,
...
المبحث الأوّل: التّعريف بأُبنى:
أُبْنَى مضمومة الأولى، ساكنة الثاني، بعده نون، على وزن فُعْلى، موضع بناحية البلقاء من الشام1. قال القاري والحلبي: اسم موضع من فلسطين بين عسقلان والرملة2. وقيل: لأبي مسهر3: أُبنى. قال: نحن أعلم، هي: يُبنا فلسطين4.
قال ابن قدامة: "والصحيح أنّها أُبنى، كما جاءت في الرواية، وهي قرية من أرض الكرك، في أطراف الشام، في الناحية التي قُتِلَ فيها أبوه5، فأمّا يُبْنا فهي من أرض فلسطين، ولم يكن أسامة ليصل إليها، ولا يأمره النّبي صلى الله عليه وسلم بالإغارة عليها، لبعدها، والخطر بالمصير إليها لتوسطها في البلاد، وبُعدها من طرف الشام، فما كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم ليأمره بالتغرير بالمسلمين، فكيف يُحْمَل الخبر عليها، مع مخالفة لفظ الرواية، وفساد المعنى"6.
قال ياقوت: "وفي كتاب نصر أُبنى قرية بمؤتة"7.
__________
1 البكري: معجم ما استعجم 1/101.
2 الحلبي: سيرة 3/227، شمس الحقّ، وعون المعبود 9/276.
3 عبد الأعلى بن مُسْهِر الغساني، أبو مسهر الدمشقي. (ثقة فاضل) من كبار العاشرة، مات سنة ثماني عشرة وله ثمان وسبعون سنة. (تقريب 332) .
4 أبو داود: السنن 3/88.
5 زيد بن حارثة رضي الله عنه.
6 ابن قدامة: المغني 13/147-148.
7 معجم: 1/79.
قلت: ما رجّحه ابن قدامة تؤيّده روايات أهل المغازي، فقد ذكر عروة، والزهري، وابن عقبة في روايتهم:
[1] "أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أَمَر أُسامة بن زيد - رضي الله تعالى عنهما، أن يُغير على مؤتة، وعلى جانب فلسطين ... ". الحديث1.
وعنون الواقدي للسرية بقوله: "غزوة أُسامة بن زيد مؤتة2، ثُمَّ ذكر في سياق حديثه عن السرية رواية ساقها بسنده عن الزهري، عن عروة، عن أُسامة بن زيد - رضي الله عنهما:
[2] "أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمره أن يُغير على أُبنى ... ". الحديث3.
وقال ابن سعد: "وهي أرض السراة ناحية البلقا"4. وأخرج في موضعٍ آخر بسنده عن عروة قال:
__________
1 أخرجه البيهقي (دلائل 7/200-201) ، من حديث محمّد بن فليح، عن موسى بن عقبة، عن ابن شهاب الزهري، ومن طريق إسماعيل بن إبراهيم، عن عمّه موسى بن عقبة، ومن حديث أبي الأسود، عن عروة.
كما أخرجه ابن عساكر (تاريخ دمشق 2/689) ، من حديث محمّد بن عائذ بسنده عن عروة.
قلت: الحديث من مراسيل عروة، والزهري، وموسى بن عقبة، وهم من أئمة المغازي المشهورين الثقات.
2 المغازي 3/1117.
3 أخرجه الواقدي (مغازي 3/1117) ، من طريق عبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن ابن أزهر بن عوف عن الزهري عن عروة عن أسامة بن زيد.
4 الطبقات 2/190.
[3] "وأمره أن يُغيّر على أُبنى من ساحل البحر"1.
أمّا ابن إسحاق فذكر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أُسامة أن يوطئ الخيل تُخُومَ البلقاء والداروم من أرض فلسطين2.
[4] "وذكر مثل ذلك مالك بن أنس رحمه الله تعالى"3.
قال ياقوت: "الداروم قلعة بعد غزة للقاصد إلى مصر، الواقف فيها يرى البحر ويُقال لها الدارون"4.
وأخرج ابن سعد، عن هشام بن عروة حديث السّرية في ترجمة أُسامة فقال فيه: "فبعثه أبو بكر إلى آبل ... ". الحديث5.
وأخرج مثله الطبري من حديث سيف، عن هشام، عن أبيه، وقال فيه:
[5] "وقال له: اصنع ما أمرك به نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، ابدأ ببلاد قضاعة، ثُمّ ايت آبل ... "6.
__________
1 أخرجه ابن سعد (طبقات 4/67) ، من حديث حماد بن أسامة، عن هشام، عن أبيه.
قلت: وسنده رجاله رجال الصحيح، غير أنّه مرسل.
2 ابن هشام: سيرة 4/606، 642.
3 عزاه القيرواني (الجامع 297) إلى الإمام مالك رحمه الله.
4 معجم 2/505.
5 سبق تخريجها برقم: [3] .
6 أخرجه الطبري (تاريخ 3/226-227) بسنده عن هشام بن عروة، عن أبيه. وعن سيف، عن موسى بن عقبة، عن المغيرة بن الأخنس. وعنه أيضاً عن عمرو بن قيس، عن عطاء الخراساني.
قلت: سنده مداره على سيف بن عمر التميمي، وهو ضعيف في الحديث، لكنه عمدة في التاريخ. والخبر هنا تاريخي. والله تعالى أعلم.
وقد ذكر مثل ذلك ابن عساكر، عن الواقدي، فقال:
[6] "ذكر أبو عبد الله محمّد بن عمر بن واقد الواقدي في كتاب الصوائف الذي صنّفه، أنّ غزوة الجندل، أوّل غزوات الشام، والثّانية مؤتة، والغزوة الثّالثة تبوك، والغزوة الرّابعة غزوة أُسامة ابن زيد يُبنى من أرض فلسطين في سنة عشرة، والغزوة الخامسة غزوة أُسامة بن زيد آبل الزيت في سنة إحدى عشرة، وهي التي أمّره عليها صلى الله عليه وسلم وهو مريض، فغزاها بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، ولم أجد أحداً من العلماء فرّق بين غزوة يُبنى وبين غزوة آبل الزيت غير الواقدي، وقد ذكر في كتاب المغازي الذي صنّفه حديث الأمر بالإغارة على يُبنى في جملة قصّة إنفاذ أبي بكر لجيش أُسامة وإغارته على آبل الزيت، وعندي أنّهما غزوة واحدة، أغار فيها على الموضعين جميعاً. والله أعلم "1.
قال ياقوت: "آبل - بفتح الهمزة وبعد الألف باء مكسورة ولام - أربعة مواضع، وفي الحديث: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جهَّز جيشاً بعد حجّة الوداع وقبل وفاته، وأمّر عليهم أُسامة بن زيد، وأمَرَه أن يوطئ خيله آبل الزيت، بلفظ زيت الأدهان بالأردن من مشارف الشام"2.
__________
1 ابن عساكر: تاريخ المجلدة الأولى، ص 385-386.
2 معجم البلدان 1/50.
قلت: هل كانت أُبنى، والداروم، ومؤتة، وآبل الزيت سرية واحدة أغار فيها أُسامة بن زيد عنهما على هذه المواضع جميعاً، كما ألمح لذلك ابن عساكر؟ أم أنّها كانت سرايا متعدّدة لشخصٍ واحدٍ وهو أُسامة رضي الله عنه، أم أنّها كانت سريةً واحدةً لمكانٍ واحدٍ له أسماء متعدّدة؟ أم أنّ هذه المواضع المذكورة كانت هي مناطق القبائل العربية التي شاركت في مؤتة ضدّ المسلمين؟ ! وباعتبار أنّها كانت متقاربة، بَعَثَ إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثاً واحداً لضربها وتأديب أهلها، وهو ما أُرَجحه. والله تعالى أعلم.
المبحث الثّاني: تاريخ السّريّة:
أكثر الروايات تحدَّثت عن تجهيز البعث في عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم، ثُمّ أفاضت في الحديث حول مرض النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ثُمّ وفاته، وتوقَّفت دون أن تشير إلى بقية أخبار البَعْث. ففي رواية عروة، والزهري، وموسى بن عقبة قالوا:
[7] "قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، - يعني من حجّة الوادع - فعاش بالمدينة حين قدمها بعد صدرة المحرَّم، واشتكى في صفر، فوعك أشد الوعك ... ". ثُمّ ذكروا حديثاً طويلاً حول مرضه صلى الله عليه وسلم إلى أن قالوا: "وكان أُسامة بن زيد قد تجهَّز للغزو، وخرج في ثقله إلى الجرف، فأقام تلك الأيام بشكوى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمَّره على جيش ... " إلى أن قالوا: "فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك الجذع، واجتمع إليه المسلمون يسلمون عليه، ويدعون له بالعافية، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أُسامة بن زيد، فقال: اغدُ على بركة الله والنصر والعافية، ثُمَّ أغِر حيث أمرتُك أن تُغير. قال أُسامة: يا رسول الله! قد أصبحت مُفيقاً، وأرجو أن يكون الله عز وجل قد عافاك، فائذن لي، فأمكُثَ حتّى يشفيك الله، فإنّي إن خرجت وأنت على هذه الحال، خرجت وفي نفسي منك قرحة، وأكره أن أسأل عنك الناس. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقام، فدخل بيت عائشة ... "، إلى قالوا: "ووعك رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رجع أشد الوعك، واجتمع إليه نساؤه، وأخذ بالموت ...
فلم يزل كذلك حتّى زاغت الشمس من يوم الإثنين ... "، ثُمّ قالوا: "واشتدّ برسول الله صلى الله عليه وسلم الوجع، فأرسلت فاطمة إلى علي ابن أبي طالب، وأرسلت حفصة إلى عمر بن الخطّاب، وأرسلت كلّ امرأة إلى حميمها1، فلم يرجعوا حتّى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدر عائشة في يومها، يوم الإثنين حين زاغت الشمس لهلال شهر ربيع الأوّل صلى الله عليه وسلم "2.
وفي رواية ابن إسحاق قال:
[8] "ثُمّ قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام بالمدينة بقية ذي الحجّة، والمحرَّم، وصفر، وضرب على الناس بَعْثاً إلى الشام، وأمَّر عليهم أُسامة بن زيد بن حارثة مولاه ... "3.
وقال ابن حجر: "كان تجهيز أُسامة يوم السبت قبل موت النبيّ صلى الله عليه وسلم بيومين، وكان ابتداء ذلك قبل مرض النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فندب الناس لغزو الروم في آخر صفر ... ثُمَّ قال:
[9] "فبدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه في اليوم الثّالث، فعقد لأُسامة لواءً بيده ... إلى أن قال: ثُمَّ اشتدَّ برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه، فقال: أنفذوا جيش أُسامة، فجهَّزه أبو بكر بعد أن استخلف ... " 4.
__________
1 الحميم: القريب.
2 سبق تخريجها برقم: [1] .
3 ذكره ابن هشام (سيرة 4/) من حديث ابن إسحاق الذي رواه معضلاً بلا سند.
4 فتح الباري 8/152.
ولم يُفَصل الحديث في السرية منذ لحظة تجهيزها إلى انطلاقها نحو الشام غير الواقدي، وكاتبه ابن سعد، ومَن تبعهما من أصحاب المغازي المتأخرين، قال ابن سعد:
[10] "لمّا كان يوم الإثنين، لأربع ليالٍ بقين من صفر سنة إحدى عشرة مِن مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أَمَر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالتهيّؤ لغزو الروم، فلمّا كان من الغد دعا أُسامة بن زيد، فقال: سِر إلى موضع مقتل أبيك ... " إلى أن قال: "فلمّا كان يوم الأربعاء، بُدِئَ برسول الله صلى الله عليه وسلم فَحُمَّ، وصدّع، فلمّا أصبح يوم الخميس عقد لأُسامة لواءً بيده ... "، إلى أن ذكر خطبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالناس حينما بلغه طعنهم في إمارته ... "، ثُمَّ قال: "وذلك يوم السبت لعشرٍ خلون من ربيع الأوّل، وجاء المسلمون الذين يخرجون مع أُسامة يُوَدعون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويمضون إلى المعسكر بالجرف، وثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يقول: أنفذوا بَعْثَ أسامة، فلمّا كان يوم الأحد اشتدّ برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه، فدخل أُسامة من معسكره والنّبيّ مغمور1، وهو اليوم الذي لدُّوه2 فيه، فطأطأ أُسامة، وقَبَّلَه ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتكلّم". ثُمَّ قال: "ثُمَّ دخل يوم الاثنين، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم مُفيقاً صلوات الله عليه وبركاته، فقال له: اغد على بركة الله، فودّعه أُسامة وخرج إلى معسكره،
__________
1 مغمور: أي: كان خاملاً، خائر القوى من شِدَّة المرض صلى الله عليه وسلم.
2 اللّدود: ما يُصَبُّ بالمسعط من الدواء في أحد شقي الفم. (القاموس: اللد) .
فأمرَ الناس بالرحيل، فَبَيْنَا هو يريد الركوب إذا رسول أُمّه أُمّ أيمن قد جاءه يقول: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يموت! فأقبل وأقبل معه عمر، وأبو عبيدة، فانتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يموت ... ". إلى إن قال: "فلمّا كان هلال شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشرة، خرج أُسامة فسار إلى أهل أُبنى"1.
وذكر مثل ذلك الواقدي2،وتابعهما ابن سيد الناس3،والحلبي4، والزرقاني5.
أمّا خليفة بن خياط، فذكر بسنده عن الزهري قال:
[11] "فسار أُسامة في آخر شهر ربيع الأوّل حتّى بلغ أرض الشام"6.
قلت: لا فرق بين القولين، فربما كان سيره آخر يوم في شهر ربيع الأوّل، وأّوّل يوم في شهر ربيع الآخر. والله تعالى أعلم.
وكانت هذه السرية آخر سرية جهّزها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأوّل سرية جهّزها أبو بكر الصّدّيق رضي الله عنه بعد أن استخلف7.
__________
1 أخرجه ابن سعد (طبقات 2/190-191) ، عن شيوخه.
2 المغازي 3/1111-1125.
3 عيون الأثر 2/355-356.
4 السيرة الحلبية 3/227-228.
5 شرح المواهب 3/108-109.
6 أخرجه خليفة (تاريخ 101) ، من حديث المدائني بسنده عن الزهري.
قلت: سنده فيه عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي. وهو (متروك) .
7 ابن حجر: فتح الباري 8/125، والزرقاني: إرشاد الساري 6/475.
المبحث الثّالث: سبب السّرية والمهمّة التي أُنيطت بها:
أشارت الروايات التي نقلت خبر السرية إلى أنّها كانت لتأديب القبائل وأهل القرى في تلك المنطقة الذين شاركوا في غزوة مؤتة ضدّ المسلمين، ففي رواية عروة، والزهري، وموسى بن عقبة:
[12] "أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغير على مؤتة، وعلى جانب فلسطين، حيث أُصيب زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة"1. وفي رواية ابن سعد قال: "سِر إلى موضع مقتل أبيك، فأوطئهم الخيل"2.
وفصَّل الواقدي القول في ذلك، فقال:
[13] "لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر مقتل زيد بن حارثة، وجعفر، وأصحابه، وَوجد عليهم وجداً شديداً، فلمّا كان يوم الإثنين لأربع ليالٍ بقين من صَفَر سنة إحدى عشرة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالتّهيّؤ لغزو الروم، وأمرهم بالانكماش3 في غزوهم، فتفرّق المسلمون من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم مُجِدّون في الجهاد، فلمّا أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد، يوم الثلاثاء لثلاثٍ بقين من
__________
1 سبق تخريجها برقم: [1] .
2 سبق تخريجها برقم: [10] .
3 الانكماش: الإسراع.
صفر، دعا أُسامة بن زيد، فقال: يا أُسامة! سِر على اسم الله وبركته حتّى تنتهي إلى مقتل أبيك، فأوطئهم الخيل ... " 1.
قال العامري، والبنا: "ولذلك أمَّره على حداثة سنة، ليدرك ثأره"2.
قلت: ربّما يكون ذلك أحد أسباب بعث هذه السرية، ولكن لا يمكن بأي حال من الأحوال حصرها بهذا السبب وحده، فنظر النّبيّ صلى الله عليه وسلم أبعد من مجرّد الانتقام وإدراك التأثر، لأنّ استراتيجيته صلى الله عليه وسلم كقائد للأمّة الإسلامية، وبشيراً ونذيراً للناس كافّة، كانت بعيدة المدى جداً، وقضايا التّأُثر والانتقام من القضايا التي عفا عليها الزمن في الإسلام، وأصبحت من أدران الجاهلية التي قضى عليها الإسلام، وتركها المسلمون وراءهم، وإنّما كانت تلك السرية تدخل ضمن نطاق التمهيد الذي بدأه رسول الله صلى الله عليه وسلم للفتوح في الشام، فكان لا يمكن القفز من على تلك المناطق التي لم تخضع لسلطان المسلمين بعد، والتوغل في مناطق الشام الداخلية قبل تمهيد الطريق إليها. والله تعالى أعلم.
__________
1 المغازي 3/1117.
2 العامري: بهجة المحافل 1/99، البنا: الفتح الرباني 21/221.
المبحث الرّابع: مراسم تولية القائد، ووصيّة النّبيّ صلى الله عليه وسلم له:
أخرج ابن سعد بسنده عن هشام بن عروة قال:
[14] "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر الرجل أعلمه وندب الناس إليه"1.
وقال ابن سعد:
[15] "أَمَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالتّهيّؤ لغزو الروم، فلمّا كان من الغد دعا أُسامة بن زيد فقال: سِر إلى موضع مقتل أبيك، فأوطئهم الخيل، فقد ولّيتك هذا الجيش، فَأَغِر صباحاً على أهل بُنى، وحرّق عليهم، وأسِرع السّير تسبق الأخبار، فإن ظفرك الله فأقلل اللبث فيهم، وخُذ معك الأدلاّء، وقدم العيون والطلائع أمامك"2.
وقال الواقدي:
[16] "فلمّا أصبح يوم الخميس لليلةٍ بقيت من صفر، عقد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده لواءً ثُمَّ قال: يا أُسامة! اغزُ باسم الله، في سبيل الله، فقاتلوا مَن كفر، اغزوا ولا تغدروا، ولا تقتلوا وليداً ولا امرأة، ولا تمنّوا لقاء العدوّ، فإنّكم لا تدرون لعلّكم تبتلون بهم، ولكن
__________
1 أخرجه ابن سعد (طبقات 4/67) ، من حديث أبي أُسامة، عن هشام بن عروة، وهو منقطع.
2 سبق تخريجها برقم: [10] .
قولوا: اللهمّ اكفناهم، واكفف بأسهم عنّا، فإن لقوكم قد أجلبوا وصيَّحوا، فعليكم بالسكينة والصّمت، ولا تنازعوا ولا تفشلوا فتذهب ريحكم، وقولوا: اللهمّ نحن عبادك وهم عبادك، نواصينا ونواصيهم بيدك، وإنّما تغلبهم أنت، واعلموا أنّ الجنّة تحت البارقة"1.
__________
1 المغازي 3/1117-1118.
المبحث الخامس: الطّعن في قائد الجيش، والاختلاف في المشاركين في الجيش من الصحابة - رضي الله تعالى عنهم، وعددهم:
وخرج أُسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما:
[17] "بلوائه معقوداً، فدفعه إلى بريدة بن الحصيب الأسلمي، وعسكر بالجرف، فلم يبق أحد من وجوه المهاجرين الأوّلين، والأنصار، إلاّ انتدب في تلك الغزوة، فيهم أبو بكر الصّدّيق، وعمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجرّاح، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وقتادة بن النعمان، وسلمة بن أسلم بن حريش، فتكلّم قوم، وقالوا: يستعمل هذا الغلام على المهاجرين الأوّلين - فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً - فخرج وقد عصب على رأسه عصابة وعليه قطيفة، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثُمّ قال: "1.
[18] "قد بلغني أنّكم قلتم في أسامة"2. و [19] "إن تطعنوا في إمارته، فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل، وايم الله إن كان لخليقاً للإمارة، وإن كان لمن أحبّ الناس إليّ، وإنّ هذا لمن أحبّ الناس إليّ بعده"3.
__________
1 من رواية ابن سعد، عن شيوخه، وقد سبق تخريجها برقم [10] .
2 أخرجه البخاري (الصّحيح5/145) من حديث موسى بن عقبة، عن سالم، عن أبيه.
3 أخرجه البخاري (الصّحيح5/145) من حديث مالك، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر.
قال التوربشتي: "إنّما طعن من طعن في إمارتهما لأنّهما كانا من الموالي، وكانت العرب لا ترى تأمير الموالي وتستنكف عن اتباعهم كل الاستنكاف، فلمّا جاء الله عز وجل بالإسلام، ورفع قدْر مَن لم يكن عندهم قدر بالمسابقة، والهِجرة، والعلم، والتُّقى، عرف حقَّهم المحفوظون من أهل الدين، فأمّا المرتهنون بالعادة، والممتحنون بحب الرياسة من الأعراب ورؤساء القبائل، فلم يزل يختلج في صدورهم شيء من ذلك، لا سيّما أهل النفاق، فإنّهم كانوا يسارعون إلى الطعن وشدّة النكير عليه"1.
قلت: ربمّا كان ذلك قصد المنافقين في الطّعن على أُسامة بن زيد، وأبيه زيد من قبل - رضي الله عنهما، أمّا مَن طَعَنَ في تأميرهما من الصحابة - رضي الله عنهم، فلم يكن كذلك، لأنّ الإسلام قد أذهب عنهم عبية الجاهلية الأولى التي مكث النّبيّ صلى الله عليه وسلم دهراً وهو يربيهم على نفض أدرانها، والانسلاخ عن أوظارها، وإلقاء نفاياتها البغيضة بعيداً عنهم، وعن مجتمعهم الذي تأسَّس بالإسلام، وبُنِي بتعاليمه، فارتفعوا بها عالياً وعن تلك الشوائب السفلى، فما كان لهم بعد ذلك كله، وبخاصّة بعد نضوج ثمر الغرس الذي غرسه فيهم المصطفى صلى الله عليه وسلم قبل ثلاثةٍ وعشرين عاماً مضت، أن يتعلّقوا بشيءٍ من تلك الشوائب والأدران المنتنة من دعاوى الجاهلية، وفخرها بالأنساب.
__________
1 نقله عنه كلّ من: البنا (الفتح الرباني 21/222) ، والزرقاني: (إرشاد الساري 6/127، وشرح المواهب 3/109) .
وإنّما طَعَن مَن طَعَن منهم في تأمير أُسامة لِصِغَر سِنِّه، فقد أخرج ابن سعد، وابن أبي خيثمة، والبغوي:
[20] "أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم استعمله وهو ابن ثماني عشرة سنة"1.
وكذلك لوجود بعض كبار الصحابة وأهل الفضل منهم تحت إمرته، فكأنّهم رأوا أنّه كيف يتأمَّر عليهم وهم أفضل سابقة، وأكبر سنّاً، وأقرب موقعاً من النّبيّ صلى الله عليه وسلم، كأبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه , وأبي عبيدة بن الجرّاح رضي الله عنه.
__________
1 أخرجه ابن سعد (طبقات 4/66) ، من حديث حنش بن الحارث بن لقيط.
قلت: منقطع.
وأخرجه ابن أبي خيثمة في تاريخه (السفر الثاني: ق 4 أ، ب) والبغوي في معجم الصحابة من طريق ابن أبي خيثمة. ونقله ابن عساكر (تاريخ 2/682) ، وذلك عن المصعب بن عبد الله الزبيري نحوه.
قلت: ولم أجد هذه الرواية في كتاب الزبيري المتداول نسب قريش، فلعلّه في كتابه الآخر المفقود. (النسب الكبير) .
قال الحلبي (سيرة 3/227) : "وقيل: تسعة عشرة سنة، وقيل: سبعة عشرة سنة". ويؤيّد ذلك أن الخليفة المهدي لمّا دخل البصرة، رأى إياس بن معاوية الذي يضرب به المثل في الذكاء وهو صبيّ، وخلفه أربعمائة من العلماء أصحاب الطيالسة. فقال المهدي: أفٍ لهذه العثانين، أمّا كان فيهم شيخ يتقدّم غير هذا الحدث؟ ثُمّ التفت إليه المهدي، وقال: كَم سنّك يا فتى؟ فقال: سنّي أطال الله بقاء أمير المؤمنين، سن أُسامة ابن زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما لمّا ولاّه رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشاً فيه أبو بكر، وعمر بن الخطّاب رضي الله عنه. فقال: تقدّم بارك الله فيك. وكان سنه سبع عشر سنة".
وهنا قد يسأل سائل: إذاً لماذا أمَّره النّبيّ صلى الله عليه وسلم على مثل هؤلاء السابقين؟
والجواب عنه ما ذكره السهيلي، والعامري سابقاً حول إدراك ثأره، ومن ذلك بيان فضله ومنقبته العظيمة بمحبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم له، استمراراً لحبه أباه من قبل والأهمّ من ذلك كلّه، هو قول التوربشتي نفسه: "وكان صلى الله عليه وسلم بَعَثَ زيداً أميراً على عِدَّة سرايا وأعظمها على جيش مؤتة، وسار تحت رايته فيها نجباء الصحابة، وكان خليقاً بذلك لسوابقه وفضله وقربه من النّبيّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ أَمَّر أُسامة في مرضه على جيشٍ فيه جماعة من مشيخة الصحابة وفضلائهم، وكأنّه رأى فيه ذلك، سوى ما توسَّم فيه من النجابة أن يُمَهد الأرض، وتوطئة لمن يلي الأمر بعده لئلاّ ينْزع أحد يداً من طاعة، وليعلم كلٌّ منهم أنّ العادّة الجاهلية قد عميت مسالكها، وخفيت معالمها"1.
هذه وقد اختلف أهل العلم في كون أبي بكر الصّدِّيق رضي الله عنه قد انتدب في جيش أُسامة رضي الله عنه أم لا؟
قال الشامي: "ذكر محمّد بن عمر، وابن سعد، أنّ أبا بكر رضي الله عنه كان مِمَّ أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج مع أُسامة إلى أُبنى، وجرى عليه في المورد، وجزم به في العيون، والإشارة، والفتح في مناقب زيد بن حارثة، وأنكر ذلك الحافظ أبو العباس بن تيمية"2.
__________
1 البنا (الفتح الرباني 21/222) ، الزرقاني (إرشاد 6/127، شرح المواهب 3/109) .
2 الشامي: سبل الهدى 6/382.
وقال ابن تيمية: "ولم ينقل أحد من أهل العلم أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أرسل أبا بكر، أو عثمان في جيش أُسامة، وإنّما روى ذلك في عمر، وكيف يُرسل أبو بكر في جيش أُسامة، وقد استخلفه يُصلِّي بالمسلمين مُدَّة مرضه، فكيف يُتَصَوَّر أن يأمره بالخروج في الغزاة وهو يأمره بالصلاة بالناس؟!. وأيضاً فإنّه جهَّز جيش أُسامة قبل أن يمرض، فإنّه أمَّره على جيش عامّتهم المهاجرون، منهم عمر بن الخطّاب في آخر عهده صلى الله عليه وسلم، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بأيام، فلمّا جلس أبو بكر للخلافة أنفذه مع ذلك الجيش، غير أنّه استأذنه في أن يأذن لعمر بن الخطاب في الإقامة، لأنّه ذو رأيٍ ناصحٍ للإسلام، فَأَذَن له، وإنّما أنفذ جيشَ أُسامة أبو بكر الصّدِّيق بعد موت النّبيّ صلى الله عليه وسلم "1.
قال الشامي: "وفيما ذكر نظر من وجهين: أوّلهما قوله: "لم ينقل أحد من أهل العلم ... " الخ. فقد ذكره محمّد بن عمر، وابن سعد، وهما من أئمة المغازي. ثانيهما: قوله: "وكيف يُرْسَلُ أبو بكر في جيش أُسامة؟ ... " الخ. ليس بلازم، فإنّ إرادة النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعث جيش أُسامة كان قبل ابتداء مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمّا اشتدّ به المرض استثنى أبا بكر وأمره بالصلاة بالناس"2. وذكر مثل الزرقاني في شرحه على المواهب3.
__________
1 شيخ الإسلام ابن تيميم: منهاج السنة 1/411-412.
2 سبل الهدى والرشاد 6/382.
3 شرح المواهب اللدنية 3/108.
وقال الحلبي: "فلا منافاة بين القول بأنّ أبا بكر رضي الله عنه كان من جملة الجيش وبين القول بأنّه تخلَّف عنه، لأنّه كان من جملة الجيش أوّلاً، وتخلَّف لما أمره صلى الله عليه وسلم بالصلاة بالناس، وبهذا يُردّ قول الرافضة طعناً في أبي بكر رضي الله عنه أنّه تخلّف عن جيش أُسامة رضي الله عنه، لما علمت أنّ تَخَلُّفه عنه كان بأمر منه صلى الله عليه وسلم لأجل صلاته بالناس، وقول هذا الرافضي مع أنّه صلى الله عليه وسلم لعن المتخلِّفَ عن جيش أسامة مردودٌ، لأنّه لم يرد اللعن في حديث أصلاً"1.
قلت: لكن شيخ الإسلام - رحمه الله - ردّ بقوّةٍ على هذا البهتان الذي ذكره الرافضي، حول تخلُّف أبي بكر رضي الله عنه عن جيش أُسامة، وفنَّد ذلك الاتهام الباطل، وقد أحسن جدّاً - رحمه الله تعالى - في ذلك، فالصّدِّيق رضي الله عنه فوق أن يُظَنَّ به أن يتخلّف عن جيشٍ أعدَّه النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن بأي حالٍ من الأحوال أن يلعنه النّبيّ صلى الله عليه وسلم أو أن يذكر كلاماً أو حديثاً فيه إشارة إلى ذلك، لأنّ الصّدِّيق رضي الله عنه مِمَّن أنعم الله عليه فجعله من الصّدِّيقين والشهداء والصالحين، وهو صاحب المواقف المشهورة في الثبات على الحقّ، والذّود عن حياض الإسلام، حتّى قال عنه المصطفى صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متّخذاً خليلاً لاتّخذت أبا بكر خليلاً".
ولكنهم الرافضة الذين امتلأت قلوبهم حقداً وبُغْضاً على من عدّلهم الله عز وجل واختارهم لصحبة نبيّه صلى الله عليه وسلم.
__________
1 الحلبي: سيرة 3/228.
ويُلاحظ في ردّ شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - إنكارٌ للقِصَّة من أساسها، بينما الذي لم يصحّ هو حديث اللّعن الذي ذكره الرافضيّ، أمّا انتداب أبي بكر رضي الله عنه في جيش أُسامة بن زيد - رضي الله تعالى عنهما، فقد ذكره غير واحد من أهل العلم.
فقد أخرج ابن سعد بسنده عن نافع، عن ابن عمر:
[21] "أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعث سرية فيهم أبوبكر، وعمر، فاستعمل عليهم أُسامة ابن زيد، وكان الناس طعنوا فيه - أي في صغره ... ".الحديث1.
وأخرج ابن أبي شيبة بسنده عن هشام بن عروة عن أبيه:
[22] "أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قطع بعثاً قبل مؤتة، وأمَّر عليهم أُسامة بن زيد، وفي ذلك البعث: أبو بكر، وعمر ... ". الحديث2.
وأخرج ابن سعد، وابن خياط من حديث حمّاد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه نحوه، إلاّ أنّه قال فيه:
[23] "في الجيش الذي استعمله عليهم أبو بكر، وعمر، وأبو عبيدة بن
__________
1 أخرجه ابن سعد (طبقات 4/67) ، من حديث العمري، عن نافع، عن ابن عمر.
قلت: سنده ضعيف. العمري هو: عبد الله بن عمر بن حفص. قال عنه ابن حجر (تقريب 314) : "ضعيفٌ عابدٌ".
2 أخرجه ابن أبي شيبة (المصنف 12/139) . من حديث عبد الرحمن بن سليمان، عن هشام بن عروة، عن أبيه.
قلت: سنده رجاله رجال الصحيح، غير أنّه مرسل.
الجرّاح"1.
ولعلّ شيخ الإسلام نظر في رواية عروة، والزهري، وموسى بن عقبة عند البيهقي، وذلك واضح، للتشابه الكبير بينها وبين ما ذكره بصدد الردّ على ابن المطهر، وهذه الرواية لم يرد فيها ذكر أبي بكر رضي الله عنه، وكذلك رواية ابن إسحاق، وما رواه الطبري بسنده عن الحسن البصري، أما الواقدي فإنّه لم يرد ذكر أبي بكر في روايته في كتاب المغازي المتداول، فلعلّ الشامي، والزرقاني، اطّلعا على نسخةٍ أخرى. والله تعالى أعلم.
هذا وقد اختلفت الروايات في تحديد عدد الجيش، ففي رواية عروة، والزهري، وابن عقبة ذكروا:
[24] "أنّهم جيش عامّتهم المهاجرون"2.
وقال ابن إسحاق في روايته:
[25] "وأوعب3 مع أُسامة المهاجرون الأوّلون"4.
وقال ابن سعد:
[26] "فخرج معه سروات الناس وخيارهم"5.
__________
1 أخرجه ابن سعد (طبقات 4/68) ، وابن خياط (تاريخ 100) ، من حديث حماد بن سلمة عن هشام بن عروة، عن أبيه، وسنده صحيح لكنه مرسل.
2 سبق تخريجها برقم: [1] .
3 أوعب: جمع، ومعناه هنا: ذهب الجمع الكثير منهم معه.
4 سبق تخريجها برقم: [8] .
5 سروات الناس: أشراف الناس وفضلاؤهم.
وقال في مكانٍ آخر:
[27] "فلم يبق أحدٌ من وجوه المهاجرين الأوّلين، والأنصار، إلاّ انتدب في تلك الغزوة"1.
وأخرج الطبري بسنده عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال:
[28] "وخرج أهل المدينة في جند أُسامة"2.
ولم يرد تفصيل لعدد الجيش إلاّ في روايتين: الأولى عزاها ابن كثير للبيهقي بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
[29] "إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وجّه أُسامة بن زيد في سبعمائة إلى الشام "3.
__________
1 سبق تخريجها برقم: [10] .
2 أخرجه الطبري (تاريخ 3/225) ، من حديث سيف وشعيب بسنديهما عن ابن عباس.
قلت: سنداه أحدهما فيه شعيب لا يُعرف، وسيف ضعيف، وفيه عطية، أبو أيوب لم أعثر على ترجمتهما.
والآخر فيه سيف ضعيف في الحديث، عُمدة في التاريخ. والضَّحَّاك بن مزاحم كثير الإرسال، ولم يثبت التقائه بابن عباس. والله تعالى أعلم.
3 عزاه ابن كثير (بداية 6/309) ، للبيهقي من حديث عبّاد بن كثير، عن أبي الأعرج، عن أبي هريرة. وقال ابن كثير: عبّاد هذا أظنّه البرمكي، لرواية الفريابي عنه. وهو متقارب الحديث فأمّا البصري الثقفي فمتروك الحديث. والله أعلم.
قلت: تصحّف اسم عبّاد بن كثير من (الرملي) إلى (البرمكي) ، وهو ضعيف أيضاً يُحَدِّث بمناكير. (التقريب ص 290) ، وأبو الأعرج المذكور في السند لعلّه الأعرج، وهو: عبد الرحمن بن هرمز، من تلاميذ أبي هريرة رضي الله عنه كما في التهذيب (6/480) . والله تعالى أعلم.
والثانية: هي رواية الواقدي التي ذكر فيها:
[30] "أنّهم كانوا ثلاثة آلاف رجل، وفيهم ألف فرس"1. وتابعه في ذلك الشامي، والحلبي2.
وذكر ابن حجر، والزرقاني، عن الواقدي:
[31] "أنّهم كانوا ثلاثة آلاف، فيهم سبعمائة من قريش"3.
كما نسبا إليه إخراجه لرواية أبي هريرة رضي الله عنه السابقة4، التي ذكر فيها أنّهم كانوا سبعمائة فقط5.
وقال الزرقاني مُعَلِّقاً: "ولا تنافي، فلعلّه اقتصر على القرشيين"6.
قلت: ما وقع في بعض الروايات من محاولة الصحابة رضي الله تعالى عنهم ثََنْيَ أبي بكر الصّدِّيق رضي الله عنه مِن إنفاذ الجيش، وتركه في المدينة
__________
1 المغازي 3/1119.
2 الشامي: سبل لاهدى 6/381، الحلبي: سيرة3/230.
3 ابن حجر: فتح الباري 8/152، الزرقاني: شرح 3/111.
ولم أجد هذا القول في كتاب المغازي المتداول.
4 لم أجد ما قالاه في كتاب المغازي المتداول، فربما اطّلعا على نسخةٍ أخرى فيها هذا القول، ونسخة المغازي المتداولة فيها سقط كثير. والله تعالى أعلم.
5 فتح الباري 8/152، وشرح المواهب 3/109.
6 شرح المواهب 3/109.
لمواجهة احتمال هجوم المرتدّين عليها، يؤيّد ما ذكره الواقدي، لأنّهم لو كانوا سبعمائة فقط، كما وقع في رواية أبي هريرة رضي الله عنه لما كان في فعل الصحابة من محاولة إقناع أبي بكر الصّدِّيق رضي الله عنه لإبقاء الجيش في المدينة فائدة، لأنّه سيكون هنالك العدد الوفير من المسلمين مِمَّن بقي في المدينة للدفاع عنها، وهم أكثر بكثير من عدد الجيش المنطلق، والمسلمون في ذلك الوقت كانوا جميعاً جنوداً في سبيل الله وقت الحرب، حيث لم يكن للجيش مؤسسة عسكرية خاصّة به، فيقول قائل: إنّه ربّما يكون السبعمائة هم الجيش النظامي، لذلك رأى الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - بقاءه لمواجهة حرب المرتدّين باعتباره المهيأ عسكرياً بذلك. والله تعالى أعلم.
المبحث السّادس: سير الأحداث:
عسكر أُسامة بن زيد - رضي الله تعالى عنهما - بجيشه في الجرف1، الذي كان بمثابة قاعدة عسكرية للمسلمين وبخاصّة للجيوش المنطلقة إلى شمال المدينة.
وبلغ الاهتمام من رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعث تلك السرية، أنّه صار يُردد وهو في الرمق الأخير بأبي هو وأُمي صلوات الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم:
[32] "انفذوا جيش أُسامة، انفذوا جيش أُسامة" 2.
وذلك يدل على الأهمية القصوى، والاستراتيجية التي كان يُمَثِّلها إرسال ذلك الجيش بالنسبة للمسلمين، وهو الأمر الذي حدا بالصّدِّيق رضي الله عنه رغم المخاطر التي كانت تُحيط بالمسلمين داخلياً وخارجياً، أن يُسارع في بعث السرية، ويُصرّ على ذلك رغم معارضة كبار الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - له.
وتوفي الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فَقِيدُ الأُمّة الإسلامية، بل فَقِيد العالم بأسره، - صلوات الله عليه وعلى آله وسلم، توفي وأسامة معسكرٌ بجيشه في الجرف، وذُهِل المسلمون في المدينة.
__________
1 سبق التعريف بها.
2 من رواية ابن سعد، عن هشام، وقد سبق تخريجها برقم: [14] .
[33] "ودخل المسلمون الذين عسكروا بالجرف إلى المدينة، ودخل بريدة بن الحصيب بلواء أُسامة معقوداً حتّى أتى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم فغرزه عنده"1.
[34] "فلمّا بويع لأبي بكر رضي الله عنه، أمر بريدة أن يذهب باللواء إلى بيت أُسامة، وألاّ يُحِلَّه أبداً حتّى يغزوهم أُسامة"23.
ودخل قائد الجيش على الخليفة أبي بكر الصّدِّيق رضي الله عنه فقال:
[35] "إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني وأنا على غير حالكم هذه، وأنا أتخوَّف أن تكفر العرب، فإن كفرت كانوا أوّل من يُقاتَل، وإن لم تكفر مضيت، فإنّ معي سروات النّاس وخيارهم"4.
وكما توقّع القائد الذّكيّ، فما أن سَمِع الناس بوفاة النّبيّ صلى الله عليه وسلم حتّى:
[36] "ارتدّت العرب إمّا عامّة وإمّا خاصّة في كلّ قبيلة، ونجم النفاق، واشرأبت اليهود والنصارى، والمسلمون كالغنم الشاتية لفقد نبيّهم صلى الله عليه وسلم، وقلّتهم، وكثرة عدوّهم"5.
__________
1 من رواية ابن سعد عن شيوخه. وقد سبق تخريجها برقم: [10] .
2 يقول بريدة رضي الله عنه في رواية الواقدي: "فخرجت باللواء حتّى انتهيت به إلى بيت أُسامة، ثُمَّ خرجت به إلى الشام معقوداً مع أُسامة، ثُمَّ رجعت به إلى بيت أُسامة، فما زال في بيت أُسامة حتّى توفي أُسامة".
3 من رواية الواقدي، وقد سبق تخريجها برقم: [2] .
4 من رواية ابن سعد عن هشام، وقد سبق تخريجها برقم: [14] .
5 من رواية الطبري، بسنده عن عروة. وقد سبق تخريجها برقم: [5] .
واجتمع كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخليفة فقالوا:
[37] "يا خليفة رسول الله! إنّ العرب قد انتقضت عليك من كلّ جانب، وإنّك لا تصنع بتفريق هذا الجيش المنتشر شيئاً، اجعلهم عدّة لأهل الردّة، ترمي بهم في نحورهم! وأخرى، لا نأمن على أهل المدينة أن يُغار عليها وفيها الذراري والنساء، فلو استأنيت لغزو الروم حتّى يضرب الإسلام بجرانه1، وتعود الرّدّة إلى ما خرجوا منه أو يفنيهم السيف، ثُمَّ تبعث أُسامة حينئّذٍ فنحن نأمن الروم أن تزحف إلينا، فلمّا استوعب أبو بكر رضي الله عنه كلامهم، قال: هل منكم أحدٌ يريد أن يقول شيئاً؟ قالوا: لا. قد سمعت مقالتنا. فقال: والذي نفسي بيده، لو ظننت أنّ السباع تأكلني بالمدينة لأنفذت هذا البعث، ولا بدأت بأوّل منه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينْزل عليه الوحي من السماء يقول: أنفذوا جيش أُسامة! ولكن خصلة أُكَلِّم أُسامة في عمر يخلفه يقيم عندنا، فإنّه لا غناء بنا عنه. والله ما أدري يفعل أُسامة أم لا، والله إن رأى لا أُكْرِهُهُ! فعرف القوم أنّ أبا بكر قد عزم على إنفاذ بعث أُسامة، ومشى أبو بكر رضي الله عنه إلى أُسامة في بيته وكلّمه أن يترك عمر، ففعل أُسامة، وجعل يقول له: أذنت ونفسك طيبة؟ فقال أُسامة: نعم. وخرج وأمر
__________
1 الجران: باطن عنق البعير، أي: حتّى يقرّ قراره ويستقيم، كما أنّ البعير إذا برك واستراح، مدّ عنقه على الأرض. (النهاية 1/158) .
مناديه ينادي: عزمة مني ألاّ يتخلّف عن أُسامة من بَعْثِه من كان انتدب معه في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنّي لن أوتى بأحدٍ أبطأ عن الخروج معه إلاّ ألحقته به ماشياً"1.
[38] "واجتمع من حول المدينة من القبائل التي غابت في عام الحديبية، وخرجوا، وخرج أهل المدينة في جند أُسامة، فحبس أبو بكر مَن بقي من تلك القبائل التي كانت لهم الهجرة في ديارهم، فصاروا مسالح2 حول قبائلهم وهم قليل"3.
وتوجَّه الخليفة الصّدِّيق رضي الله عنه نحو معسكر الجيش:
[39] "حتّى أتاهم فأشخصهم4 وشيَّعهم وهو ماشٍ وأُسامة راكب، وعبد الرحمن بن عوف يقود دابّة أبي بكر، فقال له أُسامة: يا خليفة رسول الله، والله لتركبن أو لأنزلنّ! فقال: والله لا تنْزل، ووالله لا أركب! وما عليَّ أن أُغَبّر قدميَّ في سبيل الله ساعة"5.
__________
1 من رواية الواقدي. وقد سبق تخريجها برقم: [2] .
2 المسالح: جمع مسلحة، وهم القوم في عدّة بموضع رصد قد وكلّوا به بإزاء ثغر. واحدهم: مسلحي. والمجمع المسالح. والمسلحة: كالثغروالمرقب. (اللسان، والصحاح: سلح)
3 من رواية الطبري، عن الضحاك، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقد سبق تخريجها برقم: [28] .
4 أي: أمرهم بالشُّخُوص، أي: الانطلاق.
5 أخرجه الطبري (تاريخ 3/226) من حديث سيف بسنده عن الحسن بن أبي الحسن البصري رحمه الله تعالى.
قلت: سنده. منقطع.
[40] "وسار أبو بكر رضي الله عنه إلى جانب أُسامة ساعة، ثُمَّ قال: أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك، إنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصيك"1.
[41] "فما الذي عهد إليك؟ قال: عهد إليَّ أن أغير على أُبنى صباحاً ثُمَّ أُحَرق"2.
__________
1 من رواية الواقدي، وقد سبق تخريجها برقم: [1] .
2 أخرجه أبو داود، (انظر: عون المعبود، حديث رقم: 2599) ، وابن ماجه، (السنن، حديث رقم: 2843) ، وأحمد، (المسند، حديث رقم: 21779) ، وابن أبي شيبة، (المصنّف، حديث رقم: 14018) ، وابن سعد، (الطبقات 4/66) . جميعهم من حديث صالح بن أبي الأخضر. بسنده عن أُسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما.
قال ابن تيمية في (منتقى الأخبار ص 691) : في إسناده صالح بن أبي الأخضر. قال البخاري: هو ليّن. وقال الشوكاني (نيل الأوطار 7/251) : حديث أُسامنة بن زيد سكت عنه أبو داود، والمنذري. وفي إسناده من ذكر المصنَّف. وقال يحيى بن معين: هو ضعيف. وقال أحمد: يُعتبر به. وقال العجلي: يُكتب حديثه. وليس بالقوّي. وقال في التقريب (271) : ضعيف. وقال البنا (الفتح الرباني 14/66) : سكت عنه أبو داود والمنذري، فهو صالح للاحتجاج به.
قلت: سند الحديث مداره على صالح عند الجميع. وهو ضعيف كما مرَّ. ولكن رواه ابن سعد (الطبقات 4/67) من طريقٍ آخر. قال: أخبرنا أبو أُسامة حمّاد بن أسامة، قال: حدّثنا هشام بن عروة، قال: أخبرني أبي، قال: "أمَّر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أُسامة بن زيد، وأمره أن يغير على أبنى من ساحل البحر". وسنده رجاله رجال الصحيح، غير أنّه مرسل.
والله تعالى أعلم.
فقال له الخليفة:
[42] "فانفذ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنّي لست آمرك، ولا أنهاك عنه، وإنمّا أنا منفِّذٌ لأمر أمَرَ به رسول الله صلى الله عليه وسلم "1.
[43] "وأشار عليه أبو بكر رضي الله عنه أن يعظم فيهم الجراح، ويجزر2 فيهم حتّىيفزع القوم"3.
[44] "فمضى أُسامة مُغِذّاً4 على ذي المروة5، والوادي"6.
[45] "فوطئ بلاداً هادئه لم يرجعوا عن الإسلام، جهينة، وغيرها من قضاعة، فلمّا نزل وادي القرى، قدّم عيناً له من بني عُذرة، يُقال له حُريث، فخرج على صدر راحلته أمامه مُغِذّاً، حتّى انتهى إلى
__________
1 من رواية الواقدي. وقد سبق تخريجها برقم: [2] .
2 قال هشام: يقطع الأيدي والأرجل والأوساط في القتال.
3 من رواية ابن سعد، عن هشام. وقد سبق تخريجها برقم: [14] .
4 مغِذّاً: أي: مسرعاً.
5 ذي المروة: قرية بوادي القرى. وقيل: بين خشب ووادي القرى. وقال البكري: من أعمال المدينة، قرى واسعة، وهي لجهينة، كان بها سبرة بن معبد الجهني، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وولده إلى اليوم فيها. بينها وبين المدينة ثمانية بُرُد. وقال البلادي: ذو المروة له ذكرٌ كثيرٌ في كتب التاريخ والجغرافية، وهو منسوب إلى حصاة بيضاء بارزة من نوع المرو، يقع عند مفيض وادي الجزل إذا دفع في إضم شمال المدينة على قرابة ثلاث مائة كيل، وما زالت معروفة بهذا الاسم.
انظر: (البكري: معجم4/1218،الحموي: معجم 5/116،البلادي: معجم 290) .
6 من رواية الطبري من حديث سيف بسنده عن عروة. وقد سبق تخريجها برقم: [5] .
أُبنى، فنظر إلى ما هناك وارتاد الطريق، ثُمَّ رجع سريعاً حتّى لقي أُسامة على مسيرة ليلتين من أُبنى، فأخبره أنّ الناس غارّون1 ولا جموع لهم وأمره أن يسرع السير قبل أن تجتمع الجموع، وأن يشنَّها غارة، فلمّا انتهى إلى أُبنى فنظر إليها منظر العين، عبّأ أصحابه، وقال: اجعلوها غارة ولا تُمعنوا في الطلب، ولا تفترقوا، واجتمعوا واخفوا الصوت، واذكروا الله في أنفسكم، وجرّدوا سيوفكم وضعوها فيمن أشرف لكم، ثمّ دفع عليهم الغارة