وكان يساعدهم على مقاصدهم جماعة من عرب المدينة أعمى الله بصائرهم، فأخفوا كفرهم خوفا على حياتهم، وكان يرأس هذه الجماعة عبد الله بن أبي بن سلول الخزرجي الذي كان مرشحا لرياسة أهل المدينة قبل هجرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا شكّ أن ضرر المنافقين أشدّ على المسلمين من ضرر الكفار، لأن أولئك يدخلون بين المسلمين فيعلمون أسرارهم، ويشيعونها بين الأعداء من اليهود وغيرهم كما حصل ذلك مرارا، والأساس الذي كان عليه رسول الله أن يقبل ما ظهر ويترك لله ما بطن، ولكنه عليه الصلاة والسلام مع ذلك كان لا يأمنهم في عمل ما. فكثيرا ما كان يتغيب عن المدينة، ويولي عليها بعض الأنصار، ولكن لم يعهد أنه ولّى رجلا ممّن عهد عليه النفاق، لأنه عليه الصلاة والسلام يعلم ما يكون منهم لو ولّوا عملا، فإنهم بلا شكّ يتّخذون ذلك فرصة لإضرار المسلمين، وهذا درس مهمّ لرؤساء الإسلام يعلّمهم أنهم لا يثقون في الأعمال المهمّة إلّا بمن لم تظهر عليهم شبهة النفاق أو إظهار ما يخالف ما في الفؤاد.
__________
(1) سورة البقرة اية 94.
(2) سورة التوبة اية 32.
(3) سورة البقرة اية 59.
,
بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن الروم جمعت الجموع تريد غزوه في بلاده، وكان ذلك
__________
(1) رواه البخاري بلفظ قريب من هذا وقال السهيلي: حديث إسلامه صحيح عجيب خرّجه الترمذي.
(2) هو موضع بين وادي القرى والشام، بينه وبين المدينة من جهة الشام أربع عشرة مرحلة وبين دمشق إحدى عشرة مرحلة، وهي غزوة العسرة، وكانت في رجب سنة تسع من الهجرة وهي اخر غزواته صلّى الله عليه وسلّم. وتبوك سميت بعين تبوك وهي العين التي أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الناس ألا يمسوا من مائها شيئا فسبق إليها رجلان، وهي تبض بشيء من ماء، فجعلا يدخلان فيها سهمين ليكثر ماؤها، فسبّهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال لها ما زلتما تبوكانها منذ اليوم. وقد روى مالك ومسلم بعد هذا اللفظ راجع فتح الباري.
في زمن عسرة الناس، وجدب البلاد، وشدّة الحرّ، حين طابت الثمار، والناس يحبّون المقام في ثمارهم وظلالهم، فأمر عليه الصلاة والسلام بالتجهّز، وكان قلّما يخرج في غزوة إلّا ورّى بغيرها «1» ليعمّي الأخبار على العدو إلّا في هذه الغزوة، فإنه أخبر بمقصده لبعد الشقة «2» ، ولشدّة العدو، ليأخذ الناس عدّتهم لذلك، وبعث إلى مكّة وقبائل الأعراب يستنفرهم لذلك، وحثّ الموسرين على تجهيز المعسرين، فأنفق عثمان بن عفّان عشرة الاف دينار، وأعطى ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها «3» ، وخمسين فرسا، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم ارض عن عثمان فإني راض عنه» «4» . وجاء أبو بكر بكل ماله: وهو أربعة الاف درهم، فقال صلّى الله عليه وسلّم: هل أبقيت لأهلك شيئا؟ فقال: أبقيت لهم الله ورسوله، وجاء عمر بن الخطاب بنصف ماله، وجاء عبد الرحمن بن عوف بمائة أوقية، وجاء العباس وطلحة بمال كثير.
وتصدق عاصم بن عدي «5» بسبعين وسقا من تمر، وأرسلت النساء بكل ما يقدرن عليه من حليهنّ، وجاءه صلّى الله عليه وسلّم سبعة أنفس من فقهاء الصحابة يطلبون إليه أن يحملهم. فقال: لا أجد ما أحملكم عليه، فتولّوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألّا يجدوا ما ينفقون. فجهز عثمان ثلاثة منهم، وجهز العباس إثنين، وجهز يامين ابن عمرو اثنين، ولمّا اجتمع الرجال خرج بهم رسول الله وهم ثلاثون ألفا، وولّى على المدينة محمّد بن مسلمة، وعلى أهله علي بن أبي طالب، وتخلّف كثير من المنافقين يرأسهم عبد الله بن أبيّ، وقال: يغزو محمّد بني الأصفر مع جهد الحال والحرّ والبلد البعيد!! أيحسب محمّد أن قتال بني الأصفر معه اللعب؟ والله لكأني أنظر إلى أصحابه مقرّنين في الحبال، واجتمع جماعة منهم، فقالوا في حق رسول الله وأصحابه ما يريدون من الإرجاف، فبلغه ذلك، فأرسل إليهم عمار بن ياسر يسألهم عما قالوا، فقالوا: إنما كنّا نخوض ونلعب. وجاء إليه جماعة، منهم الجد ابن قيس، يعتذرون عن الخروج، فقالوا: يا رسول الله ائذن لنا ولا تفتنا، لأنّا لا
__________
(1) في مسلم من حديث كعب بن مالك. وورّى بغبرها: أي ورى الخبر تورية: أي ستره وأظهر غيره كأنه مأخوذ من وراء الانسان كأنه يجعله وراءه حيث لا يظهر.
(2) بعد المسير.
(3) الأحلاس جمع حلس وهو كساء رقيق تحت الرحل. والأقتاب: جمع قتب هو للجمل كالإكاف لغيره.
(4) رواه الترمذي بلفظ (ما ضرّ عثمان ما عمل بعد اليوم مرتين) .
(5) هو أخو معن بن عدي يكنى أبا عمرو، واتفقوا على ذكره في البدريين. وقال الواقدي: إنه شهد أحدا مات في سنة 45 هـ وهو ابن 115.
نأمن من نساء بني الأصفر، وجاء إليه المعذّرون من الأعراب- وهم أصحاب الأعذار من ضعف أو قلة- ليؤذن لهم، فأذن لهم، وكذلك استأذن كثير من المنافقين فأذن لهم، وقد عتب الله عليه في ذلك الإذن بقوله في سورة براءة: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ «1» ثم قال في حقهم: إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ «2» ثم كذبهم الله في عذرهم فقال: * وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ «3» ثم لكيلا ياسى المسلمون على قعود المنافقين عنهم قال جلّ ذكره: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ
«4» . وتخلّف جماعة من المسلمين لا يتّهمون في إسلامهم منهم كعب ابن مالك «5» ، وهلال بن أمية «6» ، ومرارة بن الربيع «7» وأبو خيثمة «8» . ولما خلّف صلّى الله عليه وسلّم عليا، قال المنافقون: قد استثقله فتركه، فأسرع إلى رسول الله وشكا له ما سمع، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟» «9» . ثم سار صلّى الله عليه وسلّم بالجيش، وأعطى لواءه الأعظم أبا بكر الصّدّيق، وفي إعطاء اللواء لأبي بكر اخر غزوة للرسول وتخليف عليّ على أهل البيت حكمة لطيفة يفهمها القارىء.
وفرّق عليه الصلاة والسلام الرايات، فأعطى الزبير راية المهاجرين، وأسيد بن حضير راية الأوس، والحباب بن المنذر راية الخزرج، ولمّا مرّ الجيش بالحجر وهي ديار ثمود قال صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: «لا تدخلوا ديار الذين ظلموا إلّا وأنتم
__________
(1) اية 43.
(2) سورة التوبة اية 45.
(3) سورة التوبة اية 46.
(4) سورة التوبة اية 47. والخبال: الهلاك والفساد الذي يورث الاضطراب. ولأوضعوا خلالكم: لأسرعوا في إيقاع الشر بينكم.
(5) شهد العقبة وبايع فيها وتخلف عن بدر وشهد أحدا وما بعدها، ولم يشترك في حرب علي ومعاوية. مات بالشام في خلافة معاوية.
(6) الأنصاري شهد بدرا وما بعدها.
(7) الأنصاري الأوسي من بني عمرو بن عوف شهد بدرا على الصحيح.
(8) الأنصاري السالمي أحد بني سالم من الخزرج شهد أحدا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم، وبقي إلى أيام يزيد بن معاوية.
(9) رواه الشيخان وتتمته غير أنه لا نبي بعدي.
باكون» «1» ليشعر قلوبهم رهبة الله، وكان مستعملا على حرس الجيش عبّاد بن بشر، وكان أبو بكر يصلي بالجيش، ولما وصلوا إلى تبوك، وكانت أرضا لا عمارية فيها، قال الرسول لمعاذ بن جبل: يوشك إن طالت بك حياة أن ترى ما هنا مليء بساتين «2» ، وقد كان.
ولمّا استراح الجيش لحقه أبو خيثمة، وكان من خبر مجيئه أن دخل على أهله في يوم حار، فوجد امرأتين له في عريشتين لهما في بستان قد رشت كلّ منهما عريشتها، وبرّدت فيها ماء، وهيأت طعاما، وكان يوما شديد الحر، فلما نظر ذلك قال: يكون رسول الله في الحر، وأبو خيثمة في ظل بارد وماء مهيأ وامرأة حسناء! ما هذا بالنّصف «3» . ثم قال: والله لا أدخل عريشة واحدة منكما حتى ألحق برسول الله فهيئا لي زادا ففعلتا، ثم ركب بعيره، وأخذ سيفه ورمحه، وخرج يريد رسول الله فصادفه حين نزل بتبوك.