وبات الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يفكر في الموقف، فقد كان يخاف أن المشركين إن فكروا في أنهم لم يستفيدوا شيئا من النصر والغلبة التي كسبوها في ساحة القتال، فلا بد من أن يندموا على ذلك، ويرجعوا من الطريق لغزو المدينة مرة ثانية، فصمم على أن يقوم بعملية مطاردة الجيش المكي.
قال أهل المغازي ما حاصله: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم نادى في الناس، وندبهم إلى المسير إلى لقاء العدو- وذلك صباح الغد من معركة أحد، أي يوم الأحد الثامن من شهر شوال سنة 3 هـ- وقال: لا يخرج معنا إلا من شهد القتال، فقال له عبد الله بن أبي: أركب معك؟
قال: لا، واستجاب له المسلمون على ما بهم من الجرح الشديد، والخوف المزيد، وقالوا: سمعا وطاعة، واستأذنه جابر بن عبد الله، وقال: يا رسول الله، إني أحب أن لا تشهد مشهدا إلا كنت معك، وإنما خلفني أبي على بناته، فأذن لي، أسير معك، فأذن له.
وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، حتى بلغوا حمراء الأسد، على بعد ثمانية أميال من المدينة فعسكروا هناك.
__________
(1) انظر ابن هشام 2/ 122، 123، 124، 125، 126، 127، 128، 129، فتح الباري 7/ 351، وغزوة أحد لمحمد أحمد باشميل ص 278، 279، 280.
وهناك أقبل معبد بن أبي معبد الخزاعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم- ويقال:
كان على شركه، ولكنه كان ناصحا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لما كان بين خزاعة وبني هاشم من الحلف، فقال: يا محمد، أما والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك، ولوددنا أن الله عافاك- فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلحق أبا سفيان فيخذله.
ولم يكن ما خافه رسول الله صلى الله عليه وسلم من تفكير المشركين في العودة إلى المدينة إلا حقا، فإنهم لما نزلوا بالروحاء على بعد ستة وثلاثين ميلا من المدينة تلاوموا فيما بينهم، وقال بعضهم لبعض: لم تصنعوا شيئا، أصبتم شوكتهم وحدهم، ثم تركتموهم، وقد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم، فارجعوا حتى نستأصل شأفتهم.
ويبدو أن هذا الرأي جاء سطحيا ممن لم يكن يقدر قوة الفريقين ومعنوياتهم تقديرا صحيحا، ولذلك خالفهم زعيم مسؤول «صفوان بن أمية» قائلا: يا قوم، لا تفعلوا فإني أخاف أن يجمع عليكم من تخلف من الخروج- أي من المسلمين في غزوة أحد- فارجعوا والدولة لكم، فإني لا آمن إن رجعتم أن تكون الدولة عليكم. إلا أن هذا الرأي رفض أمام رأي الأغلبية الساحقة، وأجمع جيش مكة علي المسير نحو المدينة، ولكن قبل أن يتحرك أبو سفيان بجيشه من مقره لحقه معبد بن بي معبد الخزاعي، ولم يكن يعرف أبو سفيان بإسلامه، فقال: ما وراءك يا معبد؟ فقال معبد- وقد شن عليه حرب أعصاب دعائية عنيفة-: محمد، قد خرج في أصحابه، قبلكم في جمع لم أر مثله قط، يتحرقون عليكم تحرقا، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم، وندموا على ما ضيعوا، فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط.
قال أبو سفيان: ويحك، ما تقول؟
قال: والله ما أرى أن ترتحل حتى ترى نواصي الخيل- أو- حتى يطلع أول الجيش من وراء هذه الأكمة.
فقال أبو سفيان: والله لقد أجمعنا الكرة؟؟؟ عليهم لنستأصلهم.
قال: فلا تفعل، فإني ناصح.
وحينئذ انهارت عزائم الجيش المكي، وأخذه الفزع والرعب، فلم ير العافية إلا في مواصلة الإنسحاب والرجوع إلى مكة، بيد أن أبا سفيان قام بحرب أعصاب دعائية ضد الجيش الإسلامي، لعله ينجح في كف هذا الجيش عن مواصلة المطاردة، وطبعا فهو
ينجح في الإجتناب عن لقائه، فقد مر به ركب من عبد القيس يريد المدينة، فقال: هل أنتم مبلغون عني محمدا رسالة: وأوقر لكم راحلتكم هذه زبيبا بعكاظ إذا أتيتم إلى مكة؟.
قالوا: نعم.
قال: فأبلغوا محمدا أنا قد أجمعنا الكرة؛ لنستأصله ونستأصل أصحابه.
فمر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهم بحمراء الأسد، فأخبرهم بالذي قاله أبو سفيان، وقالوا: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فزادهم أي زاد المسلمين قولهم ذلك- إيمانا وَقالُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ، وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ.
أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد بعد- مقدمة يوم الأحد- الإثنين والثلاثاء والأربعاء- 9/ 10/ 11 شوال سنة 3 هـ- ثم رجع إلى المدينة. وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الرجوع إلى المدينة أبا عزة الجمحي- وهو الذي كان قد من عليه من أسارى بدر؛ لفقره وكثرة بناته، على ألايظاهر عليه أحدا، ولكنه نكث وغدر، فحرض الناس بشعره على النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين كما أسلفنا، وخرج لمقاتلتهم في أحد- فلما أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا محمد أقلني، وامنن علي، ودعني لبناتي، وأعطيك عهدا ألاأعود لمثل ما فعلت، فقال صلى الله عليه وسلم «لا تمسح عارضيك بمكة بعدها وتقول: خدعت محمدا مرتين، لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، ثم أمر الزبير أو عاصم بن ثابت فضرب عنقه» .
كما حكم بالإعدام في جاسوس من جواسيس مكة، وهو معاوية بن المغيرة بن أبي العاص، جد عبد الملك بن مروان لأمه، وذلك أنه لما رجع المشركون يوم أحد جاء معاوية هذا إلى ابن عمه عثمان بن عفان رضي الله عنه، فاستأمن له عثمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمنه على أنه إن وجد بعد ثلاث قتله، فلما خلت المدينة من الجيش الإسلامي أقام فيها أكثر من ثلاث يتجسس لحساب قريش، فلما رجع الجيش خرج معاوية هاربا، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة وعمار بن ياسر، فتعقباه حتى قتلاه «1» .
__________
(1) أخذنا تفصيل غزوة أحد، وحمراء الأسد من ابن هشام 2/ 60 إلى 129، وزاد المعاد 2/ 91 إلى 108، وفتح الباري 7/ 345 إلى 377 مع صحيح البخاري، ومختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي من ص 242 إلى 257، وقد أحلنا على المصادر الآخرى في مواضعها.
ومما لا شك فيه أن غزوة حمراء الأسد ليست بغزوة مستقلة، إنما هي جزء من غزوة أحد وتتمة لها، وصفحة من صفحاتها.
تلك هي غزوة أحد بجميع مراحلها وتفاصيلها، وطالما بحث الباحثون حول مصير هذه الغزوة، هل كانت هزيمة أم لا؟ والذي لا يشك فيه أن التفوق العسكري في الصفحة الثانية من القتال كان للمشركين، وأنهم كانوا مسيطرين على ساحة القتال، وأن خسارة الأرواح والنفوس كانت في جانب المسلمين أكثر وأفدح، وأن طائفة من المؤمنين انهزمت قطعا، وأن دفة القتال جرت لصالح الجيش المكي، لكن هناك أمورا تمنعنا أن نعبر عن كل ذلك بالنصر والفتح.
فمما لا شك فيه أن الجيش المكي لم يستطع احتلال معسكر المسلمين، وأن المقدار الكبير من الجيش المدني لم يلتجئ إلى الفرار- مع الإرتباك الشديد والفوضى العامة- بل قاوم بالبسالة حتى تجمع حول مقر قيادته، وأن كفته لم تسقط إلى حد أن يطارده الجيش المكي، وأن أحدا من جيش المدينة لم يقع في أسر الكفار، وأن الكفار لم يحصلوا على شيء من غنائم المسلمين، وأن الكفار لم يقوموا إلى الصفحة الثالثة من القتال مع أن جيش المسلمين لم يزل في معسكره، وأنهم لم يقيموا بساحة القتال يوما أو يومين أو ثلاثة أيام- كما هو دأب الفاتحين في ذلك الزمان- بل سارعوا إلى الإنسحاب وترك ساحة القتال، قبل أن يتركها المسلمون، ولم يجترئوا على الدخول في المدينة لنهب الذراري والأموال، مع أنها على بعد عدة خطوات فحسب، وكانت مفتوحة وخالية تماما.
كل ذلك يؤكد لنا أن ما حصل لقريش لم يكن أكثر من أنهم وجدوا فرصة، نجحوا فيها بإلحاق الخسائر الفادحة بالمسلمين، مع الفشل فيما كانوا يهدفون إليه من إبادة الجيش الإسلامي بعد عمل التطويق- وكثيرا ما يلقى الفاتحون بمثل هذه الخسائر التي نالها المسلمون- أما أن ذلك كان نصرا وفتحا فكلا وحاشا.
بل يؤكد لنا تعجيل أبي سفيان في الإنسحاب والإنصراف، أنه كان يخاف على جيشه المعرة والهزيمة لو جرت صفحة ثالثة من القتال، ويزداد ذلك تأكدا حين ننظر إلى موقف أبي سفيان من غزوة حمراء الأسد.
وإذن فهذه الغزوة إنما كانت حربا غير منفصلة، أخذ كل فريق بقسطه ونصيبه من النجاح والخسارة، ثم حاد كل منهما عن القتال، من غير أن يفر عن ساحة القتال ويترك مقره لاحتلال العدو، وهذا هو معنى الحرب غير المنفصلة. وإلى هذا يشير قوله تعالى:
وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ. إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ [النساء: 104] فقد شبه أحد العسكرين بالآخر في التألم وإيقاع الألم، مما يفيد أن الموقفين كانا متماثلين، وأن الفريقين رجعا وكل غير غالب.