وفى رجب هذه السنة لستة أشهر وخمسة أيام خلت منها وقعت غزوة تبوك وهى آخر غزواته صلى الله عليه وسلم على ما ذكر ابن اسحاق وتبوك مكان معروف وهو نصف طريق المدينة الى دمشق وهى غزوة العسرة وتعرف بالفاضحة لافتضاح المنافقين فيها وكانت يوم الخميس فى رجب سنة تسع من الهجرة بلا خلاف وذكر البخارى لها بعد حجة الوداع خطأ من النساخ كذا فى المواهب اللدنية* وقصتها ان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انصرف من غزوة الطائف وعمرة الجعرانة مكث بالمدينة ما بين ذى الحجة الى رجب ثم أمر أصحابه بالتهيؤ الى غزوة الروم وذلك أنه قدم المدينة جماعة من الانباط بالدرمك والزيت وغير ذلك من متاع الشام فذكروا ان الروم قد جمعت بالشام جموعا كثيرة لقتال المسلمين وان هرقل قد رزق أصحابه لسنة وكان معهم بنو لخم وجذام وغسان وعاملة واجتمعوا وقدموا مقدّماتهم الى البلقاء وعسكروا بها وتخلف هرقل بحمص وكانوا كاذبين فى ذلك ولم يكن من ذلك شئ وانما ذلك شئ قيل لهم فأرجفوا به* وروى
الطبرانى من حديث عمران بن الحصين قال كانت النصارى كتبت الى هرقل ان هذا الرجل الذى خرج يدّعى النبوّة قد هلك وأصابتهم سنون فهلكت أموالهم فبعث رجلا من عظمائه وجهز معه أربعين ألفا كذا فى المواهب اللدنية فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك أمر الناس بالتأهب للشام والتجهز للمسير اليها وكان الزمان زمان حرّ وعسرة عسرة الظهر وعسرة الزاد وعسرة المال وكان العشرة يتعقبون على بعير واحد وربما يمص التمرة الواحدة جماعة يتناوبونها وكانوا يعصرون الفرث ويشربونه من شدّة العطش وعن عمر بن الخطاب قال نزلنا منزلا أصابنا فيه عطش حتى ان الرجل لينحر بعيرا فيعصر فرثه ويشربه ويجعل ما بقى على كبده كذا فى معالم التنزيل وفى تفسير عبد الرزاق عن معمر عن ابن عقيل قال فخرجوا فى قلة من الظهر فى حرّ شديد حتى انهم كانوا ينحرون البعير ويشربون ما فى كرشه من الماء فكان ذلك الوقت عسرة فى الماء والظهر والنفقة فسميت غزوة العسرة ولم يقع فى هذه الغزوة قتال ولكن فتحوا فى هذا السفر دومة الجندل وكانت الروم والشام من أعظم أعداء المسلمين وأهيبهم عندهم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا غزا غزوة ورّى بغيرها الا غزوة تبوك فانه أخبر الناس بها وأظهر ليتأهبوا لها الاهبة ويستعدّوا لبعد السفر وشدّة الزمان وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الى القبائل من العرب والى أهل مكة وكانوا كلهم مسلمين فى هذا الوقت يستنفرهم الى الغزو وحض رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده من المسلمين على الجهاد ورغبهم فيه وأمرهم بالصدقة فجاؤا بصدقات كثيرة وكان أوّل من جاء بها أبو بكر جاء بماله كله أربعة آلاف درهم وجاء عمر بنصف ماله وجاء العباس بن عبد المطلب بمال كثير وجاء طلحة بمال وجاء عبد الرحمن بن عوف بمائتى أوقية من الفضة وجاء سعد بن عبادة بمال وجاء محمد بن مسلمة بمال وجاء عاصم بن عدى بتسعين وسقا من تمر وجهز عثمان بن عفان ثلث ذلك الجيش وكفاهم مؤنتهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يضرّ عثمان بن عفان ما فعل بعد اليوم* وفى المواهب اللدنية وكان عثمان بن عفان قد جهز عيرا الى الشام فقال يا رسول الله هذه مائتا بعير باقتابها واحلاسها ومائتا أوقية فضة قال فسمعته يقول لا يضرّ عثمان ما فعل بعدها* وروى عن قتادة أنه قال حمل عثمان فى جيش العسرة على ألف بعير وسبعين فرسا وعن عبد الرحمن بن سمرة قال جاء عثمان بن عفان بألف دينار فى كمه حين جهز جيش العسرة فنثرها فى حجره عليه الصلاة والسلام فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلبها فى حجره ويقول ما ضرّ عثمان ما فعل بعد اليوم خرجه الترمذى وقال حديث غريب وعند الفضائلى والملافى سيرته كما ذكره الطبرى فى الرياض النضرة من حديث حذيفة بعث عثمان يعنى فى جيش العسرة بعشرة آلاف دينار الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصبت بين يديه فجعل صلى الله عليه وسلم يقول بيديه ويقلبها ظهرا لبطن ويقول غفر الله لك يا عثمان ما أسررت وما أعلنت وما هو كائن الى يوم القيامة ما يبالى ما عمل بعدها وجعل الرجل من ذوى اليسار يحمل الرهط من فقراء قومه ويكفيهم مؤنتهم وبعثت النساء بكل ما قدرن عليه من مسك ومعاضد وخلاخل وقرطة وخواتيم والناس فى عسرة شديدة وقد طابت الثمار وأحنت الظلال والناس يحبون المقام ويكرهون الخروج لشدة الزمان وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالانكماش والجدّ وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم معسكره بثنية الوداع وكانوا ثلاثين ألفا وقال صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو فى جهازه للجدّ بن قيس وهو أحد بنى سلمة يا أبا قيس هل لك أن تخرج معنا لعلك تحتقب من بنات الاصفر الاحتقاب هو الاحتمال والمحتقب المردف كذا فى الصحاح فقال الجدّ لقد علم قومى انى من أشدّهم عجبا بالنساء وانى اذا رأيتهنّ لم أصبر عنهنّ فأذن لى فى المقام ولا تفتنى فأعرض رسول الله صلى الله
عليه
وسلم عنه وقال أذنت لك كذا فى الاكتفاء فجاء ابنه عبد الله بن الجدّ وكان بدريا وكان أخا معاذ بن جبل لأمّه وجعل يلوم أباه على ما أجاب به رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال انت أكثر بنى سلمة مالا فما منعك أن تخرج فقال مالى وللخروج الى بنى الاصفر والله ما آمنهم وأنا فى منزلى هذا وانى عالم بالدوائر فقال له ابنه لا والله ما بك الا النفاق والله لينزلنّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيك قرآن نفتضح به فأخذ نعله فضرب به وجه ابنه فلما نزلت فيه هذه الاية وهى قوله تعالى ومنهم من يقول ائذن لى ولا تفتنى الاية جاءه ابنه فقال له ألم أقل لك انه سوف ينزل فيك قرآن يقرؤه المسلمون فقال له أبوه اسكت يالكع والله لا أنفعك بنافعة أبدا والله لأنت أشدّ علىّ من محمد ثم جعل الجدّ يثبط قومه عن الجهاد ويمنعهم من الخروج ويقول لهم لا تنفروا فى الحرّ وفى الاكتفاء وقال قوم من المنافقين بعضهم لبعض لا تنفروا فى الحرّ زهادة فى الجهاد وشكافى الحق وارجافا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله فيهم وقالوا لا تنفروا فى الحرّ قل نار جهنم أشدّ حرّا لو كانوا يفقهون وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ان أناسا من المنافقين يجتمعون فى بيت سليم اليهودى يثبطون الناس عنه فى غزوة تبوك فبعث اليهم طلحة بن عبيد الله فى نفر من أصحابه وأمر أن يحرق البيت عليهم وفعل طلحة فاقتحم الضحاك بن خليفة من ظهر البيت فانكسرت رجله واقتحم أصحابه فأفلتوا فقال الضحاك فى ذلك
وكادت وبيت الله نار محمد ... يشيط بها الضحاك وابن الأبيرق
وظلت وقد طبقت كبش سويلم ... انوء على رجلىّ كسرا ومرفقى
سلام عليكم لا أعود لمثلها ... أخاف ومن تشمل به النار يحرق
كذا فى الاكتفاء وجاء البكاؤن وهم سالم بن عمير وعلبة بن زيد وأبو ليلى وعبد الرحمن بن كعب المازنى والعرباض بن سارية الفزارى وهرمى بن عبد الله وعمرو بن غنمة وعبد الله بن مغفل المزنى ويقال عبد الله بن عمرو المزنى وعمرو بن خمام ومعقل بن يسار المزنى وحضرمى بن مازن والنعمان بن سويد ومعقل وعقيل وسنان وعبد الرحمن بنو مقرن وهم الذين قال الله فيهم تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا أن لا يجدوا ما ينفقون قاله مغلطاى كذا فى المواهب اللدنية* وفى الاكتفاء وأنوار التنزيل اوردهم سبعة لكن على الاختلاف فى أسماء بعضهم ففى الاكتفاء سالم ابن عمير وعلبة بن زيد وأبو ليلى وعبد الرحمن بن كعب المازنى وعمرو بن حمام وهرمى بن عبد الله وعبد الله بن مغفل المزنى ويقال عبد الله بن عمر والمزنى وعرباض بن سارية الفزارى* وفى أنوار التنزيل سبعة من الانصار معقل بن يسار وصخر بن خنساء وعبد الله بن كعب وسالم بن عمير وثعلبة بن غنمة وعبد الله بن مغفل وعلبة بن زيد وقيل هم ابناء مقرن مغفل وسويد والنعمان وقيل أبو موسى وأصحابه جاؤا يستحملون النبىّ صلى الله عليه وسلم وكانوا صالحاء وأهل فقر وحاجة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع الاية* وفى الاكتفاء ذكر أن يامين بن عمير النضرى لقى أبا ليلى بن كعب وابن مغفل وهما يبكيان فقال وما يبكيكما قالا جئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحملنا فلم نجد عنده ما يحملنا عليه وليس عندنا ما نتقوّى به على الخروج معه فأعطاهما ناضحا له فارتحلاه وزوّدهما شيئا من تمر فخرجا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم* وفى المنتقى زوّد كل واحد منهما صاعين من تمر وحمل العباس بن عبد المطلب منهم رجلين وحمل عثمان بن عفان منهم ثلاثا بعد الذى كان جهز من الجيش وجاء أناس من المنافقين يستأذنون رسول الله صلى الله عليه وسلم فى القعود عن الغزو فأذن لهم وهم بضعة وثمانون نفرا وجاء المعذرون من الاعراب فاعتذروا اليه فلم يعذرهم الله وذكر أنهم نفر من غفار فلما خرج رسول الله صلى الله
عليه وسلم ضرب عسكره على ثنية الوداع فأقبل عبد الله بن أبى ابن سلول معه على حدة وضرب عسكره أسفل منه نحوذ باب جبل بالمدينة كذا فى القاموس وكان فيما يزعمون ليس بأقلّ العسركين ومعه حلفاؤه من اليهود والمنافقين ممن اجتمع اليه فأقام ما أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سار تخلف عنه فيمن تخلف من المنافقين ورجع الى المدينة وقال يغزو محمد مع جهد الحال والحرّ والبلد البعيد الى ما لا قبل له به يحسب قتال بنى الاصفر اللعب والله لكأنى أنظر الى أصحابه غدا مقرّنين فى الحبال وخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على بن أبى طالب على أهله وأمره بالاقامة فيهم فأرجف به المنافقون وقالوا ما خلفه الا استثقالا له وتخفيفا منه فلما قالوا ذلك أخذ علىّ سلاحه ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بالجرف فقال يا نبىّ الله زعم المنافقون انك انما خلفتنى انك استثقلتنى وتخففت منى فقال كذبوا ولكنى خلفتك لما تركت ورائى فارجع واخلفنى فى أهلى وأهلك أفلا ترضى يا على أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى الا أنه لا نبىّ بعدى فرجع علىّ الى المدينة ومضى رسول الله صل يالله عليه وسلم على سفره كذا فى الاكتفاء وشرح المواقف وقال الشيخ أبو اسحاق الفيروزابادى فى عقائده أى حين توجه موسى الى ميقات ربه استخلف هارون فى قومه* وفى المنتقى استخلف على المدينة سباع بن عرفطة الغفارى وقيل محمد بن مسلمة انتهى وقال الدمياطى استخلاف محمد بن مسلمة هو أثبت عندنا ممن قال استخلف غيره وقال الحافظ زين الدين العراقى فى شرح التقريب لم يتخلف علىّ عن المشاهد الا فى تبوك فانّ النبىّ صلى الله عليه وسلم خلفه على المدينة وعلى عياله وقال له يومئذ أنت منى بمنزلة هارون من موسى الا أنه لا نبىّ بعدى وهو فى الصحيحين من حديث سعد بن أبى وقاص انتهى ورجحه ابن عبد البرّ واستخلف على العسكر أبا بكر الصدّيق رضى الله عنه فلما ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثنية الوداع متوجها الى تبوك عقد الالوية والرايات فدفع لواءه الاعظم الى أبى بكر ورايته العظمى الى الزبير ودفع راية الاوس الى أسيد بن حضير ولواء الخزرج الى أبى دجانة وقيل الى الحباب بن المنذر بن الجموح فساروا وهم ثلاثون ألفا وفيهم عشرة آلاف من الافراس* وفى المواهب اللدنية أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل بطن من الانصار والقبائل من العرب أن يتخذوا لواء وراية وكان معه ثلاثون ألفا وعند أبى زرعة سبعون ألفا وفى رواية عنه أيضا أربعون ألفا وكانت الخيل عشرة آلاف فرس وتخلف نفر من المسلمين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير نفاق ولا ارتياب منهم كعب بن مالك أخو بنى سلمة ومرارة بن الربيع أخو بنى عمرو بن عوف وهلال بن أمية أخو بنى واقف وفيهم نزل وعلى الثلاثة الذين خلفوا وتخلف أبو ذرّ وأبو خيثمة ثم لحقاه بعد ذلك وسيجىء ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصبح ذا خشب فنزل تحت الدومة* وفى خلاصة الوفاء وذو خشب على مرحلة من المدينة تحت الدومة وكان دليله الى تبوك علقمة بن القعواء الخزاعى فقال صلى الله عليه وسلم تحت الدومة فراح منها ممسيا حيث أبرد وكان فى حرّ شديد وكان يجمع من يوم نزل ذا خشب بين الظهر والعصر فى منزله يؤخر الظهر حتى يبرد ويعجل العصر ثم يجمع بينهما وكان ذلك فعله حتى رجع من تبوك وفى كل منزل نزله اتخذ مسجدا وجميعها معروفة الى مسجد تبوك ثم انّ أبا خيثمة بعد أن سار رسول الله صلى الله عليه وسلم أياما رجع الى أهله فى يوم حارّ فوجد امرأتين له فى عريشين لهما فى حائط له رشت كل واحدة منهما عريشها وبرّدت له فيه ماء وهيأت له طعاما فلما دخل قام على باب العريش ونظر الى امرأتيه وما صنعتا له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الضح والريح والحرّ وأبو خيثمة فى ظلّ بارد وطعام مهيأ وامرأة حسناء
فى ماله مقيم ما هذا بالنصف ثم قال والله لا أدخل على عريش واحدة منكما
حتى ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فهيئا لى زادا ففعلتا ثم قدم ناضحه فارتحله ثم خرج فى طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أدركه حين نزل تبوك وقد كان أدرك أبا خيثمة فى الطريق عمير بن وهب الجمحى يطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فترافقا حتى اذا دنوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو خيثمة لعمير انّ لى ذنبا فلا عليك أن تخلف عنى حتى آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل حتى اذا دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بتبوك قال الناس هذا راكب على الطريق مقبل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كن أبا خيثمة قالوا هو والله أبو خيثمة يا رسول الله فلما أناخ أقبل فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى لك يا أبا خيثمة ثم أخبره خبره فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له بخير ولما مضى من ثنية الوداع سائرا جعل يتخلف عنه رجال فيقال يا رسول الله تخلف فلان فيقول دعوه فان يكن فيه خير فسيلحقه الله بكم وان يكن غير ذلك فقد أراحكم الله منه وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مرّ بالحجر نزلها واستقى الناس من بئرها فلما راحوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تشربوا من مائها ولا يتوضأ منه للصلاة وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الابل ولا تأكلوا منه شيئا ولا يخرجنّ أحد منكم الليلة الا ومعه صاحب له ففعل الناس ما امرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم الا أنّ رجلين من بنى ساعدة خرج أحدهما لحاجته وخرج الاخر فى طلب بعير له فأمّا الذى ذهب لحاجته فانه خنق على مذهبه وأمّا الذى ذهب فى طلب بعيره فاحتملته الريح حتى طرحته بجبلى طىء اللذين يقال لاحدهما أجأ ويقال للاخر سلمى فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ألم أنهكم عن أن يخرج منكم أحد الا ومعه صاحبه ثم دعا للذى أصيب على مذهبه فشفى وأمّا الذى وقع بجبلى طىء فان طيئا أهدته لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة* وفى المنتقى لما وصل وادى القرى وقد أمسى بالحجر قال انها ستهب الليلة ريح شديدة لا يقومنّ منكم أحد الا مع صاحبه ومن كان له بعير فليوثقه بعقاله فهاجت ريح شديدة قد أفزعت الناس فلم يقم أحد الا مع صاحبه الا رجلين الى آخر ما ذكر ولما مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر سجى ثوبه على وجهه واستحث راحلته ثم قال لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا أنفسهم الا وأنتم باكون خوفا أن يصيبكم ما أصابهم كذا فى الاكتفاء والمواهب اللدنية وقال فيه رواه الشيخان وكذا فى المنتقى عن ابن عمر وعبارته ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى جاوز الوادى والحجر وادى قوم صالح وديارهم وهم ثمود الذين سكنوا ذلك الوادى وهو وادى القرى وهو بين المدينة والشام ولما ارتحل من الحجر أصبح ولا ماء معه ولا مع أصحابه وقد نزلوا على غير ماء فشكوا اليه العطش فاستقبل القبلة ودعا ولم يكن فى السماء سحابة فما زال يدعو حتى اجتمعت السحب من كل ناحية فما برح من مقامه حتى سحت السماء بالرواء فانكشفت السحابة من ساعتها فسقى الناس وارتووا عن آخرهم وملأوا الاسقية قيل لبعض المنافقين ويحك أبعد هذا شئ هل بقى عندك شئ من الريب فقال انما هى سحابة مارّة فارتحل النبىّ صلى الله عليه وسلم متوجها الى تبوك فأصبح فى منزل فضلت ناقته وهى القصوى فخرج أصحابه فى طلبها وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أصحابه يقال له عمارة بن حزم وكان عقبيا بدريا وهو عمّ ابن عمرو بن حزم وفى رحله زيد بن الصلت القينقاعى وكان يهوديا فأسلم ونافق فقال زيد وهو فى رحل عمارة وعمارة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أليس محمد يزعم أنه نبىّ ويخبركم عن خبر السماء وهو لا يدرى أين ناقته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمارة عنده ان
رجلا قال هذا محمد يخبركم أنه نبىّ ويزعم أنه يخبر بأمر السماء وهو لا يدرى أين ناقته وانى والله لا أعلم الا ما علمنى
الله وقد دلنى الله عليها وهى فى الوادى من شعب كذا وكذا وأشار الى الشعب وقد حبستها شجرة بزمامها فانطلقوا حتى تأتونى بها فذهبوا فجاؤا بها رواه البيهقى وأبو نعيم فرجع عمارة بن حزم الى رحله فقال والله لعجب من شئ حدّثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم آنفا عن مقالة قائل أخبره الله عنه للذى قال زيد بن الصلت فقال رجل ممن كان فى رحل عمارة ولم يحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد والله قال هذه المقالة قبل أن تأتى فأقبل عمارة على زيد يجأ فى عنقه ويقول يا عباد الله انّ فى رحلى الداهية وما أشعر اخرج أى عدوّ الله من رحلى فلا تصاحبنى فزعم بعض الناس أنّ زيد اتاب بعد ذلك وقال بعضهم لم يزل متهما بشر حتى مات كذا فى الاكتفاء* وفى معالم التنزيل أوردها فى غزوة المر يسيع ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم سائرا فجعل يتخلف عنه الرجل فيقولون يا رسول الله تخلف فلان فيقول دعوه فان يك فيه خير فسيلحقه الله بكم وان يكن غير ذلك فقد أراحكم الله منه كما مرّ آنفا حتى قيل يا رسول الله تخلف أبو ذرّ وأبطأ به بعيره فقال دعوه فان يك فيه خير فسيلحقه الله بكم وان يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه وتلوّم أبو ذرّ على بعيره فلما أبطأ عليه أخذ متاعه فحمله على ظهره ثم خرج يتتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشيا ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بعض منازله فنظر ناظر من المسلمين فقال يا رسول الله هذا رجل يمشى فى الطريق وحده فقال صلى الله عليه وسلم كن أبا ذرّ فلما تأمّله القوم قالوا يا رسول الله هو والله أبو ذرّ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم رحم الله أبا ذرّ يمشى وحده ويموت وحده ويبعث وحده فقضى الله سبحانه وتعالى انّ أبا ذرّ لما أخرجه عثمان رضى الله عنه الى الربدة وأدركته بها منيته لم يكن معه أحد الا امرأته وغلامه فأوصاهما أن غسلانى وكفنانى ثم ضعانى على قارعة الطريق فأوّل ركب يمرّ بكم فقولا هذا أبو ذرّ صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعينونا على دفنه فلما مات فعلا به كما أوصى فأقبل عبد الله بن مسعود فى رهط من العراق عمار فلم يرعهم الا بالجنازة على قارعة الطريق قد كادت الابل تطؤها فقام اليهم الغلام وقال هذا أبو ذرّ صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعينونا على دفنه فاستهلّ عبد الله بن مسعود وهو يبكى ويقول صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم تمشى وحدك وتموت وحدك وتبعث وحدك ثم نزل هو وأصحابه فواروه بالتراب ثم حدّثهم عبد الله بن مسعود حديثه وما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مسيره الى تبوك* وفى المنتقى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم انكم ستأتون غدا ان شاء الله تعالى عين تبوك وانكم لن تأتوها حتى يضحى النهار فمن جاءها فلا يمس من مائها شيئا حتى آتى قال معاذ فجئناها وقد سبقنا اليها رجلان والعين مثل الشراك تبض بشئ قليل من الماء فسألهما النبىّ صلى الله عليه وسلم هل مستما من مائها شيئا فقالا نعم فقال لهما ما شاء الله أن يقول ثم أمر برفع ماء منها فرفعوا له من تلك العين قليلا قليلا حتى اجتمع شىء ثم غسل صلى الله عليه وسلم فيه وجهه ويديه ثم أعاده فيها فجاءت العين بعد ذلك بماء كثير ببركة النبىّ صلى الله عليه وسلم فاستقى الناس وكفاهم* فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الى تبوك أتاه يحنة بن رؤبة صاحب أيلة فصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطى الجزية وأتاه أهل جرباء بالجيم وأذرح بالذال المعجمة والراء والحاء المهملة وهما بلدتان بالشام بينهما ثلاثة أيام فأعطوه الجزية وكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا فهو عندهم وفيه* بسم الله الرحمن الرحيم هذا أمنة من الله ومحمد النبىّ رسول الله ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة سفنهم وسيارتهم فى البرّ والبحر لهم ذمّة الله ومحمد النبىّ ومن كان معهم من أهل الشام وأهل
اليمن وأهل البحر فمن أحدث منهم حدثا فانه لا يجوز ماله دون نفسه وانه لطيبة لمن أخذه من الناس وانه لا يحلّ أن يمنعوا ماء يردونه ولا طريقا يسلكونه من برّ أو بحر*