وأصل قصّة الرّجيع هذه، أن وفدا من قبائل عضل والقارة، قدم على رسول الله يذكر أنّ أنباء الإسلام وصلت إليهم، وأنهم يحتاجون إلى رجال يعلمونهم الدين، ويقرئونهم القران، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم معهم رهطا من الدعاة يرأسهم عاصم بن ثابت، فانطلق الجميع حتى إذا كانوا بين عسفان ومكة قريبا من مياه هذيل شعر الدعاة بأنّ أصحابهم غدروا بهم، واستصرخوا هذيلا عليهم.
وفزع الدعاة إلى أسلحتهم يقاتلون الغادرين ومن أعانهم من قبيلة هذيل، وماذا يجدي قتال نفر يعدّون على الأصابع لنحو مئة من الرماة وراءهم قومهم يشدّون أزرهم؟ لذلك لم يلبث عاصم وصحبه أن قتلوا.
واستسلم للأسر منهم ثلاثة نفر: خبيب، وزيد بن الدثنة، وعبد الله بن طارق، فاسترقهم الهذليون وخرجوا بهم إلى مكة ليبيعوهم بها، ومعنى بيعهم بمكة تسليمهم للقتلة المتربصين؛ فإن أولئك النفر من الرجال الذي قاتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر وأحد، ولأهل مكة لديهم ترات، يودّون الاشتفاء منها، وقد حاول عبد الله الإفلات من هذا المصير فقتل، وأما (خبيب) و (زيد) فأخذهما رجال قريش ليقتلوهما، أخذا بثأرهم القديم.
فأما زيد فابتاعه صفوان بن أمية؛ ليقتله بأبيه، ولما خرجوا به من الحرم، اجتمع حوله رهط من قريش- فيهم أبو سفيان بن حرب- فقال له أبو سفيان حين قدّم ليقتل-: أنشدك بالله يا زيد أتحب أنّ محمدا الان عندنا مكانك تضرب عنقه، وأنّك في أهلك؟ فقال: والله ما أحبّ أنّ محمدا الان في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه، وإني جالس في أهلي.
فقال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدا يحبّ أحدا كحبّ أصحاب محمّد محمدا. ثم قتل زيد.
وأما خبيب فقد اشتراه عقبة بن الحارث، ليقتله بأبيه، فلما خرجوا بخبيب من الحرم ليصلبوه قال لهم: إن رأيتم أن تدعوني حتى أركع ركعتين فافعلوا، قالوا: دونك فاركع. فركع ركعتين أتمهما وأحسنهما، ثم أقبل على القوم فقال:
أما والله لولا أن تظنّوا أنّي إنما طوّلت جزعا من القتل لاستكثرت من الصّلاة، فكان خبيب أول من سنّ هاتين الركعتين عند القتل ثم رفعوه على خشبة.
فلما أوثقوه قال: اللهم إنا قد بلّغنا رسالة رسولك، فبلّغه الغداة ما يصنع بنا. ثم قال: اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا «1» ، واستقبل الموت وهو ينشد:
ولست أبالي حين أقتل مسلما ... على أيّ جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزّع
حزن المسلمون لفقدانهم عاصما وصحبه، ولمصرع أسيريهم على هذا النحو الفاجع، فقد خسروا فريقا من الدعاة الأكفاء الشجعان يحتاج إليهم الإسلام في هذه الفترة من تاريخه، ثم إنّ اصطياد الرجال بهذه الطريقة زاد المسلمين توجّسا وقلقا؛ إذ إن ذلك المسلك دل على مبلغ طماعية العرب في أهل الإيمان، واستهتارهم بأرواحهم، وجرأتهم على النيل منهم دون تخوّف أو محاذرة قصاص!.
[شهداء القرّاء في بئر معونة] :
ومع أن هذه الواقعة توجب على المسلمين أن يتبصّروا قبل بعث أيّ وفد لنشر الإسلام بين القبائل البعيدة والمجاهل المريبة، إلا أن ضرورة بثّ الدعوة مهما فدحت الخسائر- جعلت النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى هذه التضحيات على أنّها أمر لا بدّ منه؛ كالتاجر الذي يتحمّل المغارم الثقيلة حينا من الدهر، لأنّ الانسحاب من السوق- بغية تجنّبها- قضاء عليه، فهو يبقى متجمّلا حتى تهبّ الريح من جديد رخاء تعوّض ما فقد، وذلك سرّ استجابة الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي براء عامر بن مالك الملقّب بملاعب الأسنّة حين عرض عليه أن يرسل وفدا من الدعاة ينشرون الإسلام بين قبائل نجد.
وقد أبدى النبيّ صلى الله عليه وسلم خشيته من أن يصاب رجاله بسوء وسط قبائل ضارية لا يؤمن ذمامها، فقال أبو براء: أنا لهم جار «2» !!.
__________
(1) رواه ابن هشام: 2/ 167- 169؛ عن ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة مرسلا. وهذا سند صحيح لولا الإرسال، لكن رواه البخاري في صحيحه: 7/ 303- 308؛ وأحمد: 2/ 194، 310، موصولا من حديث أبي هريرة نحوه وفيه الأبيات الاتية.
(2) رواه ابن هشام: 2/ 174، عن ابن إسحاق بسند صحيح مرسلا؛ وكذلك رواه الطبراني-
وخرج الدعاة من المدينة، حتى بلغوا (بئر معونة) وكانوا سبعين من خيار المسلمين، يعرفون بالقرّاء، يحتطبون بالنهار، ويصلّون بالليل، ويحيون على هذا النّسق الرتيب من جهاد للحياة ورغبة في الاخرة.
فلما أمرهم الرسول بالمسير لإبلاغ رسالات الله خرجوا، وما كانوا يعرفون أنهم- جميعا- يحثّون الخطا إلى مصارعهم في أرض انتشر الغادرون في فجاجها.
وحينما انتهى القرّاء إلى (بئر معونة) بعثوا أحدهم- حرام بن ملحان- إلى (عامر بن الطفيل) رأس الكفر في هذه البقاع، فأعطاه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم الذي يدعوه فيه إلى الإسلام، فلم ينظر عامر في الكتاب، وأمر رجلا من أتباعه أن يغدر بحامل الرسالة، فما شعر حرام إلا وطعنة نجلاء تخترق ظهره، وتنفذ من صدره، وكأنّ هذه الشهادة المفاجئة لاقت رجلا يتمنّاها من قديم، فقد صاح حرام على إثر ذلك: فزت وربّ الكعبة!.
ومضى عامر في غشمه، فاستصرخ أعوانه، ليواصلوا العدوان على سائر القوم، فانضمت إليه قبائل رعل وذكوان والقارة؛ فهجم بهم عامر على القرّاء الوادعين.
ورأى هؤلاء الموت مقبلا عليهم من كلّ صوب، فهرعوا إلى سيوفهم، يدفعون عن أنفسهم دون جدوى؛ إذ استطاع الأعراب الهمج أن يغشوهم في رحالهم، وأن يستأصلوهم عن اخرهم.
وكان في سرح القرّاء اثنان لم يشهدا هذه المأساة، منهم (عمرو بن أمية الضمري) ولم يعرفا النبأ المحزن إلا من أفواج الطير المتوحّشة تنطلق نحو المعسكر، محوّمة حول الجثث الملقاة على الرمل الأعفر، طاعمة مما تستطيع اختطافه بأظافرها ومناقرها. قالا: والله إنّ لهذه الطير لشأنا، فأقبلا لينظرا، فإذا القوم مضرّجون في دمائهم، وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة! قال زميل عمرو له:
ماذا ترى؟ قال عمرو: أرى أن نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم نقصّ عليه الخبر، لكنّ زميله كره هذا الرأي، وكان له بين من استشهدوا صديق حميم يدعى المنذر؛ لذلك
__________
- عن ابن إسحاق كما في (المجمع) : 6/ 128- 129؛ ورواه الطبراني أيضا من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه نحوه، قال الهيثمي: «ورجاله رجال الصحيح» .
أجاب عمرو بن أمية قائلا: ما كنت لأرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر! وما كنت لأبقى حتى أقصّ خبره على الرجال! وهجم على الأعراب يقاتلهم حتى قتل، وأخذ عمرو أسيرا فأعتقه عامر بن الطفيل كبير الغادرين عن رقبة زعم أنها على أمه!.