بعد تمام النصر في غزوة خيبر اصطفى النبي صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيي (سيد بني النضير) من السَّبْي، وكانت قد وقعت في أول الأمر في سهم دحية الكلبي، فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبعة أرؤس، ثم أعتقها وتزوجها، وجعل عتقها صداقها [انظر: صحيح مسلم، باب فضيلة إعتاقه أمته ثم يتزوجها، حديث].
ولعل الحكمة من زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفية هو داع إنساني، فالسيدة صفية -رضي الله عنها- قد فقدت زوجها في يوم خيبر ، ثم سُبيَت وهي سيدة بني قريظة والنضير، فأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخفف عنها مصابها ويؤلف قلبها ويعوضها عن موت زوجها، كما أراد صلى الله عليه وسلم مصاهرة اليهود في آخر محاولة لاستمالتهم إلى الإِسلام.
وقد أسلمت -رضي الله عنها- وشرّفت -مع زوجات النبي صلى الله عليه وسلم بأمومة المؤمنين، ويروي لنا أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن ذلك الزواج فيقول: «أَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ خَيْبَرَ وَالْمَدِينَةِ ثَلَاثَ لَيَالٍ يُبْنَى عَلَيْهِ بِصَفِيَّةَ، فَدَعَوْتُ الْمُسْلِمِينَ إلى وَلِيمَتِهِ، وَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ خُبْزٍ وَلَا لَحْمٍ، وَمَا كَانَ فِيهَا إِلَّا أَنْ أَمَرَ بِلَالًا بِالْأَنْطَاعِ [جلود يؤكل عليها] فَبُسِطَتْ، فَأَلْقَى عَلَيْهَا التَّمْرَ، وَالْأَقِطَ [لبن مجفف يابس يطبخ به]، وَالسَّمْنَ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُهُ، قَالُوا: إِنْ حَجَبَهَا فَهِيَ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ لَمْ يَحْجُبْهَا فَهِيَ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ، فَلَمَّا ارْتَحَلَ وَطَّأَ لَهَا خَلْفَهُ وَمَدَّ الْحِجَابَ»[صحيح البخاري].
وكانت السيدة صفية -رضي الله عنها- قد رأت في نومها رؤيا عبَّرها لها زوجها اليهودي أنها تتزوج النبي صلى الله عليه وسلم، فعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- قال : «ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيني صفية خضرة فقال: يا صفية ما هذه الخضرة؟ فقالت: كان رأسي في حجر ابن أبي حقيق وأنا نائمة، فرأيتُ كأن قمرًا وقع في حِجري، فأخبرته بذلك، فلطمني وقال : تمنِّين ملِكَ يثرب؟» (رواه ابن حبان).
ويكفي السيدة صفية -رضي الله عنها- فخرًا وشرفًا أن الله قد جمع لها من الشرف العظيم ما لم يحصل لسواها من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، فهي من نسل هارون بن عمران عليه السلام، وعمها هو موسى بن عمران عليه السلام، وهي زوجة خير البرية محمد عليه الصلاة والسلام، فحازت بذلك شرف كونها من نسل نبي، وعمها نبي، وزوجها نبي.
ويؤكد ذلك ما رواه أنس -رضي الله عنه- قال: «بَلَغَ صَفِيَّةَ أَنَّ حَفْصَةَ قَالَتْ بِنْتُ يَهُودِيٍّ!! فَبَكَتْ فَدَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ تَبْكِي فَقَالَ: مَا يُبْكِيكِ؟ فَقَالَتْ: قَالَتْ لِي حَفْصَةُ: إِنِّي بِنْتُ يَهُودِيٍّ . فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّكِ لَابْنَةُ نَبِيٍّ، وَإِنَّ عَمَّكِ لَنَبِيٌّ، وَإِنَّكِ لَتَحْتَ نَبِيٍّ ؛ فَفِيمَ تَفْخَرُ عَلَيْكِ؟! ثُمَّ قَالَ: اتَّقِي اللَّهَ يَا حَفْصَةُ» (رواه الترمذي).