«الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ، وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ.»
(القرآن الكريم، السورة 26، الآية 218- 219)
كان اسماعيل أكبر أولاد ابراهيم. وكان له اثنا عشر ولدا، كما يؤكد «العهد القديم» ، منهم قيدار الذي انتشرت ذريته في أرض الحجاز العربية. وليس من ريب، استنادا إلى «العهد القديم» أيضا، ان العرب هم أبناء قيدار. وإلى هذا فأن العرب جميعا يسلّمون بأن عدنان، الذي يرجع اليه نسب الرسول الكريم محمد على نحو لا يأتيه الريب من بين يديه ولا من خلفه، كان أيضا من أولاد اسماعيل في الجيل الاربعين من سلالته. ولم يكن ثمة في أيما يوم من الايام خلاف على تحدّر النبي محمد من عدنان مباشرة. وفي الجيل التاسع من سلالة عدنان يبرز النّضر بن كنانة، مؤسس البيت القرشي. وبعد اسم آخر في شجرة النسب يجيء في المقام التاسع قصيّ الذي أسندت اليه سدانة
الكعبة- وهي من أعظم المناصب شرفا في بلاد العرب. وكان قصيّ جدّ عبد المطّب، جدّ الرسول الكريم. ومن هنا نرى ان اسرة النبي تحتلّ، من حيث نبالة المحتد، المقام الأعلى.
وكانت أمّ عبد المطّلب من بني النجّار، فهم أخوال النبي.
وأنجب عبد المطّلب عشرة أولاد، أبرزهم ابو لهب الذي كان زعيم المعارضة الأكبر ضد الرسول، وابو طالب الذي كفله ونشّأه، وحمزة الذي كان من أول الناس اسلاما والذي استشهد في وقعة أحد، والعباس الذي كان شديد الحب للرسول برغم بقائه فترة طويلة خارج الحظيرة الاسلامية، وعبد الله والد الرسول. وكان عبد الله زوجا لآمنة بنت وهب ابن عبد مناف من بني زهرة. والواقع أن الزوجين احتلا في قومهما مقاما عليّا لا بسبب من كرم محتدهما فحسب، بل بسبب شيء آخر كان أرجح في ميزان القيمة في عصر الظلمة والفساد ذلك:
لقد كانت لكل منهما نفس طاهرة.
وبعد أيام قليلة انقضت على الزفاف السعيد، خرج عبد الله في رحلة تجارية إلى الشام. فبينا هو عائد من رحلته تلك مرض بالمدينة وتوفي فيها. وهكذا ولد الرسول الكريم يتيم الأب، ثم ماتت أمه وهو لا يزال في السادسة من العمر. وبذلك حرم حدب الأبوين وعنايتهما، ومع هذا فأنه لم ينشأ على أسمى الفضائل الخلقية فحسب، بل كان أعظم معلّم للاخلاق أيضا. ولم تشأ الاقدار له أن يفيد من المنافع التي تعود بها الثقافة الكتبية على أصحابها، ومع هذا فقد ترك للعالم تراثا غنيا من الحكمة البالغة لا يزال حتى يوم الناس هذا ينتزع الاحترام والاعجاب الكليّيّن.
ويوم الاثنين، الثاني عشر من ربيع الاول، هو عند جمهور العلماء يوم ميلاد الرسول الكريم. وقد انتهى تحقيق علميّ آخر إلى جعله في اليوم التاسع من الشهر نفسه، وهو يوافق اليوم العشرين من
نيسان (ابريل) عام 571 من التقويم المسيحي. وقبل مولد الرسول، تلقّت أمه النبأ السعيد في رؤيا. ويرشح من بعض أحاديث الرسول ان جدّه سماه محمدا، وان أمه سمّته أحمد، وقد فعل كل منهما ذلك تبعا لرؤيا رآها. ولقد تحدث القرآن الكريم عنه بالاسمين جميعا* ويروي أحد الثقات ان الرسول نفسه قال: «أنا محمد وأحمد في آن معا.» وهو يخاطب في المنظومات الشعرية بكلا الاسمين أيضا.
وليس يتسع مجال هذا الفصل للاسهاب في الكلام على الحادثات الاستثنائية التي رافقت مولد الرسول. من أجل ذلك سنكتفي بالاشارة إلى واحدة منها ليس غير، تنطوي في ذات نفسها على دلالة عظيمة.
ففي نفس العام الذي ولد فيه الرسول شيد زعيم اليمن النصراني كنيسة فخمة في عاصمته، صنعاء، رجاة أن يحوّلها الى ملاذ عامّ لشعبه، زمنيّ وروحيّ، بدلا عن الكعبة التي كان قد عقد العزم على هدمها.
ولقد كان ذلك، في الواقع، صراع حياة أو موت بين التثليث والتوحيد.
__________
(*) «وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ، فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ.» (السورة 61، الآية 6) و «وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ، وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً، وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ.» (السورة 3، الآية 143) . و «ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ، وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً.» (السورة 33، الآية 40) . و «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ، تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً، سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ، ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ، وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً.» (السورة 48، الآية 29)
وهكذا سار ذلك الزعيم، أبرهة [الأشرم] على رأس جيش عظيم قاصدا مكة لكي يدكّها دكا. وعسكر على مبعدة ثلاث مراحل من مكة، وبعث إلى المكيين رسولا يبلغهم الغرض الذي من أجله جاء.
وفي غضون ذلك احتجز رجال ابرهة [مئة] بعير لعبد المطلب. فلم يكن من عبد المطلب إلا أن وفد بنفسه على الزعيم ليسأله ردّ إبله.
وتأثر ابرهة تأثرا عظيما بمظهرة المهيب، فسأله ما الذي دعاه إلى الوفود عليه، معتقدا من غير ريب أنه أقبل ليلتمس منه الإبقاء على البيت المقدّس. فأجابه عبد المطلب انه إنما أقبل ليسأله ردّ إبله. فعجب أبرهة لهذا الجواب غير المتوقّع وأبدى استغرابه لقلق عبد المطلب البالغ على إبله وعدم قلقه على الكعبة [قائلا لترجمانه: «قل له لقد كنت اعجبتني حين رأيتك ثم زهدت فيك حين كلّمتني] أتكلّمني في مئة بعير أصبتها لك وتترك بيتا [هو دينك ودين آبائك] قد جئت لأهدمه لا تكلمني فيه؟» ، فقال له عبد المطلب: «اني أنا ربّ الابل، وإن للبيت الحرام ربا سيمنعه.» وإذ وجد القرشيون انفسهم أضعف من أن يقاوموا ابرهة أخلوا مكة ونصبوا خيامهم في الكثبان المجاورة.
وفيما هم يغادرون مكة أخذ عبد المطلب بستار من أستار الكعبة، وراح يستنصر الله قائلا: «اللهم هذا بيتك. اننا نشعر اننا أضعف من أن نحميه، فتولّ أنت حمايته بنفسك.» ويقول المؤرخون ان الجدري تفشّى، في غضون ذلك، بجيش ابرهة تفشيا ليس أقوى منه ولا أعنف، محدثا في صفوفه ذعرا رهيبا، مهلكا القسم الاعظم من رجاله. أما سائره فلاذ بالفرار في اختلاط كامل وفوضى مطلقة. واليك وصف القرآن الكريم لهلاك جيش ابرهة:
«أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ. أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ. وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ تَرْمِيهِمْ
بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ.» *
وهذا يظهر ان الجيش ولى الأدبار في ارتباك شديد إلى درجة جعلته لا يتريث لحظة حتى يدفن جثث القتلى، فأمست طعاما للنسور وغيرها من جوارح الطير. وقد وقعت هذه الحادثة الاعجوبية في آن واحد مع مولد الرسول الكريم. وتقول بعض الروايات ان هزيمة أبرهة تمّت يوم مولد محمد بالذات.
__________
(*) السورة 105.
,
«الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ، وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ.»
(القرآن الكريم، السورة 26، الآية 218- 219)
كان اسماعيل أكبر أولاد ابراهيم. وكان له اثنا عشر ولدا، كما يؤكد «العهد القديم» ، منهم قيدار الذي انتشرت ذريته في أرض الحجاز العربية. وليس من ريب، استنادا إلى «العهد القديم» أيضا، ان العرب هم أبناء قيدار. وإلى هذا فأن العرب جميعا يسلّمون بأن عدنان، الذي يرجع اليه نسب الرسول الكريم محمد على نحو لا يأتيه الريب من بين يديه ولا من خلفه، كان أيضا من أولاد اسماعيل في الجيل الاربعين من سلالته. ولم يكن ثمة في أيما يوم من الايام خلاف على تحدّر النبي محمد من عدنان مباشرة. وفي الجيل التاسع من سلالة عدنان يبرز النّضر بن كنانة، مؤسس البيت القرشي. وبعد اسم آخر في شجرة النسب يجيء في المقام التاسع قصيّ الذي أسندت اليه سدانة
الكعبة- وهي من أعظم المناصب شرفا في بلاد العرب. وكان قصيّ جدّ عبد المطّب، جدّ الرسول الكريم. ومن هنا نرى ان اسرة النبي تحتلّ، من حيث نبالة المحتد، المقام الأعلى.
وكانت أمّ عبد المطّلب من بني النجّار، فهم أخوال النبي.
وأنجب عبد المطّلب عشرة أولاد، أبرزهم ابو لهب الذي كان زعيم المعارضة الأكبر ضد الرسول، وابو طالب الذي كفله ونشّأه، وحمزة الذي كان من أول الناس اسلاما والذي استشهد في وقعة أحد، والعباس الذي كان شديد الحب للرسول برغم بقائه فترة طويلة خارج الحظيرة الاسلامية، وعبد الله والد الرسول. وكان عبد الله زوجا لآمنة بنت وهب ابن عبد مناف من بني زهرة. والواقع أن الزوجين احتلا في قومهما مقاما عليّا لا بسبب من كرم محتدهما فحسب، بل بسبب شيء آخر كان أرجح في ميزان القيمة في عصر الظلمة والفساد ذلك:
لقد كانت لكل منهما نفس طاهرة.
وبعد أيام قليلة انقضت على الزفاف السعيد، خرج عبد الله في رحلة تجارية إلى الشام. فبينا هو عائد من رحلته تلك مرض بالمدينة وتوفي فيها. وهكذا ولد الرسول الكريم يتيم الأب، ثم ماتت أمه وهو لا يزال في السادسة من العمر. وبذلك حرم حدب الأبوين وعنايتهما، ومع هذا فأنه لم ينشأ على أسمى الفضائل الخلقية فحسب، بل كان أعظم معلّم للاخلاق أيضا. ولم تشأ الاقدار له أن يفيد من المنافع التي تعود بها الثقافة الكتبية على أصحابها، ومع هذا فقد ترك للعالم تراثا غنيا من الحكمة البالغة لا يزال حتى يوم الناس هذا ينتزع الاحترام والاعجاب الكليّيّن.
ويوم الاثنين، الثاني عشر من ربيع الاول، هو عند جمهور العلماء يوم ميلاد الرسول الكريم. وقد انتهى تحقيق علميّ آخر إلى جعله في اليوم التاسع من الشهر نفسه، وهو يوافق اليوم العشرين من
نيسان (ابريل) عام 571 من التقويم المسيحي. وقبل مولد الرسول، تلقّت أمه النبأ السعيد في رؤيا. ويرشح من بعض أحاديث الرسول ان جدّه سماه محمدا، وان أمه سمّته أحمد، وقد فعل كل منهما ذلك تبعا لرؤيا رآها. ولقد تحدث القرآن الكريم عنه بالاسمين جميعا* ويروي أحد الثقات ان الرسول نفسه قال: «أنا محمد وأحمد في آن معا.» وهو يخاطب في المنظومات الشعرية بكلا الاسمين أيضا.
وليس يتسع مجال هذا الفصل للاسهاب في الكلام على الحادثات الاستثنائية التي رافقت مولد الرسول. من أجل ذلك سنكتفي بالاشارة إلى واحدة منها ليس غير، تنطوي في ذات نفسها على دلالة عظيمة.
ففي نفس العام الذي ولد فيه الرسول شيد زعيم اليمن النصراني كنيسة فخمة في عاصمته، صنعاء، رجاة أن يحوّلها الى ملاذ عامّ لشعبه، زمنيّ وروحيّ، بدلا عن الكعبة التي كان قد عقد العزم على هدمها.
ولقد كان ذلك، في الواقع، صراع حياة أو موت بين التثليث والتوحيد.
__________
(*) «وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ، فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ.» (السورة 61، الآية 6) و «وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ، وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً، وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ.» (السورة 3، الآية 143) . و «ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ، وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً.» (السورة 33، الآية 40) . و «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ، تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً، سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ، ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ، وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً.» (السورة 48، الآية 29)
وهكذا سار ذلك الزعيم، أبرهة [الأشرم] على رأس جيش عظيم قاصدا مكة لكي يدكّها دكا. وعسكر على مبعدة ثلاث مراحل من مكة، وبعث إلى المكيين رسولا يبلغهم الغرض الذي من أجله جاء.
وفي غضون ذلك احتجز رجال ابرهة [مئة] بعير لعبد المطلب. فلم يكن من عبد المطلب إلا أن وفد بنفسه على الزعيم ليسأله ردّ إبله.
وتأثر ابرهة تأثرا عظيما بمظهرة المهيب، فسأله ما الذي دعاه إلى الوفود عليه، معتقدا من غير ريب أنه أقبل ليلتمس منه الإبقاء على البيت المقدّس. فأجابه عبد المطلب انه إنما أقبل ليسأله ردّ إبله. فعجب أبرهة لهذا الجواب غير المتوقّع وأبدى استغرابه لقلق عبد المطلب البالغ على إبله وعدم قلقه على الكعبة [قائلا لترجمانه: «قل له لقد كنت اعجبتني حين رأيتك ثم زهدت فيك حين كلّمتني] أتكلّمني في مئة بعير أصبتها لك وتترك بيتا [هو دينك ودين آبائك] قد جئت لأهدمه لا تكلمني فيه؟» ، فقال له عبد المطلب: «اني أنا ربّ الابل، وإن للبيت الحرام ربا سيمنعه.» وإذ وجد القرشيون انفسهم أضعف من أن يقاوموا ابرهة أخلوا مكة ونصبوا خيامهم في الكثبان المجاورة.
وفيما هم يغادرون مكة أخذ عبد المطلب بستار من أستار الكعبة، وراح يستنصر الله قائلا: «اللهم هذا بيتك. اننا نشعر اننا أضعف من أن نحميه، فتولّ أنت حمايته بنفسك.» ويقول المؤرخون ان الجدري تفشّى، في غضون ذلك، بجيش ابرهة تفشيا ليس أقوى منه ولا أعنف، محدثا في صفوفه ذعرا رهيبا، مهلكا القسم الاعظم من رجاله. أما سائره فلاذ بالفرار في اختلاط كامل وفوضى مطلقة. واليك وصف القرآن الكريم لهلاك جيش ابرهة:
«أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ. أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ. وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ تَرْمِيهِمْ
بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ.» *
وهذا يظهر ان الجيش ولى الأدبار في ارتباك شديد إلى درجة جعلته لا يتريث لحظة حتى يدفن جثث القتلى، فأمست طعاما للنسور وغيرها من جوارح الطير. وقد وقعت هذه الحادثة الاعجوبية في آن واحد مع مولد الرسول الكريم. وتقول بعض الروايات ان هزيمة أبرهة تمّت يوم مولد محمد بالذات.
__________
(*) السورة 105.