,
...
المطلب الأول: التعريف بوادي القرى:
وادي القُرَى - بضم أوَّله، وفتح ثانيه، والقصر - جمع قرية، وهو وادٍ بين المدينة والشام، من أعمال المدينة، وهو بين تيماء وخيبر، فيه قرى كثيرة، وبها سُمّي وادي القُرى، والنسبة إليه "واديّ"، قال أبو المنذر: سُمّي وادي القُرى، لأنَّ الوادي من أوَّله إلى آخره قُرىً منظومة.
وقال أبو عبيد الله السكوني: "وادي القُرى والحِجْر والجناب، منازل قضاعة، ثُمَّ جهينة، وعذرة، وبلىّ، وهي بين الشام والمدينة، يمرُّ بها حاج الشام، وكانت قديماً منازل ثمود وعاد1، وبها أهلكهم الله، وآثارها إلى الآن باقية، ونزلها بعدهم اليهود واستخرجوا كظائمها2، وأساحوا عيونها، وغرسوا نخلها، فلمَّا نزلت بهم القبائل عقدوا بينهم حلفاً، وكان لهم فيها على اليهود طُعمة وأكل في كل عام ومنعوها لهم، ودفعوا عنها قبائلهم"3.
__________
1 المعروف أنَّها منازل ثمود، قوم نبي الله صالح - عليه السلام، الذين كانوا يسكنون الحجر الذي سُمِّيَ فيما بعد (مدائن صالح) ، وذكر عاد هنا وَهَمٌ، فالمعروف أنَّهم كانوا يسكنون الأحقاف في حضرموت، وهي بعيدة جداً عن هذه المنطقة، والله تعالى أعلم.
2 الكظام: محابس المياه في الأودية والشعاب. (لسان العرب: مادة: كظم) .
3 كان من القبائل التي نزلت بهم غطفان (فزارة، وبني مرة، وأشجع، وغيرها) .
وكان النعمان بن الحارث الغساني ملك الشام أراد غزو وادي القرى، فحذَّره نابغة بن ذبيان، وذلك بقوله:
تجنَّب بني حُنَّ فإنَّ لقَاءَهُم ... كريهٌ وإنْ تلق إلاَّ بصابرٍ
في أبيات. و"حُنَّ" - هو بضم الحاء المهملة والنون المشدَّدة - ابن ربيعة بن حرام بن ضنَّة بن عبد بن كبير بن عُذرة1.
ولمَّا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر في سنة سبع، امتدَّ إلى وادي القرى، وفتحها عنوة، ثُمَّ صُولِحُوا على الجزية.
وكان يسكن الوادي ناس من ولد جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه، وقد غلبوا عليه، ويُعْرَفون بالواديّين.
وقال الشاعر2:
أَلاَ لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً ... بِوَادِي القُرَى إنِّي إذاً لَسَعِيدُ
وقد نُسِب إلى وادي القُرى جماعة، منهم يحيى بن أبي عبيدة الوادي أصله من وادي القُرى، وكان مولى لقريش، ثقةً في الحديث، ذكره علي بن الحسين الحرَّاني الحافظ في تاريخ الجزري، ومنهم - أيضاً: عمر ابن داود بن زاذان مولى عثمان بن عفَّان - رضي الله عنه، المعروف بعمر الوادي المغني، وكان مهندساً في أيَّام الوليد بن يزيد بن عبد الملك3.
__________
1 وذلك يعني أنَّ سكان تلك المنطقة كانوا من بني عُذرة من قضاعة.
2 هو: جميل بن معمر، المعروف بجميل بثينة.
3 انظر: ياقوت الحموي: معجم البلدان 4/338-339، 5/345، والحميري: الروض المعطار 602.
ويُعْرَف وادي القُرى اليوم ب "العُلا" بضم العين ثُمَّ لام وألف من غير همزة، والنسبة إليه "عُلَوِيٌّ"، وهي مدينة عامرة شمال المدينة النبوية على قرابة "350" ميلاً، كثيرة المياه والزرع والأهل، ويصُبُّ واديها في وادي الجزل، ثُمَّ يَصُبُّ الجزل في وادي الحمض "أضم"، وهي ملاصقة للحجر ديار ثمود، متَّصِلة بها اتِّصالاً تامّاً، لا يفصِلُ بينها وبين المدائن حدود ولا جبال.
وسبب تسميتها ب "العُلا" أنَّها قامت على أنقاض قصبة وادي القُرى المُسَمَّى "قُرح"، وهو موضع كان بالوادي من صدره، فغلب عليه اسم العُلا، لأنه أعلى الوادي، وكانت "قُرح" سوقاً مشهورة من أسواق العرب في الجاهلية، وفيها مسجد قُرح الذي بناه رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره إلى تبوك، وهو مسجد العُلا اليوم فيما يتوارث أهلها، وتنقسم العُلا إلى حارتين: الشِّقيق - بالشين المشددة المكسورة -، والحِلف - بكسر - الحاء وجوّها جميل، وسكانها خليط من عرب الشمال والحجاز، وبعض أهل القصيم وحائل، وبها محطَّة لسكة حديد الحجاز المعطَّلة.
وتُعدّ العُلا مِن أكبر محافظات المدينة الزراعية المتطورة، حيث يُزرع بها النخيل، والأترجّ، والليمون بأنواعه، والفواكه والخضروات، وأكثر صادراتها التمور، وهو أنواع، أجودها البرني، والسكري، وتربطها بالمدينة النبوية طريق معبدة، ويسكن بعض أهلها المدينة1.
__________
1 انظر: محمد عبد الحميد مراد: مدائن صالح 61-62، 153، والبلادي: معجم 25، وانظر: مجلة الدارة، العدد الأول، السنة التاسعة 39.
,
بالنظر إلى أقوال أهل المغازي في سبب السرية، نجد هنالك قولين:
- القول الأوَّل: لابن إسحاق، الذي ذكر أنَّ سببها كان سرية بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل هذه السرية مباشرةً، وبقيادة زيد بن حارثة - رضي الله تعالى عنه - نفسه إلى وادي القرى:
[1] "فلقي به بني فزارة1 وأصيب بها ناسٌ من أصحابه، وانفلت زيد من بين القتلى. فلمَّا قدم زيد بن حارثة، نذر أنْ لا يمس رأسه غسل من جنابة حتى يغزو فزارة"2.
__________
1 بفتح الزاي المعجمة: قبيلة كبيرة مشهورة من غطفان، يُنسبون إلى فزارة بن ذبيان ابن بغيض، وكانت مساكنهم بنجد، ووادي القرى.
انظر: ابن قتيبة، المعارف 83، القلقشندي، قلائد الجمان 113.
2 ذكره ابن سيد الناس (عيون الأثر 2/142) عن ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر، من الخامسة (تقريب 297) ، كما ذكره ابن هشام (سيرة 4/617) عن ابن إسحاق الذي ساقه بلا سند عنده نحوه. وقد ورد موصولاً من طريق آخر. فقد أخرجه أبو نعيم (دلائل2/534) والمحاملي (الأمالي 183 رقم: 157) ، كلاهما من حديث إبراهيم بن يحيى بن محمّد بن عباد بن هانئ الشجري عن أبيه عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة - رضي الله تعالى عنها، إلاَّ أنَّ فيه: "بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ امرأةً من بني فزارة يُقال لها أُم قِرفة قد جهَّزت ثلاثين راكباً من ولدها وولد، ولدها. قالت: اقدموا المدينة فاقتلوا محمَّداً، فقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اللهم اثكلها بولدها، وبَعَث إليهم زيد بن حارثة، فالتقوا بالوادي.." ثُمَّ ذكره نحوه.
قلت: سنده فيه إبراهيم بن يحيى الشجري، لين الحديث (تقريب 95) ، وأبوه يحيى بن محمَّدضعيف كان يتلقَّن (تقريب596) ،وفيه عنعنةابن إسحاق فسند الحديث ضعيف.
وذكر الحلبي (سيرة2/181) ،والزرقاني (شرح 2/164) عن بعضهم أنَّه خبر منكر.
- القول الثاني: وقال به الواقدي، وابن سعد، حيث ذكرا أنَّ زيد بن حارثة - رضي الله تعالى عنه - خرج:
[2] "في تجارة إلى الشام ومعه بضائع لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فلمَّا كان دون وادي القرى لقيه ناس من فزارة، من بني بدر1، فضربوه وضربوا أصحابه، وأخذوا ما كان معهم، ثُمَّ استبلَّ زيد2، وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم"3.
__________
1 هم بنو بدر بن عدي بن فزارة، وفيهم كانت رياسة بني فزارة في الجاهلية، وكانوا - أيضاً - يرأسون جميع غطفان وتدين لهم قيس، وإخوانهم ثعلبة بن عدي، ومنهم حذيفة بن بدر صاحب الفَرَس المعروفة بالغبراء التي هاجت - بسببها وسبب الفَرَس داحس - الحرب الشهيرة المعروفة باسميهما، ومن بني بدر بنو أُم قرفة التي ضُرِبَ بها المثل في العزَّة. (المعارف 83، قلائد الجمان 114) .
2 استبلَّ: أي برأ. (الصحاح 164) .
3 من رواية الواقدي (مغازي 2/564) ، وابن سعد (طبقات 2/90) ، وهذا لفظه عن شيوخه.
قلت: ولكن ابن سعد (طبقات 2/89) ذكر سرية لزيد بن حارثة - رضي الله تعالى عنه - إلى وادي القرى، في رجب سنة ست، قبل الحديث عن هذه السرية، ولم يذكر أحداثها، وإنَّما ذكرها باختصار، ولم يُشِر إليها بعد ذلك، وكأنَّه يرى أنَّهما سريتان مختلفتان لزيد. والله تعالى أعلم.
هذا وقد جمع ابن سيد الناس بين روايتي ابن إسحاق، وابن سعد وقال: "كذا ثبت عن ابن سعد، لزيد سريتان بوادي القُرى، إحداهما في رجب، والثانية في رمضان"1.
وقال الزرقاني معلّقاً: "وقد التبس سبب السرية الذي هو السير للتجارة بالسرية نفسها على مَن زعم أنَّ قول اليعمري2، لشيخه الدمياطي3، كذا ثبت عند ابن سعد لزيد سريتان بوادي القرى، إحداهما في رجب، والأخرى في رمضان، مشكل لاقتضائه أنه أُرسل غازياً في المرَّتين لبني فزارة مع أنَّه إنَّما كان في الأولى تاجراً اجتاز بهم، كما دلَّ عليه كلام ابن سعد، ففيه اطلاق السرية على الطائفة الخارجة للتجارة، ولا يختص ذلك بالخارجة للقتال أو تحسس الأخبار، وهو وهم فكلام ابن سعد كما علمت إنما هو في سبب غزوة زيد لهم في رمضان، مع أنَّ الثلاثة مع كونهم حُفَّاظاً متقنين لم ينفردوا بأنَّهما سريتان لزيد، بل سبقهم إلى ذلك الواقدي، وابن عائذ، وابن إسحاق، وإن خالفهم في سببها، ولم يذكر تاريخاً"4.
__________
1 ابن سيّد النَّاس، عيون 2/145.
2 هو: محمَّد بن محمَّد بن سيد الناس اليعمري، صاحب كتاب عيون الأثر في السيرة النبوية، توفي عام 734 هـ.
3 هو: عبد المؤمن بن خلف الدمياطي، له كتاب في السيرة النبوية، وتوفي عام705هـ.
4 الزرقاني: شرح المواهب 2/164.
وقال في مكانٍ آخر محاولاً الجمع بين القولين: "ويجمع بتعدُّد السبب بأن يكون لما صحَّ1 ذهب للتجارة فنهبوه، فرجع وأخبره صلى الله عليه وسلم"2.
قلت: ذلك يقتضي أنَّ زيد بن حارثة - رضي الله عنه - خرج ثلاث مرَّات خلال شهرين، وهو أمر متعذّر لصعوبة المواصلات في ذلك الوقت، ومشقة السفر خاصّةً وأنه قد ذكر أنَّ زيد قد جرح جراحاً بليغة في المرَّة الأولى حتى اعتقد بنو فزارة بأنَّه قد مات، وشفاؤه من تلك الجراح يتطلب وقتاً ليس بالقصير، كما أنه من المستبعد أن يخرج للتجارة مارّاً بديار أولئك القوم الذين بدت عداوتهم للمسلمين وخاصّةً أنَّ زيداً - رضي الله عنه - قد غزاهم في المرّة الأولى، فخروجه لمجرَّد التجارة يُعَدُّ مجازفة عظيمة، ما كان للنبي صلى الله عليه وسلم أن يوافقه عليها أبداً.
لذلك أرى أنه لا يمكن الجمع بين القولين، بل لابدَّ من ترجيح أحدهما على الآخر، وهو في نظري قول ابن إسحاق، فهو بالإضافة إلى كونه أقوى إسناداً مدعوماً بالواقع، فالمسلمون في تلك الفترةلم يفرضوا سلطانهم على تلك المنطقة بَعْدُ، حتَّى تصبح طريقاً سالكةً لتجارتهم إلى الشام، بل كانوا في موقف المواجهة مع القبائل القاطنة في تلك المنطقة خاصّةً وأنَّها حليفة قوية ليهود
__________
1 يعني: زيد بن حارثة رضي الله عنه.
2 شرح المواهب 2/164.
خيبر الذين كان المسلمون يعُدُّون العُدَّة السريعة لمواجهتهم بعد الحديبية، وتوقيع الهُدنة مع قريش، نظراً لنشاطات زعمائهم المعادية للمسلمين ودورهم الكبير في تأليب الأحزاب في الخندق والذي شاركت فيه بعض تلك القبائل1 القاطنة في تلك المنطقة بفعالية كبيرة.
__________
1 ذكرت الروايات التاريخية أنَّ من القبائل التي شاركت بقوة في غزوة الأحزاب:
قبائل غطفان، وهي فزارة، وبنو مرة، وأشجع، وغيرها.
انظر: ابن الجوزي: الوفا بأخبار المصطفى 692.
وهذه القبائل جميعها تسكن تلك المنطقة وتشارك بحلف قديم مع اليهود في خيبر وما حولها.
,
قلت: اختلف في هذه السرية، وقائدها على قولين:
ذكر أهل المغازي المتقدمين، كابن إسحاق، والواقدي، وابن سعد، وابن عائذ هذه السرية، وأنَّ قائدها زيد بن حارثة - رضي الله عنه، وأنَّ سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - كان معهم في السرية، وأنه أصاب جارية جميلة من بني فزارة، ذكر أهل المغازي أنَّها بنت أُمّ قرفة، وأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم استوهبها من سلمة، فوهبها له، فأهداها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لخاله حزن بن أبي وهب1.
- وأخرج أهل الحديث "مسلم، وأحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وابن أبي شيبة" عن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه، قال:
[3] "غزونا فزارة وعلينا أبو بكر، أمَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا ... فذكر الحديث"2.
__________
1 انظر: ابن هشام: سيرة 4/617، الواقدي: مغازي 2/564-565، ابن سعد: طبقات 2/90-91، وابن سيد الناس: عيون 2/142.
وقال ابن سيّد الناس: "ذكر محمَّد بن إسحاق، ومحمَّد بن سعد: أنَّ أمير هذه السرية زيد بن حارثة، وقد رُوّينا في صحيح مسلم أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أبا بكر إلى بني فزارة". (عيون الأثر 2/142) .
2 أخرجه مسلم (الصحيح4/25-26) ،وأحمد (المسند، حديث رقم: ئ 16517) ، وأبو داود (انظر: عون المعبود، حديث رقم:2680) ،والنسائي (السنن الكبرى: 5/271) ، وابن ماجه (السنن، حديث رقم: 2846) ، جمعيهم من حديث عكرمة ابن عمار، عن إياس بن سلمة، عن أبيه بن الأكوع. إلاّ أن البعض اختصر الحديث. والله تعالى أعلم.
وذكر فيه قصة أسره لامرأةٍ من بني فزارة، ومعها ابنة لها من أحسن العرب، وأنَّ أبا بكر نفله إيَّاها، وأنه قدم بها المدينة، وأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله إيَّاها فوهبها له، فبعَثَ بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة ففدى بها ناساً من المسلمين كانوا أسرى بمكة1.وحاول المتأخرون من أهل المغازي الجمع، أو ترجيح إحدى الروايتين على الأُخرى، فقد نقل الحلبي، والزرقاني عن الشامي الجمع بين الروايتين حيث قال: "يُحتمل أنَّهما سريتان، اتَّفق لسلمة بن الأكوع فيهما ذلك، أي إحداهما لأبي بكر، والأخرى لزيد بن حارثة، ويؤيد ذلك أنَّ في سرية أبي بكر أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعَثَ ببنت أُمّ قرفة إلى مكة ففدى بها أسرى كانوا في أيدي المشركين، وفي سرية زيد وهبها لخاله حزن بمكة. قال: ولم أرَ من تعرَّض لتحرير ذلك"2.
__________
1 مِمَّا يجدر ذكره أنَّ أهل المغازي لم يذكروا سريَّة أبا بكر رضي الله عنه لبني فزارة، ما عدا ابن سعد (الطبقات 2/118) الذي عَنْوَن لها ب (سرية أبي بكر الصِّدِّيق - رضي الله عنه - إلى بني كلاب بنجد"، ثُمَّ يسوق بسنده عن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - حديثه عن سرية أبي بكر - رضي الله عنه - إلى بني فزارة.
2 انظر: الحلبي: سيرة 3/181، الزرقاني: شرح 2/164.
وتعقَّبه الحلبي، والزرقاني، بأنَّ في هذا الجمع نظراً؛ لأنه يقتضي أنَّ أُمَ قرفة تعدَّدت، وأنَّ كُلَّ واحدة كانت لها بنت جميلة، وأنَّ سلمة بن الأكوع أسرهما، وأنَّه صلى الله عليه وسلم أخذهما منه. وفي ذلك بعد، إلاَّ أن يُقال: لا تعدُّد لأُمّ قرفة وتسمية المرأة في سرية أبي بكر أُمّ قرفة وَهَمٌ مِن بعض الرواة، ويدل عليه أنَّ بعضهم أوردها ولم يسم المرأة أُمّ قرفة، بل قال: فيهم امرأة من بني فزارة معها ابنة لها من أحسن العرب1.
وفيه توهيم رواية الصحيح بلا حُجَّة، فإنَّ تسميتها فيه من زيادة الثقة، فما في الصحيح أصحَّ كما قال السهيلي2.
قلت: رجَّح السُهيلي ما ورد في روايات أهل الحديث حول الجارية التي استوهبها رسول الله صلى الله عليه وسلم من سلمة ففدى بها أسيرين من المسلمين كانوا بمكّة على روايات أهل المغازي، ومنهم ابن إسحاق، الذين ذكروا أنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهبها لخاله حزن بمكّة3، ووافقه الزرقاني على ذلك مُعَمّماً هذا الحكم على باقي الرواة وبخاصّةً كون القائد أبا بكر الصّدّيق - رضي الله عنه، وليس زيد ابن حارثة - رضي الله عنه، كما ذكرت روايات أهل المغازي4.
__________
1 الحلبي: سيرة 3/182.
2 الزرقاني: شرح 2/164.
3 السهيلي: الروض 7/528.
4 الزرقاني: شرح 2/164.
وقد جمع ابن حجر بين ما ذكره أهل المغازي حول قيادة زيد ابن حارثة - رضي الله عنه - للسرية، وما ذكره مسلم من رواية سلمة - رضي الله عنه، وكأنه - أي ابن حجر - معتبرٌ إيَّاها قصّةً واحدة1.
ولو أمعنا النَّظر في الروايتين: رواية أهل المغازي، ورواية أهل الحديث، لأمكن استنباط قرائن قوية تدل على اتّحاد القصة، وأنَّ أحداثها تدور حول سرية واحدة، فمن ذلك مثلاً:
- أنَّ كلتا الروايتين تشير إلى أنَّ السرية كانت موجهة لبني فزارة.
- أشارت روايات أهل الحديث أنَّ قائد السرية صبَّح القوم ثُمَّ أمر بشن الغارة عليهم دون سابق إنذار2، ووقع مثل ذلك في روايات أهل المغازي3.
__________
1 قال ابن حجر (فتح 7/498-499، باب غزوة زيد بن حارثة) بعد أن ذكر حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: وغزوت مع زيد بن حارثة سبع غزوات يؤمره علينا - وقد تتبعت ما ذكره أهل المغازي من سرايا زيد بن حارثة فبلغت سبعاً. كما قاله سلمة، وإن كان بعضهم ذكر ما لم يذكره آخرون ... ثُمَّ ساق أسماء تلك السرايا إلى أن قال: والسابعة إلى ناس من بني فزارة ... ثُمَّ قال: ولعلَّ هذهالأخيرة مراد المُصَنِّف، وقد ذكر مسلم طرفا منها من حديث سلمة بن الأكوع.
2 وقد جعل البيهقي هذا الحديث تحت باب جواز ترك دعاء مَن بلغته الدعوة. (السنن 9/107) .
3 وقع ذلك في رواية الواقدي، وابن سعد، والسبب أنهما ذكرا تفاصيل لم تذكرها الروايات الأخرى.
مِمَّا يدل على أنَّ هدف السريتين كان هو المباغتة لتأديب أولئك الأعراب، والمباغتة لا تكون إلاَّ لقومٍ قد بلغتهم الدعوة فأصرُّوا واستكبروا، وبدت منهم العداوة للمسلمين، وتبليغ الدعوة يكون إمَّا بكتاب يبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو بعثة دعوية، أو سرية سابقة كما حدث بالنسبة إلى بني فزارة، حيث أُرسل إليهم زيد ابن حارثة - رضي الله عنه - في سرية، فقاتلوه وأصابوا أصحابه، فكانت المباغتة في السرية الثانية لأجل تأديبهم لما كان منهم في السرية الأولى، والله تعالى أعلم.
- ذِكْر المرأة الفزارية وابنتها الجميلة اللتان أصابهما سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه، ولو سمَّتهما المصادر الحديثية كما فعلت المصادر التاريخية، لَحُسِمَ النّزاع مبكراً. وإن كان بعض أهل المغازي المتأخرين قد ذكر ورود التسمية في بعض روايات الصحيح1. ولكن رواية مسلم التي بين أيدينا لم تُسَمّ المرأة، وكذلك روايات أهل الحديث الأُخرى. كُلُّ هذه القرائن تقوي الاعتقاد أنَّها سرية واحدة أُرْسِلَت إلى بني فزارة، ولكن هذه المرّة بقيادة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه، كماذكرت روايات أهل الحديث، ويمكن توهيم روايات أهل المغازي التي ذكرت أنَّ القائد كان زيد ابن حارثة - رضي الله عنه، فتوهيم روايات
__________
1 انظر ما ذكره الحلبي (سيرة 3/182) ، والزرقاني (شرح 2/164) .
أهل المغازي أخف وطأة وأقل تبعية من توهيم روايات أهل الحديث بما فيها رواية الصحيح، لأنَّ روايات أهل المغازي على تخصصها فإنَّها جميعاً قد وردت من طرقٍ لا تخلو من مقال، وليس فيها رواية واحدة يمكن أن ترتقي إلى رواية الصحيح أو غيرها من الروايات الحديثية.
وربما وقع الوهم عند أهل المغازي بسبب ما ورد عندهم من خروج زيد ابن حارثة - رضي الله عنه - في السريتين، وبما أنه كان قائداً للسرية الأولى، ثُمَّ نذره بعد ذلك بسبب ما وقع له ولأصحابه من بني فزارة بغزوهم مرّةً ثانية، فجعلوه قائداً للسرية الثانية، ربما يكون قد خرج معهم ولم يكن قائداً، بل أُنيطت القيادة هذه المرَّة بالصّدّيق أبي بكر - رضي الله عنه، لكون زيد - رضي الله عنه - قد أُصِيبَ في المرّة الأولى، فأراد النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إراحته وإسناد القيادة لأبي بكر - رضي الله عنه، وسمح لزيد بالخروج وفاءً لنذره، فشارك بفعالية بأحداث السرية، فوهم أهل المغازي، وذكروا أنه قائد للسرية، ولكن ما في الصحيح أصح، والله تعالى أعلم.
,
تفرَّد الواقدي، وابن سعد من المتقدّمين من أهل المغازي بتحديد تاريخ هذه السرية، حيث أرَّخ لها الواقدي برمضان سنة ست من الهجرة1.
وكذلك فعل ابن سعد2، ولكنَّه أرَّخ للسرية الأولى برجب سنة ست3.
وقد مرَّ بنا قول ابن سيّد النَّاس: كذا ثبت عن ابن سعد، لزيد سريتان بوادي القُرى، إحداهما في رجب، والثانية في رمضان4.
وقد تابعهما في ذلك البلاذري في الأنساب5.
ولم يؤرّخ لها ابن إسحاق، وإنَّما ذكرها في سياق السرايا والبعوث حيث عدَّد سرايا زيد بن حارثة - رضي الله عنه، وذكر هذه السرية بعد سريته إلى الطرف من ناحية نخل من طريق العراق6.
__________
1الواقدي: مغازي 2/564.
2 ابن سعد: طبقات 2/90.
3 المصدر السابق 2/89.
4 ابن سيد الناس: عيون 2/145.
5 البلاذري: أنساب الأشراف 1/378.
6 ابن هشام: سيرة 4/617.
ونقل بعض المتأخرين من أهل المغازي أمثال: ابن سيّد الناس، والقسطلاني، والمقريزي، والشامي، تاريخ السرية عن ابن سعد، وشيخه الواقدي1.
ولم يذكر البيهقي2، وتبعه في ذلك ابن كثير3 سرية زيد بن حارثة - رضي الله عنه - إلى بني فزارة، وإنَّما ذكرا سرية أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - إليهم، حيث قال البيهقي: جماع أبواب السرايا التي تذكر بعد فتح خيبر، وقبل عمرة القضية، وإن كان تاريخ بعضها ليس بواضح عند أهل المغازي، ثُمَّ بدأ الحديث عن سرية أبي بكر - رضي الله عنه 4.
وكذلك فعل ابن القيم، حيث قال: "وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة بعد مقدمه من خيبر إلى شوال، وبعث في خلال ذلك السرايا، فمنها سرية أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - إلى نجد قبل بني فزارة"5.
هذا بالنسبة لأهل السير والمغازي، أمَّا ما يفهم من روايات أهل الحديث فيفهم من قول سلمة - رضي الله عنه - عندما سأله النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
__________
1 ابن سيد الناس: عيون 2/144، القسطلاني: المواهب اللدنية 1/481، المقريزي: إمتاع الأسماع 1/269، الشامي: سبل الهدى 6/148 – 157.
2 البيهقي: دلائل 4/290.
3 ابن كثير: البداية والنهاية 4/221.
4 البيهقي: دلائل 4/290.
5 ابن القيم: زاد المعاد 3/359.
الجارية – "يا رسول الله لقد أعجبتني - وما كشفت لها ثوباً" وسكوت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتركه الإنكار عليه، دليلٌ على أنَّهم يستبيحون إذ ذاك وطء الوثنيات، وذلك قبل نزول تحريمه بعد الحديبية1، ففي ذلك دليل على أنَّ السرية كانت قبل الحديبية.
وكذلك إرسال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم الجارية إلى أهل مكة ليفتدي بها أسيرين من المسلمين كانوا عندهم، دليلٌ آخر على أنَّ السرية كانت قبل الحديبية، لأنَّ اتفاقية الحديبية كانت اتفاقية سلام ومعاهدة صلح بين المسلمين ومشركي مكة سوَّت الوضع القائم بينهما، وأعتقد أنه كان لا يمكن استثناء الأسرى من الاتفاقية لو وُجِدُوا، فذلك دليلٌ على أنَّ الأسرى قد سُوّيَ وضعهم قبل الحديبية حيث لم يرد في بنود المعاهدة2 أيّ ذكرٍ عنهم، والله تعالى أعلم.
__________
1 انظر: الخطابي: معالم السنن 3/146 وهذه المسألة خلافية بين الفقهاء.
2 انظر: مرويات الحديبية 166.
,
في شهر رجب من السنة السادسة من الهجرة النبوية المباركة،
كما يذكر ابن سعد1، وصلت إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم معلومات هامَّة عن تحركات مُعَادية تقوم بها امرأة من بني فزارة، ذات شأن فيهم، ومنْزلة ورئاسة يُقال لها أُمّ قرفة2، يذكر الزهري عن عروة أنَّها:
[4] "قد جهَّزت ثلاثين راكباً من ولدها وولد ولدها، قالت: اقدموا المدينة فاقتلوا محمَّداً! فقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اللهم اثكلها بولدها. وبعث إليهم زيد بن حارثة" 3 - رضي الله عنه - على رأس سرية، لم تذكر الروايات قوتها، ولكنها كانت على ما يبدو قليلة العدد.
[5] "فالتقوا بالوادي4،وقُتِلَ أصحاب زيد"5 - رضي الله عنهم - منهم:
__________
1 الطبقات 2/89.
2 بكسر القاف، وسكون الراء وبالفاء، فاطمة بنت ربيعة بن بدر الفزارية، التي جرى فيها المثل: "أمنع من أُمّ قِرْفة" لأنه كان يُعَلَّق في بيتها خمسون سيفاً لخمسين فارساً كلهم لها ذو محرم، كُنّيت بابنها قِرْفة، قتله النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فيما ذكر الواقدي، وذكر أنَّ سائر بنيها وهم تسعة قُتِلُوا مع طليحة يوم بزاخة.
الروض الأنف 7/528، شرح المواهب 2/163، مجمع الأمثال 2/392.
3 سبق تخريجه برقم [1] .
4 يعني وادي القرى.
5 من رواية عروة عند أبي نعيم. وقد سبق تخريجها برقم [1] .
[6] "ورد بن مرداس1، وارتُثَّ2 زيد بن حارثة من بين وسط القتلى"3.
[7] "فلمَّا قدم زيد بن حارثة، نذر ألاَّ يمس رأسه غُسل من جنابة حتى يغزو فزارة، فلمَّا استبلَّ من جراحه بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيشٍ إلى بني فزارة"4 فيهم سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه، ويقودهم أبو بكر الصّدّيق - رضي الله عنه -، فكمنوا النهار وساروا الليل، ومعهم دليل لهم كما يذكر الواقدي5.
قال سلمة - رضي الله عنه:
[8] "فلمَّا دنونا من الماء6أمرنا أبو بكر، فعرَّسنا7، قال: فلمَّا صلَّينا الصُّبْح، أمرنا أبو بكر فشننا الغارة8، فقتلنا على الماء
__________
1 ورد بن مرداس: أحد بني سعد بن هذيم، كتب له النبي صلى الله عليه وسلم في عسيب فعدا على العسيب فكسره، ثُمَّ إنَّه أسلم بعد ذلك، وغزا مع زيد بن حارثة -رضي الله عنه- وادي القرى فاستشهد. طبقات ابن سعد1/284، الإصابة2/81.
2 ارتُثَّ: بالبناء للمجهول، أي حمل من المعركة رثيثاً أي جريحاً وبه رمق.
3 ذكره ابن سيد الناس (عيون 2/142) من حديث ابن عائذ بسنده عن عروة، وهو مرسل.
4 سبق تخريجه برقم [1] .
5 مغازي: 2/564.
6 الحاضر الذي كانت تقيم عليه بنو بدر من فزارة، ربما كان في وادي القرى.
7 التعريس: النزول آخر الليل للراحة.
8 شن الغارة: أي فرَّقها عليهم من كُلِّ جانب.
مَن قتلنا"1.
[9] "فكان شعارنا: أمت. أمت. قال: فقتلت بيدي سبعة أهل أبيات من المشركين"2.
[10] "وأنظر إلى عنق من الناس فيهم الذراري فخشيت أن يسبقوني إلى الجبل، فرميت بسهم بينهم وبين الجبل، فلمَّا رأوا السهم وقفوا فجئت بهم أسوقهم، وفيهم امرأة من بني فزارة عليها قشع من أدم3 معها ابنة لها من أحسن العرب، فسقتهم حتَّى أتيت بهم أبا بكر"4.
ويجزم أهل المغازي أنَّ تلك المرأة هي أُم قرفة5، وأنَّها قُتِلَت، وقُتِلَ بعض ولدها6، وذكرت بعض الروايات أنَّها قُتِلَت قتلاً
__________
1 من رواية سلمة عند أحمد. وقد سبق تخريجها برقم [3] .
2 أخرجه أبو داود. (انظر: عون المعبود، حديث رقم: 2621) ، وابن سعد، (الطبقات 2/118) ، واللفظ له، والنسائي (السنن الكبرى 5/271) ، وابن ماجه (السنن، حديث رقم: 284) ، وأحمد (المسند، حديث رقم: 16516) ، كلّهم من حديث عكرمة بن عمار، نحوه.
3 القشع: بقاف ثُمَّ شين معجمة ساكنة: النطع، وهو الفَرْو الخَلِق.
4 من رواية سلمة عند مسلم، وقد سبق تخريجها برقم [3] .
5 انظر: ابن هشام: سيرة 4/617،الواقدي: مغازي2/565،ابن سعد: طبقات 2/91، أبو نعيم: دلائل 2/535، الحلبي: سيرة 3/180، الزرقاني: شرح2/164.
6 انظر: رواية الزهري عن عروة عند أبي نعيم: دلائل 2/535، والسهيلي: الروض 7/528.
عنيفاً1.
[11] "وأنه بُعِثَ برأسها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر به فديرَ به في المدينة ليُعلم قتلها"2.
وهذه الروايات إسنادها ضعيف، وتعارضها الأحاديث الصحيحة التي تأمر بإحسان القتل، وتنهى عن المُثْلَة، كما أنه لم يثبت أنه حُمِلَ رأس أحد من الرجال أو من النساء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه:
[12] "فنفلني أبو بكر ابنتها، فقدمنا المدينة وما كشفت لها ثوباً3، فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم في السوق فقال: يا سلمة هب لي المرأة. فقلت: يا رسول الله! والله لقد أعجبتني، وما كشفت لها ثوباً. ثُمَّ لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد في السوق فقال لي: يا سلمة هب لي المرأة، لله أبوك4، فقلت: هي لك يا رسول الله، فو الله ما
__________
1 المصادر السابقة، وذكر السهيلي، وابن سيد الناس نقلاً عن الدولابي أنَّها قتلت كذلك لسَبِّها رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
2 ذكر ذلك المقريزي (إمتاع 1/270) ، وهي زيادة منكرة تفرَّد بها، ولا أدري مِن أين جاء بها.
3 كناية عن الجماع.
4 كلمة مدح وثناء، مثل قولهم: لله درك، فإنَّ الإضافة إلى العظيم تشريف، فإذا وُجِدَ من الولد ما يحمد فعله قيل له: لله أبوك، أي أبوك لله خالصاً حيث أتى بمثلك.
وقد تكون الكلمة في حكم القسم أيضاً.
كشفت لها ثوباً، فبعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة ففدى بها ناساً من المسلمين كانوا أسرى بمكة"1.
ويذكر عروة أنَّ زيد بن حارثة رضي الله عنه لمَّا قدم المدينة مع أهل السرية أقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم [13] "قالت عائشة - رضي الله عنها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة في بيتي، فقرع الباب، فخرج إليه يجر ثوبه حتى اعتنقه، وقبَّله رسول الله صلى الله عليه وسلم" 2.
__________
1 من رواية سلمة عند مسلم، وقد سبق تخريجها برقم [3] .
2 من رواية عروة عند أبي نعيم، وقد سبق تخريجها برقم [1] .
المطلب السادس: الأحكام المستنبطة، والدروس والعبر المستفادة:
اشتملت هذه السرية على بعض الأحكام الفقهية، وبعض الدروس والعظات المفيدة التي يمكن استنباطها والإفادة منها.
أولاً: الأحكام الفقهية المستنبطة:
- حكم التنفيل من أصل الغنيمة:
قال النووي: قوله: "فنفلني أبو بكر رضي الله عنه ابنتها" فيه جواز التنفيل، وقد يحتج به مَن يقول التنفيل من أصل الغنيمة، وقد يجيب عنه الآخرون بأنه حسب قيمتها، ليعوض أهل الخُمس عن حصَّتهم1.
وقد فصَّل ابن قدامة الحديث في النَّفل وأقسامه، وجعل هذا من القسم الثاني من أقسام النَّفل حيث قال: "القسم الثاني: أن ينفل الإمام بعض الجيش لغنائه وبأسه وبلائه، أو لمكروه تحمّله دون سائرالجيش، قال أحمد: في الرَّجُل يأمره الأميرُ يكونُ طليعةً، أو عندَه، يدفَعُ إليه رأساً من السَّبْي أو دابةً، قال: إذا كان رجلٌ له غَناءٌ، ويقاتل في سبيل الله، فلا بأس بذلك، ذلك أنفعُ لهم، يُحَرَّضُ هو وغيرُه، يُقاتلون ويَغْنَمون. وقال: إذا نفَّذ الإمامُ صَبِيحةَ المَغَارِ الخيْلَ، فيُصِيبُ بعضُهم، وبعْضُهم لا يأتي بشيءٍ، فللوالي أنْ يَخُصَّ بعضَ هؤلاء الذين جاءوا بشيءٍ دونَ هؤلاء. وظاهرُ هذا أنَّ له إعطاءَ مَن هذه حالُه من غيْرِ شرطٍ. وحُجَّةُ هذا حديث
__________
1 النووي على مسلم: 12/68.
سلمة بن الأكوَع، أنَّه قال: أغارَ عبدُ الرحمن بنُ عُيَيْنَة على إبلِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتَبِعْتهُم - فذكرَ الحديثَ - فأعطاني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سهمَ الفارِسِ والرَّاجلِ. رواه مسلم، وأبو داود. وعنه أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أمَّرَ أبا بكرٍ، قال: فبيَّتنا عَدُوَّنا، فقَتَلْتُ لَيْلَتئِذٍ تسعةَ أهل أبياتٍ، وأخذتُ منهم امرأةً، فنفَّلَنيها أبو بكرٍ، فلمَّا قَدِمْتُ المدينةَ، استوهبها منّي رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فوهبتها له. رواه مسلم بمعناه1.
- حكم التفريق بين الوالدة وولدها البالغ:
قال الخطابي: "فيه دليلُ على جواز التفريق بين الأُمّ وولدها الكبير"2.
وقال النووي: "ولا خلاف في جوازه عندنا"3.
وقال ابن قدامة: "أجمَعَ أهلُ العلمِ على أنَّ التفريق بين الأُمّ وولدِها الطّفل غيرُ جائزٍ، هذا قول مالك في أهل المدينة، والأوزاعي في أهل الشام، والليث في أهل مصر، والشافعي، وأبي ثور، وأصحاب الرأي فيه. والأصل فيه ما رَوَى أبو أيوب قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ فرَّق بَيْنَ والِدَةٍ ووَلَدِها، فرَّق الله بَيْنَه وبَيْنَ أحِبَّته يومَ القيامةِ". أخرجه
__________
1 المغني: 13/56.
2 معالم السنن، حاشية سنن أبي داود: 3/146.
3 صحيح مسلم بشرح النووي: 12/69.
الترمذي، وقال: حديثٌ حسنٌ غريبٌ1. وقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لا تُوَلَّهُ والِدَةٌ عن وَلَدِها"2. قال أحمد: "لا يُفَرَّقُ بيْن الأُمّ وولدِهَا وإنْ رَضِيَت. وذلك - والله أعلم - لِمَا فيه من الإضرار بالولَدِ، ولأنَّ المرأة قد تَرْضَى بما فيه ضَرَرُها، ثُمَّ يَتَغَيَّرُ قلبُها بعد ذلك فتندم"3.
- وقال النووي: "وفيه جواز استيهاب الإمام أهل جيشه بعض ما غنموه ليفادي به مسلماً أو يصرفه في مصالح المسلمين، أو يتألَّف به مَن في تألُّفه مصلحة، كما فعل صلى الله عليه وسلم هُنا، وفي غنائم حنين"4.
- وقال أيضاً: "وفيه جواز قول الإنسان للآخر: للهِ أبوك، ولله درُّك"5.
__________
1 أخرجه الترمذي، (انظر: تحفة الأحوذي 4/184) ، والحاكم (المستدرك 2/55) ، والبيهقي في السنن الكبرى (9/126) ، وأحمد (المسند 5/402) ، كلّهم من طريق حُيّ بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الجبلي، وفيه حُيّ بن عبد الله قال فيه أحمد: أحاديثه مناكير. وقال البخاري: فيه نظر. ولكن تابعه عبد الله بن خباءة عند الدارمي (2/227) . فلعلّ الترمذي حسّنه من أجل المتابعة.
2 أخرجه البيهقي في باب الأم تتزوج فيسقط حقها من حضانة الولد ... من كتاب النفقات. السنن الكبرى 8/5.
ومعنى (لا تولّه) أي: لا يفرّق بينهما في البيع. وكلّ أنثى فارقت ولدها فهي واله. (النهاية في غريب الحديث 15/227) .
3 المغني: 13/108-109.
4 صحيح مسلم بشرح النووي 12/69.
5 صحيح مسلم بشرح النووي 12/69.
ثانياً: الدروس والعبر المستقاة:
- أدب النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، وعدم إرغامهم على فعل شيء أو بذل شيء دون طيبة نفس.
- طاعة الصحابة - رضي الله عنهم - لنبيهم - عليه الصلاة والسلام، وإيثاره على أنفسهم، وتجردهم من مغانم الدنيا ولذَّاتها في سبيل ذلك.
- حرص النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم البالغ على المسلمين جميعاً، ورأفته بهم، ومحاولة التخفيف من معاناتهم، وفك أسرهم بأسرع وقت ممكن وبالسبل الممكنة والكفيلة.