت المقدس جهة الشمال، وأسسوا له ثلاثة أبواب في مؤخرته هي:
أ- باب أبي بكر جنوب المسجد وهو الآن جهة القبلة بعدما حولت إلى مكة وصار بعد التوسعة العثمانية جزءا داخل المسجد.
ب- باب عاتكة وهو باب الرحمة ويقع غرب المسجد داخل توسعة الملك فهد.
ج- باب النبي وهو الباب الذي كان يدخل منه النبي صلى الله عليه وسلم ويعرف بباب عثمان.
__________
1 سبل الهدى والرشاد ج3 ص489.
2 الإصابة في معرفة الصحابة ج3 ص538.
وقد قام النبي صلى الله عليه وسلم ببناء المسجد ليكون موضعًا للصلاة، ومكانًا لاجتماعه صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، ومقر الحكم والإدارة، ومنطلق الدعوة والإرشاد.
وبعد فتح خيبر أعاد النبي صلى الله عليه وسلم بناء المسجد مرة ثانية وزاد مساحته لأن أبعاده في البناء الثاني صارت مائة ذراع في مائة ذراع وقد قام عثمان بن عفان بشراء المساحة الجديدة وأهداها لمسجد النبي صلى الله عليه وسلم1.
ولم يغال النبي صلى الله عليه وسلم في بناء المسجد، ولا في زخرفته، بل كان القصد وترك الغلو، فبنى المسجد باللبن، وسقف بالجريد، وكانت أعمدته سيقان النخل، وقوائم الباب من الحجارة.
واتخذ النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه منبرًا هو جذع نخلة حن يوم اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم منبرًا من الخشب مكونًا من ثلاث درجات.
واستمر المسجد على ما تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن كانت خلافة عمر فزاد مساحته وبناه باللبن والجريد فلما كان عثمان زاد فيه مساحة كبيرة، وبنى عمده وجدره بالحجارة المنقوشة، وسقفه بالساج.
يروي البخاري بسنده عن ابن عمر أن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت سواريه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من جذوع النخل، وأعلاه مظلل بجريد النخل.
ثم إنها نخرت في خلافة أبي بكر فبناه بجذوع النخل ولم يزد فيه وزاد فيه عمر وبناه بمواده في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم باللبن، والجريد، وأعاد عمده خشبًا.
ثم إنها نخرت في خلافة عثمان فزاد فيه زيادة كبيرة، وبنى جدره بالحجارة المنقوشة والقصة، وجعل عمده من حجارة منقوشة، وسقفه بالساج، ونقل إليه الحصباء من العقيق2.
وأخذ الخلفاء والسلاطين يهتمون بالمسجد النبوي بناء، ومساحة، حتى كانت الدولة السعودية الثالثة، فتوسع المسجد مرتين، الأولى في عهد الملك سعود بن
__________
1 سبل الهدى والرشاد ج3 ص491.
2 السيرة النبوية في ضوء الكتاب والسنة ص125.
عبد العزيز، والثانية في عهد أخيه الملك فهد بن عبد العزيز حتى بلغت مساحة المسجد مساحة المدينة كلها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد قام المسجد النبوي بمهام خطيرة، ففيه بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤم المسلمين، ويلتقي بهم، وكان صلى الله عليه وسلم يلتقي بالوفود، والغرباء بداخله.
وقد أدرك المسلمون أهمية المسجد النبوي لما فيه من كثرة البركة، وعظم الخير كما علمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى" 1.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام" 2.
وعن عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ومنبري على حوضي" 3.
والمسلمون في كل عصر، ومن كل مصر يشدون رحالهم إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتشرفون بالسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم تعاودهم الذكريات الخالدة، ويعيشون حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
__________
1 صحيح مسلم بشرح النووي باب فضل المساجد الثلاثة ج3 ص541 ط الشعب.
2 صحيح مسلم بشرح النووي باب فضل المساجد الثلاثة ج3 ص537 ط الشعب.
3 صحيح البخاري كتاب الحج باب حدثنا مسدد ج3 ص284.
المبحث الثالث: تنظيم الحياة الاجتماعية في المدينة