وفيها بنت قريش الكعبة وتقسمتها أرباعا فلما انتهوا إلى موضع الحجر الاسود تنازعوا أيهم يضعه في موضعه ثم اتفقوا أن يحكموا أوّل داخل عليهم من بني هاشم من باب بنى شيبة فكان صلى الله عليه وآله وسلم أوّل من ظهر لابصارهم فأخبروه فبسط صلى الله عليه وعلى آله وسلم رداءه ووضع الحجر فيه وأمر أربعة من رؤسائهم أن يحملوه معا الى منتهى موضع الحجر ثم أخذه صلى الله عليه وآله وسلم بيده الكريمة المباركة ووضعه في موضعه وفي الصحيح انهم كانوا يجعلون أزرهم على عواتقهم لتقيهم الحجارة استدل به أبو بكر بن أبي داود على تفضيل خديجة على عائشة لان عائشة سلم عليها جبريل من قبل نفسه ولم يبلغها السلام من الله تعالى (فقالت الله هو السلام ومنه السلام وعلى جبريل السلام) من زيادات الطبراني وقد يؤخذ منه ان الشخص اذا أرسل اليه السلام يبدأ في الجواب بالمسلم ثم بالرسول وهو خلاف المعروف (ببيت) قال الخطابي وغيره المراد به هنا القصر (من قصب) بفتح القاف والمهملة بعدها موحدة قال النووي قد جاء في الحديث مفسرا ببيت من لؤلؤة مخبأة وفسروه بمجوفة انتهي (قلت) وفي الطبراني من حديث فاطمة قالت قلت يا رسول الله اين أمي قال في بيت من قصب قلت أمن هذا القصب قال لابل من القصب المنظوم بالدر واللؤلؤ والياقوت (لاصخب) بمهملة فمعجمة مفتوحتين وهو الصوت المختلط المرتفع ولغة ربيعة فيه بالسين (نصب) هو المشقة والتعب. قال النووي ويقال فيه نصب بضم النون وسكون المهملة كحزن وحزن والفتح أشهر وبه جاء القرآن أى في قوله تعالى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وقد نصب بفتح النون وكسر الصاد (عند تراجم) جمع ترجمة وأصلها التعبير عن لغة باخرى (ولما بلغ صلى الله عليه وسلم خمسا وثلاثين سنة ظهرت وبهرت امارات خبره ظهور) منصوب على المصدر (القرى) بكسر القاف الضيافة (ولدت فاطمة) انما ذكر ولادتها دون اخواتها مع انهن أكبر منها كما سيأتي لفضلها عليهن بل على نساء العالمين وسيأتي ان وفاتها بعد أبيها بستة أشهر فجملة عمرها ثمان وعشرون سنة وأشهر (الكعبة) سميت بذلك لارتباعها وقيل لارتفاعها ومن أسمائها البيت الحرام والمسجد الحرام والبنية والمذبحة (وتقسمتها ارباعا) فكان ما يلى الباب لبني عبد مناف وبني زهرة وما بين ركن الحجر واليمانى لبني مخزوم وتيم وقبائل من قريش وكان ظهرها لبنى سهم وجمح وكان سوى الحجر لبني عبد الدار وبني أسد وبني كعب (ثم اتفقوا ان يحكموا أوّل داخل عليهم الى آخره) كان ذلك بمشورة أبى أمية المخزومي وأبى حذيفة بن المغيرة قاله ابن الاثير وغيره (من باب بني شيبة) هو المعروف الآن بباب السلام (وفي) الحديث (الصحيح)
ففعل صلى الله عليه وآله وسلم مثلهم فسقط مغشيا عليه قال أهل السير والذى حمل قريشا على بنائها بعد أن هدمها السيل وكانت رضا من حجارة فوق القامة مدة ما تأتي لها من الآلة وذلك أن قيصر بعث الى النجاشى بمركب فيه ضروب من آلات البناء وأمره أن يبنى له كنيسة تعظمها النصارى بالحبشة فانكسر المركب وألقاه البحر على ساحل جدة وايضا كان بمكة صانع من القبط وأيضا كان في البئر التى في جوف الكعبة حية عظيمة تخرج كل يوم اذا طلعت الشمس فتشرف على جدار الكعبة ولا يقرب الكعبة أحد من هيبتها فلما تهيؤا للبناء طلع لها عقاب فاحتملها ومع ذلك قد تهيبوا وفرقوا من هدمها وبدأ الوليد بن المغيرة فاخذ المعول وقال اللهم انا لا نريد الا الخير ثم هدم من ناحية الركنين وتربصوا به تلك الليلة فلما لم يصبه شئ تمادوا في الهدم حتي انتهوا الى حجارة خضر كالاسنمة آخذ بعضها ببعض أساس ابراهيم فاراد أحدهم أن يفصل بين حجرين فانتفضت مكة بأسرها فانتهوا عن ذلك وجعلوه أساس بنائهم الا أنهم قد نقصوا من بنائها قدر ستة أذرع أو سبعة أذرع لقصور نفقتهم وجعلوا لها بابا واحدا ورفعوه عن الارض ليدخلوا من شاؤا ويمنعوا من شاؤا كما ثبت في صحيح البخاري فلما كان في خلافة ابن الزبير في البخاري وغيره من حديث جابر وهو أيضا مرسل صحابي فكأنه سمعه من العباس فانه معروف بروايته (ففعل صلى الله عليه وآله وسلم مثلهم) أي بامر عمه العباس (فسقط) الى الارض (مغشيا عليه) حتى رد ازاره فقال له عمه مالك فقال انى نهيت عن التعري زاد ابن اسحاق فما رؤي بعد ذلك عريانا (رضما) بالراء والمعجمة أي مرضوما بعضها فوق بعض (قيصر) لقب لكل من ملك الروم (النجاشي) بفتح النون وكسرها في آخره ياء تشدد وتخفف والتخفيف هو الصواب كما قاله الطبرانى لقب لكل من ملك الحبشة (ضروب) أي أنواع (كنيسة) هى متعبد النصارى والبيعة متعبد اليهود (كان بمكة صانع من القبط) اسمه أقوم بالقاف والواو وكان مولى لبعض قريش وفي القاموس ان اسمه معروف بن مسكان فان صح حمل على ان كلا منهما بنى فيها (تهيبوا وفرقوا) بمعنى أي خافوا (وبدأ) بالهمز ابتدأ (الوليد بن المغيرة) ابن عبد الله بن عمرو بن مخزوم أبو خالد بن الوليد واخوته (المعول) بكسر الميم وسكون المهملة آلة معروفة (اساس ابراهيم) بالجر بدل من حجارة خضر وبالرفع خبر مبتدإ محذوف (فانتفضت) بالفاء والضاد المعجمة أي تحركت واضطربت (ابن الزبير) هو عبد الله بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي يكني أبا خبيب وأبا بكر وكان حصره بمكة أوّل ليلة من ذي الحجة سنة اثنتين وسبعين وحج بالناس الحجاج ولم يطف بالبيت وبين الصفا والمروة ونصب منجنيقا على جبل أبي قبيس فكان يرمي بالحجارة الى المسجد ولم يزل يحاصره حتى خرج عبد الله على الناس وقاتلهم في المسجد وكان لا يحمل على ناحية الا انهزم من فيها من جند الشام فأتاه حجر من ناحية الصفا فوقع بين عينيه فنكس رأسه وهو يقول
وحصره الحصين بن نمير السكونى احترقت الكعبة بحريق خيمة كانت في المسجد وأيضا كان يصيبها حجر المنجنيق. الذى كان يرمى به الحصين وأصحابه ولما أدبر الحصين راجعا الى الشام وأصحابه لموت خليفته يزيد بن معاوية هدمها ابن الزبير وبناها على اساس ابراهيم عليه السلام على ما حدثته خالته عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجعل طولها في السماء ثمانية وعشرين ذراعا تقريبا على ما هي عليه اليوم فلما ظفر الحجاج بابن الزبير تركها على
ولسنا على الاعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أقدامنا تقطر الدما
ثم اجتمعوا عليه فقتلوه وصلبوه رضى الله عنه وذلك في النصف من جمادي الآخرة سنة ثلاث وسبعين ذكر ذلك ابن مندة وأبو نعيم وابن عبد البر (الحصين) بمهملتين مصغر (ابن نمير) مصغر أيضا (السكوني) نسبة الى سكون بالمهملة والنون بوزن صبور حى من العرب (المنجنيق) بفتح الميم والجيم وبكسر الميم ذكرهما أبو عبيد القاسم ابن سلام في الغريب. وقال الجوهري المنجنيق الذى يرمى به الحجارة معربة وأصلها بالفارسية من جى نيك أى ما أجودني وهي مؤنثة (يزيد بن معاوية) بن أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف كان من الولاة الجائرين وعليه وعلى أمثاله كعبيد الله بن زياد ومن ينزل منزلتهم من احداث ملوك بني أمية حمل القرطبي وغيره قوله صلى الله عليه وسلم هلاك أمتى على يدي أغيلمة من قريش أخرجه أحمد والشيخان من حديث أبي هريرة فقد صدر عنهم من قتل أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتل خيار المهاجرين والانصار بالمدينة ومكة وغيرهما ما هو مشهور (على ما حدثته خالته عائشة) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال يا عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة فالزقتها بالارض وجعلت لها بابين بابا شرقيا وبابا غربيا ولزدت فيها ستة أذرع من الحجر وفي رواية خمسة أذرع فان قريشا اقتصرتها حين بنت الكعبة أخرجه الشيخان وغيرهما واللفظ لمسلم في إحدى رواياته (وجعل طولها في السماء ثمانية وعشرين ذراعا) وكان طولها قبل ذلك ثمانية عشر ذراعا فلما زاد فيه استقصره فزاد في طوله عشرة أذرع كما في صحيح مسلم (الحجاج) بن يوسف الثقفى كان من أفسق الفسقاء وأجرإ الجرآء على اراقة الدماء وقد أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم حيث قال ان في ثقيف كذابا ومبيرا أخرجه مسلم والترمذي من حديث أسماء بنت أبي بكر وأخرجه الطبراني في الكبير من حديث حذيفة والمبير بضم الميم وكسر الموحدة هو المهلك قال الترمذى في السنن الكذاب المختار ابن أبي عبيد والمبير الحجاج بن يوسف ثم روي بسنده الى هشام بن حسان قال احصوا من قتل الحجاج صبرا فبلغ مائة وعشرين ألف قتيل انتهى قال النووى اتفق العلماء على أن المراد بالكذاب هنا المختار بن أبي عبيد وكان شديد الكذب ومن أقبحه دعواه ان جبريل كان يأتيه انتهي. قال الشمنى وكان المختار واليا على الكوفة وكان يلقب بكيسان واليه تنسب الكيسانية وكان خارجيا ثم صار شيعيا وكان يدعو الى محمد بن الحنفية وكان يتبرأ منه وكان أرسل ابن الاشتر بعسكر الى ابن زياد قاتل الحسين فقتله وقتل كل من كان في قتل الحسين ممن قدر عليه ولما ولى مصعب بن الزبير على البصرة من جهة عبد الله بن الزبير قاتل المختار بن أبي عبيد فقتله (فلما ظفر الحجاج بابن الزبير) فقتله كتب الى عبد الملك بن مروان يخبره بذلك ويخبره أن ابن الزبير قد وضع البناء على
ما هى عليه الا أنه أخرج منها ما أدخله ابن الزبير من شاميها وسد الباب الغربي ورفع الشرقى عن الارض بمشاورة عبد الملك بن مروان (فائدة) قال شيخ شيوخنا حافظ الحجاز وقاضيه تقى الدين الفاسي رحمه الله في تاريخ مكة بنيت الكعبة المعظمة مرات وفي عدد بنائها خلاف ويتحصل من مجموع ما قيل في ذلك انها بنيت عشر مرات بناها الملائكة وآدم وأولاده وابراهيم عليهم السلام وبناها العمالقة وجرهم وقصى بن كلاب وقريش وعبد الله بن الزبير والحجاج.
قال واطلاق العبارة بانه بني الكعبة تجوز لانه لم يبن الا بعضها والله أعلم*
[