وفى سنة سبع وخمسين وخمسمائة عمل الملك نور الدين الشهيد محمود بن زنكى بن أقسنقر خندقا حول الحجرة النبوية مملوآ بالرصاص على ما ذكر فى الوفاء وسبب ذلك أن النصارى خذلهم الله دعتهم أنفسهم فى سلطنة الملك المذكور الى أمر عظيم ظنوا أنه يتم لهم ويأبى الله الا أن يتم نوره ولو كره الكافرون وذلك ان السلطان المذكور كان له تهجد يأتى به فى الليل وأوراد يأتى بها فنام عقب تهجده فرأى النبى صلى الله عليه وسلم فى نومه وهو يشير الى رجلين أشقرين ويقول أنجدنى أنقذنى من هذين فاستيقظ فزعا ثم توضأ وصلى ونام فرأى المنام بعينه فاستيقظ وصلى ونام فرآه أيضا مرّة ثالثة فاستيقظ وقال لم يبق نوم وكان له وزير من الصالحين يقال له جمال الدين الموصلى فأرسل اليه ليلا وحكى له جميع ما اتفق
له فقال له وما قعودك اخرج الان الى المدينة النبوية واكتم ما رأيت فتجهز فى بقية ليلته وخرج على رواحل خفيفة فى عشرين نفرا وفى صحبته الوزير المذكور ومال كثير فقدم المدينة فى ستة عشر يوما فاغتسل خارجها ودخل فصلى فى الروضة وزار ثم جلس لا يدرى ماذا يصنع فقال الوزير وقد اجتمع أهل المدينة فى المسجد ان السلطان قصد زيارة النبى صلى الله عليه وسلم وأحضر معه أموالا للصدقة فاكتبوا من عندكم فكتبوا أهل المدينة كلهم وأمر السلطان بحضورهم وكل من حضر ليأخذ يتأمله ليجد فيه الصفة التى أراها له النبىّ صلى الله عليه وسلم فلا يجد تلك الصفة فيعطيه ويأمره بالانصراف الى أن انفضت الناس فقال السلطان هل بقى أحد لم يأخذ شيئا من الصدقة قالوا لا فقال تفكروا وتأمّلوا فقالوا لم يبق أحد الا رجلين مغربيين لا يتناولان لاحد شيئا وهما صالحان غنيان يكثران الصدقة على المحاويج فلما سمعه السلطان انشرح صدره وقال علىّ بهما فأتى بهما فرآهما والرجلين اللذين أشار النبىّ صلى الله عليه وسلم اليهما بقوله أنجدنى أنقذنى من هذين فقال لهما من أين أنتما فقالا من بلاد المغرب جئنا حاجين فاخترنا المجاورة فى هذا العام عند رسول الله فقال أصدقانى فصمما على ذلك فقال أين منزلهما فأخبر بأنهما فى رباط بقرب الحجرة الشريفة فأمسكهما وحضر الى منزلهما فرأى فيه مالا كثيرا وختمتين وكتبا فى الرقائق ولم ير فيه شيئا غير ذلك فأثنى عليهما أهل المدينة بخير كثير وقالوا انهما صائمان الدهر ملازمان الصلوات فى الروضة الشريفة وزيارة النبىّ صلى الله عليه وسلم وزيارة البقيع كل بكرة وزيارة قباء كل سبت ولا يردّان سائلا قط بحيث سدّا خلة أهل المدينة فى هذا العام المجدب فقال السلطان سبحان الله ولم يظهر شيئا مما رآه وبقى السلطان يطوف فى البيت بنفسه فرفع حصيرا فى البيت فرأى سردا بالمحفورا ينتهى الى صوب الحجرة الشريفة فارتاعت الناس لذلك وقال السلطان عند ذلك أصدقانى حالكما وضربهما ضربا شديدا فاعترفا بأنهما نصرانيان بعثهما النصارى فى زى حجاج المغاربة وأمدّوهما بأموال عظيمة وامروهما بالتحيل فى شئ عظيم خيلته لهم أنفسهم وتوهموا أن يمكنهم الله منه وهو الوصول الى الجناب الشريف ويفعلوا به مازينه لهم ابليس فى النقل وما يترتب عليه فنزلا فى أقرب رباط الى الحجرة الشريفة وهو الرباط المعروف برباط المراغة وفعلا ما تقدّم وصارا يحفران ليلا ولكل منهما محفظة جلد على زىّ المغاربة والذى يجتمع من التراب يجعله كل منهما فى محفظته ويخرجان لاظهار زيارة قبور البقيع فيلقيانه بين القبور وأقاما على ذلك مدّة فلما قربا من الحجرة الشريفة أرعدت السماء وأبرقت وحصل رجيف عظيم بحيث خيل انقلاع تلك الجبال فقدم السلطان صبيحة تلك الليلة واتفق مسكهما واعترافهما فلما اعترفا وظهر حالهما على يديه ورأى تأهيل الله له لذلك دون غيره بكى بكاء شديدا وأمر بضرب رقابهما فقاتلا تحت الشباك الذى يلى الحجرة الشريفة وهو مما يلى البقيع ثم أمر باحضار رصاص عظيم وحفر خندقا عظيما الى الماء حول الحجرة كلها وأذيب ذلك الرصاص وملئ به الخندق فصار حول الحجرة سورا رصاصا الى الماء ثم عاد الى ملكه وأمر باضعاف النصارى وأمر أن لا يستعمل كافر فى عمل من الاعمال وأمر مع ذلك بقطع المكوس جميعها وقد أشار الى ذلك الجمال المطرى باختصار ولم يذكر عمل الخندق حول الحجرة وسبك الرصاص به وقال ان السلطان محمود المذكور رأى النبى صلى الله عليه وسلم ثلاث مرّات فى ليلة واحدة وهو يقول فى كل واحدة يا محمود أنقذنى من هذين الشخصين الاشقرين تجاهه فاستحضر وزيره قبل الصبح فذكر له ذلك فقال له هذا أمر حدث فى مدينة النبى صلى الله عليه وسلم ليس له غيرك فتجهز وخرج على عجل بمقدار ألف راحلة وما يتبعها من خيل وغير ذلك حتى دخل المدينة على غفلة من أهلها والوزير معه وزار وجلس
فى المسجد لا يدرى ما يصنع وقال له الوزير أتعرف الشخصين اذا رأيتهما قال نعم فطلب الناس عامّة للصدقة وفرّق عليهم ذهبا كثيرا وفضة وقال لا يبقين أحد بالمدينة الاجاء فلم يبق الارجلان مجاوران من أهل الاندلس نازلان فى الناحية التى قبلة حجرة النبىّ صلى الله عليه وسلم من خارج المسجد عند دار آل عمر بن الخطاب التى تعرف اليوم بدار العشرة فطلبهما للصدقة فامتنعا وقالا نحن على كفاية لا نقبل شيئا فجدّ فى طلبهما فجىء بهما فلما رآهما قال للوزير هما هذان فسألهما عن حالهما وما جاء بهما فقالا لمجاورة النبى صلى الله عليه وسلم فقال أصدقانى وتكرّر السؤال حتى أفضى الى معاقبتهما فأقرّا انهما من النصارى وانهما وصلا لكى ينقلا من فى هذه الحجرة الشريفة باتفاق من ملوكهم ووجدهما قد حفرا نقبا تحت الارض من تحت حائط المسجد القبلى وهما قاصدان الى جهة الحجرة الشريفة يجعلان التراب فى بئر عندهما فى البيت الذى هما فيه هكذا حدّثنى عمن حدّثه فضرب أعناقهما عند الشباك الذى فى شرقى حجرة النبىّ صلى الله عليه وسلم خارج المسجد ثم أحرقا بالنار آخر النهار وركب متوجها الى الشام* وذكر الامام اليافعى فى ترجمته أن بعض العارفين من الشيوخ ذكر أنه كان فى الاولياء معدودا من الاربعين وصلاح الدين نائبه من الثلثمائة* ويناسب ذلك ما ذكره المحب الطبرى فى الرياض النضرة فى فضائل العشرة قال أخبرنى هارون بن الشيخ عمر ابن الزغب وهو ثقة صدوق مشهور بالخير والصلاح والعبادة عن أبيه وكان من الرجال الكبار قال كنت مجاورا بالمدينة وشيخ خدّام النبى صلى الله عليه وسلم اذ ذاك شمس الدين صواب اللمطى وكان رجلا صالحا كثير البرّ بالفقراء والشفقة عليهم وكان بينى وبينه أنس فقال لى يوما أخبرك بعجيبة كان لى صاحب يجلس عند الامير ويأتينى من خبره بما تمس حاجتى اليه فبينا أنا ذات يوم اذ جاءنى فقال أمر عظيم حدث اليوم قلت وما هو قال جاء قوم من أهل حلب وبذلوا للامير بذلا كثيرا وسألوه أن يمكنهم من فتح الحجرة واخراج أبى بكر وعمر منها فأجابهم الى ذلك قال صواب فاهتممت لذلك هما عظيما فلم أنشب أن جاء رسول الامير يدعونى اليه فأجبته فقال لى يا صواب يدق عليك الليلة أقوام المسجد فافتح لهم ومكنهم مما أرادوا ولا تعارضهم ولا تعترض عليهم قال فقلت سمعا وطاعة قال فخرجت ولم أزل يومى أجمع خلف الحجرة أبكى لا ترقأ لى دمعة ولا يشعر أحد ما بى حتى اذا كان الليل وصلينا العشاء الاخرة وخرج الناس من المسجد وغلقت الابواب فلم ننشب أن دق الباب الذى حذاء باب الامير أى باب السلام فان الامير كان مسكنه حينئذ بالحصن العتيق قال ففتحت الباب فدخل أربعون رجلا أعدّهم واحدا بعد واحد ومعهم المساحى والمكاتل والشموع وآلات الهدم والحفر قال وقصدوا الحجرة الشريفة فو الله ما وصلوا المنبر حتى ابتلعتهم الارض جميعهم بجميع ما كان معهم من الالات ولم يبق لهم أثر قال فاستبطأ الامير خبرهم فدعانى وقال يا صواب ألم يأتك القوم قلت بلى ولكن اتفق لهم كيت وكيت قال انظر ما تقول قلت هو ذاك وقم فانظر هل ترى لهم من باقية أولهم أثر فقال هذا موضع هذا الحديث وان ظهر منك كان بقطع رأسك ثم خرجت عنه* قال المحب الطبرى فلما وعيت هذه الحكاية عن هارون حكيتها لجماعة من الاصحاب فيهم من أثق بحديثه قال وأنا كنت حاضرا فى بعض الايام عند الشيخ أبى عبد الله القرطبى بالمدينة والشيخ شمس الدين صواب يحكى هذه الحكاية سمعتها بأذنى انتهى ما ذكره الطبرى وقد ذكر أبو محمد عبد الله بن أبى عبد الله بن أبى محمد المرجانى هذه الواقعة باختصار فى تاريخ المدينة له وقال سمعتها من والدى يعنى الامام الجليل أبا عبد الله المرجانى قال وقال لى سمعتها من والدى أبى محمد المرجانى سمعها من خادم الحجرة قال أبو عبد الله المرجانى ثم سمعتها أنا من خادم الحجرة الشريفة وذكر نحو ما تقدّم الا أنه قال فدخل خمسة عشر أو قال عشرون رجلا بالمساحى
والقفاف فما مشوا غير خطوة أو خطوتين وابتلعتهم الارض ولم يسم الخادم والله أعلم* وفى أيام المستنجد فى سنة تسع وخمسين وخمسمائة توفى الجمال محمد بن على وزير قطب الدين مودود بن زنكى صاحب الموصل كان كثير المعروف والصدقات ساق عينا الى عرفات وعمل هناك مصانع وبنى مسجد عرفات ودرجة وأحكم أبواب الحرم وبنى مسجد الخيف وبنى الحجر وزخرف الكعبة وذهبها وعملها بالرخام وبنى على المدينة النبوية سورا وبنى جسرا على دجلة عند جزيرة ابن عمر بالحجر المنحوت والحديد والرصاص وبنى الربط الكثيرة وكان يتصدّق كل يوم فى بابه بمائة دينار ويفتدى من الاسارى فى كل سنة بعشرين ألف دينار وكانت صدقاته وافدة الى الفقهاء والفقراء حيث كانوا وقد حبس فى سنة ثمان وخمسين وخمسمائة* وذكر ابن الساعى عن شخص كان معه فى السجن أنه نزل اليه طائر أبيض قبل موته فلم يزل عنده وهو يذكر الله عز وجل حتى توفى فى شعبان من هذه السنة ثم طار عنه ودفن فى رباط بناه بالموصل* وفى سنة ستين وخمسمائة قال ابن الجوزى فى يوم الاضحى ولدت امرأة ببغداد يقال لها بنت أبى العز أربع بنات* وفى سنة احدى وستين وخمسمائة توفى شيخ الوقت أبو محمد عبد القادر بن صالح الجيلى الواعظ المفتى الحنبلى المذهب الزاهد أحد الاعلام ببغداد وله تسعون سنة* وفى سنة اثنتين وستين وخمسمائة مات حافظ خراسان أبو سعيد عبد الكريم ابن محمد بن منصور السمعانى المروزى وله ست وخمسون سنة وله تصانيف جمة* وكانت وفاة المستنجد بالله الخليفة وقيل قتله فى يوم السبت ثانى ويقال ثامن شهر ربيع الاخر سنة ست وستين وخمسمائة وكانت خلافته احدى عشرة سنة وشهرا واحدا*
,
وفى شوّال هذه السنة وقعت غزوة الخندق سميت بالخندق لحفر النبىّ صلّى الله عليه وسلم الخندق باشارة سلمان الفارسى وسميت بالاحزاب جمع حزب أى طائفة لاجتماع طوائف المشركين على حرب المسلمين وهم قريش وغطفان واليهود ومن معهم وهم الذين سماهم الله تعالى بالاحزاب وأنزل الله تعالى فى ذلك صدر سورة الاحزاب كذا فى المواهب اللدنية والوفاء* واختلف فى تاريخها فقال موسى بن عقبة كانت فى شوّال سنة أربع وفى نسخة لعشرة أشهر وخمسة أيام وصححه النووى فى الروضة مع قوله بأن غزوة بنى قريظة فى الخامسة وهو عجيب لما سيأتى من انها كانت عقيب الخندق* وقال ابن
اسحاق غزوة الخندق فى شوّال سنة خمس وبهذا جزم غيره من أهل المغازى وأما البخارى فمال الى قول موسى بن عقبة وقوّاه بقول ابن عمر ان رسول الله صلّى الله عليه وسلم عرضه يوم أحد وهو ابن أربع عشرة فلم يجزه وعرضه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة فأجازه فيكون بينهما سنة واحدة وأحد كانت سنة ثلاث فتكون الخندق سنة أربع ولا حجة فيه بينهما اذا ثبت لنا انها كانت سنة خمس لاحتمال أن يكون ابن عمر فى أحد كان أوّل ما طعن فى الرابعة عشر وكان في الاحزاب استكمل الخمس عشرة وبهذا أجاب البيهقى* وقال الشيخ ولىّ الدين العراقى المشهور انها فى السنة الرابعة من الهجرة كذا فى المواهب اللدنية* قال أصحاب السير ان رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما أجلى يهود بنى النضير من حوالى المدينة تفرّقوا فى البلاد وسكن كل قوم منهم فى ناحية وبعض منهم وهم حيى بن أخطب وأبو رافع غلام بن أبى الحقيق وكنانة بن الربيع بن أبى الحقيق النضريون ومن تابعهم استوطنوا خيبر فخرج نفر من أشرافهم مثل حيى بن أخطب وكنانة بن الربيع وسلام بن أبى الحقيق النضريين وأبى عامر الفاسق وهوذة بن قيس الوائليين فى رهط من بنى النضير ورهط من بنى وائل قريب من عشرين رجلا وهم الذين حزبوا الاحزاب على رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى قدموا مكة على قريش فاستغووهم واستنصروهم ودعوهم على حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالت لهم قريش يا معشر اليهود انكم أهل الكتاب والعلم بما كنا نختلف فيه نحن ومحمد فأخبرونا أديننا خير أم دينه قالوا بل دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق منه فهم الذين أنزل الله فيهم ألم تر الى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا الى قوله وكفى بجهنم سعيرا فلما قالوا ذلك لقريش سرّهم ما قالوا وطابت قلوبهم ونشطوا لما دعوهم اليه من حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأجابوهم وأجمعوا على ذلك واستعدّوا له ثم خرجت أولئك اليهود من مكة حتى جاؤا غطفان من قيس غيلان بفتح الغين المعجمة اسم قبيلة سميت باسم جدّهم* وفى القاموس قيس عيلان بالفتح أبو قبيلة واسمه الناس بن مضر انتهى فدعوهم الى حرب رسول الله وأخبروهم بأنهم سيكونون معهم عليه وان قريشا قد تابعوهم على ذلك وأجمعوا عليه واجتمعوا معهم وجعلت يهود لغطفان تحريضا على الخروج نصف تمر خيبر كل عام فزعموا أن الحارث ابن عوف أخا بنى مرّة قال لعيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر ولقومه من غطفان يا قوم أطيعونى ودعوا قتال هذا الرجل وخلوا بينه وبين عدوّه من العرب فغلب عليهم الشيطان وقطع أعناقهم الطمع ونفذوا لامر عيينة على قتال رسول الله وكتبوا الى حلفائهم من بنى أسد فأقبل طليحة الاسدى فيمن تبعه من بنى أسد وهما الحليفان أسد وغطفان وكتب قريش الى رجال من بنى سليم بينهم وبينهم أرحام استمدادا لهم فأقبل أبو الاعور بمن تبعه من سليم مدد القريش ثم كتب اليهود الى حلفائهم من بنى سعد أن يأتوا الى امدادهم فجمع أبو سفيان جيش قريش أربعة آلاف رجل وفيهم ثلثمائة فرس وألف بعير وعقد والواء ودفعوه الى عثمان بن طلحة بن أبى طلحة من بنى عبد الدار فخرج أبو سفيان بقريش ونزلوا مرّ الظهران ولحق بهم من أجابهم من القبائل من بنى سليم وأسلم وأشجع وبنى مرّة وكنانة وفزارة وغطفان فصاروا فى جمع كبير حتى تحزبت وتجمعت عشرة آلاف رجل على ما ذكره ابن اسحاق بأسانيده ولهذا سمى هذه الغزوة غزوة الاحزاب وكان المسلمون ثلاثة آلاف وقيل كان المسلمون ألفا والمشركون أربعة آلاف* وذكر ابن سعد انه كان مع المسلمين ستة وثلاثون فرسا كذا فى المواهب اللدنية فسارت قريش وقائدهم أبو سفيان بن حرب وسارت غطفان وقائدهم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر فى فزارة والحارث بن عوف بن أبى حارثة المرى
فى بنى مرّة ومسعر بن رحيلة بن نويرة بن طريف بن شحمة بن عبد الله بن هلال بن حلاوة بن أشجع بن ريث بن غطفان فيمن تابعه فى قومه من أشجع وتكامل لهم ولمن استمدّوه فأمدّهم جمع عظيم هم الذين سماهم الله الاحزاب فلما سمع بهم النبىّ صلّى الله عليه وسلم وبما أجمعوا له من الامر ضرب الخندق على المدينة وكان الذى أشار على رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالخندق سلمان الفارسى وكان أوّل مشهد شهده سلمان مع رسول الله وهو يومئذ حرّ قال يا رسول الله انا كنا بفارس اذا حوصرنا خندقنا علينا فعبى رسول الله صلّى الله عليه وسلم جيشه واستخلف على المدينة عبد الله بن أمّ مكتوم ودفع لواء المهاجرين الى زيد بن حارثة ولواء الانصار الى سعد بن عبادة فخرج من المدينة فى ثلاثة آلاف رجل وعرض أصحابه وردّ الى المدينة من استصغره من أولاد الصحابة وأذن لبعضهم فى الخروج مثل عبد الله ابن عمر وزيد بن ثابت وأبى سعيد الخدرى والبراء بن عازب وهم يومئذ أبناء خمس عشرة سنة فطلب النبىّ صلّى الله عليه وسلم موضعا صالحا للخندق* وفى خلاصة الوفاء كان أحد جانبى المدينة عورة وسائر جوانبها مشتبكة بالبنيان والنخيل لا يتمكن العدوّ منها فاختار ذلك الجانب المكشوف للخندق وجعل معسكره تحت جبل سلع وجعل المسلمون ظهورهم الى جبل سلع وضربت له صلّى الله عليه وسلم قبة من أديم أحمر على القرن فى موضع مسجد الفتح والخندق بينه وبين المشركين فخط أوّلا موضع الخندق ثم قسمه فقطع لكل عشرة أربعين ذراعا* وفى رواية لكل عشرة رجال عشرة أذرع فاستعار من يهود بنى قريظة لحفر الخندق المعاول والفؤس والمكاتل والقدوم والمرو المسحاة وغير ذلك وكانت يومئذ بينهم وبين النبىّ صلّى الله عليه وسلم مهادنة ومعاهدة وهم يكرهون مسير قريش الى المدينة* وفى خلاصة الوفاء وعمل فيه جميع المسلمين وهم يومئذ ثلاثة آلاف* قال الطبرى وأتباعه حفر النبىّ صلى الله عليه وسلم الخندق طولا من أعلا وادى بطحان غربى الوادى مع الحرة الى غربى مصلى العيد ثم الى مسجد الفتح ثم الى الجبلين الصغيرين اللذين فى غربى الوادى ومأخذه قول ابن النجار والخندق باق فيه قناة تأتى من عين قباء الى النخل الذى بالسنح حوالى مسجد الفتح وفى الخندق نخل أيضا وقد انطم أكثره وتهدّمت حيطانه* الحاصل ان الخندق كان شامى المدينة من طرف الحرّة الشرقية الى طرف الغربية* وعن أنس قال جعل المهاجرون والانصار يحفرون الخندق حول المدينة وينقلون التراب على متونهم وكان النبىّ صلّى الله عليه وسلم يعمل فيه مع أصحابه* وعن سهل بن سعد قال كنا مع رسول الله وهم يحفرون ونحن ننقل التراب على أكتافنا* وفى رواية كان النبىّ صلّى الله عليه وسلم ينقل التراب حتى وارى التراب جلدة بطنه* وفى رواية بعض بطنه* وفى رواية شعر صدره وكان كثير الشعر* وفى رواية ينقل التراب يوم الخندق حتى اغمر أو اغبر بطنه وهو يقول أو يرتجز بكلمات ابن رواحة
والله لولا الله ما اهتدينا* وفى رواية* لا همّ لولا أنت ما اهتدينا* ولا تصدّقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا* وثبت الاقدام ان لاقينا* ان الاولى قد رغبوا علينا** وفى رواية*
ان الذين قد بغوا علينا ... اذا أرادوا فتنة أبينا
ورفع بها صوته أبينا أبينا رواه الشيخان* وفى حديث سليمان التيمى عن أبى عثمان النهدى أنه صلّى الله عليه وسلم حين ضرب فى الخندق قال* بسم الله وبه بدينا* ولو عبدنا غيره شقينا* حبذاربا وحبذا دينا* قال فى النهاية يقال بديت بالشىء بكسر الدال أى بدأت به فلما خفف الهمزة كسر الدال فانقلبت الهمزة ياء وليس من باب الياء* وعن أبى قتادة انّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لعمار حين يحفر الخندق فجعل يمسح رأسه ويقول بؤس ابن سمية تقتلك الفئة الباغية رواه مسلم* وروى ان حفر
الخندق كان فى زمان عسرة وعام مجاعة حتى انّ الاصحاب كانوا يشدّون فى بطونهم الحجر من الجهد والضعف الذى بهم من الجوع ولبثوا ثلاثة أيام لا يذوقون ذواقا* وعن أبى طليحة شكونا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع ورفعنا عن بطوننا عن حجر حجر فرفع رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن بطنه عن حجرين ذكره الترمذى فى الشمائل ولهذا أشار صاحب البردة بقوله
وشدّ من سغب أحشاءه وطوى ... تحت الحجارة كشحا مترف الادم
قيل الحجر يدفع الجوع* وعن أنس خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم الى الخندق فاذا المهاجرون والانصار يحفرون الخندق فى غداة باردة ولم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال اللهمّ لا خير الاخير الآخرة فبارك فى الانصار والمهاجرة* وفى رواية فاكرم الانصار والمهاجرة فقالوا مجيبين له
نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا
* وفى رواية ما حيينا أبدا فحفروا الخندق وفرغوا منه بعد ستة أيام* وفى المواهب اللدنية قد وقع عند موسى بن عقبة أنهم أقاموا فى عمل الخندق قريبا من عشرين يوما وعند الواقدى أربعا وعشرين* وفى الروضة للنووى خمسة عشر يوما* وفى الهدى النبوى لابن القيم أقاموا شهرا* روى أنه صلى الله عليه وسلم كان عين للمهاجرين أن يحفروا من موضع كذا الى موضع كذا وعين للانصار أن يحفروا من موضع كذا الى موضع كذا وتحاجّ الفريقان فى سلمان الفارسى وكل فريق قالوا سلمان منا ونحن أحق به وكان سلمان رجلا قويا يحسن حفر الخندق فلما سمع النبىّ مقالة الفريقين قال سلمان منا أهل البيت* روى انه كان يعمل فى حفر الخندق عمل الرجلين* وفى رواية كان يحفر كل يوم خمسة أذرع من الخندق وعمقها أيضا خمسة أذرع فعانه قيس بن صعصعة فصرع وتعطل من العمل فأخبر بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأمر أن يتوضأ قيس لسلمان ويجمع وضوءه فى ظرف ويغتسل سلمان بتلك الغسالة ويكفأ الاناء خلف ظهره ففعل فنشط فى الحال كما ينشط البعير من العقال* وروى انه كان عمرو بن عوف وسلمان وحذيفة والنعمان بن مقرن المزنى وستة من الانصار فى أربعين ذراعا فحفروا حتى اذا كانوا تحت ذباب عرضت لهم* ذباب كغراب وكتاب لغتان* قال البكرى ذباب جبل بجبانة المدينة وهو الجبل الذى عليه مسجد الراية واسمه ذو ناب أيضا* وفى رواية أخرج الله من بطن الخندق صخرة بيضاء* وفى المواهب اللدنية كدية شديدة وهى بضم الكاف وتقديم الدال المهملة على المثناة التحتية القطعة الصلبة* وفى رواية مرو عظيمة كسرت حديدهم فأخبروا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بذلك وهو ضارب عليه قبة تركية فهبط مع سلمان الخندق وبطنه معصوب بحجر ولبثوا ثلاثة أيام لا يذوقون ذواقا كما مرّ والتسعة على شفير الخندق فأخذ المعول من سلمان فضربها به ضربة صدعها وبرق منها برق أضاء منها ما بين لابتيها يعنى المدينة حتى لكانّ مصباحا فى بيت مظلم فكبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم تكبيرة فتح وكبر المسلمون ثم ضربها الثانية فبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها فكبر رسول الله تكبيرة فتح وكبر المسلمون ثم ضربها الثالثة فكسرها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها فكبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم تكبيرة فتح وكبر المسلمون فأخذ بيد سلمان ورقى قال سلمان بأبى أنت وأمى يا رسول الله لقد رأيت شيئا ما رأيت مثله قط فالتفت رسول الله صلّى الله عليه وسلم الى القوم فقال أرأيتم ما يقول سلمان قالوا نعم يا رسول الله قال ضربت ضربتى الأولى فبرق الذى رأيتم أضاءت لى منها قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أتياب الكلاب وأخبرنى جبريل ان أمّتى
ظاهرة عليها ثم ضربت ضربتى الثانية فبرق الذى رأيتم أضاءت لى منها القصور الحمر من أرض الروم كأنها أنياب الكلاب فأخبرنى جبريل ان أمّتى ظاهرة عليها ثم ضربتها ضربتى الثالثة فبرق الذى رأيتم أضاءت لى قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب وأخبرنى جبريل انّ أمّتى ظاهرة عليها فابشروا فاستبشر المسلمون وقالوا الحمد لله موعد صدق وعدنا النصر بعد الحصر فقال المنافقون منهم معتب بن قشير ألا تعجبون من محمد يمنيكم ويعدكم الباطل ويخبركم انه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وانها تفتح لكم وأنتم انما تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا فنزل القرآن واذ يقول المنافقون والدين فى قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله الا غرورا وأنزل الله فى هذه القصة قل اللهمّ مالك الملك الآية ووقع عند أحمد والنسائى أخذ المعول وقال بسم الله ثم ضرب ضربة فبشر ثلثها فقال الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام والله انى لأبصر قصورها الحمر الساعة ثم ضرب الثانية فقطع ثلثا آخر فقال الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس وانى والله لأبصر قصور المدائن البيض الآن ثم ضرب الثالثة فقال بسم الله فقطع بقية الحجر فقال الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن والله انى لأبصر أبواب صنعاء اليمن من مكانى هذا الساعة كذا فى المواهب اللدنية* وفى الاكتفاء اشتدّ عليهم فى بعض الخندق كدية فشكوها الى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فدعا باناء من ماء فتفل فيه ثم دعا بما شاء الله أن يدعو به ثم نضح ذلك الماء على تلك الكدية فيقول من حضر فو الذى بعثه بالحق لانهالت حتى عادت كالكثيب ما تردّ مسحاة ولا فأسا* ولما فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الخندق أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع السيول من رومة بين الجرف ورباعة فى عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تابعهم من بنى كنانة وأهل تهامة وأقبلت غطفان ومن تابعهم من أهل نجد وقائدهم عيينة بن حصن حتى نزلوا بذنب نعمى الى جانب أحد* وفى خلاصة الوفاء عن ابن اسحاق ان عيينة بن حصن فى غطفان نزلوا الى جانب أحد بباب نعمان* وفى تهذيب ابن هشام عند نزولهم بنعمى ونعمان بالضم وعين مهملة واد بجانب أحد يصب هو ونعمى فى الغابة وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى ثلاثة آلاف رجل من المسلمين يوم الاثنين لثمان ليال مضين من ذى القعدة حتى جعلوا ظهورهم الى سلع فضرب هناك عسكره والخندق بينهم وبين المشركين وكان لواء المهاجرين بيد زيد بن حارثة ولواء الانصار بيد سعد بن عبادة وكان شعار أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم الخندق وبنى قريظة حم لا ينصرون كذا فى سيرة ابن هشام وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يبعث الحرس الى المدينة خوفا على الذرارى من بنى قريظة كذا فى المواهب اللدنية وأمر رسول الله بالنساء والذرارى حتى رفعوا فى الآطام وخرج عدوّ الله حيى بن أخطب النضرى بالتماس من أبى سفيان حتى أتى كعب بن أسد القرظى صاحب عقد بنى قريظة وعهدهم وكان كعب قد وادع رسول الله صلّى الله عليه وسلم على قومه وعاهدهم على ذلك فلما سمع كعب بحيى بن أخطب أغلق دونه باب حصنه فاستأذن عليه حيى فأبى كعب أن يفتح له فناداه حيى ويحك يا كعب افتح لى فقال كعب ويحك يا حيى انك أمرؤ مشؤم وانى قد عاهدت محمدا فلست بناقض ما بينى وبينه ولم أرمنه الا وفاء وصدقا قال ويحك افتح لى أكلمك قال ما أنا بفاعل قال والله ما أغلقت الباب الا لخشيتك أن آكل معك فاغضب الرجل ففتح له فقال يا كعب ويحك جئتك بعز الدهر وببحر طام جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بمجتمع الاسيال من رومة وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب نعمى الى جانب أحد قد عاهدونى وعاقدونى أن لا يبرحوا حتى يستأصلوا محمدا ومن معه فقال له كعب بن أسد جئتنى بذل الدهر بجهام هراق ماءه وبرعد وببرق ليس فيه شىء فدعنى ومحمدا وما أنا عليه فلم أر من محمد الا وقاء وصدقا فلم يزل حيى ابن أخطب بكعب
يفتل فى الذروة والغارب حتى سمح له على ان أعطاه عهدا من الله وميثاقا لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدا ان أدخل معك فى حصنك حتى يصيبنى ما أصابك فنقض كعب عهده وبرئ مما كان عليه فيما بينه وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلما انتهى الخبر الى رسول الله صلّى الله عليه وسلم والمسلمين قال رسول الله حسبنا الله ونعم الوكيل وبعث صلّى الله عليه وسلم سعد بن معاذ أحد بنى عبد الاشهل وهو يومئذ سيد الاوس وسعد بن عبادة أحد بنى ساعدة وهو يومئذ سيد الخزرج ومعهما عبد الله بن رواحة أخو بلحارث وخوّات بن جبير أخو بنى عمرو بن عوف ليعرفوا الخبر فقال انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا فخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم على اخبث ما بلغهم عنهم قالوا من رسول الله تبرؤا من عقده وعهده وقالوا لا عقد بيننا وبين محمد ولا عهد فشاتمهم سعد بن عبادة وشاتموه وكان رجلا فيه حدّة فقال له سعد بن معاذ دع عنك مشاتمتهم فما بينهم وبيننا أربى من المشاتمة ثم أقبل سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ومن معهما الى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأخبروه وقالوا عضل والقارة أى كغدرهما بأصحاب الرجيع فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم الله أكبر ابشروا يا معشر المسلمين ولما فشا بين المسلمين خبر نقض عهد بنى قريظة اشتدّ الخوف وعظم عند ذلك البلاء فبينماهم على ذلك اذ جاءتهم جنود يعنى الاحزاب وهم قريش وغطفان ويهود قريظة والنضير وكانوازها اثنى عشر ألفا كذا فى أنوار التنزيل فجاء بنو أسد وغطفان وفزارة واليهود من فوقهم من جهة المدينة وقائدهم حارث بن عوف وعبينة بن حصن الفزارى وجاء قريش وكنانة من جانب أسفل الوادى وقائدهم أبو سفيان بن حرب* وقال ابن عباس كان الذين جاؤهم من فوقهم بنو قريظة ومن أسفل منهم قريش وغطفان كذا فى الوفاء ومن هيبة كثرتهم وشدّة شوكتهم رعبت قلوب ضعفاء أهل الاسلام وزاغت أبصارهم* وفى الاكتفاء حتى ظنّ المؤمنون كل ظن ونجم النفاق من بعض المنافقين وحتى قال قائل منهم كان محمد يعدنا أن نملك كنوز كسرى وقيصر وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب الى الغائط كما قال الله تعالى اذ جاؤكم من فوقكم ومن أسفل منكم واذ زاغت الابصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا فلما بلغت الاحزاب وجنود الاعراب شفير الخندق ورأوه تعجبوا منه اذ لم يكن أمر الخندق متعارفا بين العرب فأقاموا بظاهر المدينة على الخندق وحاصروا المسلمين عشرين أو أربعة وعشرين أو سبعة وعشرين يوما* وفى الاكتفاء وأقام عليه المشركون قريبا من شهر ولم يكن بينهم حرب الا الرمى بالنبل والحصار واستعان بنو قريظة من قريش ليبيتوا المدينة فعلم به النبىّ صلّى الله عليه وسلم فبعث سلمة بن الاسلم فى مائتى رجل وزيد بن حارثة فى ثلثمائة رجل حتى حرسوا حصون المدينة ومحلاتها وكان جماعة من المنافقين مثل أوس القيظى ومتابعيه ينفرون جيش الاسلام ويقولون ارجعوا الى منازلكم واعتلوا بأنّ منازلكم عورة خالية عن المحافظة فانها خارج المدينة ونحن نخاف أن يظفر بها جيش العدوّ كما أخبر عنه قوله تعالى واذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبىّ يقولون انّ بيوتنا عورة وما هى بعورة ان يريدون الا فرارا* روى انه كان عباد بن بشر مع جمع من الصحابة فى أيام المحاصرة يحرسون خيمة رسول الله صلّى الله عليه وسلم كل ليلة وكان المشركون يتناوبون الحرب لكن الله تعالى لم يمكنهم من عبور الخندق فان شجعان الصحابة كانوا يمنعونهم بالنبال والاحجار وكان النبىّ صلّى الله عليه وسلم بنفسه فى الليالى يحرس بعض مواضع الخندق* روى عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت كان فى الخندق موضع لم يحسنوا ضبطه اذ أعجلهم الحال وكان يخاف عليه عبور الاعداء منه وكان النبىّ صلّى الله عليه وسلم يختلف ويحرسه بنفسه ويقول
لا أخاف أن يعبر المشركون من موضع الا من هذا الموضع وكان يختلف عليه ورجع مرّة من الخندق فكنت أستد فئة فقال ليت رجلا صالحا يحرس الليلة هذا الموضع اذ سمع قعقعة السلاح فقال من هذا قال سعد بن أبى وقاص فأمره أن يحرس الليلة هذا الموضع فذهب سعد يحرسه فنام النبىّ صلّى الله عليه وسلم حتى نفخ وكان اذا نام نفخ* وعن أمّ سلمة أنها قالت كان النبىّ صلّى الله عليه وسلم ذات ليلة من ليالى الخندق يصلى فى خيمته فخرج منها فنظر فسمعته يقول هؤلاء ركب المشركين يحومون حول الخندق فأمر عباد بن بشر ومن معه أن يحوموا حول الخندق ثم قال اللهمّ ادفع عنا شرهم وانصرنا عليهم فذهب عباد وأصحابه حتى انتهوا الى شفير الخندق فرأوا أبا سفيان مع جمع من المشركين قد اقتحموا بمضيق من الخندق وقوم من المسلمين يرمونهم بالنبل والحجر فاعانهم عباد وأصحابه ورموا المشركين حتى ولوا هاربين فرجع عباد وأصحابه الى النبىّ صلّى الله عليه وسلم وهو يصلى فلما فرغ أخبروه بذلك قالت فنام رسول الله حتى نفخ وما استيقظ حتى أذن بلال الفجر فخرج وصلّى الفجر مع الجماعة* وعن أم سلمة كان النبىّ صلّى الله عليه وسلم نائما فى خيمته ذات ليلة فلما كان نصف الليل كثر الصياح وارتفعت الاصوات وسمعت قائلا يقول يا خيل الله اركبوا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل شعار المهاجرين فى تلك الغزوة يا خيل الله اركبى* وفى رواية كان صلى الله عليه وسلم قال لهم ان بيتكم العدوّ فليكن شعاركم حم لا ينصرون فوجه الجمع أن يقال ان هذا كان شعار الانصار والله أعلم* وفى سيرة ابن هشام كان شعار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق وبنى قريظة حم لا ينصرون* فانتبه صلّى الله عليه وسلم وخرج من خيمته وسأل الحرس ما شأن الناس وما هذا الصياح قال عباد هذا صوت عمرو بن عبدودّ العامرى والليلة نوبته فبعثه النبىّ صلّى الله عليه وسلم اليه فذهب عباد والنبىّ صلّى الله عليه وسلم واقف خارج الخيمة ينتظر الخبر فرجع وقال يا رسول الله هذا عمرو بن ودّ فى جمع من المشركين يرمون المسلمين بالنبل والحجارة فدخل النبىّ صلّى الله عليه وسلم خيمته ولبس سلاحه فخرج وركب فرسه وناس بين يديه حتى بلغوا ذلك الموضع ثم رجعوا مع جراحات كثيرة قد أصابتهم فرقد النبىّ صلّى الله عليه وسلم حتى سمعته ينفخ ثم سمعت صياحا فاستيقظ النبىّ صلّى الله عليه وسلم فبعث اليه عباد بن بشر فرجع فقال هذا ضرار بن الخطاب بن مرداس الفهرى فى جمع من المشركين يقاتلون المسلمين ويرمونهم بالنبال والاحجار فلبس النبىّ صلّى الله عليه وسلم سلاحه وتوجه الى ذلك الموضع واشتغل بقتالهم حتى الصباح ثم رجع وقال هربوا مع جراحات كثيرة قالت أم سلمة قد كنت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى غزوات عديدة مثل المريسيع وخيبر والحديبية وفتح مكة وحنين والطائف ولم تكن غزوة من تلك الغزوات شديدة على النبىّ صلّى الله عليه وسلم مثل الخندق لقد أصابه تعب ومشقة كثيرة وأصاب المسلمين جراحات كثيرة وكان الزمان زمان برد وعسرة* روى أنه لما اشتدّ البلاء رأى النبىّ صلّى الله عليه وسلم أن يعطى غطفان وفزارة ثلث ثمار المدينة حتى يرجعا عنه ويخذلا قريشا فبعث الى عيينة بن حصن الفزارى والحارث بن عوف وهما قائدا فزارة وغطفان وشرط لهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه فجرى بينه وبينهما المراوضة فى الصلح حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح* وفى رواية ان عيينة وحارثا مع نفر من قومهما أتيا النبىّ صلّى الله عليه وسلم لامر المصالحة فجرى بينه وبينهم الصلح فأمر النبى عثمان بن عفان حتى كتب كتاب الصلح ولم يقع الاشهاد ولما أرادوا أن يكتبوا الشهادة جاء اسيد بن حضير فرأى عيينة ابن حصن الفزارى قد مدّ رجله بين يدى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعلم ما جاء له فأقبل الى عيينة
وقال يا عين الهجرس أتمدّ رجلك بين يدى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فو الله لولا مجلس رسول الله لانفذت جنبك بهذا الرمح ثم أقبل بوجهه الى النبىّ صلّى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ان كان هذا شيئا أمرك الله به لا بدّ لنا من عمل به أو أمرا تحبه فاصنع ما شئت ما نقول فيه شيئا وان كان غير ذلك فو الله ما نعطيهم الا السيف متى كانوا يطعمون منا شيئا فسكت النبىّ صلّى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا فدعا سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فاستشارهما فيه فقالا مثل ما قال أسيد بن حضير فقالا يا رسول الله أشىء أمرك الله به أم أمر تصنعه لنا قال بل شىء أصنعه لكم والله ما أصنع ذلك الا لانى رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكايدوكم من كل جانب فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم فقال سعد ابن معاذ يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على شرك بالله وعبادة الاوثان لا نعرف الله ولا نعبده وهم لا يطمعون أن يأكلوا منا ثمرة الاقرى أو بيعا فحين أكرمنا الله بالاسلام وأعزنا بك نعطيهم أموالنا والله لا نعطيهم الا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم فقال رسول الله فأنت وذلك فتناول سعد الصحيفة وأخذها من عثمان فمحاما فى الكتاب ومزق الكتاب ثم قال ليجتهدوا علينا فرجع عيينة ابن حصن والحارث بن عوف خائبين خاسرين وعلما أن لا يدلهم على المدينة بوجه من الوجوه لما رأوا من اخلاص الانصار واتفاقهم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ودخل فى أمرهما فتور وتزلزل* وروى ان فوارس من قريش وشجعانهم منهم عمرو بن عبدودّ أخو بنى عامر بن لؤى وعكرمة بن أبى جهل وهبيرة بن أبى وهب المخزوميان ونوفل بن عبد الله وضرار بن الخطاب ومرداس أخو بنى محارب قد تلبسوا يوما للقتال وخرجوا على خيلهم ومرّوا على بنى كنانة وقالوا تهيئوا للحرب يا بنى كنانة فستعلمون اليوم من الفرسان ثم أقبلوا نحو الخندق تعنق بهم خيلهم والجيش على أثرهم حتى وقفوا على الخندق فلما رأوه قالوا والله ان هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها ثم قصدوا مكانا ضيقا من نواحى الخندق فضربوا خيولهم فاقتحمت فيه من تلك الناحية الضيقة فعبروه فجالت بهم خيولهم فى السبخة بين الخندق وسلع وأبو سفيان وخالد بن الوليد وفوج من رؤساء قريش وكنانة وغطفان كانوا مصطفين على الخندق فقال عمرو بن عبدودّ لابى سفيان ما لكم لا تعبرون قال أبو سفيان ان احتيج الى عبورنا نعبر أيضا وكان عمرو بن عبدودّ من مشاهير الابطال وشجعان العرب وكانوا يعدلونه بألف رجل وقد كان قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة فلم يشهد أحدا فلما كان يوم الخندق خرج معلما ليرى مكانه فجال وطلب المبارزة والاصحاب ساكتون كأنما على رؤسهم الطير لانهم كانوا يعلمون شجاعته*
مبارزة علىّ لعمرو بن عبد ودّ
وفى الاكتفاء ذكر ابن اسحاق فى غير رواية البكائى ان عمرو بن عبدودّ لما نادى يطلب من يبارزه قام علىّ وهو مقنع بالحديد فقال أنا له يا رسول الله فقال له اجلس انه عمرو ثم نادى عمرو وجعل يوبخهم ويقول أين جنتكم التى تزعمون انه من قتل منكم دخلها أفلا تبرزون الىّ رجلا فقام علىّ فقال أنا له يا رسول الله فقال له اجلس انه عمرو ثم نادى الثالثة وقال
ولقد بححت من النداء بجمعكم هل من مبارز ... ووقفت اذ جبن المشجع وقفة الرجل المناجز
وكذاك الثانى لم أزل ... متسرعا نحو الهزاهز
ان الشجاعة فى الفتى ... والجود من خير الغرائز
فقام علىّ وقال أنا له يا رسول الله فقال انه عمرو فقال وان كان عمرا فأذن له رسول الله صلّى الله عليه وسلم فمشى اليه علىّ وهو يقول
لا تعجلنّ فقد أتاك مجيب صوتك غير عاجز
ذونية وبصيرة ... والصدق منجى كل فائز
انى لارجو أن اقسيم عليك نائحة الجنائز ... من ضربة نجلاء يبقى ذكرها عند الهزاهز
* فقال عمرو من أنت قال أنا علىّ قال ابن عبد مناف قال أنا على بن أبى طالب قال غيرك يا ابن أخى من أعمامك من هو أسنّ منك فانى اكره أن أهريق دمك فقال علىّ لكنى والله ما أكره أن أهريق دمك فغضب ونزل وسل سيفه كأنه شعلة نار ثم أقبل نحو علىّ مغضبا ويقال انه كان على فرسه فقال له علىّ كيف أقاتلك وأنت على فرسك ولكن انزل معى فنزل عن فرسه ثم أقبل نحوه فاستقبله علىّ رضى الله عنه بدرقته فضربه عمرو فيها فقدّها وأثبت فيها السيف وأصاب رأسه فشجه وضربه علىّ على حبل العاتق فسقط وثار العجاج وسمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم التكبير فعرف أن عليا قتله* وفى القاموس كان علىّ ذا شجتين فى قرنى رأسه احداهما من عمرو ابن ودّ والثانية من ابن ملجم ولذا يقال له ذو القرنين* وفى رواية لما أذن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لعلىّ أعطاه سيفه ذا الفقار وألبسه درعه الحديد وعممه عمامته وقال اللهم أعنه عليه* وفى رواية رفع عمامته الى السماء وقال الهى أخذت عبيدة منى يوم بدر وحمزة يوم أحد وهذا علىّ أخى وابن عمى فلا تذرنى فردا وأنت خير الوارثين فمشى اليه علىّ فى نفر من المسلمين حتى أخذوا على الثغرة التى اقتحموا منها فأقبلت الفرسان تعنق نحوهم فلما وقف عمرو وخيله قال له علىّ يا عمرو سمعت انك تعاهد الله أن لا يدعوك رجل من قريش الى خلتين الا أخذت منه احداهما* وفى الاكتفاء الى احدى الخلتين الا أخذتها منه قال أجل فقال علىّ فانى أدعوك الى الله والى رسوله والى الاسلام قال لا حاجة لى فى ذلك قال فارجع الى ديارك واترك القتال معنا فان انتظم أمر محمد وظفر على أعدائه فقد أسعدته وأمددته والا فحصل مطلوبك من غير قتاله قال عمرو ان نساء قريش لا يقلن هذا كيف وقد قدرت على استيفاء نذرى وأنا أرجع ولم أف به وقد كان عمرو جرح يوم بدر وأفلت هاربا ونذر أن لا يدّهن حتى ينتقم من محمد فقال علىّ فانى أدعوك الى النزال فقال له يا ابن أخى فو الله ما أحب أن أقتلك قال علىّ ولكنى أحب أن أقتلك فحمى عمرو عند ذلك فاقتحم عن فرسه وسل سيفه وعقره وضرب وجهه ثم أقبل على علىّ فتنازلا وتجاولا فقتله علىّ وخرجت خيلهم منهزمة حتى اقتحمت الخندق هاربة وفى رواية ثم حمل ضرار بن الخطاب وهبيرة بن أبى وهب على علىّ وهو أقبل اليهما فأما ضرار فلما نظر الى وجه علىّ ولى هاربا وبعد ذلك سئل عن سبب فزاره قال خيل لى أن الموت يرينى صورته وأما هبيرة فثبت فى مقاتلته حتى أصابه أثر السيف فعند ذلك ألقى درعه وهرب* وفى رواية حمل الزبير بن العوّام وعمر بن الخطاب بعد قتل علىّ عمرا على بقية أصحاب عمرو وقد كان ضرار بن الخطاب يفرّ وعمر يشتدّ فى أثره فكرّ ضرار راجعا وحمل على عمر بالرمح ليطعنه ثم أمسك وقال يا عمر هذه نعمة مشكورة أثبتها عليك ويدلى عندك غير مجزى بها فاحفظها* وفى معالم التنزيل وأما نوفل ابن عبد الله فضرب فرسه ليدخل الخندق فوقع فيه مع فرسه فتحطما جميعا* وفى المنتقى فتورّط فيه* وفى الوفاء وبرز نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومى فبارزه الزبير فقتله ويقال قتله علىّ ورجعت بقية الخيول منهزمة* وفى روضة الاحباب اقتحم الخندق نوفل حين الفرار فسقط فيه فرماه المسلمون بالحجارة فصرخ يا معشر العرب قتلة أحسن من هذه فنزل اليه علىّ فضربه بالسيف فقطعه نصفين وجرح من الكفار يومئذ منبه بن عثمان أصابه سهم فمات منه بمكة وفرّ عكرمة وهبيرة ومرداس وضرار حتى انتهوا الى جيشهم فأخبروهم بقتل عمرو ونوفل فتوهن من ذلك قريش
وخاف أبو سفيان وكادت أن تهرب فزارة وتفرّقت غطفان* وفى معالم التنزيل طلب المشركون جيفة نوفل بالثمن فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم خذوه فانه خبيث الجيفة خبيث الدية وروى ان عليا لما قتل عمرا لم يسلبه فجاءت اخت عمرو حتى قامت عليه فلما رأته غير مسلوب سلبه قالت ما قتله الا كفؤ كريم ثم سألت عن قاتله قالوا علىّ بن أبى طالب فأنشأت هذين البيتين
لو كان قاتل عمرو غير قاتله ... لكنت أبكى عليه آخر الابد
لكنّ قاتله من لا يعاب به ... من كان يدعى قديما بيضة البلد
وروى ان الكفار فى ذلك اليوم أو فى يوم آخر اتفقوا وشرعوا فى القتال من جميع جوانب احندق فقاتلوا سائر اليوم حتى فاتت صلاة الظهر والعصر والمغرب عن النبىّ صلّى الله عليه وسلم وأصحابه وبعد ذلك أمر بالاقامة لكل صلاة وقضوها* وفى الهداية ان النبىّ صلّى الله عليه وسلم شغل عن أربع صلوات يوم الخندق فقضاهنّ مرتبة ثم قال صلوا كما رأيتمونى وقد صح عن علىّ أنه قال قال النبىّ صلّى الله عليه وسلم يوم الخندق ملأ الله عليهم بيوتهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر حتى غابت الشمس وقيل اقتتلوا ثلاثة أيام قتالا شديدا حتى حجز الليل بينهم سيما فى اليوم الثالث حين شغلهم القتال عن صلاة العصر والمغرب وقيل والظهر وذلك قبل نزول صلاة الخوف وهو قوله تعالى فان خفتم فرجالا أو ركبانا* وفى شمائل الترمذى روى أنه كان يوم الخندق رجل من الكفار معه ترس وكان سعد راميا وكان الرجل يقول كذا وكذا بالترس يغطى جبهته فنزع له سعد بسهم فلما رفع رأسه رماه سعد لم يخطئ هذه منه يعنى جبهته وانقلب وأشال برجله فضحك النبىّ صلّى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه يعنى من فعله بالرجل قالت عائشة كنا يوم الخندق فى حصن بنى حارثة وهو من أحرز حصون المدينة وكانت أمّ سعد بن معاذ معنا فى الحصن وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب فمرّ سعد بن معاذ وعليه درع مقلص قد خرجت منها ذراعه كلها وفى يده حربة وهو يقول البث قليلا تلحق الهيجا جمل* وفى الاكتفاء فى يده حربة يرقد بها أى يسرع بها فى نشاط وهو يقول
البث قليلا تشهد الهيجا جمل ... لا بأس بالموت اذا حان الاجل
كذا فى المنتقى* وفى الصفوة عن عائشة قالت خرجت يوم الخندق أقفو أثر الناس فسمعت وبيد الارض من ورائى فالتفت فاذا أنا بسعد بن معاذ ومعه ابن أخيه الحارث بن أوس يحمل مجنة فجلست الى الارض فمرّ سعد وهو يرتجز
البث قليلا تدرك الهيجا جمل ... ما أحسن الموت اذا جاء الاجل
فقالت أمّه يا بنىّ الحق فقد والله أخرت قالت فقلت لها والله يا أمّ سعد لوددت أن درع سعد كانت أسبغ مما هى وخفت عليه حيث أصاب السهم منه قالت فرمى سعد يومئذ بسهم فقطع منه الاكحل وزعموا أنه لم ينقطع من أحد قط الا لم يزل يبض دما ولم يرقأ حتى يموت* الاكحل بفتح الهمزة والحاء المهملة بينهما كاف ساكنة عرق فى وسط الذراع* قال الخليل هو عرق الحياة يقال ان فى كل عضو منه شعبة فهو فى اليد الاكحل وفى الظهر الابهر وفى الفخذ النسا* وكان الذى رماه حبان بن قيس ابن العرقة أحد بنى عامر بن لؤى فلما أصابه قال خذها وأنا ابن العرقة قال سعد عرق الله وجهك فى النار* وحبان بن العرقة وقد تفتح الراء وهى أمّه قلابة لقبت بها لطيب ريحها كذا فى القاموس قال ابن اسحاق عن عبد الله بن كعب بن مالك انه كان يقول ما أصاب سعدا يومئذ الا أبو أسامة الجشمى حليف بنى مخزوم* قال ابن هشام ويقال ان الذى رمى سعد اخفاجة بن عاصم بن حبان كذا فى سيرة ابن هشام ثم قال سعد اللهم ان كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقنى لها فانه لا قوم أحب
الىّ أن اجاهدهم من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه وان كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعله لى شهادة ولا تمتنى حتى تقرّ عينى أو قال تشفينى من بنى قريظة وكانوا حلفاء سعد ومواليه فى الجاهلية فرقأ كمله* ولما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الخندق أمر بقبة من أدم ضربت على سعد فى المسجد* وعن جابر قال رمى سعد بن معاذ فى أكحله فحسمه النبىّ صلّى الله عليه وسلم وعنه قال رمى أبى بن كعب يوم الاحزاب على أكحله فكواه رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعنه بعث رسول الله الى أبى بن كعب طبيبا فقطع منه عرقا ثم كواه عليه روى الاحاديث الثلاثة مسلم كذا فى المشكاة*