وفى هذه السنة الثانية عشر وقعت بيعة العقبة الاولى ومقتضى ما قدّمناه قبل المعراج أن تكون هذه الثانية كذا فى الوفاء والمواهب اللدنية* ولما كان العام المقبل الموعد خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم عامئذ الى الموسم فلقيه اثنا عشر رجلا* وفى الاكليل أحد عشر رجلا وهى العقبة الثانية فيهم خمسة من الستة المذكورة وهم أبو أمامة وعوف بن عفراء ورافع بن مالك وقطبة ابن عامر بن حديدة وعقبة بن عامر بن نابى ولم يكن فيهم جابر بن عبد الله بن ذئاب لم يحضرها والسبعة تتمة الاثنى عشرهم معاذ بن الحارث ورفاعة وهو ابن عفراء أخو عوف المذكور وذكوان بن عبد القيس الزرقى وقيل انه رحل الى رسول الله صلّى الله عليه وسلم الى مكة فسكنها معه فهو مهاجرى أنصارى قتل يوم أحد وعبادة بن الصامت بن قيس وأبو عبد الرحمن يزيد بن ثعلبة البلوى والعباس بن عبادة بن نضلة وهؤلاء من الخزرج ومن الاوس رجلان أبو الهيثم بن التيهان من بنى عبد الاشهل وعويمر بن ساعدة فأسلموا وبايعوا على بيعة النساء أى وفق بيعتهنّ التى نزلت بعد فتح مكة وهى أن لا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزنى ولا نقتل أولادنا ولا نأتى ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا
ولا نعصيه فى معروف والسمع والطاعة فى العسر واليسر والمنشط والمكره وأثرة علينا وأن لا ننازع الامر أهله وأن نقول بالحق حيث كنا لا نخاف فى الله لومة لائم قال عليه السلام فان وفيتم فلكم الجنة ومن غشنى وفعل من ذلك شيئا كان أمره الى الله ان شاء عذبه وان شاء عفا عنه ولم يفرض يومئذ القتال ثم انصرفوا الى المدينة وبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم معهم مصعب بن عمير الى المدينة يعلم أهلها الاحكام ويقرئ القرآن فنزل على أسعد بن زرارة وفى المواهب اللدنية أظهر الله الاسلام أى فى المدينة وكان أسعد بن زرارة يجتمع بالمدينة بمن أسلم وكتبت الاوس والخزرج الى النبىّ صلّى الله عليه وسلم ابعث الينا من يقرئنا القرآن فبعث اليهم مصعب بن عمير فأسلم خلق كثير وفشا الاسلام فيهم وكتب الى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يستأذنه أن يجمع بهم فأذن له فجمع بهم فى دار سعد بن خيثمة وكان أوّل من جمع الجمعة بالمدينة بالمسلمين قبل أن يقدمها رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثم قدم مصعب على رسول الله صلّى الله عليه وسلم مع السبعين الذين وافوه كما سيجىء فى العقبة الثانية فأقام مصعب بمكة قليلا ثم قدم قبل رسول الله صلّى الله عليه وسلم المدينة مهاجرا فهو أوّل من قدمها والله أعلم*
,
وفى ذى الحجة من السنة الثالثة عشر من النبوّة قبل الهجرة بثلاثة أشهر وقعت بيعة العقبة الكبرى وبعضهم يسميها العقبة الثانية ومقتضى ما قدّمناه أن تسمى الثالثة كذا فى الوفاء وفى التاريخ الاوسط للبخارى انّ أهل مكة سمعوا هاتفا يهتف قبل اسلام سعد بن معاذ وهو يقول
فان يسلم السعدان يصبح محمد ... بمكة لا يخشى خلاف مخالف
وفى رواية من الأمن لا يخشى خلاف مخالف فقالت قريش لو علمنا من السعدان قال عند ذلك
أيا سعد سعد الاوس ان كنت ناصرا ... ويا سعد سعد الخزرجين الغطارف
أجيبا الى داعى الهدى وتمنيا ... على الله فى الفردوس منية عارف
قال أهل السير فى السنة الثالثة عشر من النبوّة قدم مكة فى موسم الحج قريب من خمسمائة نفر وفى رواية ثلثمائة نفر من الاوس والخزرج وخرج معهم مصعب بن عمير الى مكة واتفق منهم سبعون رجلا قال ابن سعد يزيدون رجلا أو رجلين وامرأتان نسيبة بنت كعب أمّ عمارة وأسماء بنت عمر وقال ابن اسحاق ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان وقال الحاكم خمس وسبعون نفسا لاقوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فواعدهم أن يحضروا شعب العقبة فى الليلة الثالثة من ليالى التشريق للمبايعة* وفى الصفوة جاء قوم من أهل العقبة يطلبون رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقيل لهم هو فى بيت العباس فدخلوا عليه فقال لهم العباس انّ معكم من قومكم هو مخالف لكم فأخفوا أمركم حتى يتصدع هذا الحاج ونلتقى نحن وأنتم فنوضح لكم هذا الامر فتدخلون فيه على أمر بين فوعدهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم الليلة التى فى صبيحتها النفر الآخر وفى رواية فواعدوه العقبة من أوسط أيام التشريق والمعنى واحد أن يوافيهم أسفل العقبة وأمرهم أن لا ينبهوا نائما ولا ينتظروا غائبا ولما فرغوا من الحج وكانت الليلة الموعودة خرج القوم بعد هدء الناس* وفى المنتقى باتوا تلك الليلة فى رحالهم حتى اذا مضى ثلث الليل خرجوا من رحالهم لميعاد رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتسللون مستخفين تسلل القطا حتى اجتمعوا فى الشعب عند العقبة ثلاثة وسبعين رجلا ومعهم امرأتان أمّ عمارة بنت كعب احدى نساء بنى مازن وأسماء بنت عمرو بن عدىّ احدى نساء بنى سليم وقد سبقهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومعه العباس
وليس معه غيره وهو يومئذ على دين قومه الا أنه يحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويوثق له فلما جلس واجتمعوا له كان أوّل من تكلم العباس فقال يا معشر الخزرج وكانت الاوس والخزرج تدعى الخزرج قد دعوتم محمدا الى ما دعوتموه ومحمد من أعز الناس فى عشيرته يمنعه والله من كان على قوله ومن لم يكن كذلك منعه للحسب والشرف وقد أبى محمد الناس كلهم غيركم* وفى وفاء الوفاء وقد أبى الا الانحياز اليكم فان كنتم أهل قوّة وجلد ونظر بالحرب واستقلال بعداوة العرب قاطبة فانها سترميكم عن قوس واحدة فارتاؤا رأيكم وائتمروا أمركم فلا تفرّقوا الا عن اجتماع فانّ أحسن الحديث أصدقه وأخرى صفوا لى الحرب كيف تقاتلون عدوّكم فأسكت القوم وتكلم عبد الله بن عمرو بن حزام فقال نحن والله أهل الحرب غذينا بها ومرّينا وورثناها عن آبائنا كابرا عن كابر نرمى بالنسل حتى تفنى ثم نطاعن بالرماح حتى تكسر ثم نمشى بالسيوف فنضرب بها حتى يموت الاعجل منا أو من عدوّنا فقال العباس هل فيكم دروع قالوا نعم شاملة وقال البراء بن معرور قد سمعنا ما قلت والله لو كان فى أنفسنا غير ما ننطق به لقلناه ولكن نريد الوفاء والصدق ويذل المهج وأنفسنا دون رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعن الشعبى قال انطلق رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالعباس الى السبعين عند العقبة تحت الشجرة فقال العباس ليتكلم متكلمكم ولا يطيل الخطبة فانّ عليكم من المشركين عينا وان يعلموا بكم فيفضحوكم فقال قائلهم وهو أسعد يا محمد سل لربك ما شئت ثم سل لنفسك وأصحابك ما شئت ثم أخبرنا مالنا من الثواب على الله اذا فعلنا ذلك فقال أسألكم لربى أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأسألكم لنفسى ولاصحابى أن تؤوونا وتنصرونا وتمنعونا مما تمنعون منه أنفسكم قالوا فما لنا اذا فعلنا ذلك قال الجنة قالوا فلك ذلك* وفى المنتقى تكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلم فتلا القرآن ودعا الى الله ورغب فى الاسلام ثم قال أبايعكم أو قال بايعونى قالوا على أىّ شىء نبايعك يا رسول الله قال بايعونى على السمع والطاعة فى النشاط والكسل والنفقة فى العسر واليسر وعلى الامر بالمعروف والنهى عن المنكر وأن تقولوا فى الله ولا تخافوا لومة لائم وعلى أن تمنعونى مما تمنعون منه أنفسكم وأبناءكم وأزواجكم فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال والذى بعثك بالحق نبيا لنمنعنك مما نمنع منه العزيز فينا فبايعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم والعباس آخذ بيد رسول الله يؤكد له البيعة على الانصار وقالوا فنحن والله أهل الحرب والحلقة ورثناها كابرا عن كابر فعرض فى الحديث أبو الهيثم بن التيهان فقال يا رسول الله انّ بيننا وبين الناس يعنى اليهود حبالا وانا قاطعوها فهل عسيت ان نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع الى قومك وتدعنا فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثم قال بل الدم الدم والهدم الهدم وفى رواية المحيا محياكم والممات مماتكم أنتم منى وأنا منكم أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم وقال أخرجوا منكم اثنى عشر رجلا نقيبا يكونون على قومهم فأخرجوا اثنى عشر نقيبا تسعة من الخزرج وثلاثة من الاوس وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم للنقباء أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء كفالة الحواريين لعيسى ابن مريم قالوا نعم روى عن عاصم بن عمرو بن قتادة انّ القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال العباس ابن عبادة بن نضلة الانصارى يا معشر الخزرج هل تدرون على ما تبايعون هذا الرجل قالوا نعم قال انكم تبايعونه على حرب الاسود والاحمر من الناس فان كنتم ترون أنكم اذا نهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتل أسلمتموه فمن الآن وهو والله خزى الدنيا والآخرة ان فعلتم وان كنتم ترون انكم وافون له بما دعوتموه اليه على نهك الاموال وقتل الاشراف فخذوه فهو والله خير الدنيا والآخرة قالوا فانا نأخذه على مصيبة الاموال وقتل الاشراف فما لنا بذلك يا رسول الله ان نحن وفينا قال الجنة قالوا ابسط
يدك فبسط يده فبايعوه قال عاصم بن عمرو والله ما قال العباس ذلك الا ليشدّ العقد لرسول الله صلّى الله عليه وسلم فى أعناقهم وقال عبد الله بن أبى بكر والله ما قال العباس ذلك الا ليؤخر القوم تلك الليلة رجاء أن يحضرها عبد الله بن أبى بن سلول فيكون أقوى لامر القوم فالله أعلم أىّ ذلك كان فبنو النجار يزعمون أنّ أبا أمامة أسعد بن زرارة كان أوّل من ضرب على يده وبنو عبد الاشهل يقولون بل ابو الهيثم ابن التيهان قال كعب بن مالك أوّل من ضرب على يدى رسول الله صلّى الله عليه وسلم البراء بن معرور ثم تتابع القوم قال كعب فلما بايعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم صرخ الشيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت سمعته قط يا أهل الجباجب هل لكم فى مذمم والصبأة معه قد جمعوا على حربكم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم هذا أزب العقبة وفى رواية ابن أزب العقبة لا فرغنّ لك أى عدوّ الله ارجعوا الى رحالكم نصركم الله فقال له العباس بن عبادة بن نضلة والذى بعثك بالحق لئن شئت لنميلنّ غدا على أهل منى بأسيافنا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم نؤمر بذلك ولكن ارجعوا الى رحالكم فرجعنا الى مضاجعنا فنمنا عليها فلما أصبحنا غدت علينا جلة قريش حتى جاؤنا فى منازلنا فقالوا يا معشر الخزرج انا قد بلغنا انكم جئتم الى صاحبنا هذا فتستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعون على حربنا والله ما من حىّ من العرب أبغض الينا ان تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم قال فانبعث من هناك من مشركى قومنا يحلفون لهم بالله ما كان من هذا شىء وما علمناه وقد صدقوا لم يعلموا ثم انّ قريشا أتوا عبد الله بن أبى بن سلول فذكروا له ما قد سمعوا من أصحابه فقال وما كان قومى ليتفوّتوا علىّ بمثل هذا وما علمته ثم انهم قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم أتخرج معنا قال ما أمرت به قال رزين وقد قيل وقع بين قريش والانصار كلام فى سبب خروج النبىّ صلّى الله عليه وسلم معهم ثم ألقى الرعب فى قلوب قريش فقالوا ليس يخرج معكم الا فى بعض أشهر السنة ولا تتحدّث العرب بأنكم غلبتمونا فقالت الانصار الامر فى ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلم ونحن سامعون لامره فأنزل الله على رسوله وان يريدوا أن يخدعوك فانّ حسبك الله أى ان كان كفار قريش يريدون المكربك فسيمكر الله بهم فانصرفت الانصار الى المدينة* وفى سيرة ابن هشام قال ونفر الناس من منى فتفتش القوم الخبر فوجدوه قد كان قال ابن اسحاق وخرجوا فى طلب القوم فأدركوا سعد بن عبادة بأذاخر والمنذر بن عمر وأخا بنى ساعدة ابن كعب بن الخزرج وكلاهما كان نقيبا وقيل انّ قريشا بدالهم فخرجوا فى آثارهم فأدركوا منهم رجلين كانا تخلفا فى أمر فردّوهما الى مكة المنذر والعباس بن عبادة فأدركهما جبير بن مطعم والحارث ابن أمية فخلصاهما فلحقا بأصحابهما وفى رواية انّ الرجلين هما المنذر وسعد بن عبادة فأمّا المنذر فأعجز القوم ونجا وأمّا سعد فأخذوه وربطوا يديه الى عنقه بشسع رحله ثم أقبلوا به حتى أدخلوه مكة يضربونه ويجذبونه بجمته وكان ذا شعر كثير ثم خلصه منهم جبير بن مطعم والحارث بن أمية لانه كان يجير لهما تجارتهما ويمنعهم أن يظلموا ببلده*