قال العلماء رضي الله عنهم: أول ما أوحى إليه ربه تبارك وتعالى أن يقرأ باسم ربه الذي خلق، وذلك أول نبوّته، فأمره أن يقرأ في نفسه ولم يأمره إذ ذاك بتبليغ، ثم أنزل عليه: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ [المدثر 1، 2] فبدأه بقوله: «اقرأ» . وأرسله بيا أيها المدثر، ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين، ثم إنذار قومه، ثم إنذار من حولهم من العرب قاطبة، ثم إنذار من بلغته الدعوة من الجن والإنس إلى آخر الدهر، فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال ولا جزية، ويؤمر بالكفّ والصّبر والصّفح، ثم أذن له في الهجرة، فلما استقرّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وأيّده الله تعالى بنصره وبعباده المؤمنين، وألّف بين قلوبهم بعد العداوة والإحن التي كانت بينهم، فمنعته أنصار الله وكتيبة الإسلام: الأوس والخزرج، من الأسود، والأحمر، وبذلوا أنفسهم دونه، وقدّموا محبّته على محبّة الآباء والأبناء والأزواج، وكان أولى بهم من أنفسهم.
عادتهم العرب واليهود.
روى البيهقيّ وغيره عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة، وآوتهم الأنصار، رمتهم العرب واليهود عن قوس واحدة وشمّروا لهم عن ساق العداوة والمحاربة، وصاحوا بهم من كل جانب حتى كان المسلمون لا يبيتون إلا في السّلاح ولا يصبحون إلا فيه، فقالوا: ترى نعيش حتى نبيت مطمئنين لا نخاف إلا الله عز وجل، فأنزل الله تبارك وتعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ [النور 55] .
قال البيهقىّ: وفي مثل هذا المعنى قوله تعالى: وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ، الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [النحل 41، 42] ذكر بعض أهل التّفسير أنها نزلت في المعذّبين بمكة حين هاجروا إلى المدينة بعد ما ظلموا، فوعدهم الله تعالى في الدّنيا حسنة، يعني بها الرزق الواسع، فأعطاهم ذلك. فيروى، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه كان إذا أعطى الرجل عطاءه من المهاجرين يقول: خذ بارك الله لك فيه، هذا ما وعدك الله تبارك وتعالى في الدنيا، وما ادّخر لك في الآخرة أفضل. انتهى.
وكانت اليهود والمشركون من أهل المدينة يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فأمرهم الله تبارك وتعالى بالصّبر والعفو والصّفح، فقال تبارك وتعالى: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [آل عمران 186] أي قطعه قطع إيجاب وإلزام، وهو من التّسمية بالمصدر، أي من معزومات الأمور. وقال عز وجل: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [البقرة 109] أي أن محمدا رسول الله يجدونه مكتوباً عندهم في التَّوراة والإنجيل، فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ، أي الإذن بقتالهم وضرب الجزية عليهم.
وروى أبو داود وابن المنذر والبيهقي عن كعب بن مالك رضي الله عنه، قال: «كان المشركون واليهود من أهل المدينة حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أشد الأذى، فأمرهم الله تعالى بالصبر على ذلك والعفو عنهم. وروى الشيخان وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب» [ (1) ] ، يتأوّل في العفو ما أمره الله تعالى به حتى أذن الله تعالى فيهم، فقتل من قتل من صناديد قريش.
قال العلماء: فلمّا قويت الشوكة واشتدّ الجناح أذن لهم حينئذ في القتال ولم يفرضه عليهم، فقال تبارك وتعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ.
الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ، وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً. وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج 39، 40] .
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 8/ 84 (6207) .
أذن: رخّص وفي قراءة بالبناء للفاعل وهو الله. للذين يقاتلون المشركين وهم المؤمنون، والمأذون فيه محذوف، لدلالته عليه. وفي قراءة بفتح التاء، أي للذين يقاتلهم المشركون.
بأنهم ظلموا: بسبب أنهم ظلموا أي بظلم الكافرين إيّاهم. وإنّ الله على نصرهم لقدير:
وعدهم بالنّصر كما وعد بدفع أذى الكفّار عنهم. الّذين أخرجوا من ديارهم- يعني مكّة- بغير حقّ في الإخراج، ما أخرجوا إلّا أن يقولوا ربّنا الله وحده. وهذه القول حقّ في الإخراج بغير حق. ولولا دفع- وفي قراءة: دفاع- الله النّاس بعضهم- بدل بعض من النّاس- ببعض، بتسليط المؤمنين، على الكافرين. لهدمت- بالتّشديد للتكثير، وبالتّخفيف- صوامع للرّهبان وبيع للنّصارى وصلوات كنائس لليهود، وهي بالعبرانية «صلواتا» وقيل فيه حذف مضاف تقديره: مواضع صلوات، وقيل: المراد بتهديم الصّلوات تعطيلها. ومساجد للمسلمين يذكر فيها، أي في المواضع، اسم الله كثيرا وتنقطع العبادات بخرابها وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ [الحج: 40] أي دينه. إنَّ الله لقويّ على خلقه، عزيز: منيع في سلطانه وقدرته.
قال العلماء: ثم فرض عليهم القتال بعد ذلك لمن قاتلهم دون من لم يقاتلهم. قال تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا [البقرة 190] يعني في قتالهم فتقاتلوا غير الذين يقاتلونكم إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ. ثم فرض عليهم قتال المشركين كافة حتى يكون الدين كله لله. وقال الله عز وجل: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً [التوبة 36] أي جميعا كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً
. وقال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة 216] وكان محرّما، ثم صار مأذونا فيه، ثم مأمورا به لمن بدأهم بالقتال، ثم مأمورا به لجميع المشركين، إمّا فرض عين على أحد القولين، أو فرض كفاية على المشهور.
روى الإمام أحمد والترمذي، وحسنه، والنسائي وابن ماجة وابن حبان، عن ابن عباس وابن أبي شيبة: وعبد بن حميد، والبيهقي، عن مجاهد وابن عائذ وعبد الرزاق وابن المنذر عن الزهريّ، والبيهقيّ عن السدّيّ أن أول آية نزلت في القتال قوله تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [الحج 39] .
وروى الإمام أحمد والبخاري وأبو داود والنسائي وابن حبان والدارقطنيّ وتمّام عن أنس والأئمة عن أبي هريرة، وأبو داود الطيالسي والنسائي، وابن ماجة، والضياء عن أوس بن أوس الثّقفيّ، عن أبيه- قال الحافظ في الإصابة: والصواب أنه غير الذي قبله- والطبرانيّ عن جابر والنّسائيّ والبزار والطبراني عن النعمان بن بشير، وعن ابن عباس، وعن ابن مالك الأشجعيّ، عن أبيه، وعن أبي بكرة وعن سمرة، والإمام أحمد والخمسة عن عمر، والشيخان عن ابن
عمر، ومسلم والنسائي وابن حبان عن أبي هريرة، وابن ماجة عن معاذ، رضي الله عنهم أجمعين: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأن يستقبلوا قبلتنا، ويؤتوا الزّكاة، ويأكلوا ذبيحتنا، ويصلّوا صلاتنا، فإذا فعلوا ذلك فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، وحسابهم على الله، قيل: وما حقها؟ قال: زنا بعد إحصان، أو كفر بعد إسلام، أو قتل نفس فيقتل بها» [ (1) ] .
ثم كان الكفار معه صلّى الله عليه وسلم بعد الهجرة ثلاثة أقسام: قسم صالحهم، ووادعهم على ألا يحاربوه ولا يظاهروا عليه عدوّه، وهم على كفرهم آمنون على دمائهم وأموالهم، وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة، وقسم تاركوه فلم يصالحوه ولم يحاربوه، بل انتظروا ما يؤول إليه أمره وأمر أعدائه. ثم من هولاء من كان يحب ظهوره وانتصاره في الباطن، ومنه من كان يحب ظهور عدوّه عليه وانتصارهم، ومنهم من دخل معه في الظّاهر وهو مع عدوه في الباطن، ليأمن على نفسه من الفريقين، وهؤلاء هم المنافقون، فعامل صلى الله عليه وسلم كلّ طائفة من هذه الطوائف بما أمره ربه تبارك وتعالى، فصالح يهود المدينة وكتب بينه وبينهم كتاب أمن، وكانوا ثلاث طوائف حول المدينة: بني قينقاع وبني النّضير وبني قريظة، فنقض العهد الجميع، وكان من أمرهم ما سيأتي في الغزوات، وأمره الله سبحانه وتعالى أن يقيم لأهل العقد والصلح بعدهم، وأن يوفّي لهم به ما استقاموا على العهد، فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهدهم ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنبذ العهد، وأمره أن يقاتل من نقض عهده.
ولمّا نزلت سورة «براءة» نزلت ببيان هذه الأقسام كلّها، فأمره الله تعالى أن يقاتل عدوّه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية أو يدخلوا في دين الإسلام، وأمره بجهاد الكفّار والمنافقين والغلظة عليهم، فجاهد الكفار بالسيف والسّنان، والمنافقين بالحجة واللسان، وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار ونبذ عهودهم، وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام: قسم أمره بقتالهم، وهم الذين نقضوا عهده ولم يستقيموا له، فحاربهم وظهر عليهم، وقسم لهم عهد مؤقت لم ينقضوه ولم يظاهروا عليه، فأمره أن يتم لهم عهدهم إلى مدّتهم، وقسم لم يكن لهم عهد ولم يحاربوه، وكان لهم عهد مطلق، فأمره أن يؤجّلهم أربعة أشهر، فإذا انسلخت الأربعة قاتلهم، وهي الأشهر الأربعة المذكورة في قوله تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 1/ 75 (25) ومسلم 1/ 53 (36- 22) والترمذي (260- 2606) وابن ماجة (71) والنسائي 7/ 75 وأحمد في المسند 2/ 345 والدارمي 2/ 218 والبيهقي في السنن 1/ 84 والحاكم 1/ 386 والطبراني في التفسير 15/ 58 وعبد الرزاق (6916) والطبراني في الكبير 2/ 347 والدارقطني 2/ 89.
[التوبة 5] فالحرم هنا هي أشهر التّسيير، أولها يوم الأذان وهو العاشر من ذي الحجة، وهو يوم الحج الأكبر الذي وقع فيه التأذين بذلك، وآخرها العاشر من ربيع الآخر وليست هي الأربعة المذكورة في قوله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ [التوبة 36] فإِنَّ تلك واحد فرد وثلاثة سرد: رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم. ولم يسيّر المشركين في هذه الأربعة، فإن هذا لا يمكن، لأنها غير متوالية وإنما هو أجّلهم أربعة أشهر. ثم أمره بعد انسلاخها أن يقاتلهم، فقاتل الناقض لعهده، وأجّل من لا عهد له- أو له عهد مطلق- أربعة أشهر، وأمره أن يتمّ للموفي بعهده عهده إلى مدته، فأسلم هؤلاء كلّهم ولم يقيموا على كفرهم إلى مدتهم.
وضرب على أهل الذّمة الجزية، فاستقرّ أمر الكفّار معه بعد نزول براءة على ثلاثة أقسام:
محاربين له، وأهل عهد، وأهل ذمّة، ثم آلت حال أهل العهد والصّلح إلى الإسلام، فصار الكفار قسمين: أهل ذمّة آمنون وأهل حرب وهم خائفون منه، وصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام: مسلم مؤمن به، ومسالم له آمن، وخائف محارب. وأمر في المنافقين أن يقبل منهم علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله تبارك وتعالى، وأن يجاهدوهم بالعلم والحجّة، وأمره أن يعرض عنهم، ويغلظ عليهم، وأن يبلغ بالقول البليغ إلى نفوسهم، ونهي أن يصلّي عليهم وأن يقوم على قبورهم، وأخبر أنه إن استغفر لهم أو لم يستغفر لهم فلن يغفر الله لهم.
تنبيه: قال بعض الملحدين: إنما بعث صلى الله عليه وسلم بالسّيف والقتل، والجواب: أنه صلى الله عليه وسلم بعث أولا بالبراهين والمعجزات، فأقام يدعو الناس أكثر من عشر سنين فلم يقبلوا ذلك، وأصروا على الكفر والتكذيب، فأمر بالقتال وهو عوض العذاب الذي عذّب الله تعالى به الأمم السابقة لمّا كذّبت رسلهم.
الباب الثاني اختلاف الناس في عدد المغازي الذي غزا فيها النبي صلى الله عليه وسلّم بنفسه الكريمة، وفي كم قاتل فيها
روى ابن سعد عن ابن إسحاق وابن عقبة وأبي معشر وعن شيخه محمد بن عمر الأسلمي عن جماعة سمّاهم قالوا: كان عدد مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم التي غزا فيها بنفسه سبعا وعشرين، وقيل: تسع وعشرون، وقيل: ستّ وعشرون، ومن قال بذلك جعل غزوة خيبر ووادي القرى غزوة واحدة. وقيل: خمس وعشرون، وزعم الحافظ عبد الغني المقدسيّ أنه المشهور، وعزاه لابن إسحاق وابن عقبة وأبي معشر، والذي رواه عنهم ابن سعد ما سبق، وهو الصواب الذي جزم به أبو الفرج في «التّلقيح» والدّمياطيّ والعراقيّ وغيرهم. قال في المورد:
وهذا الذي نقله المؤلف، أي الحافظ عبد الغني عن هؤلاء الأئمة الثلاثة لم يقع لي من نقله عنهم غير المؤلف، سرد أسماء الغزوات، وهي غزوة الأبواء ويقال لها: ودّان، ثم غزوة بواط، ثم غزوة سفوان، وهي بدر الأولى لطلب كرز بن جابر، ثم غزوة العشيرة، ثم غزوة بدر الكبرى، ثم غزوة بني سليم بالكدر، ويقال لها: قرقرة الكدر، ثم غزوة السّويق، ثم غزوة غطفان، وهي غزوة ذي أمرّ ثم غزوة الفرع، من بحران بالحجاز، ثم غزوة بني قيقاع، ثم غزوة أحد، ثم غزوة حمراء الأسد، ثم غزوة بني النّضير، ثم غزوة بدر الأخيرة وهي غزوة بدر الموعد، ثم غزوة دومة الجندل، ثم غزوة بني المصطلق وهي المريسيع، ثم غزوة الخندق، ثم غزوة بني قريظة، ثم غزوة بني لحيان، ثم غزوة الحديبية، ثم غزوة ذي قرد، ثم غزوة خيبر، ثم غزوة ذات الرقاع وهي غزوة محارب وبني ثعلبة ثم غزوة عمرة القضاء، ثم غزوة فتح مكة، ثم غزوة حنين، ثم غزوة الطّائف، ثم غزوة تبوك، وفي بعض ذلك تقديم وتأخير عند بعض المحدثين، وسيأتي بيان ذلك مفصّلا مع ضبطه.
قال ابن إسحاق، وابن سعد وابن حزم، وابن الأثير رحمهم الله: قاتل النبي صلى الله عليه وسلم في تسع غزوات: بدر، وأحد، والخندق، وقريظة، والمصطلق وهي المريسيع وخيبر والفتح وحنين والطّائف، ويقال: أنه صلى الله عليه وسلم قاتل أيضا في بني النّضير ووادي القرى، والغابة. وقال ابن عقبة:
قاتل في ثماني مواطن وأهمل عدّ قريظة، لأنه ضمهّا إلى الخندق لكونها كانت في إثرها، وأفردها غيره لوقوعها منفردة بعد هزيمة الأحزاب، وكذا وقع لغيره، عدّ الطائف وحنينا واحدة لكونها كانت في إثرها.
وروى مسلم عن بريدة بن الحصيب [ (1) ] رضي الله تعالى عنه قال: قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمان غزوات قال النّوويّ: لعل بريدة أسقط غزوة الفتح ويكون مذهبه أنها فتحت صلحا- كما قال الشافعيّ وموافقوه- قلت: والتوجيه السابق أقعد. قال الحافظ أبو العباس الحراني رحمه الله في الرد على ابن المطهر الرافض: لا يفهم من قولهم أنه صلى الله عليه وسلم قاتل في كذا وكذا أنه قاتل بنفسه كما فهمه بعض الطلبة ممن لا اطلاع له على أحواله صلى الله عليه وسلم، ولا يعلم أنه قاتل بنفسه في غزوة إلا في أحد فقط. قال: ولا يعلم أنه ضرب أحدا بيده إلا أبي بن خلف، ضربه بحربة في يده. انتهى.
قلت: وعلى ما ذكره يكون المراد بقولهم: قاتل في كذا وكذا أنه صلى الله عليه وسلم وقع بينه وبين عدوّه في هذه الغزوات قتال قاتلت فيها جيوشه بحضرته صلى الله عليه وسلم، بخلاف بقيّة الغزوات، فإنه لم يقع فيها قتال أصلا، لكن نقل الحافظ في الفتح عن ابن عقبة أنه قال: قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه في ثمان غزوات، وراجعت نسخة صحيحة في مغازي ابن عقبة ونصّه: ذكر مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم التي قاتل فيها، قاتل في بدر إلى آخر ما ذكره ثم قال: وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة غزوة لم يكن فيها قتال. انتهى.
ولم يذكر فيها أنه صلى الله عليه وسلم قاتل بنفسه، فكأنها في بعض النسخ. وسيأتي في غزوة أحد إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى بقوسه حتى صارت شظايا، وأنه أعطى ابنته فاطمة رضي الله عنها يوم أحد سيفه فقال: اغسلي دمه عنه، وفي حديث.... كنا إذا التقينا، كتيبة أو جيشا، أول من يضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه ...
والغزوات الكبار الأمهّات سبع: بدر، وأحد، والخندق، وخيبر، والفتح، وحنين، وتبوك.
وفي شأن هذه الغزوات نزل القرآن، ففي بدر كثير من سورة الأنفال، وفي أحد آخر آل عمران من قوله تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ [آل عمران 121] إلى قبيل آخرها بيسير. وفي قصة الخندق وقريظة صدر سورة الأحزاب، وفي بني النّضير سورة الحشر. وفي قصة الحديبية وخيبر سورة الفتح، وأشير فيها إلى الفتح، وذكر الفتح في سورة النّصر، وتبوك في سورة براءة. وجرح منها رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد فقط، وقاتلت معه الملائكة منها في بدر وحنين وأحد على خلاف في الثالثة يأتي تحقيقه في غزوتها. ونزلت الملائكة يوم الخندق فزلزلوا المشركين وهزموهم. ورمى بالحصباء في وجوه المشركين
__________
[ (1) ] بريدة بن الحصيب بن عبد الله بن الحارث الأسلمي، له كنى وسكن المدينة ثم البصرة ثم مرو، له مائة وأربعة وستون حديثاً. اتفقا على حديث وانفرد (خ) بحديثين و (م) بأحد عشر، روى عنه ابنه عبد الله وأبو المليح عامر. مات بمرو سنة اثنتين أو ثلاث وستين. وهو آخر من مات بخراسان من الصحابة. [الخلاصة 1/ 121] .
فهربوا، فكان الفتح في غزوتين: بدر وحنين. وقاتل بالمنجنيق في غزوة واحدة وهي الطّائف.
وتحصّن بالخندق في واحدة وهي الأحزاب، أشار به عليه سلمان الفارسي رضي الله عنه.