ولما تكامل له أربعون سنة- وهي رأس الكمال، وقيل: ولها تبعث الرسل- بدأت آثار النبوة تتلوح وتتلمع له من وراء آفاق الحياة، وتلك الآثار هي الرؤيا، فكان لا يرى رؤيا إلا
__________
(1) رحمة للعالمين 1/ 47، وابن هشام 1/ 235، 236، في ظلال القرآن الجزء 29/ 166.
(2) نفس المصدر الأخير 29/ 166، 167.
جاءت مثل فلق الصبح، حتى مضت على ذلك ستة أشهر، ومدة النبوة ثلاث وعشرون سنة، فهذه الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزآ من النبوة- فلما كان رمضان من السنة الثالثة من عزلته صلى الله عليه وسلم بحراء شاء الله أن يفيض من رحمته على أهل الأرض، فأكرمه بالنبوة، وأنزل إليه جبريل بايات من القرآن «1» .
وبعد النظر والتأمل في القرائن والدلائل يمكن لنا أن نحدد ذلك اليوم بأنه كان يوم الإثنين لإحدى وعشرين مضت من شهر رمضان ليلا، ويوافق 10 أغسطس سنة 610 م، وكان عمره صلى الله عليه وسلم إذ ذاك بالضبط أربعين سنة قمرية، وستة أشهر، و 12 يوما، وذلك نحو 39 سنة شمسية وثلاثة أشهر و 12 يوما «2» .
__________
(1) قال ابن حجر: وحكى البيهقي أن مدة الرؤيا كانت ستة أشهر، وعلى هذا فابتداء النبوة بالرؤيا وقع في شهر مولده وهو ربيع الأول، بعد إكماله أربعين سنة، وابتداء وحي اليقظة في رمضان (فتح الباري 1/ 27) .
(2) اختلف المؤرخون اختلافا كبيرا في أول شهر أكرمه الله فيه بالنبوة، وإنزال الوحي، فذهبت طائفة كبيرة إلى أنه شهر ربيع الأول، وذهبت طائفة أخرى إلى أنه رمضان، وقيل هو شهر رجب (انظر مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب النجدي ص 75) ورجحنا الثاني- أي أنه شهر رمضان- لقوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة: 185] ولقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر: 1] ومعلوم أن ليلة القدر في رمضان، وهي المرادة بقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ، إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ [الدخان: 3] ولأن جواره صلى الله عليه وسلم بحراء كان في رمضان، وكانت وقعة نزول جبريل فيهما كما هو معروف. ثم اختلف القائلون ببدء نزول الوحي في رمضان في تحديد ذلك اليوم، فقيل: هو اليوم السابع، وقيل السابع عشر، وقيل الثامن عشر (انظر مختصر سيرة الرسول المذكور ص 75، ورحمة للعالمين 1/ 49) وقد أصر الخضري في محاضراته على أنه اليوم السابع عشر (محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية للخضري 1/ 69) . وإنما رجحنا أنه اليوم الحادي والعشرون مع أنا لم نر من قال به لأن أهل السيرة كلهم أو أكثرهم متفقون على أن مبعثه صلى الله عليه وسلم كان يوم الإثنين، ويؤيدهم ما رواه أئمة الحديث عن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم الإثنين، فقال: «فيه ولدت فيه أنزل علي، وفي لفظ: ذاك يوم ولدت فيه ويوم بعثت أو أنزل عليّ فيه» (صحيح مسلم 1/ 368، أحمد 5/ 297، 299، البيهقي 4/ 286، 300، الحاكم 2/ 602) ويوم الإثنين في رمضان من تلك السنة لا يوافق إلا اليوم السابع، والرابع عشر، والحادي والعشرين، والثامن والعشرين، وقد دلت الروايات الصحيحة أن ليلة القدر لا تقع إلا في وتر من ليالي العشر الأواخر من رمضان وأنها تنتقل فيما بين هذه الليالي، فإذا قارنا بين قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وبين رواية أبي قتادة أن مبعثة صلى الله عليه وسلم كان يوم الإثنين وبين حساب التقويم العلمي في وقوع يوم الإثنين في رمضان من تلك السنة تعين لنا أن مبعثة صلى الله عليه وسلم كان في اليوم الحادي والعشرين من رمضان ليلا.
ولنستمع إلى عائشة الصديقة رضي الله تعالى عنها تروي لنا قصة هذه الوقعة التي كانت شعلة من نور اللاهوت، أخذت تفتح دياجير ظلمات الكفر والضلال، حتى غيرت مجرى الحياة، وعدلت خط التاريخ. قالت عائشة رضي الله عنها:
أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه- وهو التعبد- الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ:
فقلت: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ «1» فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة: مالي، وأخبرها الخبر، لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة:
كلا، والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة- وكان امرآ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي- فقالت له خديجة: يا ابن عم! اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟
فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزله الله على موسى، يا ليتني فيها جذعا، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا، ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي «2» .
وروى الطبري وابن هشام ما يفيد أنه خرج من غار حراء بعد ما فوجئ بالوحي ثم رجع وأتم جواره، وبعد ذلك رجع إلى مكة، ورواية الطبري تلقي ضوآ على سبب خروجه وهاك نصها:
__________
(1) كان نزول الآيات إلى قوله تعالى: عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ.
(2) صحيح البخاري 1/ 2، 3، وقد أخرجه البخاري مع اختلاف يسير في اللفظ في كتابي التفسير وتعبير الرؤيا.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذكر مجيء الوحي: «ولم يكن من خلق الله أبغض على من شاعر أو مجنون، كنت لا أطيق أن أنظر إليهما، قال: قلت: إن الأبعد- يعني نفسه- شاعر أو مجنون إلا تحدث بها عني قريش أبدا! لأعمدن إلى حالق من الجبل فلأطرحن نفسي منه فلأقتلنها، فلأستريحن! قال: فخرجت أريد ذلك، حتى إذا كنت في وسط الجبل سمعت صوتا من السماء يقول: يا محمد!! أنت رسول الله، وأنا جبريل، قال: فرفعت رأسي إلى السماء، فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء يقول: يا محمد! أنت رسول الله وأنا جبريل. قال: فوقفت أنظر إليه، وشغلني ذلك عما أردت، فما أتقدم وما أتأخر، وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك، فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي، ولا أرجع ورائي، حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي، حتى بلغوا مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مقامي، ثم انصرف عني وانصرفت راجعا إلى أهلي «1» حتى أتيت خديجة فجلست إلى فخذها مضيفا إليها- ملتصقا بها مائلا إليها- فقالت: يا أبا القاسم! أين كنت؟ فو الله لقد بعثت في طلبك حتى بلغوا مكة ورجعوا إليّ، ثم حدثتها بالذي رأيت، فقالت: أبشر يا ابن عم، واثبت، فو الذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة «2» ، ثم قامت فانطلقت إلى ورقة وأخبرته. فقال: قدوس قدوس، والذي نفس ورقة بيده لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، وإنه لنبي هذه الأمة، فقولي له: فليثبت، فرجعت خديجة وأخبرته بقول ورقة، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره وانصرف- إلى مكة- لقيه ورقة، وقال بعد أن سمع منه خبره: والذي نفسي بيده، إنك لنبي هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى» «3» .