شقت الدعوة مسيرتها الصعبة بين كفار مكة، وأخذ الأذى يلاحق كل من أسلم، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد سنين من الجهر بالدعوة أن الكفار ماضون في عنفهم وعنتهم، وصدهم الناس عن سبيل الله.. ولذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة إلى الحبشة، لما فيها من موطن آمن، ووجود ملك لا يظلم أحدا..
روي عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أصحابه إلى النجاشي، وكانوا نحو ثمانين رجلا وامرأة، وذلك في رجب سنة خمس من النبوة.
تقول أم مسلمة: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا النجاشي خير جار، وأمنا على ديننا كما وعدنا الله، لا نؤذى، ولا نسمع شيئا نكرهه، وأقمنا في خير دار مع خير جار.
وعاش المهاجرون بالحبشة مدة سمعوا خلالها أن صلحا أبرمه الرسول صلى الله عليه وسلم وأهل مكة فجاءوا إلى مكة عائدين فلما اكتشفوا أن شيئا لم يحدث عادوا مرة ثانية إلى الحبشة، وظل المهاجرون في الحبشة إلى أن هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فقدموا إليها بعد فتح خيبر.
هذه الكوكبة السابقة إلى الهجرة كان لها فضل السبق في إيصال الإسلام إلى خارج الجزيرة، والدعوة إليه بعملهم وسلوكهم.. وبهذا السبق تميزوا عن المهاجرين إلى المدينة.. يروي البخاري بسنده عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: بلغنا مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن فخرجنا مهاجرين إليه.
أنا وأخوان لي أنا أصغرهم، أحدهم أبو بردة، والثاني أبو رهم في ثلاثة وخمسين أو اثنين وخمسين رجلا من قومي فركبنا سفينة، فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة، فوافقنا جعفر أبي طالب، فأقمنا معه حتى قدمنا جميعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر، وكان أناس من الناس يقولون لنا: سبقناكم بالهجرة، ودخلت أسماء بنت عميس، وهي ممن قدم معنا على حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم زائرة، وقد كانت هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر، فدخل عمر على حفصة وأسماء عندها، فقال عمر حين رأى أسماء: من هذه؟
قالت حفصة: أسماء بنت عميس.
قال عمر: الحبشية هذه؟! البحيرية هذه؟!
قالت أسماء: نعم.
قال: سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم، فغضبت وقالت: كلا والله، كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم، وكنا في دار، أو في أرض البعداء، وذلك في الله وفي رسوله صلى الله عليه وسلم، وايم الله لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، وأسأله والله لا أكذب، ولا أزيغ، ولا أزيد عليه، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم قالت: يا نبي الله، إن عمر قال كذا وكذا.
قال صلى الله عليه وسلم: "فما قلت له؟ ".
قالت: قلت له كذا وكذا.
قال صلى الله عليه وسلم: "ليس بأحق بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان".
قالت: فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة يأتون أرسالا يسألون عن هذا الحديث، ما من الدنيا شيء هم به أفرح، ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو بردة: قالت أسماء: فلقد رأيت أبا موسى وأنه ليستعيد هذا الحديث مني1.
__________
1 فتح الباري ج9 ص24-27.
وقد سر رسول الله صلى الله عليه وسلم سرورا بالغا بعودة مهاجري الحبشة بعد هذه الفترة الطويلة وأمر الإسلام يعلو، وسلطانه يمتد شمال شبه الجزيرة وجنوبها، وعندما نزلوا بالمدينة قام الحبيب المحبوب صلى الله عليه وسلم يرحب بعودتهم، ويعلن فرحه بهم، وذلك فيما يرويه الحاكم بسند صحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لما قدم جعفر بن أبي طالب من أرض الحبشة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أدري بأيهما أفرح: بفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟! " 1.
إن الهجرة إلى الحبشة كانت مؤقتة، يلجأ إليها المسلمون، يكتشفون بها معالم الناس، ويتعرفون على مذاهب وعادات الأقوام؛ ولذلك عاد المهاجرون إلى المدينة موطن الإسلام ومستقره، وقاعدة انطلاقه إلى العالم كله.
__________
1 المستدرك ج2 ص624.