"ثم خرج صلى الله عليه وسلم أيضًا" إلى الشام مرة ثانية وسبب ذلك؛ كما رواه الواقدي وابن السكن: أن أبا طالب، قال: يابن أخي! أنا رجل لا مال لي، وقد اشتد الزمان علينا وألحت علينا سنون منكرة وليس لنا مادة ولا تجارة وهذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشام، وخديجة تبعث رجالا من قومك يتجرون في مالها ويصيبون منافع، فلو جئتها لفضلتك على غيرك لما يبلغها عنك من طهارتك، وإن كنت أكره أن تأتي الشام، وأخاف عليك من يهود، ولكن لا نجد من ذلك بدًا، فقال صلى الله عليه وسلم: "لعلها ترسل إليّ في ذلك"، فقال أبو طالب: إني أخاف أن تولي غيرك، فبلغ خديجة ما كان من محاورة عمه له، وقبل ذلك صدق حديثه وعظم أمانته وكرم أخلاقه، فقالت: ما علمت أنه يريد هذا، وأرسلت إليه، وقالت: دعاني إلى البعثة إليك ما بلغني من صدق حديثك وعظم أمانتك وكرم أخلاقك، وأنا أعطيك ضعف ما أعطي رجلا من قومك، فذكر ذلك صلى الله عليه وسلم لعمه، فقال: إن هذا الرزق ساقه الله إليك.
فخرج "ومعه ميسرة غلام خديجة" قال في النور: لا ذكر له في الصحابة فيما أعلمه وظاهر أنه توفي قبل البعث، ولو أدركه لأسلم، وفي الإصابة: لم أقف على رواية صحيحة صريحة في أنه بقي إلى البعثة، فكتبته على الاحتمال، وفيه: أن الصحبة لا تثبت بالاحتمال، بل كما قاله هو في شرح نخبته بالتواتر والاستفاضة أو الشهرة أو بإخبار بعض الصحابة أو بعض ثقات التابعين، أو بإخباره عن نفسه بأنه صحابي إذا دخل تحت الإمكان.
"بنت خولد بن أسد في تجارة لها" وعند الواقدي وغيره: وكانت خديجة تاجرة ذات شرف ومال كثير، وتجارة تبعث بها إلى الشام، فتكون عيرها كعامة عير قريش، وكانت تستأجر الرجال وتدفع إليهم المال مضاربة، وكانت قريش قومًا تجارًا، ومن لم يكن منهم تاجرًا فليس
حتى بلغ سوق بصرى، وقيل سوق حباشة بتهامة، وله إذ ذاك خمس وعشرون سنة، لأربع عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة، فنزل تحت ظل شجرة، فقال نسطورا الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبي، وفي رواية بعد عيسى................
__________
عندهم بشيء، فسار صلى الله عليه وسلم "حتى بلغ سوق بصرى" رواه الواقدي وابن السكن وغيرهما، "وقيل: سوق حباشة" بحاء مهملة مضمومة فموحدة فألف فشين معجمة فتاء تأنيث، قال في الروض: سوق من أسواق العرب، انتهى.
وهذا القول رواه الدولابي عن الزهري، ولفظه: استأجرته خديجة إلى سوق حباشة، وهو سوق "بتهامة" بكسر التاء اسم لكل ما نزل عن نجد إلى بلاد الحجاز ومكة من تهامة، قال ابن فارس في مجمله، سميت تهامة من التهم بفتح التاء والهاء وهو شدة الحر وركود الريح. وفي المطالع: سميت بذلك لتغير هوائها، يقال: تهم الدهن إذا تغير، وذكر الحازمي في مؤتلفه أنه يقال في أرض تهامة تهائم، انتهى.
وقيد بذلك؛ لأن حباشة مشترك، ففي القاموس: حباشة كثمامة سوق تهامة القديمة، وسوق آخر كان لبني قينقاع. "وله" صلى الله عليه وسلم "خمس وعشرون سنة" فيما رواه الواقدي وابن السكن وصدر به ابن عبد البر وقطع به عبد الغني، قال في الغرر: وهو الصحيح الذي عليه الجمهور، وقيل غير ذلك؛ كما يأتي. "لأربع عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة، فنزل تحت ظل شجرة" في سوق بصرى قريبًا من صومعة نسطورا الراهب، فاطلع إلى ميسرة وكان يعرفه، "فقال نسطورا الراهب" بفتح النون وسكون السين وضم الطاء المهملتين، قال في النور: وألفه مقصورة كذا نحفظه، ولم أر أحدًا ضبطه ولا تعرض لعدة في الصحابة، وينبغي أن الكلام فيه كالكلام في بحيرا, وعند الواقدي وابن إسحاق، فقال: يا ميسرة من هذا الذي تحت هذه الشجرة؟ فقال: رجل من قريش من أهل الحرم، فقال له لراهب: "ما نزل تحت هذه الشجرة" زاد ابن إسحاق: قط، "إلا نبي".
"وفي رواية: بعد عيسى" قال السهيلي: يريد ما نزل تحتها هذه الساعة، ولم يرد: ما نزل تحتها قط إلا نبي لبعد العهد بالأنبياء قبل ذلك، وإن كان في لفظه: قط، فقد تكلم بها على جهة التوكيد للنفي، والشجر لا يعمر في العادة هذا العمر الطويل حتى يدري أنه لم ينزل تحتها إلا عيسى أو غيره من الأنبياء، ويبعد في العادة أيضًا أن تخلو شجرة من نزول أحد تحتها نبي إلا أن تصح رواية من قال في هذا الحديث: أحد بعد عيسى ابن مريم، وهي رواية عن غير ابن إسحاق، فالشجرة على هذه مخصوصة بهذه الآية، انتهى, وأقره مغلطاي والبرهان وتعقبه العز بن جماعة؛ بأنه مجرد استبعاد لا دلالة فيه على امتناع ولا استحالة؛ وبأنه استبعاد يعارضه ظاهر
وكان ميسرة يرى في الهاجرة ملكين يظلانه في الشمس، ولما رجعوا إلى مكة في ساعة الظهيرة، وخديجة في علية لها، رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بعيره وملكان يظلان عليه. رواه أبو نعيم.
وتزوج صلى الله عليه وسلم خديجة بعد ذلك بشهرين وخمسة وعشرين يومًا.........
__________
الخبر، وكون متعلقات الأنبياء مظنة خرق العادة، فلا يكون ذلك حينئذ من طول البقاء وصرف غير الأنبياء عن النزول تحتها بعيدًا، وذلك واضح، انتهى.
وأيد بما ذكره أبو سعد في الشرف: أن الراهب دنا إليه صلى الله عليه وسلم وقبل رأسه وقدميه، وقال: آمنت بك وأنا أشهد أنك الذي ذكر الله في التوراة، فلما رأى الخاتم قبله، وقال: أشهد أنك رسول الله النبي الأمي الذي بشر بك عيسى، فإنه قال: لا ينزل بعدي تحت هذه الشجرة إلا النبي الأمي الهاشمي العربي المكي صاحب الحوض والشفاعة ولواء الحمد. وعند الواقدي وابن السكن: ثم قال له: في عينيه حمرة، قال: ميسرة نعم، لا تفارقه أبدًا.
قال الراهب: هو هو، وهو آخر الأنبياء، ويا ليت إني أدركه حين يؤمر بالخروج، فوعى ذلك ميسرة ثم حضر صلى الله عليه وسلم سوق بصرى فباع سلعته التي خرج بها واشترى، وكان بينه وبين رجل اختلاف في سلعة، فقال الرجل: أحلف باللات والعزى، فقال: "ما حلفت بهما قط". فقال الرجل: القول قولك، ثم قال لميسرة وخلا به: هذا نبي، والذي نفسي بيده إنه لهو الذي تجده أحبارنا منعوتًا في كتبهم، فوعى ذلك ميسرة ثم انصرف أهل العير جميعًا.
"وكان ميسرة يرى في الهاجرة ملكين يظلانه في الشمس" فيه جواز رؤية الملائكة وبه وبرؤية الجن، صرح في الحديث الصحيح: وأما قوله: إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم، فمحمول عل الغالب ولو كانت رؤيتهم محالة، لما قال صلى الله عليه وسلم في الشيطان: "لقد هممت أن أربطه حتى تصبحوا تنظروا إليه كلكم".
"ولما رجعوا إلى مكة في ساعة الظهيرة وخديجة في علية" بكسر العين، والضم لغة؛ كما في المصباح. وسوى بينهما في النور، أي: غرفة، والجمع العلالي بالتشديد والتخفيف. "لها، رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بعير وملكان يظلان عليه، رواه أبو نعيم" زاد غيره: فأرته نساءها فعجبن لذلك، ودخل عليهما صلى الله عليه وسلم فأخبرها بما ربحوا فسرت، فلما دخل عليها ميسرة أخبرته بما رأت، فقال: قد رأيت هذا منذ خرجنا من الشام، وأخبرها بقول نسطورًا، وقول الآخر الذي خالفه في البيع، وقدم صلى الله عليه وسمل بتجارتها فربحت ضعف ما كانت تربح، وأضعفت له ما كانت سمته له، "وتزوج صلى الله عليه وسلم خديجة بعد ذلك" أي: قدومه من الشام، "بشهرين وخمسة وعشرين يومًا"
وقيل: كان سنة إحدى وعشرين سنة، وقيل ثلاثين -وكانت تدعى في الجاهلية بالطاهرة، وكانت تحت أبي هالة بن زرارة التميمي، فولدت له هندًا وهالة، وهما ذكران، ثم تزوجها عتيق بن عابد....................
__________
قاله ابن عبد البر، وزاد: إن ذلك عقب صفر سنة ست وعشرين، "وقيل: كان سنه" صلى الله عليه وسلم "إحدى وعشرين سنة" قال الزهري، "وقيل: ثلاثين" سنة، حكاه ابن عبد البر عن أبي بكر بن عثمان وغيره، وقال ابن جريج: كان سبعًا وثلاثين سنة، وقال البرقي: تسعًا وعشرين قد راهق الثلاثين، وقيل غير ذلك. "وكانت تدعي في الجاهلية بالطاهرة" لشدة عفافها وصيانتها. وفي الروض: كانت تسمى الطاهرة في الجاهلية والإسلام.
وفي سير التميمي: كانت تسمى سيدة نساء قريش، "وكانت تحت أبي هالة بن زرارة التميمي" بميمين نسبة إلى تميم؛ كما صرح به اليعمري وغيره، واختلف في اسم أبي هالة، فقيل ملك، حكاه الزبير والدارقطني وصدره به في الفتح، وقيل: زرارة حكاه ابن منده والسهيلي، وقيل: هند جزم به العسكري، واقتصر عليه في العيون وصدر به في الروض، وقيل: اسمه النباش، قطع به أبو عبيد وقدمه مغلطاي، واقتصر عليه المصنف في الزوجات، وهو بفتح النون فموحدة ثقيلة فشين معجمة، وفي فتح الباري: مات أبو هالة في الجاهلية.
"فولدت له هندًا" الصحابي راوي حديث صفة النبي صلى الله عليه وسلم شهد بدرًا، وقيل: أحدًا، روى عنه الحسن بن علي، فقال: حدثني خالي؛ لأنه أخو فاطمة لأمها وكان فصيحًا بليغًا وصافًا، وكان يقول: أنا أكرم الناس أبا وأما وأخًا وأختًا، أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخي القاسم وأختي فاطمة وأمي خديجة رضي الله عنهم، قتل مع علي يوم الجمل، قاله الزبير بن بكار والدارقطني. وقيل: مات بالبصرة في الطاعون، قال التجاني: والصحيح أن الذي مات في الطاعون ولده واسمه هند كأبيه، انتهى. وهو المذكور في الروض عن الدولابي. وفي فتح الباري: ولهند هذا ولد اسمه هند، ذكره الدولابي وغيره، فعلى قول العسكري أن اسم أبي هالة هند، فهو ممن اشترك مع أبيه وجده في الاسم، انتهى.
"وهالة" التميمي، قال أبو عمر: له صحبة، وأخرج المستغفري عن عائشة: قدم ابن لخديجة يقال له هالة والنبي صلى الله عليه وسلم قائل فسمعه، فقال: "هالة هالة هالة"، وأخرج الطبراني عن هالة بن أبي هالة: أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو راقد فاستيقظ فضم هالة إلى صدره، وقال: "هالة هالة هالة". "وهما ذكران" خلافًا لمن وهم، فزعم أن هالة أنثى.
"ثم" بعد أن هلك عنها أبو هالة "تزوجها عتيق بن عابد" بالموحدة والدال المهملة؛ كما في الإكمال، وتبعه التبصير، وقال اليعمري: إنه الصواب، ووقع في جامع ابن الأثير أنه بتحتية
المخزومي فولدت له هند.
وكان لها -حين تزوجها بالنبي صلى الله عليه وسلم- من العمر أربعون سنة وبعض أخرى. وكانت عرضت نفسها عليه.................................
__________
وذال معجمة وهو مردود، فإنه عتيق بن عابد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وقد صرح علامة النساب الزبير بن بكار بأن من كان من ولد عمر بن مخزوم فهو عابد، يعني بموحدة ودال مهملة، ومن كان من ولد أخيه عمران بن مخزوم فعائد، يعني بتحتية وذال معجمة، نقله الأمير في إكماله، والحافظ في تبصيره، وأقراه.
"المخزومي" نسبة إلى جده مخزوم المذكور، "فولدت له هندًا" أسلمت وصحبت ولم ترو شيئًا، قاله الدارقطني، فهو أنثى وبه صرح المصنف في الزوجات وغيره تبعًا للزبير، وروى الدولابي عن الزهري أنها أم محمد بن صيفي المخزومي وهو ابن عمه، قال ابن سعد: ويقال لولد محمد: بنو الطاهرة؛ لمكان خديجة. وفي النور عن بعضهم: ولدت لعتيق عبد الله، وقيل عبد مناف، وهذا ثم ما ذكره المصنف من أن عتيقًا بعد أبي هالة، هو ما نسبه ابن عبد البر للأكثر وصححه، ولذا جزم به هنا وصدر به في المقصد الثاني. وقال قتادة وابن شهاب وابن إسحاق، في رواية يونس عنه: تزوجها وهي بكر عتيق بن عابد، ثم هلك عنها، فتزوجها أبو هالة. واقتصر عليه في العيون والفتح، وحكى القولين في الإصابة.
"وكان لها حين تزوجها بالنبي صلى الله عليه وسلم" مصدر مضاف لمفعوله، أي: حين تزويج مزوجها إياها منه. وفي نسخة: تزوجها بإضافة المصدر لفاعله، "من العمر أربعون سنة" رواه ابن سعد، واقتصر عليه اليعمري، وقدمه مغلطاي والبرهان. قال في الغرز: وهو الصحيح، وقيل: خمس وأربعون، وقيل: ثلاثون، وقيل: ثمانية وعشرون، حكاه مغلطاي وغيره.
وأم قول المصنف هنا: وفي المقصد الثاني أربعون، "وبعض أخرى" فينظر ما قدر البعض، "وكانت عرضت نفسها عليه" بلا واسطة، فعند ابن إسحاق فعرضت عليه نفسها، فقالت: يا ابن عم! إني قد رغبت فيك لقرابتك وسلطتك في قومك وأمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك، أو بواسطة؛ كما رواه ابن سعد من طريق الواقدي عن نفيسة بنت منية، قالت: كانت خديجة امرأة حازمة جلدة شريفة مع ما أراد الله بها من الكرامة والخير، وهي يومئذ أوسط قريش نسبًا وأعظمهم شرفًا وأكثرهم مالا، وكل قومها كان حريصًا على نكاحها لو قدر على ذلك، طلبوها وبذلوا لها الأموال، فأرسلتني دسيسًا إلى محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن رجع في عيرها من الشام، فقلت: يا محمد! ما يمنعك أن تتزوج؟ فقال: "ما بيدي ما أتزوج به"، قلت: فإن كفيت ذلك ودعيت إلى المال والجمال والشرف والكفاءة، ألا تجيب؟ قال: "فمن هي"؟ قلت: خديجة، قال: "وكيف
فذكر ذلك لأعمامه، فخرج معه منهم حمزة حتى دخل على خويلد بن أسد فخطبها إليه.
فتزوجها عليه السلام، وأصدقها عشرين بكرة.............................
__________
لي بذلك"؟. فذهبت فأخبرتها فأرسلت إليه: أن ائت لساعة كذا، "فذكر ذلك لأعمامه" والجمع ممكن بأنها بعثت نفيسة أولا لتعلم هل يرضى، فلما علمت ذلك كلمته بنفسها، قال الشامي، وسبب عرضها ما حدثها به غلامها ميسرة مع ما رأته من الآيات.
وما ذكره ابن إسحاق في المبتدأ، قال: كان لنساء قريش عيد يجتمعن فيه، فاجتمعن يومًا فيه، فجاءهن يهودي، فقال: يا معشر نساء قريش! إنه يوشك فيكن نبي، فأيتكن استطاعت أن تكون فراشًا له فلتفعل، فحصبنه وقبحنه وأغلظن له وأغضت خديجة على قوله؛ ولم تعرض فيها عرض فيه النساء، وقر ذلك في نفسها، فلما أخبرها ميسرة بما رآه من الآيات، وما رأته هي، قالت: إن كان ما قال اليهودي حقًا، ما ذاك إلا هذا، انتهى. وحصبنه: رمينه بالحصباء، وأغضت بغين وضاد معجمتين: سكتت.
"فخرج معه منهم حمزة" كذا عند ابن إسحاق، ونقل السهيلي عن المبرد: أن أبا طالب هو الذي نهض معه، وهو الذي خطب خطبة النكاح. قال في النور: فلعلهما خرجا معه جميعًا والذي خطب أبو طالب؛ لأنه أسن من حمزة. "حتى دخل على" أبيها "خويلد" بضم الخاء مصغر "ابن أسد" بن عبد العزى بن قصي بن كلاب، "فخطبها إليه" أي: فخطبها من خويلد له صلى الله عليه وسلم، "فتزوجها عليه السلام" وظاهر سياقه هذا: أنه عليه السلام ذكر ذلك لأعمامه من غير طلبها حضور واحد بعينه وعند ابن سعد في الشرف، أنها قالت له: اذهب إلى عمك، فقل له: عجل إلينا بالغداة، فلما جاء، قالت: يا أبا طالب، ادخل على عمي، فقل له: يزوجني من ابن أخيك، فقال: هذا صنع الله ... فذكر الحديث.
ولا منافاة أصلا فذكره عرضها لأعمامه لا ينافي كونها عينت له واحدًا منهم. وفي الروض: ذكر الزهري في سيرته وهي أول سيرة ألفت في الإسلام: أنه صلى الله عليه وسلم قال لشريكه الذي كان يتجر معه في مال خديجة: هلم فلنتحدث عند خديجة، وكانت تكرمهما وتتحفهما، فلما قاما من عندها جاءت امرأة، فقالت له: جئت خاطبًا يا محمد، قال: كلا، فقالت: ولم!! فوالله ما في قريش امرأة وإن كانت خديجة إلا تراك كفؤًا لها، فرجع صلى الله عليه وسلم خاطبًا لخديجة مستحيًا منها، وكان أبوها خويلد سكران من الخمر، فلما كلم في ذلك أنكحها، فألقت عليه خديجة حلة وضمخته بخلوق، فلما صحا من سكره، قال: ما هذه الحلة والطيب، فقيل: إنك أنكحت محمدًا خديجة وقد ابتنى بها، فأنكر ذلك ثم رضيه وأمضاه، وقال راجز من أهل مكة في ذلك:
وحضر أبو طالب ورؤساء مضر، فخطب أبو طالب فقال:
الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وضئضئ معد، وعنصر مضر، وجعلنا حضنة بيته، وسواس حرمه، وجعل لنا بيتًا محجوجًا، وحرمًا آمنًا، وجعلنا الحكام على الناس، ثم إن ابن أخي هذا، محمد بن عبد الله، لا يوزن برجل إلا
__________
لا تزهدي خديج في محمد ... نجم يضيء كما ضياء الفرقد
"وأصدقها عشرين بكرة" من ماله صلى الله عليه وسلم زيادة على ما دفعه أبو طالب ويأتي له مزيد قريبًا. "وحضر أبو طالب" هذا هو الصواب المذكور في الروض وغيره، وما في نسخ أبو بكر رضي الله عنه لا أصل له، وقد صرح المصنف نفسه بالصواب في المقصد الثاني، فقال: وزاد ابن إسحاق من طريق آخر: وحضر أبو طالب "ورؤساء مضر، فخطب أبو طالب" لا ينافيه قوله السابق: فخرج معه منهم حمزة؛ لما مر عن النور، "فقال: الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم" خصه دون نوح؛ لأنه شرفهم وأسكنهم البيت الحرام، أما نوح وآدم فيشاركهم فيه جميع الناس، "وزرع إسماعيل" والد العرب الذي هم أشرف الناس لا زرع إسحاق ولا مدين، ولا غيرهما من ولد إبراهيم، أي: مزروعة والمراد ذريته غاير تفننًا وكراهة لتوارد الألفاظ، وأطلق عليها اسم الزرع لمشابهتها له في النضارة والبهجة أو لتسببه في تحصيلها بفعل الزرع من إلقاء الحب وفعل ما يحتاج لتحصيل الإنبات، "وضئضئ معد" بكسر الضادين المعجمتين وبهمزتين الأولى ساكنة، ويقال: ضيضئ بوزن قنديل وضؤضؤ بوزن هدهد وضؤضوء بوزن سرسور، ويقال أيضًا بصادين وسينين مهملتين، وهو في الجميع الأصل والمعدن، ذكره الشامي.
"وعنصر مضر" بضم العين المهملة وسكون النون وضم الصاد المهملة وقد تفتح الأصل أيضًا وغاير تفننا والإضافة فيهما بيانية، أي: أصل هو معد ومضر وخصهما لشرفهما وشهرتهما أو لما ورد أنهما ماتا على ملة إبراهيم، لكن وروده كان بعد ذلك بمدة فلعله كان مشهورًا في الجاهلية، قال شيخنا: ويجوز أن المراد بالأصل الشرف والحسب، والمعنى: من أشراف معد ومضر.
"وجعلنا حضنة بيته" الكعبة "وسواس حرمه" مدبريه القائمين به، "وجعل له بيتًا محجوجًا" أي: مقصودًا بالحج إليه، "وحرمًا آمنًا" لا يصيبنا فيه عدو؛ كما قال تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص: 57] ، "وجعلنا الحكام على الناس" حكم معروف وطوع وانقياد لمكارم أخلاقهم وحسن معاملاتهم، لا حكم ملك وقهر فلا ينافي قول صخر لقيصر ليس في آبائه من ملك، "ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله، لا يوزن برجل إلا
رجح به، فإن كان في المال قل، فإن المال ظل زائل، وأمر حائل، ومحمد ممن قد عرفتم قرابته، وقد خطب خديجة بنت خويلد وبذل لها ما آجله وعاجله من مالي كذا، وهو -والله- بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل جسيم، فزوجها.
__________
رجح به" زاد في رواية: شرفًا ونبلا وفضلا وعقلا، وعداه بالباء وفيما مر عداه صلى الله عليه وسلم بنفسه في قوله: فوزنوني بهم فرجحتهم فيفيد جواز الأمرين، "فإن" وفي نسخة: وإن بالواو، وهي أولى؛ لأن ما ذكر لا يتفرع على ما قبله، "كان في المال" اللام عوض عن المضاف إليه، أي: ماله "قل" بضم القاف مشترك بين ضد الكثرة، وهو الوصف والشيء القليل؛ كما في القاموس.
"فإن المال ظل زائل" تشبيه بليغ، أي: كالظل السريع الزوال، "وأمر" أي: شيء "حائل" لا بقاء له لتحوله من شخص لآخر ومن صفة إلى أخرى فمال زائل وحائل واحد، زاد في رواية: وعارية مسترجعة، "ومحمد ممن" من الذين "قد عرفتم قرابته" أفراد ضميره رعاية للفظ من، وفي نسخ إسقاط من أي ومحمد الذي قد عرفتم قرابته لهاشم وعبد المطلب والآباء والكرام، فالحسب أعظم من كثرة المال، "وقد خطب خديجة بنت خويلد" أي: جاء لها خاطبًا، "وبذل" أعطى بسماحة "لها ما آجله وعاجله من مالي".
"كذا" هو ما يأتي عن الدولابي، ففي رواية: إن أبا طالب قال: وقد خطب إليكم راغبًا كريمتكم خديجة وقد بذل لها من الصداق ما حكم عاجله وآجله اثنتا عشرة أوقية ذهبًا ونشا، وقال المحب الطبري في السمط الثمين في أزواج الأمين: أصدقها المصطفى عشرين بكرة، ولا تضاد بين هذا وبين ما يقال أبو طالب أصدقها؛ لجواز أنه صلى الله عليه وسلم زاد في صداقها فكان الكل صداقًا وذكر ادولابي وغيره: أنه صلى الله عليه وسلم أصدقها اثنتي عشرة أوقية من ذهب، وفي المنتقى: الصداق أربعمائة دينار، فيكون ذلك أيضًا زيادة على ما تقدم ذكره الخميس.
"وهو والله بعد هذا" الذي قلته فيه "له نبأ" خبر "عظيم" لا تعلمونه إشارة إلى ما شاهده من بركته عليه في أكله مع عياله، وما أخبر به بحيرا وغير ذلك، "وخطر جليل" عظيم "جسيم" فزوجها بالبناء للمفعول، وفي رواية: فتزوجها صلى الله عليه وسلم.
وفي المنتقى: فلما أتم أبو طالب الخطبة تكلم ورقة بن نوفل، فقال: الحمد لله الذي جعلنا كما ذكرت، وفضلنا على ما عددت فنحن سادة العرب وقادتها، وأنتم أهل ذلك كله لا تنكر العشيرة فضلكم ولا يرد أحد من الناس فخركم وشرفكم، وقد رغبنا في الاتصال بحبلكم وشرفكم فاشهدوا عليّ يا معاشر قريش بأني قد زوجت خديجة بنت خويلد من محمد بن عبد الله على أربعمائة دينار، ثم سكت، فقال أبو طالب: قد أحببت أن يشركك عمها، فقال عمها: اشهدوا علي يا معاشر قريش أني قد أنكحت محمدًا بن عبد الله خديجة بنت خويلد،
والضئضئ: الأصل.
وحضنة بيته: أي الكافلين له والقائمين بخدمته.
وسواس حرمه: أي متولوا أمره.
قال ابن إسحاق: وزوجها أبوها خويلد.
وقد ذكر الدولابي وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم أصدق خديجة اثنتي عشر أوقية ذهبًا ونشًا. قالوا: وكل أوقة أربعون درهمًا، قال المحب الطبري والنش: نصف أوقية تتميم.
ولما بلغ صلى الله عليه وسلم خمسًا وثلاثين سنة........................
__________
وشهد على ذلك صناديد قريش.
"والضئضئ" بجميع وجوهه المتقدمة معناه: "الأصل وحضنة بيته، أي: الكافلين له والقائمين بخدمته" أي: هم المعروفون بذلك وإلا فالأولى الرفع؛ لأن حضنة مبتدأ فهو مرفوع وإن قصد حكاية ما سبق، "وسواس حرمه، أي: متولو أمره" من ساس الرعية، "قال ابن إسحاق: وزوجها أبوها خويلد" للنبي صلى الله عليه وسلم أعاده للغزو، وهذا جزم به ابن إسحاق هنا، وصدر به في آخر كتابه وقابله بقوله: ويقال أخوها عمرو، وفي الفتح: زوجه إياها أبوها خويلد، ذكره البيهقي من حديث الزهري بإسناده عن عمار بن ياسر، وقيل: عمها عمرو بن أسد ذكره الكلبي، وقيل: أخوها عمرو بن خويلد، ذكره ابن إسحاق، انتهى.
وكأنه لم يعتبر قول الواقدي الثبت عندنا المحفوظ من أهل العلم أن أباها مات قبل حرب الفجار، وإن عمها عمرًا هو الذي زوجها لمزيد حفظ الثبت وهو الزهري خصوصًا، وقد رواه عن صحابي من السابقين، لكن قال الشامي الذي ذكره أكثر علماء السير: أن الذي زوجها عمها.
قال السهيلي: وهو الصحيح لما روى الطبري: أن عمرو بن أسد هو الذي أنكح خديجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن خويلدًا كان قد مات قبل حرب الفجار، ورجحه الواقدي وغلط من قال بخلافه، وحكى عليه المؤملي الاتفاق.
"وقد ذكر" الحافظ أبو بشر بموحدة مكسورة فشين معجمة محمد بن أحمد الأنصاري، "الدولابي" قال في اللب: كأصله بفتح الدال المهملة والناس يضمونها نسبة إلى عمل الدولاب شبه الناعورة، لكن في النور والقاموس: أن القرية دولاب بالضم والذي كالناعورة بالضم وقد يفتح وقد مر ذلك مع بعض ترجمته.
"وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم أصدق خديجة" من مال أبي طالب على ما مر فنسب إليه لوقوع النكاح له، "اثنتي عشرة أوقية ذهبًا ونشًا" وظاهر كلام الطبري حمله على ظاهره وأن الذي من أبي طالب غيره، "قالوا وكل أوقية أربعون درهمًا قال المحب الطبري" فتكون جملة الصداق خمسمائة درهم شرعي، انتهى. أي: ذهبًا ولا ينافيه تعبيره بدرهم؛ لأنه بيان للوزن فلا يستلزم كونه فضة فأراد الشرعي وزنًا وهو خمسون وخمسًا حبة من مطلق الشعير، أي: لا طبري ولا بغلي ثم هذا لا ينافي أن صداق الزوجات لم يزد على خمسمائة درهم فضة لحمله على ما بعد البعثة، أو على ما إذا كان منه عليه السلام، أما هذا فشاركه فيه أبو طالب.
"والنش" بفتح النون وبالشين المعجمة "نصف أوقية" لأن النش لغة نصف كل شيء، روى مسلم عن عائشة: كان صداقه صلى الله عليه وسلم لأزواجه اثنتي عشرة أوقية ونشا، أتدري ما النش؟ قلت: لا، قالت: نصف أوقية فذلك خمسمائة درهم، وهذا أولى من قول ابن إسحاق: صداقه لأكثر زوجاته أربعمائة درهم؛ لأن فيه زيادة، ومن ذكر الزيادة معه زيادة علم، ولصحته "تتميم" ذكر الملأ في سيرته أنه صلى الله عليه وسلم لما تزوجها ذهب ليخرج، فقالت له: إلى أين يا محمد؟ اذهب وانحر جزورًا أو جزورين وأطعم الناس، ففعل وهو أول وليمة أولمها صلى الله عليه وسلم.
وفي المنتقى: فأمرت خديجة جواريها أن يرقصن ويضربن الدفوف، وقالت: مر عمك ينحر بكرًا من بكراتك، وأطعم الناس وهلم فقل مع أهلك، فأطعم الناس ودخل صلى الله عليه وسلم فقال: "معها فقر الله عينه"، وفرح أبو طالب فرحًا شديدًا وقال: الحمد لله الذي أذهب عنا الكرب ودفع عنا الهموم، وسيأتي شيء من فضائلها إن شاء الله من المقصد الثاني، وقبله في المبعث.
,
"فأما أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها" أول خلق الله تعالى أسلم بإجماع المسلمين، لم يتقدمها رجل ولا امرأة.
قاله الحافظ أبو الحسن عز الدين بن الأثير، وأقره الإمام الذهبي، وسبقهما لحكاية الإجماع الثعلبي، وابن عبد البر، فسنت أحسن السنن، فلها أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، "وأمها فاطمة بنت زائدة بن الأصم" لقب لجندب بن حجر بن بغيض بن عامر بن لؤي، وفي نسخة بنت زائدة، بنت أبن الأصم، وهي وصف ثان لفاطمة لا لزائدة لئلا يوهم أن زائدة اسم لأمها مع أنه أبو هالة وأمها هالة بنت عبد مناف بن الحارث بن منقذ بن بغيض بن عامر بن لؤي، وأم هالة قلابة بنت سعيد من بني كعب بن لؤي فكيفما دار نسبها دار في قريش، "فكانت تدعى" توصف أو تنادى "في الجاهلية الطاهرة" لتركها ما كانت تفعله نساء الجاهلية، "وكان تحت أبي هالة" واسمه فيما جزم به أبو عبيد، وقدمه مغلطاي "النباش"، بفتح النون، فموحدة ثقيلة، فألف فشين معجمة، وقيل مالك.
حكاه الزبير بن بكار والدارقطني وصدر به في الفتح، وقيل زرارة حكاه ابن منده والسهيلي، وقيل هند جزم به العسكري، وتبعه اليعمري "ابن زرارة" بن النباش بن عدي التميمي بميمين من بني تميم "فولدت له هندا" الصحابي، راوي حديث الصفة النبوية، البدري الفصيح البليغ الوصاف، وله ولد اسمه أيضا هند، فعلى قول العسكري أن اسم أبي هالة هند يكون ممن
وهالة وهما ذكران.
ثم تزوجها عتيق ابن عابد المخزومي، فولدت له جارية اسمها هند، وبعضهم يقدم عتيقا على أبي هالة.
ثم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولها يومئذ أربعون سنة وبعض أخرى، وكان سنه عليه الصلاة والسلام إحدى وعشرين سنة، وقيل خمسا وعشرين، وعليه الأكثر، وقيل ثلاثين.
وكانت قد عرضت نفسها عليه،
__________
اشترك مع أبيه وجده في الاسم، "وهالة" التميمي قال أبو عمر له صحبة.
وروى المستغفري عن عائشة قدم ابن لخديجة يقال له هالة والنبي صلى الله عليه وسلم فسمعه فقال: هالة هالة هالة، وروى الطبراني عن هالة بن أبي هالة أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو راقد، فاستيقظ، فضم هالة إلى صدره، وقال هالة ثلاثة، "وهما ذكران" خلافا لمن وهم، فزعم هالة أنثى وإن مشى عليه الشامي هنا، ويرده قول عائشة ابن لخديجة، ومن ثم أورده في الإصابة في الرجال لا في النساء "ثم" بعد موت أبي هالة في الجاهلية "تزوجها عتيق بن عابد" بالموحدة والدال المهملة ابن عبد البر بن عمر بن مخزوم "المخزومي" القرشي، "فولدت له جارية اسمها هند" أسلمت وصحبت ولم ترو شيئا، قاله الدارقطني.
وقال الزهري: وهي أم محمد بن صيفي المخزومي، وهو ابن عمها.
قال ابن سعد: ويقال لولد محمد بنو الطاهرة لمكان خديجة، وقال بعضهم ولدت لعتيق عبد الله، وقيل عبد مناف وهندا، ثم كونه بعد أبي هالة هو قول الأكثر، وصححه ابن عبد البر، "وبعضهم يقدم عتيقا"، في تزويج خديجة "على أبي هالة" وهو قتادة وابن شهاب وابن إسحاق في رواية يونس قالوا: تزوجها وهي بكر عتيق، ثم هلك عنها، فتزوجها أبو هالة واقتصر عليه في معيون والفتح وحكى القولين في الإصابة "ثم" بعد موتهما معا عنها "تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولها يومئذ أربعون سنة" كما رواه ابن سعيد، واقتصر عليه اليعمري، وقدمه مغلطاي والبرهان وصحح، وقيل خمس وأربعون، وقيل ثلاثون وقيل ثمانية وعشرون.
حكاها مغلطاي وغيره: أما قوله "وبعض أخرى" فينظر قائله وبها قدر البعض، "وكان سنه عليه الصلاة والسلام إحدى وعشرين سنة" في قول الزهري، "وقيل خمسا وعشرين" سنة "وعليه الأكثر" من العلماء، "وقيل ثلاثين" حكاه ابن عبد البر، وقيل غير ذلك، "وكانت قد عرضت نفسها عليه" بلا واسطة، كما عند ابن إسحاق أو بواسطة نفيسة بنت منية، كما رواه
فذكر ذلك لأعمامه، فخرج معه منهم حمزة،
__________
الواقدي عنها، وقد قدمت ذلك ولا تنافي فإنها أرسلت له نفيسة أولا، فلما حضر كلمته بنفسها، وسبب العرض ما حدثها به غلامها ميسرة حين سافر معه في تجارتها وما رأته هي أيضا فيه من الآيات، وما رواه المدائني، عن ابن عباس أن نساء مكة اجتمعن في عيد لهن، فجاء رجل، فنادى بأعلى صوته أنه سيكون في بلدكن نبي يقال له أحمد، فمن استطاعت منكن أن تكون زوجا له فلتفعل فحصبنه إلا خديجة فأعرضت عن قوله ولم تعرض عنه "فذكر ذلك لأعمامه" فيه أن الله جبله على الاستشارة من قبل النبوة، "فخرج معه منهم حمزة"، كما عند ابن إسحاق، ونقل السهيلي عن المبرد أن أبا طالب هو الذي نهض معه، وهو الذي خطب، وجمع بأنهما خرجا معا، والخاطب أبو طالب؛ لأنه أسن من حمزة.
وروى أحمد والطبراني برجال الصحيح عن ابن عباس والبزار والطبراني برجال ثقات عن جابر بن سمرة أو رجل من الصحابة والطبراني بسند ضعيف عن عمران، وهو والبزار بسند ضعيف عن عمار دخل حديث بعضهم في بعض أنه صلى الله عليه وسلم كان يرعى وهو شريك له إبلا لأخت خديجة مدة، فلما انقضت جعل شريكه يأتي يتقاضاها ما بقي لهما عليها فقالت له مرة أين محمد، قال قلت له فزعم أنه يستحيي، فقالت: ما رأيت رجلا أشد حياء منه، لا أعف، ولا ولا فوقع في نفس خديجة، فبعثت إليه، فقالت: ائت أبي فاخطبني، قال: "إن أباك رجل كثير المال وهو لا يفعل".
وفي حديث عمار مررت معه صلى الله عليه وسلم على أخت خديجة، فنادتني فانصرفت إليها ووقف عليه السلام، فقالت: أما لصاحبك في تزويج خديجة حاجة فأخبرته فقال: "بلى لعمري"، فرجعت إليها، فأخبرتها انتهى، فقالت له صلى الله عليه وسلم: كلم أبي وأنا أكفيك، وائت عند سكره، فأتاه صلى الله عليه وسلم، فكلمه، وكان أبوها يرغب أن يزوجه، فذبحت خديجة بقرة، وصنعت طعاما وشرابا، ودعت أباها ونفرا من قريش فطعموا وشربوا حتى ثملوا، فقالت: إن محمد بن عبد الله يخطبني، فزوجني إياه، ففعل فخلفته وألبسته حلة وضربت عليه قبة، وكذا كانوا يفعلون بالآباء، فلما سرى عنه سكره نظر ذلك، فقال ما شأني ما هذا، قالت: زوجتني محمد بن عبد الله، فلما أصبح قيل له أحسنت زوجت محمدا، قال أو قد فعلت؟ قالوا: نعم فدخل عليها، فقال: إن الناس يقولون إني زوجت محمدا وما فعلت، قالت: بلى، قال: أنا أزوج يتيم أبي طالب لا لعمري، قالت: ألا تستحيي تريد أن تسفه نفسك عند قريش، تخبر الناس أنك كنت سكران، فإن محمدا كذا وكذا، فلم تزل به حتى رضي، ثم بعثت إليه صلى الله عليه وسلم بوقيتين فضة أو ذهب، وقالت اشتر حلة واهدها لي وكساء، وكذا وكذا، ففعل، ولا تعارض بين هذه الأسباب لعرضها نفسها عليه، فإن
حتى دخل على خويلد بن أسد فخطبها إليه فتزوجها صلى الله عليه وسلم وأصدقها عشرين بكرة. وزاد ابن إسحاق من طريق آخر: وحضر أبو طالب ورؤساء مضر: فخطب أبو طالب وقد قدمت خطبته في المقصد الأول عند ذكر تزويجها له صلى الله عليه وسلم. وذكر الدولابي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم أصدق خديجة اثنتي عشرة أوقية ذهبا.
وكانت خديجة -كما قدمته- أول من آمن من الناس،
__________
من جملة أسبابة وصف أختها له، وهي تسمع بشدة الحياء والعفة وغيرهما، فأرسلت له أولا نفيسة لتعلم أله فيها رغبة، فلما علمت ذلك كلمته بنفسها، فكأنه أبطأ عليها بعض أيام، فذكرته لأختها فمر عليها مع عمار، فقالت لعمار ذلك، فوافق صلى الله عليه وسلم على ذلك، وكلم أعمامه، فذهب معه اثنان "حتى دخل عليه" أبيها "خويلد بن أسد، فخطبها إليه" أي من خويلد لنفسه صلى الله عليه وسلم، "فتزوجها صلى الله عليه وسلم" بعدما تحيلت على أبيها بما ذكر؛ لأنه كان يرغب عن أن يزوجه والله هداها ووفقها، وكون أبيها هو الذي زوجها هو ما جزم به ابن إسحاق أولا، ثم صدر به هنا وهو ظاهر أحاديث المذكورين، وقيل أخوها عمرو بن خويلد، وقيل مها عمرو بن أسد، ورجحه الواقدي وغلط من قال بخلافه؛ لأن أباها مات قبل ذلك.
قال السهيلي وهو الأصح وبالغ المؤملي، فحكى عليه الاتفاق "وأصدقها عشرين بكرة" كما قاله المحب الطبري قائلا ولا تخالف بينه وبين ما يقال أصدقها عنه أبو طالب، لجواز أنه صلى الله عليه وسلم زاد في صداقها فكان الكل صداقا.
"وزاد ابن إسحاق من طريق آخر، وحضر أبو طالب ورؤساء مضر، فخطب أبو طالب، وقد قدمت خطبته في المقصد الأول عند ذكر تزويجها له" مصدر مضاف لمفعوله، أي تزويج أبيها له "صلى الله عليه وسلم" فسقط زعم أن الصواب تزوجها، نعم هو أولى فقط ويكون مضافا لفاعله، "وذكر الدولابي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم أصدق خديجة اثنتي عشرة أوقية ذهبا" ونشا، كما هو بقية كلام من نقل عنه، كما أسلفه في المقصد الأول، وقال: إن النش نصف أوقية، وكل أوقية أربعون درهما انتهى، وهو بفتح النون والشين المعجمة، وفي مسلم عن عائشة كان صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه اثنتي عشرة أوقية ذهبا ونشا، أتدري ما النش؟ قلت لا، قالت: نصف أوقية، فذلك خمسمائة درهم، فذلك صداقه لأزواجه، وهذا لصحته أولى ما ذكره ابن إسحاق أن صداقه لأكثر أزواجه أربعمائة درهم، ولزيادته فإن من ذكر الزيادة معه زيادة علم، فلعل ما وقع لبعضهم أنه أصدق خديجة أربعمائة دينار أصله درهم، ويكون بناء على كلام ابن إسحاق.
"وكانت خديجة، كما قدمته أول من آمن من الناس" على الإطلاق، كما حكى عليه الثعلبي وابن عبد البر وابن الأثير الاتفاق، وإنما الخلاف في أول من آمن بعدها، وتقدم الجمع ثمة.
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة: "أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد، هذه خديجة قد أتتك بإناء فيه طعام -أو إدام أو شراب- فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني،
__________
قال في الإصابة: وأصرح ما وقفت عليه في سبقها إلى الإسلام ما رواه أبو نعيم في الدلائل بسند ضعيف عن عائشة كان صلى الله عليه وسلم جالسا مع خديجة إذ رأى شخصا بين السماء والأرض فقالت له خديجة: ادن فدنا منها، فقالت: تراه قال: "نعم"، قالت: أدخل رأسك تحت درعي ففعل فقالت: تراه قال: "لا"، قالت: أبشر هذا ملك لو كان شيطانا لما استحي ثم رآه بأجياد فنزل إليه وبسط له بساطا، وبحث في الأرض، فنبع الماء، فعلمه جبريل كيف يتوضأ فتوضأ، وصلى ركعتين نحو الكعبة، وبشره بنبوته، وعلمه اقرأ باسم ربك ثم انصرف فلم يمر على شجر ولا حجر إلا قال: سلام عليك يا رسول الله، فجاء إلى خديجة فأخبرها، فقالت: أرني كيف أراك فأراها، فتوضأت كما توضأ ثم صلت معه، وقالت: أشهد أنك رسول الله انتهى.
"وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم" لفظ الرواية، وفي الصحيحين أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، زاد الطبراني بحراء "يا محمد " لفظ البخاري في باب تزويجها وفضلها، فقال: يا رسول الله هذه خديجة قد أتتك هو لفظ مسلم.
قال الحافظ: أي توجهت إليك، وقوله ثانيا، فإذا هي أتتك، أي وصلت إليك، ولفظ البخاري قد أتت بلا كاف "بإناء فيه طعام" أو" قال "إدام" بكسر الهمزة "أو" قال "شراب" كذا رواية الصحيحين بالشك من الراوي ثلاثا وللإسماعيلي فيه إدام أو طعام وشراب بالشك مرتين.
وفي رواية الطبراني أنه كان حيسا، "فإذا هي أتتك" أي وصلت إليك، "فاقرأ" بهمزة وصل وفتح الراء "عليها السلام من ربها" إضافة تشريف لها "ومني".
قال المصنف، وهذه لعمر الله خاصة لم تكن لسواها، وسبقه إلى هذا ابن القيم في الهدى، فقال: وهذه فضيلة لا تعرف لامرأة سواها انتهى.
زاد الطبراني، فقالت: هو السلام ومنه السلام وعلى جبريل السلام، وللنسائي عن أنس قال: قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن الله يقرئ خديجة السلام يعني فأخبرها، فقالت: إن الله هو السلام وعلى جبريل السلام وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، زاد ابن السني وعلى من سمع السلام إلا الشيطان.
قال في فتح الباري: قال العلماء في هذه القصة دليل على وفور فقهها لأنها لم تقل وعليه السلام كما وقع لبعض الصحابة حيث كانوا يقولون في التشهد السلام على الله، فنهاهم صلى الله عليه وسلم وقال: "إن الله هو السلام، فقولوا التحيات لله"، فعرفت خديجة لصحة فهمها أن الله لا
وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب" والقصب: اللؤلؤ المجوف.
__________
يرد عليه السلام، كما يرد على المخلوقين لأن السلام من أسمائه، وهو أيضا دعاء بالسلامة، وكلاهما لا يصلح أن يرد به على الله، فكأنها قالت: كيف أقول عليه السلام، والسلام اسمه، ومنه يطلب، ومنه يحصل فيستفاد منه أنه لا يليق بالله إلا الثناء عليه، فجعلت مكان رد السلام عليه الثناء عليه، ثم غايرت بين ما يليق بالله وما يليق بغيره فقالت: وعلى جبريل السلام ثم قالت: وعليك السلام، ويستفاد منه رد السلام على من أرسله وعلى من بلغه، والذي يظهر أن جبريل كان حاضرا عند جوابها فردت عليه وعلى النبي مرتين مرة بالتخصيص ومرة بالتعميم، ثم أخرجت الشيطان ممن سمع؛ لأنه لا يستحق الدعاء بذلك، وإنما بلغها جبريل بواسطة المصطفى، ولم يواجهها بالخطاب، كمريم قيل أنها نبية، وقيل لأنها لم يكن معها زوج محترم، فخاطبها.
"وبشرها ببيت في الجنة من قصب" بفتح القاف والصاد المهملة وبالموحدة "لا صخب فيه" بفتح المهملة والمعجمة بعدها موحدة الصياح والمنازعة برفع الصوت "ولا نصب" بفتح النون والمهملة فموحدة التعب فبشرها صلى الله عليه وسلم لأنه لا يتخلف عن امتثال ما أمر به.
وقد روى أحمد والطبراني وأبو يعلى برجال ثقات وابن حبان عن عبد الله بن جعفر رفعه أمرت أن أبشر خديجة ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب.
وروى الشيخان عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم بشر خديجة ببيت في الجنة الحديث.
وروى الطبراني برجال الصحيح عن جابر سئل صلى الله عليه وسلم عن خديجة، فقال: أبصرتها على نهر من أنهار الجنة في بيت قصب لا لغو فيه ولا نصب.
قال السهيلي: مناسبة نفي هاتين الصفتين أعنى المنازعة والتعب أنه صلى الله عليه وسلم لما دعا إلى الإيمان أجابت خديجة وعا فلم تحوجه إلى رفع صوت ولا منازعة ولا تعب في ذلك، بل أزالت عنه كل نصب، وآنسته من كل وحشة، وهونت عليه كل عسير، فناسب أن يكون منزلها الذي بشرها به ربها بالصفة المقابلة لفعلها، "والقصب اللؤلؤ المجوف" كما ورد مفسرا في كبير الطبراني، من حديث أبي هريرة، ولفظه بيت من لؤلؤة مجوفة، وأصله في مسلم وعنده في الأوسط، عن فاطمة قلت: يا رسول الله أين أمي خديجة؟ قال: "في بيت من قصب"، قلت: أمن هذا القصب؟ قال: "لا من القصب المنظوم بالدر واللؤلؤ والياقوت".
قال السهيلي: النكتة في قوله من قصب ولم يقل من لؤلؤ إن في لفظ القصب مناسبة لكونها أحرزت قصب السبق بمبادرتها إلى الإيمان دون غيرها، وكذا وقعت في هذه المناسبة في
قال ابن إسحاق: كان صلى الله عليه وسلم لا يسمع شيئا يكرهه من رد عليه وتكذيب له فيحزنه ذلك إلا فرج الله عنه بخديجة إذا رجع إليها تثبته وتخفف عنه، وتصدقه وتهون عليه أمر الناس حتى ماتت رضي الله عنها.
وعن عبد الرحمن بن زيد قال: قال آدم عليه السلام: إني لسيد البشر يوم القيامة،
__________
جميع ألفاظ هذا الحديث انتهى.
قال الحافظ: وفي القصب مناسبة أخرى من جهة استواء أكثر أنابيبه وكذا كان لخديجة من الاستواء ما ليس لغيرها إذ كانت حريصة على رضاه بكل ممكن ولم تغضبه قط كما وقع لغيرها.
والمراد بالبيت، كما قال أبو بكر الإسكاف في فؤائد الأخبار بيت زائد على ما أعد الله لها من ثواب عملها، ولذا قال لا نصب، أي لم تتعب بسببه، وقال السهيلي: لذكر البيت معنى لطيف لأنها كانت ربة بيت في الإسلام منفردة به، فلم يكن على وجه الأرض في أول يوم بعث صلى الله عليه وسلم ببيت إسلام إلا بيتها، وهي فضيلة ما شاركها فيها أيضا غيرها، قال: وجزاء الفعل يذكر غالبا بلفظه وإن كان غيره أشرف منه، فلهذا جاء الحديث بلفظ بيت دون قصر انتهى.
قال الحافظ وفيه معنى آخر لأن مرجع أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم إليها لما ثبت في تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] .
قالت أم سلمة: لما نزلت دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة وعليا والحسن والحسين، فجللهم بكساء فقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي الحديث أخرجه الترمذي وغيره، ويرجع أهل البيت هؤلاء إلى خديجة؛ لأن الحسنين من فاطمة وفاطمة بنتها، وعلى نشأ في بيتها وهو صغير، ثم تزوج بنتها بعدها، فظهر رجوع أهل البيت النبوي إلى خديجة دون غيرها انتهى
"قال ابن إسحاق" في إسلام خديجة فآمنت بما جاء به من الله ووازرته على أمره فكانت أول من آمن بالله ورسوله، فخفف الله بذلك عن رسوله، "فكان صلى الله عليه وسلم لا يسمع شيئا يكرهه من رد عليه وتكذيب له، فيحزنه ذلك إلا فرج الله عنه بخديجة، إذا رجع" إليها "تثبته وتخفف عنه وتصدقه وتهون عليه أمر الناس"، تسهل عليه أذاهم، كأن تقول هم وإن قالوا فيك ما لا يليق، فهم يعلمون أنك بريء منه، وإنما قالوه حسدا، واستمر ذلك "حتى ماتت رضي الله عنها،" ومر حديث الصحيح في تقويتها له لتلقي ما نزل عليه، وذكرها خصاله الحميدة وذهابها به إلى ورقة. "وعن عبد الرحمن بن زيد" بن أسلم العدوي، مولاهم المدني "قال: قال آدم عليه السلام إني لسيد البشر يوم القيامة" من حيث الأبوة أو السيادة، لا تقتضي الأفضلية، فقد قال
إلا رجلا من ذريتي نبيا من الأنبياء، يقال له أحمد، فضل على باثنتين، زوجته عاونته فكانت له عونا، وكانت زوجتي على عونا، وأعانه الله على شيطانه فأسلم، وكفر شيطاني، خرجه الدولابي، كما ذكره الطبري.
وخرج الإمام أحمد من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل نساء أهل الجنة: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنة محمد، ومريم بنة عمران، وآسية امرأة فرعون".
__________
ابن عمر ما رأيت أسود من معاوية، وقد رأى العمرين "إلا رجلا من ذريتي، نبيا من الأنبياء، يقال له أحمد، فضل علي باثنتين، زوجته عاونته، فكانت له عونا" قبل البعثة وبعدها، "وكانت زوجتي علي عونا" حيث زينت له الأكل من الشجرة، "وأعانه الله على شيطانه" قرينه الموكل به، "فأسلم" آمن بالله ورسوله، "وكفر شيطاني" إبليس لعنه الله.
"خرجه الدولابي، كما ذكره الطبري" الحافظ محب الدين في السمط الثمين في أزواج الأمين هذا الحديث وإن كان مقطوعا فلبعضه شواهد، فعند البزار عن ابن عباس، رفعه "فضلت على الأنبياء بخصلتين: كان شيطاني كافرا فأعانني الله عليه، فأسلم"، قال: ونسيت الأخرى.
وروى مسلم مرفوعا "ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن"، قالوا: وإياك يا رسول الله، قال: "وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير".
روى بفتح الميم، ورجحه عياض والنووي، وهو المختار وبضمها، وصححه الخطابي، "وخرج الإمام أحمد" وأبو داود والنسائي، والحاكم، وصححاه "من حديث ابن عبس أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل نساء أهل الجنة" في ذكرها الإيذان بأنهن أفضل حتى من الحور العين، ولو قال النساء لتوهم أن المراد نساء الدنيا فقط "خديجة بنت خويلد" لسبقها إلى الإسلام ومواساتها وتعظيمها خير الأنام، وقال: "إني رزقت حبها" رواه مسلم، فتأمل قوله: "رزقت"، ولم يقل أحبها نجد فيه ما فيه من غاية التعظيم ونهاية التفخيم.
"وفاطمة بنة محمد" قال السهيلي: تكلم الناس في المعنى الذي سادت به فاطمة أخواتها فقيل لأنها ولدت الحسن الذي قال فيه جده: إن ابني هذا سيد، وهو خليفة، وبعلها خليفة، وأحسن من هذا قول من قال: سادت أخوتها وأمها؛ لأنهن متن في حياته صلى الله عليه وسلم فكن في صحيفته، ومات هو في حياتها، فكان في صحيفتها وميزاتها، وقد روى البزار عن عائشة أنه عليه السلام قال لفاطمة: "هي خير بناتي لأنها أصيبت في"، وهذا قول حسن انتهى.
"ومريم بنة عمران" لأن الله ذكرها في القرآن وشهد بصديقتيها، وأخبر أنه طهرها واصطفاها على نساء العالمين، وقيل بنبوتها.
"وآسية" بنت مزاحم "امرأة فرعون" المذكورة في القرآن، وهما من زوجاته صلى الله عليه وسلم في
قال الشيخ ولي الدين العراقي: خديجة أفضل أمهات المؤمنين على الصحيح المختار، وقيل: عائشة، انتهى.
وقال شيخ الإسلام، زكريا الأنصاري في شرح بهجة الحاوي، عند ذكر أزواجه صلى الله عليه وسلم: وأفضلهن خديجة وعائشة وفي أفضلهما خلاف، صحح ابن العماد تفضيل خديجة لما ثبت.
__________
الجنة، كما عند ابن عساكر بسند ضعيف.
"قال الشيخ ولي الدين العراقي، خديجة أفضل أمهات المؤمنين على الصحيح المختار" عند العلماء بدليل هذا الحديث، والذي قبله من إقراء السلام عليها من الله تعالى، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "خير نسائها مريم، وخير نسائها خديجة".
رواه البخاري، أي مريم خير نساء الأمة الماضية، وخديجة خير نساء هذه الأمة، كما قال الحافظ جاء ما يفسر المراد صريحا، فروى البزار والطبراني عن عمار رفعه: "لقد فضلت خديجة على نساء أمتي، كما فضلت مريم على نساء العالمين" إسناده حسن انتهى، وقال في الإصابة: يفسره ما أخرجه ابن عبد البر عن عمران أنه صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة: "ألا ترضين أنك سيدة نساء العالمين" قالت: يا أبت فأين مريم، قال: "تلك سيدة نساء عالمها" انتهى، ولأنه صلى الله عليه وسلم اثنى على خديجة ما لم يثن على غيرها، قالت عائشة: كان صلى الله عليه وسلم لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة، فيحسن الثناء عليها.
رواه الدولابي وابن عبد البر وللطبراني، وكان إذا ذكر خديجة لم يسأم من ثناء عليها، واستغفار لها، "وقيل عائشة" وضعف بحيث بالغ ابن العربي فقال: لا خلاف أن خديجة أفضل من عائشة، قالت في الفتح: ورد بأن الخلاف ثابت قديما، وإن كان الراجح أفضلية خديجة بما تقدم "انتهى" كلام الوليد.
"وقال شيخ الإسلام زكريا" بن أحمد "الأنصاري" العلامة، المحدث، الفقيه، الإمام الصوفي، مجاب الدعوة، صاحب التصانيف شهرته تغني عن تعريفه، وعمر نحو مائة حتى انقرض جميع أقرانه، وألحق الأصاغر بالأكابر، وصار كل من بمصر من أتباعه أو أتباع أتباعه، وتوفي سنة نيف وعشرين وتسعمائة "في شرح بهجة الحاوي" الذي قرئ عليه سبعا وخمسين مرة حتى كان تلميذه الشمس الرملي يقول: هذا شرح أهل بلد لا شرح بل واحد "عند ذكر أزواجه صلى الله عليه وسلم وأفضلهن خديجة وعائشة، وفي أفضلهما خلاف" زاد في الروضة، ثالثها الوقف، "صحح ابن العماد والسبكي وغيرهما "تفضيل خديجة لما ثبت" عند الطبراني بسند جيد،
أنه صلى الله عليه وسلم لقال لعائشة رضي الله عنها، حين قالت له: قد رزقك الله خيرا منها فقال: "لا والله ما رزقني الله خيرا منها، آمنت بي حين كفر بي الناس، وصدقتني حين كذبني الناس، وأعطتني مالها حين حرمني الناس".
وسئل ابن داود أيهما أفضل؟ فقال: عائشة أقرأها النبي صلى الله عليه وسلم السلام من جبريل، وخديجة أقرأها جبريل عليه السلام من ربها على لسان محمد، فهي أفضل قيل له: فمن أفضل خديجة أم فاطمة؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فاطمة بضعة مني" فلا أعدل ببضعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا.
ويشهد لهذا قوله صلى الله عليه وسلم
__________
والدولابي "أنه صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها حين قالت له" لما غارت من كثرة ثنائه عليها واستغفاره لها قالت: فاحتملتني الغيرة، فقلت: "قد رزقك الله خيرا منها" ولأحمد والطبراني، فقلت: قد أبدلك الله بكبيرة السن، حديثه السن، فغضب غضبا شديدا، وسقطت في جلدي، وقلت: اللهم أذهب غيظ رسولك لم أعد أذكرها بسوء ما بقيت، ولأحمد أيضا، فغضب حتى قلت: والذي بعثك بالحق لا أذكرها بعد هذا إلا بخير، "فقال: "لا والله ما رزقني الله خيرا منها، آمنت بي حين كفر بي الناس، وصدقتني حين كذبني الناس، وأعطتني مالها حين حرمني الناس".
زاد الطبري: "وآوتني إذ رفضني الناس، ورزقت مني الولد إذ حرمتوه"، ولأحمد " ورزقني الله أولادها إذ حرمني أولاد النساء"، وأصل الحديث في الصحيحين مختصرا، فخلفه صلى الله عليه وسلم على ذلك مع أنه صادق مصدوق بلا قسم، وتعديده مآثرها الحميدة أدل دليل على أنها أفضل من عائشة رضي الله عنهما.
"وسئل" الإمام أبو بكر "ابن" الإمام المجتهد الحافظ "داود" بن علي الظاهري: "أيهما أفضل" بالتذكير، كقوله تعالى: {بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوت} [لقمان: 34] وتؤنث أيضا وقرئ بأية أرض، "فقال: عائشة أقرأها النبي صلى الله عليه وسلم السلام من جبريل" من قبل نفسه، "وخديجة أقرأها جبريل السلام من ربها على لسان محمد، فهي" أي خديجة "أفضل، قيل له فمن أفضل خديجة أم فاطمة؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فاطمة بضعة" بفتح الموحدة، كما هو الرواية وحكى ضمها وكسرها أي قطعة لحم "مني" فلا أعدل ببضعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا".
قال السهيلي وهذا استقراء حسن، ويشهد له أن أبا لبابة حين ربط نفسه، وحلف أن لا يحله إلا رسول الله جاءت فاطمة لتحله فأبى لقسمه، فقال صلى الله عليه وسلم: "بضعة مني"، فحلته قال: أعني السهيلي: "ويشهد لهذا" أيضا قوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة في مرض موته لما أخبرها أنه مقبوض،
"أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم".
واحتج من فضل عائشة رضي الله عنها بما احتجت به من أنها في الآخرة مع النبي صلى الله عليه وسلم وفاطمة رضي الله عنها مع علي.
وسئل السبكي فقال: والذي نختاره وندين الله به، أن فاطمة بنت محمد أفضل، ثم أمها خديجة ثم عائشة،
__________
فبكت فقال: "أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم"، فضحكت، فهذا دليل على فضلها على أمها، وبهذا استدل السبكي.
قال في الفتح والذي يظهر أن الجمع بين الحديثين أولى، وأن لا نفضل إحداهما على الآخرى انتهى، يعني هذا الحديث وحديث أفضل نساء.
أهل الجنة خديجة وفاطمة، وقال في الإصابة وقد ذكر حديث خير نسائها خديجة، وقوله لفاطمة: "ألا ترضين أنك سيدة نساء العالمين"، يحمل على التفرقة بين السيادة والخيرية، أو على أن ذلك بالنسبة إلى من وجد من النساء حين قاله لفاطمة انتهى، وفيه نظر فإن المراد بالسيادة الخيرية، وهي الفضل كما صرح به في رواية أحمد وغيره وحمله على الموجودات حين الخطاب يأباه قوله: "نساء العالمين"، وهو في الصحيح، كما مر في ترجمتها؛ لأنه تخصيص للعام بلا مخصص، فقد ساوت أمها، وزادت عليها، كونها بضعة المختار، فهي أفضل منها، وقد صرح هو في الفتح في المناقب بما لفظه، قيل انعقد على الإجماع أفضلية فاطمة، وبقي الخلاف بين عائشة وخديجة انتهى، بل توسع بعض المتأخرين، فقال: فاطمة وأخوها إبراهيم أفضل من سائر الصحابة حتى من الخلفاء الأربعة، فإن أراد من حيث المبضعة، فمحتمل وإن كان الخلفاء أفضل من حيث العلوم الجمة، وكثرة المعارف ونصر الدين والأمة، "واحتج من فضل عائشة ضي الله عنها" على فاطمة، وهو أبو محمد بن حزم "بما احتجت" هي "به من أنها في الأخرة" في الجنة "مع النبي صلى الله عليه وسلم" التي هي أعلى الدرجات، "وفاطمة رضي الله عنها مع علي" ولا حجة في هذا وإلا لزم أنها وبقية أزواجه أفضل من سائر الأنبياء والمرسلين؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أعلى درجة في الجنة من الجميع، وهو خلاف المعلوم من الدين بالضرورة، ومن ثم قال في الفتح وفساده ظاهر، "و" قد "سئل السبكي" الكبير، والسائل له الإمام الأذرعي نزيل حلب ومفتيها عن جملة مسائل منها، هل قال أحد أن أحدا من نسائه صلى الله عليه وسلم غير خديجة وعائشة أفضل من فاطمة؟ "فقال" في الجواب قاله من لا يعتد بقوله، وهو من فضل نسائه على جميع الصحابة؛ لأنهن في درجته في الجنة، وهو قول ساقط مردود ضعيف لا مستند له من نظر ولا نقل، "والذي نختاره وندين الله به أن فاطمة بنت محمد أفضل، ثم أمها خديجة، ثم عائشة".
ثم استدل لذلك بما تقدم بعضه.
وأما خبر الطبراني: "خير نساء العالمين مريم بنت عمران ثم خديجة بنت خويلد، ثم فاطمة بنت محمد، ثم آسية امرأة فرعون". فأجاب عنه ابن العماد: بأن خديجة إنما فضلت فاطمة باعتبار الأمومة، لا باعتبار السيادة.
واختار السبكي: أن مريم أفضل من خديجة لهذا الخبر، وللاختلاف في نبوتها، انتهى.
وقال أبو أمامة بن النقاش: إن سبق خديجة، وتأثيرها في أول الإسلام ومؤازرتها
__________
قال: والخلاف شهير ولكن الحق أحق أن يتبع، "ثم استدل لذلك بما تقدم بعضه" فقال والحجة في ذلك حديث الصحيح: أما ترضين، فذكره وما رواه النسائي مرفوعا "أفضل نساء أهل الجنة خديجة وفاطمة".
"وأما خبر الطبراني" عن ابن عباس رفعه: "خبر نساء العالمين مريم بنت عمران، ثم خديجة بنت خويلد، ثم فاطمة بنت محمد، ثم آسية امرأة فرعون"، فأتى بثم المرتبة، فقدم خديجة المقتضى لفضلها على ابنتها، "فأجاب عنه ابن العماد، بأن خديجة إنما فضلت فاطمة باعتبار الأمومة، لا باعتبار السيادة" فلا شاهد فيه على أنها أفضل منها، على أن ابن عبد البر قد روى هذا الحديث عن ابن عباس سيدة نساء العالمين مريم، ثم فاطمة، ثم خديجة ثم آسية.
قال ابن عبد البر: وهذا حديث حسن يرفع الإشكال، ونقله الفتح، وأقره، فقدم فاطمة، "واختار السبكي" أن مريم أفضل من خديجة لهذا الخبر وللاختلاف في نبوتها انتهى" ولم يتعرض للتفضيل بين مريم وفاطمة، واختار السيوطي تفضيل فاطمة على مريم بمقتضى الأدلة ففي مسند الحارث بسند صحيح لكنه مرسل مريم خير نساء عالمها، وفاطمة خير نساء عالمها، وأخرجه الترمذي موصولا من حديث علي بلفظ خير نسائها مريم وخير نسائها فاطمة.
قال الحافظ بن حجر والمرسل يعتضد بالمتصل، وسبقه إلى اختيار ذلك الزركشي والخيضري والمقريزي كما مر، لكن يرد عليهم هذا الحديث المرتب بثم، وقوله في حديث الصحيح لفاطمة في مرض وفاته: "أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم"، نعم يعارضه حديث عمران أنه صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة: "ألا ترضين أنك سيدة نساء العالمين"، قالت: يا أبت فأين مريم، قال: "تلك سيدة نساء عالمها"، أخرجه ابن عبد البر، ولم ينقدح لي وجه الجمع.
"وقاله أبو أمامة بن النقاش أن سبق خديجة وتأثيرها في أول الإسلام وموازرتها" مستعار
ونصرها وقيامها في الدين بنفسها ومالها لم يشركها فيه أحد، لا عائشة ولا غيرها من أمهات المؤمنين. وتأثيرها عائشة رضي الله عنها في آخر الإسلام، وحمل الدين وتبليغه إلى الأمة وإدراكها من الأحاديث ما لم تشركها فيه خديجة ولا غيرها، مما تميزت به عن غيرها، انتهى.
__________
من الجبل واشتقاقه من الوزر وهو الثقل، "ونصرها" عطف تفسير، "وقيامها في الدين بنفسها ومالها، لم يشركها فيه أحد، لا عائشة، ولا غيرها من أمهات المؤمنين" فقد تكون أفضل من هذه الحيثية، "وتأثير عائشة رضي الله عنها في آخر الإسلام وحمل الدين وتبليغه إلى الأمة وإدراكها من الأحاديث" وفي نسخة من الأدلة "ما لم تشركها فيه خديجة، ولا غيرها مما تميزت به عن غيرها" فقد تكون أفضل منها بهذا الاعتبار "انتهى" كلام أبي أمامة، وكأنه أشار إلى أن جهات الفضل بينهما متفاوتة، كما قاله ابن تيمية.
قال في الفتح: وكأنه رأى التوقف، وقال ابن القيم: إن أريد بالفضل كثرة الثواب عند الله، فذلك أمر لا يطلع عليه، فإن عمل القلوب أفضل من عمل الجوارح، وإن أريد كثرة العلم، فعائشة لا محالة أو شرف الأصل، ففاطمة لا محالة، وهي فضيلة لا يشاركها فيها غير أخواتها أو شرف السيادة، فقد ثبت النص لفاطمة وحدها، قلت: أمتازت فاطمة عن أخواتها، بأنه متن في حياته صلى الله عليه وسلم، ومات هو في حياتها، وأما ما امتازت به عائشة من فضل العلم، فإن لخديجة ما يقابله، وهي أنها أول من أجاب إلى الإسلام، ودعا إليه، وأعان على ثبوته بالنفس والمال والتوجه التام، فلها مثل أجر من جاء بعدها، ولا يقدر قدر ذلك إلا الله تعالى انتهى.
وقال في الإصابة: ومن طواعيتها له قبل البعثة، أنها رأت ميله إلى زيد بن حارثة بعد أن صار في ملكها فوهبته له صلى الله عليه وسلم فكانت هي السبب فيما امتاز به زيد من السبق إلى الإسلام حتى قيل إنه أول من أسلم مطلقا انتهى.
وفي الصحيح عن عائشة كان صلى الله عليه وسلم إذ ذبح الشاة يقول: أرسلوا إلى اصدقاء خديجة، قالت عائشة: فأغضبته يوما، فقلت: خديجة، فقال إني رزقت حبها.
وروى الشيخان عن عائشة ما غرت على أحد ما غرت على خديجة، وما رأيتها، ولكن كان صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة، فيقطعها أعضاء، ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت له، كأنه لم يكن في الدنيا إلا خديجة، فيقول: إنها كانت، وكانت، وكان لي منها ولد.
وروى ابن حبان عن أنس كان صلى الله عليه وسلم إذا أتى بالشيء يقول اذهبوا به إلى بيت فلانة، فإنها كانت صديقة لخديجة، ولنمسك عنان القلم رغبة عن التطويل.
وماتت خديجة رضي الله عنها بمكة قبل الهجرة بثلاث سنين، وقيل بأربع، وقيل خمس، ودفنت بالحجون، وهي ابنة خمس وستين سنة، ولم يكن يومئذ يصلي على الجنازة، وكانت مدة مقامها مع النبي صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين سنة، وقيل أربعا وعشرين سنة.
__________
"وماتت خديجة رضي الله عنها بمكة قبل الهجرة بثلاث سنين" على الصحيح، كما في الفتح والإصابة، زاد عن الواقدي لعشر خلون من شهر رمضان. "وقيل" قبلها "بأربع" سنين، "وقيل خمس" حكاهما في الإصابة، وقيل بست سنين.
حكاه في الفتح، وروى ابن عساكر بسند ضعيف عن ابن عباس، أنه صلى الله عليه وسلم دخل على خديجة وهي في الموت، فقال: يا خديجة إذا لقيت ضرائرك فاقرئيهن، مني السلام، فقالت: يا رسول الله وهل تزوجت قبلي؟ قال لا ولكن الله زوجني مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وكلثم أخت موسى، ورواه الزبير بن بكار بلفظ أنه دخل على خديجة وهي في الموت، فقال: تكرهين ما أرى منك يا خديجة، وقد يجعل الله في الكره خيرا، أشعرت أن الله أعلمني أنه سيزوجني معك في الجنة مريم وآسية وكلثم، فقالت: الله أعلمك بهذا يا رسول الله؟ قال: نعم. وروى هو والطبراني بسند فيه من لا يعرف عن عائشة، أنه صلى الله عليه وسلم أطعم خديجة من عنب الجنة.
أورده السهيلي بعد حديث الأخبار بالضرائر، فظاهره أنه أطعمها حينئذ، فكأنه لما أخبرها بهن والمقصود منها إخبارها في هذه الحالة بأنها زوجته في الجنة من جملة الزوجات الفاضلات، أكد الله إخباره، الصادق، وآتاه من عنب الجنة، فأطعمها إكراما لها وله صلى الله عليه وسلم.
"ودفنت" كما أسنده الواقدي عن حكيم بن حزام "بالحجون" قال: ونزل صلى الله عليه وسلم في حفرتها، "وهي ابنة خمس وستين سنة" كما في رواية الواقدي هذه وفي السمط أربع وستين وستة أشهر "ولم يكن يومئذ يصلي على الجنازة" لأنها لم تكن شرعت، "وكانت مدة مقامها مع النبي صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين سنة" على الصحيح، كما في الفتح، وهو المطابق الصحيح، وقول الأكثر أنه تزوجها، وهو ابن خمس وعشرين سنة، "وقيل أربعا وعشرين سنة" وأربعة أشهر قاله ابن عبد البر، وهو مطابق له أيضا بإلغاء الكسر في عامي الزواج والوفاة.
أما على أن سنة إحدى وعشرون، أو ثلاثون فلا يتأتى أن قالا إن موتها سنة عشر من البعثة، وفي مسلم عن عائشة إنه صلى الله عليه وسلم لم يتزوج على خديجة حتى ماتت.
قال الحافظ: ولا خلاف فيه بين أهل الأخبار، وفيه دليل على عظيم قدرها عنده، وعلى مزيد من فضلها؛ لأنها أغنته عن غيره، واختصت به بقدر ما اشتراك فيه غيرها مرتين؛ لأنه صلى الله عليه وسلم عاش
...............................
__________
بعد أن تزوجها ثمانية وثلاثين عاما، انفردت منها خديجة بخمسة وعشرين وهي نحو الثلاثين ومع طول المدة، فصان الله قلبها فيها من الغيرة، ومن نكد الضرائر الذي ربما حصل منه ما يشوش عليه بذلك، وهو فضيلة لم يشركها فيها غيرها.
وروى ابن سعد بسند قوي مرسل جاءت خولة بنت حكيم، فقالت: يا رسول الله كأني أراك قد دخلتك خلة لفقد خديجة، قال: "أجل كانت أم العيال وربة البيت" وعنده أيضا من مرسل عبيد بن عمير قال: وجد صلى الله عليه وسلم على خديجة حتى خشي عليه حتى زوج عائشة.
قال ابن إسحاق: وكانت خديجة له وزيرة صدق، وكان يسكن إليها، وماتت هي وأبو طالب في عام واحد، قيل فسماه عام الحزن والله أعلم.
[سودة أم المؤمنين] :
وأما أم المؤمنين سودة بنت زمعة -وأمها الشموس بنت قيس- فأسلمت قديما وبايعت، وكانت تحت ابن عم يقال له السكران بن عمرو، أخو سهيل بن عمرو، أسلم معها قديما، وهاجرا جميعا إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية، فلما قدما مكة مات زوجها،
__________