ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى مكة بعد أن دعا إلى الله بإخلاص وعزيمة صادقة، وخرج من خرج من الأنصار من المسلمين إلى الموسم مع حجاج قومهم من أهل الشرك حتى قدموا مكة، فوعدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العقبة من أوسط أيام التشريق حين أراد بهم ما أراد من كرامته ونصر نبيه، وإعزاز الإسلام وأهله، وإذلال الشرك وذويه، وكان في القوم كعب بن مالك، والبراء بن معرور سيد من ساداتهم وكبير من كبرائهم، فقال لهم: إني قد رأيت رأيا فو الله ما أرى أتوافقونني عليه أم لا؟
فقالوا: وما ذاك؟ قال: قد رأيت ألاأدع هذه البنيّة- يعني الكعبة- مني بظهر، وأن أصلي إليها، فقالوا له: والله ما بلغنا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم يصلّي إلا إلى الشام- ببيت المقدس- وما نريد أن نخالفه، فكانوا إذا حضرت الصلاة صلّوا إلى بيت المقدس، وصلّى هو إلى الكعبة، واستمروا كذلك حتى قدموا مكة، وتعرفوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو جالس مع عمه العباس بالمسجد الحرام، فسأل النبي صلّى الله عليه وسلّم العباس: «هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل» ؟ قال: نعم، هذا البراء بن معرور سيد قومه، وهذا كعب بن مالك، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الشاعر؟» قال: نعم، فقصّ عليه البراء ما صنع في سفره من صلاته إلى الكعبة.
__________
(1) البداية والنهاية، ج 3 ص 156.
وقال: فماذا ترى يا رسول الله؟ قال: «قد كنت على قبلة لو صبرت عليها» «1» قال كعب: فرجع البراء إلى قبلة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وصلّى معنا إلى الشام، فلما حضرته الوفاة أمر أهله أن يوجهوه قبل الكعبة، ومات في صفر قبل قدومه صلّى الله عليه وسلّم بشهر، وأوصى بثلث ماله إلى النبي، فقبله وردّه على ولده، وهو أول من أوصى بثلث ماله.
,
قال كعب- راوي القصة-: فلما فرغنا من الحج، وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لها، ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام- والد جابر- سيد من ساداتنا، وشريف من أشرافنا أخذناه معنا، وكنا نكتم من معنا من المشركين أمرنا، فكلّمناه، وقلنا له: يا أبا جابر، إنك سيد من ساداتنا، وشريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطبا للنار غدا، ثم دعوناه إلى الإسلام، وأخبرناه بميعاد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إيانا العقبة، فأسلم وشهد معنا العقبة، وكان نقيبا.
عدّة أصحاب العقبة الثانية
قال كعب: فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نتسلل تسلل القطا مستخفين، حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلا، ومعنا امرأتان من
__________
(1) قال السهيلي في هذا الحديث: إنه لم يأمره بإعادة ما قد صلّى لأنه كان متأولا، وكان باجتهاد منه، وفي الحديث أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يصلّي بمكة إلى بيت المقدس، وهو قول ابن عباس. وقالت طائفة: ما صلّى إلى بيت المقدس إلا مذ قدم المدينة سبعة عشر شهرا أو ستة عشر شهرا، فعلى هذا يكون حصل في القبلة نسخان: نسخ سنة بسنة، ونسخ سنة بقران، وقد بيّن حديث ابن عباس منشأ الخلاف في هذه المسألة، فروي عنه من طرق صحاح: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا صلّى بمكة استقبل بيت المقدس، وجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس، فلما كان عليه السلام يتحرى القبلتين جميعا لم يتبين توجهه إلى بيت المقدس للناس حتى خرج من مكة.
نسائنا: نسيبة بنت كعب أم عمارة إحدى نساء بني مازن بن النجار «1» ، والثانية: أسماء بنت عمرو بن عدي بن نابي إحدى نساء بني سلمة، وهي أم منيع، وقال الحاكم: كان عدتهم خمسة وسبعين رجلا وامرأة، وهو يزيد على ما ذكره ابن إسحاق.
وقال عروة بن الزبير وموسى بن عقبة: كانوا سبعين رجلا وامرأة واحدة، أربعون من ذوي أسنانهم، وثلاثون من شبانهم.
وقد تكفّل الإمام ابن إسحاق في سيرته بسرد أسمائهم، وقبائلهم، فمن أراد الاستقصاء فليرجع إليها «2» ، وإليك خلاصة ذلك على ما ذكره ابن كثير في بدايته «3» .
,
قال ابن كثير: وجملتهم على ما قال ابن إسحاق ثلاثة وسبعون رجلا، وامرأتان.
فمن الأوس أحد عشر رجلا: أسيد بن حضير أحد النقباء، وأبو الهيثم ابن التيّهان بدري أيضا، وسلمة بن سلامة بن وقش بدري، وظهير بن رافع، وأبو بردة بن نيار «4» بدري، ونهير بن الهيثم من بني نابي بن مجدعة بن حارثة، وسعد بن خيثمة أحد النقباء بدري، وقتل بها شهيدا، ورفاعة بن عبد المنذر بن زنير نقيب بدري، وعبد الله بن جبير بن النعمان بن أمية بن البرك بدري، وقتل يوم أحد شهيدا أميرا على الرماة، ومعن بن عدي بن الجد بن عجلان بن الحارث بن ضبيعة البلوي حليف للأوس، شهد بدرا، وما بعدها، وقتل باليمامة شهيدا، وعويم بن ساعدة شهد بدرا وما بعدها.
__________
(1) سيأتيك من بطولتها وتضحياتها في سبيل الإسلام، وما كان من شأن زوجها زيد بن عاصم، وولديها: حبيب، وعبد الله صفحات مشرقة في الجزء الثاني إن شاء الله تعالى.
(2) السيرة، ج 1 ص 454، 467.
(3) البداية والنهاية، ج 3 ص 166، 168.
(4) في البداية: دينار وهو تحريف والصحيح نيار كما في السيرة وغيرها.
ومن الخزرج اثنان وستون رجلا: أبو أيوب خالد بن زيد شهد بدرا وما بعدها، ومات بأرض الروم زمن معاوية، ومعاذ بن الحارث، وأخواه عوف ومعوّذ، وهم بنو عفراء بدريون، وعمارة بن حزم شهد بدرا وما بعدها وقتل باليمامة، وأسعد بن زرارة أبو أمامة أحد النقباء مات قبل بدر، وسهل بن عتيك بدري، وأوس بن ثابت بن المنذر بدري، وأبو طلحة زيد بن سهل بدري، وقيس بن أبي صعصعة عمرو بن زيد بن عوف بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن كان أميرا على الساقة يوم بدر.
وعمرو بن غزية، وسعد بن الربيع أحد النقباء شهد بدرا وقتل يوم أحد شهيدا، وخارجة بن زيد بن أبي زهير بن مالك شهد بدرا، وقتل يوم أحد شهيدا، وعبد الله بن رواحة أحد النقباء شهد بدرا وأحدا والخندق، وقتل يوم مؤتة أميرا، وبشير بن سعد بدري، وعبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه الذي أري النداء «1» وهو بدري، وخلّاد بن سويد بدري أحدي خندقي، وقتل يوم قريظة شهيدا طرحت عليه رحى فشدخته، فيقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن له لأجر شهيدين» وأبو مسعود عقبة بن عمرو البدري، قال ابن إسحاق:
وهو أحدث من شهد العقبة سنا، ولم يشهد بدرا، وزياد بن لبيد بدري، وفروة بن عمرو بن ودقة، وخالد بن قيس بن مالك بدري، ورافع بن مالك أحد النقباء.
وذكوان بن عبد قيس بن خلدة بن مخلد بن عامر بن زريق، وهو الذي يقال له: مهاجري أنصاري لأنه أقام عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة حتى هاجر منها، وهو بدري قتل يوم أحد، وعبّاد بن قيس بن عامر بن خالد بن عامر بن زريق بدري، وأخوه الحارث بن قيس بن عامر بدري أيضا، والبراء بن معرور أحد النقباء، وأول من بايع فيما تزعم بنو سلمة، وقد مات قبل مقدم النبي صلّى الله عليه وسلّم المدينة، وابنه بشر بن البراء وقد شهد بدرا وأحدا والخندق، ومات بخيبر شهيدا من أكلة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الشاة المسمومة التي صنعتها زينب زوجة
__________
(1) أي الأذان.
سلّام بن مشكم اليهودية، وسنان بن صيفي بن صخر بدري، والطفيل بن النعمان بن خنساء بدري، قتل يوم الخندق، ومعقل بن المنذر بن سرح بدري، وأخوه يزيد بن المنذر بدري، ومسعود بن يزيد بن سبيع.
والضحاك بن حارثة بن زيد بن ثعلبة بدري، ويزيد بن خذام بن سبيع، وجبار بن صخر بن أمية بن خنساء بن سنان بن عبيد بدري، والطفيل بن مالك بن خنساء بدري، وكعب بن مالك، وسليم بن عمرو بن حديدة بدري، وقطبة بن عامر بن حديدة بدري، وأخوه أبو المنذر يزيد بدري أيضا، وأبو اليسر كعب بن عمرو بدري، وصيفي بن أسود بن عباد.
وثعلبة بن غنمة بن عدي بن نابي بدري، واستشهد بالخندق، وأخوه عمرو بن غنمة بن عدي، وعبس بن عامر بن عدي بدري، وخالد بن عمرو بن عدي بن نابي، وعبد الله بن أنيس حليف لهم من قضاعة، وعبد الله بن عمرو بن حرام أحد النقباء، بدري واستشهد يوم أحد، وابنه جابر بن عبد الله، ومعاذ بن عمرو بن الجموح بدري، وثابت بن الجذع بدري وقتل شهيدا بالطائف، وعمير بن الحارث بن ثعلبة بدري، وخديج بن سلامة حليف لهم من بلي.
ومعاذ بن جبل شهد بدرا، وما بعدها، ومات بطاعون عمواس في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعبادة بن الصامت أحد النقباء شهد بدرا وما بعدها، والعباس بن عبادة بن نضلة، وقد أقام بمكة حتى هاجر منها فكان يقال له: مهاجري أنصاري أيضا، وقتل يوم أحد شهيدا، وأبو عبد الرحمن يزيد بن ثعلبة بن خزمة بن أصرم حليف لهم من بلي، وعمرو بن الحارث بن لبدة، ورفاعة بن عمرو بن زيد بدري، وعقبة بن وهب بن كلدة حليف لهم بدري، وكان ممن خرج إلى مكة فأقام بها حتى هاجر منها، فهو ممن يقال له:
مهاجري أنصاري أيضا، وسعد بن عبادة بن دليم أحد النقباء، والمنذر بن عمرو نقيب بدري أحدي، وقتل يوم بئر معونة أميرا.
وأما المرأتان: فأم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية النجارية، والاخرى:
أم منيع أسماء بنت عمرو بن عدي السلمية.
,
قال كعب: فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى جاءنا ومعه العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذ على دين قومه، إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه، ويستوثق له، فلما جلس كان أول متكلم العباس بن عبد المطلب، فقال: يا معشر الخزرج- وكانت العرب إنما يسمون هذا الحي من الأنصار الخزرج لخزرجها وأوسها- إن محمدا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عز من قومه، ومنعة في بلده، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الان فدعوه، فإنه في عزّ ومنعة من قومه وبلده، فقالوا: قد سمعنا يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت.
,
ولما اجتمع القوم لبيعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قام العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري- وهو أحد الذين بايعوا العقبة الأولى- فقال: يا معشر الخزرج هل تدرون علام تبايعون الرجل؟ قالوا: نعم، قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة، وأشرافكم قتلا أسلمتموه فمن الان، فهو- والله إن فعلتم- خزي الدنيا والاخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة «1» الأموال وقتل الأشراف، فخذوه، فهو- والله- خير الدنيا والاخرة. قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفّينا بذلك؟ قال:
«الجنة» قالوا: ابسط يدك، فبسط يده فبايعوه. وما أراد العباس- رضي الله عنه- بمقالته تلك إلا أن يشد العقد لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أعناقهم.
,
وتكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتلا القران، ودعا إلى الله، ورغّب في الإسلام، ثم قال: «أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم، وأبناءكم» .
__________
(1) نقص.
فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: والذي بعثك بالحق نبيّا لنمنعنّك مما نمنع منه أزرنا «1» ، فبايعنا يا رسول الله، فنحن- والله- أبناء الحروب، وأهل الحلقة «2» ورثناها كابرا عن كابر، وكانت وصاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لهم أن يوجزوا في القول، فقد روى البيهقي أنه قال: «ليتكلم متكلمكم ولا يطل الخطبة فإن عليكم من المشركين عينا، وإن يعلموا بكم يفضحوكم» .
وإنه لتوجيه كريم يدل على بعد النظر، وأصالة الرأي، وحسن التدبير في هذا الاجتماع الخطير.
مقالة أبي الهيثم بن التّيّهان
ولما فرغ البراء بن معرور من مقالته قام أبو الهيثم بن التيهان فقال:
يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال حبالا «3» إنا قاطعوها، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: «بل الدم الدم والهدم الهدم «4» ، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم» وقد وفى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما قال بل وبأكثر مما قال، فقد عرف للأنصار فضلهم وسابقتهم، وأوصى بهم خيرا.
,
وكان ممن تكلم أيضا السيد الجليل أسعد بن زرارة فقال: سل يا محمد
__________
(1) جمع إزار، أي نساءنا، والمرأة قد يكنى عنها بالإزار لأنها تحمى كما يحمى الإزار، أو المراد أنفسنا، وقد يعبر عن النفس بالإزار والثوب، ففي الكتاب الكريم: وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ قال بعض المفسرين: ونفسك فطهر، وقال عنترة العبسي:
فشككت بالرمح الأصمّ ثيابه ... ليس الكريم على القنا بمحرّم
أي نفسه وذاته. فيجوز أن يراد به أيّ المعنيين.
(2) السلاح.
(3) عهودا والمراد ما كان بينهم وبين اليهود بالمدينة.
(4) كانت العرب تقولها عند عقد الحلف والجوار، أي ما هدمت من الدماء هدمت أنا أي أهدرت، وفسر ابن عباس الهدم بالحرمة يعني ذمتي ذمتكم وحرمتي حرمتكم، فالعبارة تفيد المبالغة في الوفاء بالعهد.
لربك ما شئت، ثم سل لنفسك بعد ذلك ما شئت، ثم أخبرنا ما لنا من الثواب إذا فعلنا ذلك، فقال: «أسئلكم لربي أن تعبدوه، ولا تشركوا به شيئا، وأسئلكم لنفسي وأصحابي أن تؤوونا وتنصرونا، وتمنعونا مما تمنعون منه أنفسكم» قالوا فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال: «الجنة» قالوا: فلك ذلك.
,
ثم أقبل الأنصار على مبايعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بإخلاص وعزيمة، وقد اختلف الرواة في أول من بايع، فابن إسحاق يقول فيما يرويه عن كعب بن مالك إنه البراء بن معرور، وبنو النجار يزعمون أنه أبو أمامة أسعد بن زرارة، وهو الذي رواه ابن سعد في طبقاته عن العباس قال: أول من ضرب على يده صلّى الله عليه وسلّم تلك الليلة أسعد بن زرارة، ثم البراء بن معرور، ثم أسيد بن الحضير «1» .
وبنو عبد الأشهل يقولون: بل أبو الهيثم بن التيهان، وقال ابن الأثير في «أسد الغابة» : وبنو سلمة يزعمون أن أول من بايعه ليلتئذ كعب بن مالك.
ولعل السبب في هذا الاختلاف أن كلا من هؤلاء تكلم ثم قام فبايع، فأخبر من راه يبايع، ولم يكن علم بغيره أنه أول من بايع، ومثل هذه المواقف مما يحصل فيها الاشتباه، والأمر هيّن وبحسبهم فضلا وفاؤهم بما عاهدوا الله ونبيه عليه.
,
وبعد أن بايع القوم على هذه الشروط قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أخرجوا منكم اثني عشر نقيبا يكونون كفلاء على قومهم بما فيهم» «2» فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبا «3» : تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس، وها هي أسماؤهم: (1) أبو أمامة
__________
(1) شرح المواهب، ج 1 ص 381- 382.
(2) أخذ هذا النبي من قوله تعالى: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ، وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً، وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ ... الاية 12 من سورة المائدة.
(3) النقيب: الرئيس المسؤول عن القوم.
أسعد بن زرارة. (2) وسعد بن الربيع. (3) وعبد الله بن رواحة. (4) ورافع بن مالك بن العجلان. (5) والبراء بن معرور. (6) وعبد الله بن عمرو بن حرام.
(7) وعبادة بن الصامت. (8) وسعد بن عبادة. (9) والمنذر بن عمرو وهم من الخزرج. (10) وأسيد بن حضير. (11) وسعد بن خيثمة. (12) ورفاعة بن عبد المنذر وهؤلاء الثلاثة من الأوس.
قال ابن هشام: وأهل العلم يعدون فيهم أبا الهيثم بن التيّهان، ولا يعدون رفاعة، واستشهد بقصيدة كعب بن مالك في النقباء، فإنه ذكر فيهم «أبا الهيثم» ولم يذكر رفاعة «1» .
ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للنقباء: «أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم، وأنا كفيل على قومي» يعني المهاجرين. قالوا: نعم، فكان هذا إلزاما من الرسول لهم، والتزاما منه لهم.
,
ثم أذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الانصراف قائلا: «ارفضّوا «2» إلى رحالكم» وذلك مبالغة في الحيطة والحذر كي يبقى أمر الاجتماع في طي الكتمان، فقال العباس بن عبادة بن نضلة: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق إن شئت لنميلنّ على أهل منى غدا بأسيافنا؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لم نؤمر بهذا، ولكن ارجعوا إلى رحالكم» فرجعوا إليها وباتوا حتى أصبحوا.
,
وفي الصباح غدت جلّة قريش على الأنصار لمّا نمي إليهم نبأ البيعة، حتى جاؤوا إليهم في منازلهم، فقالوا: يا معشر الخزرج إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا، وتبايعونه على حربنا، وإنه- والله- ما من حيّ من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم.
فانبعث من هناك من المشركين يحلفون بالله ما كان من هذا شيء،
__________
(1) السيرة ج 1 ص 445.
(2) تفرقوا.
وما علمناه، وصدقوا، فإنهم لم يعلموه، وأما المسلمون فصار بعضهم ينظر إلى بعض ولا يتكلم، ثم قام المشركون وفيهم الحارث بن هشام المخزومي وفي رجليه نعلان جديدان، فقال كعب: يا أبا جابر، أما تستطيع أن تتخذ وأنت سيد من ساداتنا مثل نعلي هذا الفتى من قريش؟ فخلعهما الحارث من رجليه، ثم رمى بهما إلى كعب، وأقسم عليه لينتعلنّهما، فقال أبو جابر: مه، أحفظت والله- الفتى، فاردد إليه نعليه، فقال: والله لا أردهما، فأل- والله- صالح، لئن صدق الفأل لأسلبنّه.
ثم ذهب المشركون إلى عبد الله بن أبي، فقالوا له مثل ما قالوا للخزرج، فقال لهم: والله إن هذا الأمر جسيم، ما كان قومي ليتفوّتوا علي بمثل هذا وما علمته كان، فانصرفوا عنه.
,
ثم نفر الناس من منى، وتنطّس»
المشركون من أهل مكة الخبر فوجدوه صادقا، فخرجوا في طلب الأنصار ولكنهم كانوا قد فاتوهم، ولم يدركوا إلا سعد بن عبادة، والمنذر بن عمرو، وكلاهما كان نقيبا، فأما المنذر فأعجز القوم، وأما سعد فأخذوه فربطوا يديه إلى عنقه بنسع رحله «2» ، ثم أقبلوا به حتى أدخلوه مكة يضربونه ويجذبونه بجمته «3» ، وكان ذا شعر غزير، وقد بقي في أيديهم يلكمه اللاكم، ويضربه الضارب، حتى هتف باسم رجلين من أشراف قريش كان يجير لهما تجارتهما إذا مرّت بالمدينة، ويمنعهم من ظلمهم، فجاا إليه فخلّصاه من أيديهم، فانطلق وقد سلمت له نفسه راجعا إلى المدينة.
,
لما رجع الأنصار الذين بايعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة العقبة الثانية إلى المدينة
__________
(1) تنطس الخبر: أكثر من البحث عنه، والتنطّس: تدقيق النظر، ومنه الطبيب النطاسي أي البارع بعيد النظر.
(2) النسع: الشراك الذي يشد به الرحل.
(3) الجمة: ما يصل من الشعر إلى المنكبين، والمراد أنهم يشدونه من شعره.
أظهروا الإسلام بها، وكان في قومهم بقايا من شيوخ لهم على دينهم من الشرك، منهم: عمرو بن الجموح من سادات بنى سلمة وأشرافهم، وكان قد اتخذ صنما من خشب في داره يقال له «مناة» كما كان الأشراف يصنعون، فلما أسلم فتيان بني سلمة منهم ابنه معاذ ومعاذ بن جبل، كانوا يدلجون بالليل على صنم عمرو هذا فيحملونه، فيطرحونه في بعض حفر بني سلمة وفيها عذر الناس منكّسا على رأسه، فإذا أصبح قال: ويلكم من عدا على إلهنا هذه الليلة؟ ثم يغدو يلتمسه، حتى إذا وجده غسله، وطيّبه، وطهّره، ثم قال: والله لو أعلم من فعل بك هذا لأخزينه.
فإذا أمسى ونام عمرو عدوا عليه ففعلوا مثل ذلك، فيغدو فيجده في مثل ما كان فيه من الأذى فيغسله، ويطيّبه، ويطهره. ثم يعدون عليه إذا أمسى، فيفعلون به مثل ذلك.
فلما أكثروا عليه استخرجه من حيث ألقوه يوما فغسله وطيّبه، ثم جاء بسيفه، فعلّقه عليه، ثم قال له: إني والله لا أعلم من يصنع بك ما أرى، فإن كان فيك خير فامتنع، هذا السيف معك، فلما أمسى ونام عمرو غدوا عليه فأخذوا السيف من عنقه.
ثم أخذوا كلبا ميتا فقرنوه به بحبل، ثم ألقوه في بئر من ابار بني سلمة فيها عذر الناس، وغدا عمرو بن الجموح فلم يجده في مكانه، فجعل يتبعه حتى وجده في تلك البئر منكّسا مقرونا بكلب ميت، فلما راه أبصر شأنه وبان له صوابه، ورجع إليه عقله، وعلم أنها أصنام لا تضر ولا تنفع، فما إن كلّمه من أسلم من قومه حتى أسلم، وحسن إسلامه وقال- حين استبان له الرشد- يذكر صنمه هذا وما كان من أمره، ويشكر الله الذي أنقذه مما كان فيه من العمى والضلالة:
والله لو كنت إلها لم تكن ... أنت وكلب وسط بئر في قرن «1»
__________
(1) القرن: الحبل.
أف لملقاك إلها مستدن ... الان فتشناك عن سوء الغبن «1»
الحمد لله العلي ذي المنن ... الواهب الرزاق ديّان الدين «2»
هو الذي أنقذني من قبل أن ... أكون في ظلمة قبر مرتهن
بأحمد المهدي النبي المؤتمن
,
وقد ذكر الإمام ابن إسحاق أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بايعهم في العقبة الثانية بيعة الحرب حين أذن الله لرسوله في القتال، وذلك أن الله تعالى لم يكن أذن لرسوله صلّى الله عليه وسلّم في الحرب، فلما أذن الله له فيها، وبايعهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في العقبة الأخيرة على حرب الأحمر والأسود أخذ لنفسه واشترط على القوم لربه، وجعل لهم على الوفاء بذلك الجنة، ثم ذكر بعد أول ما نزل في القتال: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا «3» .
وهذا من أوهام ابن إسحاق على جلالته، فالجهاد لم يشرع إلا في السنة الثانية من الهجرة كما فصّلنا القول في الجزء الثاني من هذا الكتاب، وقد وافقه على هذا الوهم ابن هشام أيضا.
وليس أدل على عدم فرضية الجهاد قبل العقبة من أن العباس بن عبادة بن نضلة لما قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: والله لو شئت لنميلنّ بأسيافنا على أهل منى غدا، فقال رسول الله: «لم نؤمر بهذا» .
__________
(1) مستدن: مستعبد ذليل، الغبن: السفه.
(2) الدين: جمع دينة وهي العادة، ويقال لها دين أيضا، ويجوز أن يراد بالدين الأديان أي هو ديان أهل الأديان، ولكن جمعها على الدين، لأنها ملل ونحل كما قالوا في جمع الحرة حرائر لأنهن في معنى الكرائم والعقائل.
(3) السيرة لابن هشام ج 1 ص 454، 467.