كان لعبد الله بن عبد المطلب مكانة خاصة في فؤاد عبد المطلب ظهر ذلك في معاملة عبد المطلب حفيده محمدا صلى الله عليه وسلم فرق عليه رقة لم يرقها على أحد من أولاده، فكان لا يدعه لوحدته المفروضة، بل يفضله على أولاده.
قال ابن هشام: كان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة فكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه، لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالا له، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي وهو غلام جفر حتى يجلس عليه، فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه، فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك منهم: دعوا ابني هذا فو الله إن له لشأنا ثم يجلسه معه على فراشه، ويمسح ظهره بيده ويسره ما يراه يصنع.
وقد مات جده عبد المطلب وعمره حينئذ ثماني سنوات وشهران وعشرة أيام، وقبل أن يموت عهد بكفالته إلى عمة أبي طالب وقد استسقى أبو طالب بوجه النبي صلى الله عليه وسلم فقد أخرج ابن عساكر قال: «قدمت مكة، وهم في قحط، فقال قريش: يا أبا طالب أقحط الوادي، وأجدب العيال، فهلم فاستعد! فخرج أبو طالب، ومعه غلام، كأنه شمس دجن، تجلت عنه سحابة قثماء، حوله أغيلمة، فأخذه أبو طالب، فألصق ظهره بالكعبة، ولاذ بإصبعه الغلام، وما في السماء قزعة، فأقبل السحاب من ههنا وههنا، وأغدق واغدودق، وانفجر الوادي، وأخصب النادي والبادي وإلى هذا أشار أبو طالب حين قال:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
ونهض أبو طالب بحق ابن أخيه على أكمل وجه، وضمه إلى ولده وقدمه عليهم، وظل فوقه أربعين سنة يعز جانبه ويبسط عليه حمايته، ويناضل الخصوم من أجله.
وقد تهدى ذلك جليا عند ما بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة سنة، وارتحل به عمه أبو طالب تاجرا إلى الشام، فإذا ما وصل به إلى بصرى، وبها راهب يقال له: بحيرى في صومعة له، وكان إليه علم أهل النصرانية، إليه يصير علمهم عن كتاب فيما يزعمون يتوارثونه كابرا عن كابر، فلما نزلوا ذلك العام ببحيرى- وكانوا كثيرا ما يمرون به فلا يكلمهم ولا يعرض لهم حتى كان ذلك العام فلما نزلوا قريبا من صومعته صنع لهم طعاما كثيرا وذلك فيما يزعمون عن شيء رآه وهو في صومعته. يزعمون أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركب حتى أقبل وغمامة تظلله من بين القوم. ثم أقبلوا فنزلوا في ظل شجرة قريبا منه. فنظر إلى الغمامة حين أظلت الشجرة وتهصرت أغصان الشجرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استظل تحتها. فلما رأى ذلك بحيرى نزل من صومعته وقد أمر بطعام فصنع. ثم أرسل إليهم. فقال إني صنعت لكم طعاما يا معشر قريش فأنا أحب أن تحضروا كلكم، كبيركم وصغيركم، وعبدكم وحركم. فقال له رجل منهم والله يا بحيرى إن لك لشأنا اليوم. ما كنت تصنع هذا بنا وقد كنا نمر بك كثيرا فما شأنك اليوم؟ قال له بحيرى صدقت قد كان ما تقول ولكنكم ضيف وقد أحببت أن أكرمكم طعاما فتأكلون منه كلكم فاجتمعوا إليه وتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين القوم لحداثة سنه في رحال القوم تحت الشجرة فلما رآهم بحيرى لم ير الصفة التي يعرف ويجده عنده فقال يا معشر قريش لا يتخلفن أحد منكم عن طعامي قالوا يا بحيري ما تخلف أحد ينبغي له أن يأتيك إلا غلام وهو أحدثنا سنا، فتخلف في رحالنا. قال لا تفعلوا ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم. قال فقال رجل من قريش مع القوم، واللات والعزى إن كان للؤم بنا أن يتخلف محمد بن عبد الله بن عبد المطلب عن طعام من بيننا. ثم قام إليه فاحتضنه وأجلسه مع القوم فلما رآه بحيرى جعل يلحظه لحظا شديدا وينظر إلى أشياء من جسده، وقد كان يجدها عنده من صفته، حتى إذا
فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا قام إليه بحيرى وقال له يا: غلام أسألك بحق اللات والعزى إلا أخبرتني عما أسألك عنه. وإنما قال له بحيرى ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما، فزعموا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: لا تسألني باللات والعزى شيئا. فو الله ما أبغضت شيئا قط بغضهما.
فقال له بحيرى: فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه؟ فقال له سلني عما بدا لك. فجعل يسأله عن أشياء من حاله ونومه وهيئته وأموره. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره فوافق ذلك ما عند بحيرى من صفته. ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه موضعه من صفته التي عنده، فلما فرغ أقبل على عمه أبي طالب فقال ما هذا الغلام منك؟ قال ابني قال بحيري ما هو بابنك وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا، قال فإنه ابن أخي. قال فما فعل أبوه؟ قال مات وأمه حبلى به قال صدقت ارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه اليهود. فو الله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شراً، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم فأسرع به إلى بلاده، فخرج به عمه أبو طالب سريعا حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام.
في هذا الوقت اشتد حرص أبي طالب على محمد صلى الله عليه وسلم.
,
لما توفيت آمنة أم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ضمه إليه جده عبد المطلب ورق عليه رقة لم يرقها على ولده.
قال ابن إسحاق: حدثني العباس بن عبد الله بن معبد عن بعض أهله قال: كان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة وكان لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالا له، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يأتي حتى يجلس عليه فيذهب أعمامه يؤخرونه فيقول جده: دعوا ابني.
فيمسح ظهره ويقول: إن لابني هذا لشأناً.
وروى أبو نعيم عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما مثله. وزاد: دعوا ابني يجلس فإنه يحس من نفسه بشيء، وأرجو أن يبلغ من الشرف ما لم يبلغه عربي قبله ولا بعده.
وروى ابن سعد وابن عساكر عن الزهري ومجاهد ونافع وابن جبير قالوا: كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس على فراش جده فيذهب أعمامه ليؤخروه فيقول عبد المطلب: دعوا ابني ليؤنس ملكاً [ (1) ] .
وقال قوم من بني مدلج لعبد المطلب: احتفظ به فإنا لم نر قدما أشبه بالقدم التي في المقام منه.
وقال عبد المطلب لأم أيمن: يا بركة احتفظي به لا تغفلي عنه فإن أهل الكتاب يزعمون أنه نبي هذه الأمة.
وروى المحاملي عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما قال: سمعت أبي يقول: كان لعبد المطلب مفرش في الحجر لا يجلس عليه غيره وكان حرب بن أمية فمن دونه يجلسون حوله دون المفرش، فجاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوما وهو غلام لم يبلغ الحلم فجلس على المفرش فجذبه رجل فبكي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال عبد المطلب- وذلك بعد ما كف بصره: ما لابني يبكي؟ قالوا له: أراد أن يجلس على المفرش فمنعوه. دعوا ابني يجلس عليه فإنه يحس من نفسه بشرف وأرجو أن يبلغ من الشرف ما لم يبلغه عربي قبله ولا بعده.
وروى البلاذري عن الزهري ومحمد بن السائب أن عبد المطلب كان إذا أتي بالطعام أجلس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى جنبه وربما أقعده على فخذه فيؤثره بأطيب طعامه، وكان رقيقا
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 1/ 70.
عليه برا به، فربما أتي بالطعام وليس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حاضرا فلا يمس شيئاً منه حتى يؤتى به.
وكان يفرش له في ظل الكعبة ويجلس بنوه حول فراشه إلى خروجه فإذا خرج قاموا على رأسه مع عبيده إجلالا له وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يأتي وهو غلام جفر فيجلس على الفراش فيأخذه أعمامه ليؤخروه فيقول عبد المطلب: دعوا ابني ما تريدون منه؟ إن له لشأنا. ويقبل رأسه ويمسح صدره ويسر بكلامه وما يرى منه.
وروى أبو نعيم عن محمد بن عمر الأسلمي عن شيوخه قالوا: بينا عبد المطلب يوما في الحجر وعنده أسقف نجران وهو يحادثه ويقول: إنا نجد صفة نبي بقي من ولد إسماعيل، هذا البلد مولده ومن صفته كذا وكذا. وأتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فنظر إليه الأسقف وإلى عينيه وإلى ظهره وإلى قدميه فقال: هو هذا، ما هذا منك؟ قال: هذا ابني. قال الأسقف: لا، ما نجد أباه حيا. قال: هو ابن ابني وقد مات أبوه وأمه حبلى به. قال: صدقت. قال عبد المطلب لبنيه:
تحفظوا بابن أخيكم ألا تسمعون ما يقال فيه؟.
وروى البخاري في تاريخه وابن سعد والحاكم وصححه، عن كندير بن سعيد بن حيوة [ (1) ] ويقال حيدة، عن أبيه، والبيهقي عن معاوية بن حيدة [ (2) ] قال الأول: خرجت حاجا في الجاهلية. وقال الثاني: خرجت معتمرا في الجاهلية. قالا: فإذا شيخ طويل يطوف بالبيت وهو يقول:
رد إلي راكبي محمدا ... اردده ربي واتخذ عندي يدا
فسألا عنه فقيل هذا سيد قريش عبد المطلب له إبل كثيرة فإذا ضل منها شيء بعث فيه بنيه يطلبونها فإذا غابوا بعث ابن ابنه ولم يبعثه في حاجة إلا أنجح فيها، وقد بعثه في حاجة أعيا عنها بنوه وقد أبطأ عليه. قالا: فلم نلبث حتى جاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالإبل معه، فقال له عبد المطلب: يا بني حزنت عليك حزنا لا تفارقني بعد أبدا.
وروى ابن الجوزي عن أم أيمن رضي اللَّه تعالى عنها قالت: كنت أحضن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فغفلت عنه يوما فلم أدر إلا بعبد المطلب قائما على رأسه يقول: يا بركة.
قلت: لبيك. قال: أتدرين أين وجدت ابني؟ قلت: لا أدري. قال: وجدته مع غلمان قريبا من السدرة، لا تغفلي عنه فإن أهل الكتاب يزعمون أنه نبي هذه الأمة وأنا لا آمنهم عليه.
__________
[ (1) ] كندير بن سعيد بن حيوة قال حججت في الجاهلية فإذا أنا برجل يطوف بالبيت وهو يقول «رد إلي راكبي محمدا» وروى عن أبيه روى عنه العباس بن عبد الرحمن سمعت أبي يقول ذلك.
[ (2) ] معاوية بن حيدة بن معاوية بن كعب القشيري، صحابي، نزل البصرة، ومات بخراسان، وهو جد بهز بن حكيم [التقريب 2/ 259] .