والخصلة الخامسة: حلمه ووقاره عن طيش يهزّه أو خرق يستفزه، فقد كان أحلم في النفار «12» من كل حليم وأسلم في الخصام من كل سليم وقد مني بجفوة الأعراب فلم يوجد منه نادرة ولم يحفر عليه بادرة ولا حليم غيره إلّا ذو عثرة ولا وقور سواه إلّا ذو هفوة فإن الله تعالى عصمه من نزغ الهوى وطيش القدرة بهفوة أو عثرة ليكون بأمته رؤوفا وعلى الخلق عطوفا، قد تناولته قريش بكل كبيرة وقصدته بكل جريرة وهو صبور عليهم ومعرض عنهم وما تفرد بذلك سفهاؤهم دون حلمائهم ولا أراذ لهم دون عظمائهم بل تمالأ عليه الجلة والدون «13» فكلما كانوا عليه من الأمر وألح كان عنهم أعرض وأفصح حتى قهر فعفا وقدر فغفر، وقال لهم حين ظفر بهم عام الفتح وقد اجتمعوا إليه: ما ظنكم بي؟ قالوا: ابن عم كريم فإن تعف فذاك الظن بك وإن تنتقم فقد أسأنا، فقال: بل أقول كما قال يوسف لأخوته: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ
__________
(11) البلاغة والبلغة: سد الرمق.
(12) النفار: الخصام.
(13) الجلة: الكبراء وأعلاهم مكانة. الدون: أصاغرهم وأدناهم مكانة وموقعا.
يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ «14» قال صلى الله عليه وسلم: «اللهم قد أذقت أول قريش نكالا فأذق آخرهم نوالا» ، وأتته هند بنت عتبة وقد بقرت بطن عمه حمزة ولاكت كبده فصفح عنها وأعطاها يده لبيعتها.
فإن قيل: فقد ضرب رقاب بني قريظة صبرا في يوم أحد وهم نحو سبعمائة فأين موضع العفو والصفح وقد انتقم انتقام من لم يعطفه عليهم رحمة ولا داخلته لهم رقة.
قيل: إنما فعل ذلك في حقوق الله تعالى وقد كانت بنو قريظة رضوا بتحكيم سعد بن معاذ عليهم فحكم أن من جرت عليه الموسى قتل ومن لم تجر عليه استرق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا حكم الله من فوق سبعة أرقعة «15» فلم يجز أن يعفو عن حق وجب الله تعالى عليهم، وإنما يختص عفوه بحق نفسه» .