وفي أثناء مقام الرسول بدار أبي أيوب الأنصاري قدم عليه أحد أحبار اليهود وعلمائهم وهو عبد الله بن سلام، وكان يعلم من كتبهم أوصاف النبي المبعوث في اخر الزمان. فلما جاء إلى النبي سأله بعض أسئلة تأكّد منها أنه نبي، لأنه ما يعلمها إلا نبي، فأسلم وقال للرسول: لا تعلن إسلامي حتى تسأل اليهود عني، لأنهم إن علموا إسلامي فسينتقصونني.
فأرسل إليهم النبي وسألهم عنه، فقالوا: خيرنا وابن خيرنا، فلما أخبرهم بإسلامه قالوا: شرنا وابن شرنا. وإليك هذه القصة كما رواها البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال:
« ... فلما جاء نبي الله صلى الله عليه وسلم جاء عبد الله بن سلام فقال: أشهد أنك رسول الله، وأنك جئت بالحق، وقد علمت يهود أني سيدهم وابن سيدهم، وأعلمهم وابن أعلمهم، فادعهم فاسألهم عني قبل أن يعلموا أني قد أسلمت، فإنهم إن يعلموا أني قد أسلمت قالوا فيّ ما ليس فيّ.
فأرسل نبي الله صلى الله عليه وسلم فأقبلوا فدخلوا عليه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«يا معشر اليهود ويلكم اتقوا الله، فو الله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقا وأني جئتكم بحق، فأسلموا» قالوا: ما نعلمه.
قال: «فأي رجل فيكم عبد الله بن سلام» ؟ قالوا: ذاك سيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا. قال: «أفرأيتم إن أسلم» ؟ قالوا: حاشا لله ما كان ليسلم، وكرّرها وأجابوه- ثلاثا- قال: «يا ابن سلام اخرج عليهم» ، فخرج، فقال:
يا معشر اليهود، اتقوا الله، فو الله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله، وأنه جاء بحق، فقالوا: كذبت. وفي رواية أخرى أنهم قالوا: شرّنا وابن شرّنا وتنقّصوه. قال هذا ما كنت أخاف يا رسول الله «1» . وقد أسلم
__________
(1) صحيح البخاري «باب هجرة النبي وأصحابه إلى المدينة» و «باب إتيان اليهود النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة» .
بإسلامه أهل بيته، وعمة له تسمّى خالدة بنت الحارث «1» .
وأما غيره من أحبار اليهود فقد طمس الحقد والحسد على قلوب الكثيرين منهم، وأبوا أن يؤمنوا، فكان عاقبة أمرهم خسرا ووبالا في الدنيا والاخرة، كما سيأتي إن شاء الله.
__________
(1) فتح الباري ج 7 ص 202.
,
لئن كان النبي صلى الله عليه وسلم بإخائه بين المهاجرين والأنصار بلغ الغاية في الحكمة والتدبير والسياسة، فقد كان العمل البارع حقا الذي يدل على الحنكة السياسية والقدرة الفائقة على حل المشاكل- هو ما قام به من موادعة اليهود ومحالفتهم، فقد كتب بين المهاجرين والأنصار كتابا وادع فيه اليهود وعاهداهم وأقرهم على دينهم وأموالهم، واشترط عليهم، وشرط لهم، وهذا هو نص الكتاب:
«بسم الله الرحمن الرحيم: هذا كتاب من محمد النبي الأمي بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم، وجاهد معهم، أنهم أمة واحدة من دون الناس: المهاجرون من قريش على ربعتهم «1» يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط، وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، ثم ذكر كل بطن من بطون الأنصار وأهل كل دار:
بني ساعدة، وبني جشم، وبني النجار، وبني عمرو بن عوف، وبني النبيت. إلى أن قال: وإن المؤمنين لا يتركون مفرحا «2» بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء وعقل، ولا يخالف مؤمن مولى مؤمن دونه، وأن المؤمنين المتقين على من بغى منهم، أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثم أو عدوان، أو فساد بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعهم، ولو كان ولد أحدهم، ولا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر؛ ولا ينصر
__________
(1) ربعتهم: جماعتهم.
(2) المفرح المثقل بالدين الكثير العيال، قاله ابن هشام.
كافرا على مؤمن، وأن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم، وأن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس.
وأنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين، ولا متناصر عليهم، وأن سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم، وأن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضا، وأن المؤمنين يبيء «1» بعضهم بعضا بما نال دماءهم في سبيل الله، وأن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه.
وأنه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا، ولا يحول دونه على مؤمن، وأنه من اعتبط «2» مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود به إلا أن يرضى ولي المقتول، وأن المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم إلا قيام عليه.
وأنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة، وامن بالله واليوم الاخر أن ينصر محدثا «3» ولا يؤويه، وأنه من نصره أو اواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل «4» ، وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله عز وجل، وإلى محمد صلى الله عليه وسلم.
وأن اليهود يتفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين. وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين. لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم ومواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ «5» إلا نفسه وأهل بيته. وأن ليهود بني النجار وبني الحارث، وبني ساعدة وبني جشم، وبني الأوس، وبني ثعلبة، وجفنة، وبني الشّطيبة «6» مثل ما ليهود بني عوف، وأن بطانة يهود كأنفسهم. وأنه لا يخرج منهم أحد
__________
(1) يبيء من البوء أي المساواة يريد أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض فيما ينال دماءهم.
(2) يقال: اعتبطه أي قتله بلا جناية كانت منه ولا جريرة توجب قتله.
(3) جانيا.
(4) الصرف: التوبة، العدل: الفدية، أي لا يقبلان منه.
(5) يوتغ: يهلك ويفسد.
(6) في حياة محمد «لبني الشطبية» .
إلا بإذن محمد، ولا ينحجر «1» على ثأر جرح، وأنه من فتك فبنفسه إلا من ظلم، وأن الله على أثر «2» هذا.
وأن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وأنه لم يأثم امرؤ بحليفه؛ وأن النصر للمظلوم؛ وأن يثرب حرام جرفها «3» لأهل هذه الصحيفة، وأن الجار كالنفس غير مضار ولا اثم. وأنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها.
وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله، وأن الله على أتقى «4» ما في هذه الصحيفة وأبره، وأنه لا تجار قريش ولا من نصرها. وأن بينهم النصر على من دهم يثرب، وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه، وأنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين، على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم، وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو اثم، وأنه من خرج امن ومن قعد امن بالمدينة إلا من ظلم أو أثم. وأن الله جار لمن بر واتقى» .
هذه هي الوثيقة التي وضعها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم منذ قرابة أربعة عشر قرنا؛ وهي وثيقة جديرة بالإعجاب حقا، وثّق فيها ما بين المهاجرين والأنصار من إخاء وحلف، وقرّر فيها حرية العقيدة لغير المسلمين، وحرية الرأي، وحرمة المدينة، وحرمة الحياة، وحرمة المال، وبذلك سبق النبي صلى الله عليه وسلم إلى تقرير حقوق الإنسان من هذا الزمن البعيد. وقرر فيها أيضا تحريم الجريمة والإثم والغدر والخديعة، وهي فتح جديد حقا في الحياة السياسية والمدنية في هذا العالم يومئذ، هذا العالم
__________
(1) يعني لا يلتئم جرح على ثأر.
(2) في حياة محمد «على أبر» .
(3) الجرف: موضع قريب من المدينة. وفي ابن هشام «جوفها» .
(4) في حياة محمد «على أتق» .
الذي كان تغلب عليه روح الاستبداد، وتعبث فيه يد الظلم فسادا، ولا تراعى فيه الحقوق والحرمات.
وبمقتضى هذه الوثيقة أصبحت المدينة حرما امنا، وأصبح كلّ من المسلمين واليهود في أمن من جانب الاخر، وأصبح اليهود ملزمين بمعاونة المسلمين إذا ما دهم المدينة عدو، وبعدم مساعدة المشركين ومناصرتهم ضدهم.
ولقد وفى النبي والمسلمون بكل الالتزامات التي أوجبتها هذه الوثيقة عليهم، على حين لم يف بما فيها اليهود، ولما عادوا إلى طبيعتهم من الدس والوقيعة والخداع، فحاولوا الوقيعة بين الأوس والخزرج، وهمّوا بقتل النبي، واستباحوا حرمات المسلمين فكانت عاقبة أمرهم ذلا.