,
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل الأنصاري الخزرجي الإمام المقدّم في علم الحلال والحرام إلى اليمن قاضيا ومفقّها، وأميرا، ومصدّقا «1» ، وجعله على أحد مخلافيها «2» وهو الأعلى، وفي طبقات ابن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن لما بعث معاذا: «إني بعثت لكم خير أهلي» .
ولما خرج معاذ متوجها إلى اليمن خرج معه رسول الله صلى الله عليه وسلم يودعه ويوصيه، ومعاذ راكب، ورسول الله يمشي تحت راحلته، فأوصاه بوصايا كثيرة، منها: «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن» «3» .
وقال له- وقد وضع رجله في الغرز «4» -: «حسّن خلقك للناس» «5» رواه مالك في الموطأ، وقال له أيضا: «إنك ستأتي قوما أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا ألاإله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات كل يوم وليلة، فإن هم
__________
(1) المصدّق بتشديد الدال: اخذ الزكاة.
(2) المخلاف بكسر الميم بلغة أهل اليمن: الإقليم والكورة والرستاق، وكانت إمارة معاذ على المخلاف الأعلى، واليمن مخلافان.
(3) رواه أحمد والترمذي.
(4) الغرز: هو للإبل كالسرج للفرس، وهو ما يركب عليه.
(5) رواه مالك في الموطأ.
أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أنّ الله فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب» «1» .
وما أجلّه من منهج يجب أن يسلكه المربون والمعلمون، والهداة والمصلحون.
وكذلك أراد النبي أن يعرف علمه بالقضاء حين بعثه فقال له: «كيف تصنع إن عرض لك قضاء» ؟ قال: أقضي بما في كتاب الله، قال: «فإن لم يكن في كتاب الله» ؟ قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «فإن لم يكن في سنة رسول الله» ؟
قال: أجتهد- وإني لا الو- أي لا أقصر، قال: فضرب رسول الله صدره ثم قال: «الحمد لله الذي وفّق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله» «2» . وهذا يدلّ على فقه معاذ، وعلمه بأصول القضاء.
فلما فرغ رسول الله من وصاياه قال له: «يا معاذ، إنك عسى ألاتلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أن تمر بمسجدي هذا وقبري» فبكى معاذ خشعا لفراق الرسول. وكذلك وقع الأمر كما أشار الرسول، فقد أقام معاذ باليمن، ولم يقدم إلا بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.
,
وكذلك بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا موسى الأشعري اليمني إلى مخلاف اليمن الاخر وهو الأسفل، قاضيا ومفقها وأميرا ومصدّقا، وأوصاه ومعاذا فقال: «يسّرا ولا تعسرا، وبشّرا ولا تنفّرا، وتطاوعا ولا تختلفا» «3» .
وقد عملا بوصية النبي، وانطلق كل واحد منهما إلى عمله، وصارا يتزاوران ويتحابان في الله، وقد سأل أبو موسى رسول الله فقال: يا نبي الله،
__________
(1) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
(2) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه.
(3) رواه البخاري.
إن أرضنا بها شراب من الشعير- المزر- وشراب من العسل- البتع- فقال:
«كل مسكر حرام» .
وقد دلّ بعث النبي لأبي موسى على أنه كان عالما فطنا حاذقا، ولولا ذلك لم يولّه النبي صلى الله عليه وسلم الإمارة والقضاء، ولو كان فوّض الحكم لغيره لم يحتج إلى توصيته بما وصاه به، ولذلك اعتمد عليه عمر، ثم عثمان، ثم علي.
وأما الخوارج والروافض فطعنوا فيه ونسبوه إلى الغافلة وعدم الفطنة لما صدر منه في التحكيم بصفين، قال ابن العربي وغيره: والحق أنه لم يصدر منه ما يقتضي وصفه بذلك، وغاية ما وقع منه أن اجتهاده أداه إلى أن يجعل الأمر شورى بين من بقي من أكابر الصحابة من أهل بدر ونحوهم، لما شاهد من الاختلاف الشديد بين الطائفتين بصفّين، وال الأمر إلى ما ال إليه «1» .