وادع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَن بالمدينة من اليهود، وكتب بينه وبينهم كتابًا، أعطاهم فيه الآمان على النفس والمال والعرض، ما أحبوا البقاء، وبهذا توفر الأمن الداخلي للمجتمع
__________
(1) سورة الأنفال، آية 75.
(2) انظر: زاد المعاد (3/ 63).
(3) أخرجه البخاري في المناقب، باب كيف آخى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار ح (3937).
(4) أخرجه البخاري في الشروط، باب الشروط في المعاملة ح (2719).
(5) أخرجه أحمد في المسند (3/ 200، 201). قال ابن كثير (البداية 3/ 564): (هذا حديث ثلاثي الإِسناد على شرط الصحيحين).
بكل طوائفه. وكان اليهود بالمدينة ثلاث قبائل؛ بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة. ولكنهم نقضوا العهد قبيلة بعد الأخرى، وحاربوه - صلى الله عليه وسلم - فمنَّ على بني قينقاع، وأجلاهم، كما أجلى بني النضير، ونزلت فيهم سورة الحشر، وقتل المقاتلة من بني قريظة، وسبى ذريتهم؛ لأنهم غدروا في ميدان المعركة، ونزلت فيهم سورة الأحزاب (1). وهذا هو منهج الإِسلام في معاملة غير المسلمين؛ لهم الأمن والأمان ما لم يحدث منهم ما يخل بالعهد والميثاق.
وقد تضمنت الوثيقة بنودًا عدّة، منها:
1 - أنّ اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
وفي هذا إِلزام اليهود بدفع قسط من نفقات الحرب الدفاعية عن المدينة لاشتراكهم في الوطن.
2 - أن يهود بني عوف أمّة مع المؤمنين.
وفي هذا تحديد للعلاقة مع المتهوِّدين من الأوس والخزرج؛ وقد نسبتهم الوثيقة إِلى عشائرهم، وأقرّت حلفهم مع المسلمين.
,
وفي هذا إِقرار لهم على دينهم الذي كانوا عليه. وعدم إِكراههم على الدين الإسلامي.
4 - إِلا من ظلم وأثم، فإِنّه لا يوتغ إِلا نفسه وأهل بيته.
وفي هذا تحديد المسؤولية عن الجرائم، وحصرها على مرتكبيها.
5 - أنّه لا تُجار قريشٌ ولا من نصرها.
__________
(1) انظر: زاد المعاد (3/ 65).
وفي هذا بيان بأن الدولة الإِسلامية في ذلك الوقت تحارب قريشًا، فلا يجار أحد منهم أو من ناصرهم على المسلمين.
6 - وإنّه لا يأثم امرؤ بحليفه.
وفي هذا تحديد أن العقوبة لا تتجاوز مرتكبها إِلى حلفائه، وهو مبدأ قصر العقوبة على مرتكبيها.
7 - وإِن النصر للمظلوم.
في هذا محاربة للظلم وتقرير للعدل.
8 - وإِنّ يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة.
وفي هذا إِشاعة للأمن الداخلي، ومنع الحروب الأهلية.
9 - وأنه لا يخرج أحد من اليهود إِلا بإِذن النبيّ (صلى الله عليه وسلم).
وهذا القيد على تحركاتهم يستهدف منعهم من القيام بأي نشاط عسكري خارج المدينة؛ لأنّه يؤثر على أمن الدولة الإِسلامية الاقتصادي وسلمها الاجتماعي (1).
,
وذلك لبيان المسؤليات وتحديد الواجبات والحقوق على كل طرف، وقد نصت وثيقة العهد على أنها بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، وأنهم أمة واحدة من دون الناس (2). وبهذا النص أحل النبي - صلى الله عليه وسلم - رابطة الدين والعقيدة محل رابطة النسب والقبيلة كجامع عام، مع الإِبقاء على العلاقات والروابط من النسب، والحلف الذي لا يتعارض مع الرابطة الأساس (الإيمان والعقيدة).
__________
(1) انظر: خبر هذه البنود في منهج النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في الدعوة من خلال السيرة النبوية للدكتور محمَّد أمحزون (ص 300 - 302). وعن توثيقها انظر: أكرم ضياء العمري، السيرة النبوية الصحيحة 1/ 274 - 276.
(2) انظر: نص الوثيقة عند أكرم العمرى، المصدر السابق 1/ 292 - 298.
وأشارت الوثيقة إِلى التعاون على البر والتقوى، ونصرة المظلوم، وإِطعام الجائع، وأن تتعاقل كل قبيلة معاقلهم الأولى، وختمت بأن كل خلاف يقع بين أهل هذه الصحيفة فإِن مرجعه إِلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
,
قال عبد الله بن سلام: (لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة انجفل الناس قِبَله، قالوا: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فجئتُ لأنظر، فلما رأيتُه عرفتُ أن وجهه ليس بوجه كذّاب. فكان أول شيءٍ سمعتُه منه أن قال: أيها الناس، أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وصِلوا الأرحام، وصلَّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنّة بسلام (2).
فقد بادر حبر اليهود وعالمهم عبد الله بن سلام، بالمجيء إِلى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أوّل مقدمه المدينة، فقال: إِني سائلك عن ثلاث، لا يعلمهن إِلَّا نبيّ، فما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام أهل الجنة؟ وما ينزع الولد إِلى أبيه أو إِلى أمه؟ قال - صلى الله عليه وسلم - "أخبرني بهن
__________
(1) حول هذه الدروس انظر: زيد المزيد، فقه السيرة ص 331 - 356.
(2) أخرجه الترمذي، كتاب صفة الجنة، باب الرقائق والورع (2485)، وصححه.
جبريل آنفًا". قال: جبريل؟ قال: "نعم". قال: ذاك عدو اليهود من الملائكة. فقرأ - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} (1) "أمّا أول أشراط الساعة، فنار تحشر الناس من المشرق إِلى المغرب، وأمّا أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وإِذا سبق ماءُ الرجل ماءَ المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة نزعت". قال: أشهد أن لا إِله إِلا الله، وأشهد أنك رسول الله، يا رسول الله، إِن اليهود قومٌ بُهتٌ، وإِنهم إِن يعلموا بإِسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني. فجاءت اليهود، فقال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "أيّ رجل عبد الله فيكم؟ ". قالوا: خيرنا، وابن خيرنا، وسيدنا، وابن سيدنا. قال: "أرأيتم إِن أسلم عبد الله بن سلام". فقالوا: أعاذه الله من ذلك. فخرج عبد الله، فقال: أشهد أن لا إِله إِلا الله وأن محمدًا رسول الله. فقالوا: شرنا وابن شرنا. وانتقصوه، قال: فهذا الذي كنت أخاف يا رسول الله (2).
قال الله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (3) قال سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: نزلت في عبد الله بن سلام - رضي الله عنه - (4).
2 - موت أسعد بن زُرارة نقيب بني النجّار.
مات أسعد بن زرارة - رضي الله عنه - في شوال بعد مقدم النبيّ - صلى الله عليه وسلم - المدينة بسبعة أشهر (5)، توفي قبل أن يفرغ من بناء المسجد.
وهو أول من جمّع بالمدينة في نقيع الخَضِمات في هَزْمِ النّبيت (6).
__________
(1) سورة البقرة، آية 97.
(2) أخرجه البخاري في التفسير، باب {مَنْ كَانَ عَدُوًّالله} ح (4480).
(3) سورة الأحقاف، آية 10.
(4) صحيح البخاري ح رقم (3812) ومسلم حديث رقم ح (2483).
(5) انظر: ابن الأثير، أسد الغابة (1/ 87).
(6) انظر: البداية والنهاية (3/ 377، 378).
ولم يجعلْ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لبني النجار نقيبًا، وقال: أنا نقيبكم (1)، فكان من فضل بني النجار الذي يعتدون به على قومهم، أن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نقيبهم (2).