(وبايعوه) أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم (بيعة الرّضوان) التي ذكرها الله عزّ وجلّ في قوله: لَقَدْ رَضِيَ
اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً وأعرب النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن فضلها بقوله: «لا يدخل النار من شهد بدرا والحديبية» رواه مسلم عن جابر، وقوله صلى الله عليه وسلم كما في «البخاري» عن جابر- رضي الله عنه- خطابا لأهل بيعة الرضوان: «أنتم خير أهل الأرض» .
وعند أحمد بإسناد حسن: عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: لما كان بالحديبية.. قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم:
«لا توقدوا نارا بليل» فلمّا كان بعد ذلك.. قال: «أوقدوا واصطنعوا؛ فإنّه لا يدرك قوم بعدكم صاعكم ولا مدكم» .
وبايع سلمة بن الأكوع يومئذ ثلاث مرات: في أول الناس، وفي وسطهم، وفي آخرهم، وأشار الناظم إلى سبب هذه المبايعة بقوله:
(إذ قيل: قد عدوا) بفتح الدال، من عدا عليه يعدو بمعنى: تعدى وظلم (على عثمان) بن عفان رضي الله عنه لما بعثه النّبيّ صلى الله عليه وسلم رسولا إلى قريش بمكة ليبلغهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنّه ما جاء إلّا زائرا للبيت معتمرا معظما لحرماته، وكان عليه الصّلاة والسّلام قبل ذلك أراد أن يبعث عمر إليهم، فقال عمر: يا رسول الله؛ إنّي أخاف قريشا على نفسي، وما أحد بمكة من بني عدي بن كعب يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها،
ولكن أدلّك على رجل أعزّ بها مني، عثمان بن عفان، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعثه إليهم بتلك الرسالة، وخرج، حتى إذا قارب مكة.. لقيه أبان بن سعيد بن العاصي بن أميّة الأموي، فحمله بين يديه وأجاره، وهو الذي يقول:
أقبل وأدبر ولا تخف أحدا ... بنو سعيد أعزّة الحرم
فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش، فبلّغهم رسالته صلى الله عليه وسلم، وقرأ عليهم كتابه صلى الله عليه وسلم واحدا واحدا، فما أجابوا، وعزموا على ألّا يدخلها هذا العام، وقالوا لعثمان لما فرغ من تبليغ الرسالة: إن شئت أن تطوف بالبيت.. فطف، فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واحتبست قريش عثمان عندها أياما ثلاثة، فبلغه صلى الله عليه وسلم والمسلمين أنّ عثمان قتل، فقال صلى الله عليه وسلم: «لا نبرح حتى نناجز القوم» ودعا الناس إلى البيعة، فبايعوه تحت الشجرة- التي كان عليه السّلام يستظلّ بها- على الموت، وقال جابر: على أن لا يفرّوا «1» ، ولم يتخلف عن
__________
(1) هو في «صحيح مسلم» وفيه أيضا من رواية سلمة: أنّهم بايعوه على الموت، قال النووي في «شرح مسلم» : (وفي رواية مجاشع بن مسعود: البيعة على الهجرة، والبيعة على الإسلام) وفي حديث ابن عمر وعبادة: (بايعناه على السمع والطاعة، وأن لا ننازع الأمر-
هذه المبايعة المباركة أحد ممّن حضر إلّا الجدّ بن قيس، وكان جابر بن عبد الله يقول: «والله؛ لكأنّي أنظر إليه لاصقا بإبط ناقته قد ضبأ إليها- لصق بها- يستتر بها عن الناس» .
قال ابن هشام: (وحدّثني من أثق به عمن حدثه بإسناد له عن ابن أبي مليكة عن ابن عمر: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بايع لعثمان، فضرب بإحدى يديه على الأخرى) قال في «البداية والنهاية» : (وهذا الحديث الذي ذكره ابن هشام بهذا الإسناد ضعيف، لكنه ثابت في «الصحيحين» ) .
قلت: وهذه المبايعة منه عليه الصّلاة والسّلام لعثمان رضي الله عنه كانت جزاء وفاقا لما امتنع أن يطوف بالبيت قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أدبا وإجلالا، أشار إلى ذلك شرف الدين أبو عبد الله في «أم القرى» «1» رضي الله عنه بقوله:
وابن عفّان ذي الأيادي التي طا ... ل إلى المصطفى بها الإسداء
__________
أهله) وفي رواية عن عمر في «صحيح مسلم» : (البيعة على الصبر) قال العلماء: هذه الرواية تجمع المعاني كلها، وتبين مقصود كل الروايات، فالبيعة على أن لا نفر معناه: الصبر حتى نظفر بعدونا أو نقتل، وهو معنى البيعة على الموت؛ أي: نصبر وإن آل بنا ذلك إلى الموت، لا أنّ الموت مقصود في نفسه، وكذا البيعة على الجهاد؛ أي: والصبر فيه، والله أعلم.
(1) يعني البوصيري في «همزيته» المسماة بأم القرى.
وعقروا جمله الثّعلب إذ ... أرسله تحت الخزاعيّ المغذ
حفر البئر، جهز الجيش، أهدى ال ... هدي لما أن صدّه الأعداء
وأبى أن يطوف بالبيت إذ لم ... يدن منه إلى النبيّ فناء
فجزته عنها ببيعة رضوا ... ن يد من نبيه بيضاء
أدب عنده تضاعفت الأع ... مال بالترك حبّذا الأدباء
وأوّل من بايع بيعة الرضوان: سنان بن أبي سنان الأسديّ، لا أبو سنان بن محصن الذي هو أخو عكاشة بن محصن رضي الله عنه؛ وذلك لأنّ أبا سنان رضي الله عنه مات في حصار بني قريظة قبل اليوم كما ذكره في «الحلبية» و «روض النّهاة» .
ولمّا سمع المشركون بهذه البيعة المباركة.. خافوا وألقى الله في قلوبهم الرّعب، وبعثوا عثمان وجماعة من المسلمين، قال الشامي: (هم عشرة كانوا دخلوا مكة) .