أُحد (نسبة إلى جبل يقع بأحد السفوح الجنوبية للمدينة المنورة)
في يوم السبت السابع من شهر شوال في العام الثالث للهجرة، أي بعد غزوة بدر بعام، وقد وقعت على مشارف المدينة المنورة التي هاجر المسلمون إليها هربا بدينهم من بطش سادة قريش الكفار بمكة .
رغبة قريش في الانتقام من المسلمين بعد أن ألحقوا بها الهزيمة والعار في غزوة بدر التي راح فيها الكثير من صناديد الكفر، وما تبعها من غزوات وسرايا قطعت طريق التجارة المتدفق منها وإليها وأذهبت بالكثير من مؤونتها، ومن أجل استعادة مكانتها بين القبائل العربية سياسيا واقتصاديا، والأهم رغبة في القضاء على دعوة الإسلام التوحيدية والتي تقضي على نفوذ سادة العرب ومصالحهم وأصنامهم المزعومة وترسخ دولة الحق القائمة على التقوى والصلاح.
قاد رسول الله صلى الله عليه وسلم لواء جيش المسلمين، أما قبيلة قريش فكانت بقيادة أبي سفيان بن بدر.
قسم النبي الحبيب صلى الله عليه وسلم المسلمين لكتائب المهاجرين والأوس والخزرج ؛ الأولى لواء مصعب بن عمير، والثانية أسيد بن حضير والثالثة الحباب بن المنذر. وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو قائدا لميمنة الجيش، والزبير بن العوام للميسرة، وفي المقدمة نخبة من شجعان المسلمين.
أما قريش فوضعت خالد بن الوليد على الميمنة إلى جانب كونه قائدا لسلاح الفرسان، وعكرمة بن أبي جهل على الميسرة، وصفوان بن أمية على المشاة، وعبد الله بن ربيعة على رماة النبل، وأعطى اللواء لبني عبد الدار ضمن استحقاق تاريخي لتبوء هذا المنصب بالمعارك التي تخوضها قريش.
تألف جيش المدينة المسلم من ألف مقاتل، فيهم مائة دارع وخمسون فارسا، ولكن المنافق عبد الله بن أبي بن سلول تسبب بعودة ثلث الجيش بخديعة خطط لها، قبل التحام الجيشين في المعركة.
ومن الجهة المقابلة، اجتمع إلى مكة من المشركين ثلاثة آلاف مقاتل من قريش والحلفاء والأحابيش، وكان سلاح النقليات ثلاثة آلاف بعير، ومن سلاح الفرسان مائتا فرس، وكان من سلاح الوقاية سبعمائة درع.
جاء عدد من سادات قريش لأبي سفيان يطلبون خمسين ألف دينار بغية تجهيز جيش لمهاجمة المسلمين، فوافق الأخير، وبعثت قريش مندوبين إلى القبائل لتحريضهم على القتال، وفتحت باب التطوع للرجال وبعض النساء لتشجيع المقاتلين.
وكان ممن طلبت إليهم قريش المشاركة، عم النبي صلى الله عليه وسلم العباس بن عبد المطلب، والذي كان في الواقع عينا للمسلمين على ما يجري بمكة بعد هجرتهم، وعونا لمن بقي منهم هناك، فطيّر الأنباء لرسول الله – صلى الله عليه وسلم- وكان رد النبي صلى الله عليه وسلم برؤيا رآها وفيها :»قد رأيت والله خيرًا رأيت بقرا تذبح، ورأيت في ذباب سيفي ثلمًا، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة» والمقصود بالبقر التي تذبح هو عدد من الصحابة يقتلون، أما المقصود بالكسر "الثلم" الذي يحصل للسيف فهو إصابة أحد أهل بيت النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهو ما حدث لاحقا.
وظل النبي صلى الله عليه وسلم يتقصى أنباء المشركين عبر صحابته ومنهم الحباب بن المنذر والذي جاءه بنبأ أعدادهم فرد عليه صلى الله عليه وسلم » حسبي الله ونعم الوكيل، اللهم بك أجول وبك أصول«
مع اقتراب المعركة، جمع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم، وشاورهم في البقاء في المدينة والتحصن فيها أو الخروج لملاقاة المشركين، وكان رأي النبي صلى الله عليه وسلم البقاء في المدينة وقال »إنا في جنة حصينة«ولكن غالب المسلمين تمنوا لقاء العدو بالخروج إليه، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم على مشورتهم، وارتدى ملابسه العسكرية "اللأمة" ورفض أن يخلعها حين لاموا أنفسهم لاحقا.
وقد اقتنع النبي صلى الله عليه وسلم بحماسة أصحابه ومنهم حمزة عمه حين قال: والذي أنزل عليك الكتاب، لا أطعم اليوم طعاما حتى أجالدهم بسيفي خارج المدينة
أعلن النبي- صلى الله عليه وسلم- الطواري العامة وتجهز الجميع للقتال وأمر بحراسة المدينة واختار خمسين من أشداء المسلمين ومحاربيهم بقيادة محمد بن مسلمة، واهتم الصحابة بحراسة الرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم بالطبع.
مر الجيش الإسلامي ليلا بين الأشجار والبساتين أخذا بالحيطة، وكانوا يجدون بعض المقاومة من "عميان البصيرة والبصر" كما وصفه الرسول مثل مربع بن قيظي، والذي حثا التراب عليهم لأنه خربوا بستانه بمرورهم ونسي المنفعة العظيمة بحماية المدينة .
كانت من أسوأ الخيانات بغزوة أحد تلك التي جرت مبكرا، حين انسحب المنافق عبد الله بن أبي بن سلول بثلث الجيش عند بستان بين المدينة وأحد بحجة أنه لن يقع قتال مع المشركين ومعترضا على قرار القتال خارج المدينة رغما عنه! وكان يبدو أنها مجرد حيلة لإيقاع البلبلة في صفوف المسلمين، وحاول عبد الله بن عمرو بن حرام إقناع المنافقين بالعودة فأبوا وفي ذلك جاء قوله تعالى { وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين..}
ولما رجع ابن أبي ابن سلول وأصحابه همت بنو سلمة وبنو حارثة أن ترجعا ولكن الله عصمهما ونزلت فيهما الآية { إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما }
وانقسم الرأي حول قتل الخائنين ونزلت الآية {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُوا ۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّه }
ولما وصل النبي – صلى الله عليه وسلم- في معسكره بمكان يدعى الشيخين، رد صغار السن ومنهم زيد بن ثابت وابن عمر، وأجاز مشاركة رافع بن خديج وسمرة بن جندب لبراعتهما بالرمي وقوة بنتيتهما. هذه الصورة تظهر مجتمعا يسعى لنيل شرف الشهادة، شبابا وشيوخا، بل وأطفالا.
وعندما تقارب الجمعان وقف أبو سفيان ينادي أهل يثرب بعدم رغبة مكة في قتالهم إذا ما خلوا بينه وبين محمد، فقوبل عرضه بالشتائم، وهنا رفعت نساء المشركين الدفوف وأنشدن يحمسنهم بقتل المسلمين بالسيف، وأرسلت قريش أبوعامر الراهب، والذي ارتد عن الإسلام فأسماه النبي صلى الله عليه وسلم "الفاسق"، قام بمحاولة لتفتيت الجيش المسلم، رغم أن ابنه حنظلة كان بصفوفهم، ولكن محاولته بمناداة قومه من الأوس وإزكاء النعرة القبلية والخلافات القديمة باءت بفشل .
كانت خطة المسلمين في المعركة هي أن يجعل الرسول الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم المدينة أمامه، وجبل أحد خلفه، ووضع خمسين من الرماة على قمة هضبة عالية مشْرفة على ميدان المعركة، وكان قائدهم هو عبد الله بن جبير، وأمرَهم بالبقاء في أماكنهم وعدم مغادرتها إلا بإذن منه، حيث قال لهم: »ادفعوا الخيل عنا بالنبال«وحذرهم من مبارحة أماكنهم ولو رأوا أن أصحابهم تتخطفهم الطير- أي هزموا وقتلوا- أو كانوا هم المنتصرين
وذكّر رسول الله صلى الله عليه وسلم المجاهدين بمنزلتهم وأجرهم وثواب الصبر ونهاهم عن التنازع والشقاق.
سوّى الرسول القائد العسكري المحنك صلى الله عليه وسلم صفوف الجيش في حال تشبه الصلاة، ووضع في المقدمة الأشداء لكي يفتحوا الطريق.
ومنح النبي صلى الله عليه وسلم سيفه لمن تعهد بأن يأخذه بحقه وكان سماك بن خرشة "أبودجانة"، وكان حقه »أن تضرب به العدو حتى ينحني«، وقد فعل، فكانوا يرونه معتمرا العصابة الحمراء التي يرتديها لطلب موت الأعداء وبساحات القتال، يحصد بسيف الرسول محمد صلى الله عليه وسلم الرؤوس كالسهم، وينشد "انا الذي عاهدني خليلي.. ونحن بالسفح لدى النخيل.. أن لا أقوم الدهر في الكيول.. أضرب بسيف الله والرسول"، وقد أمكن من هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان، المحرضة على المسلمين ومن لاكت كبد حمزة وهو شهيد، ولكن استحيا أن يضرب سيف الرسول امرأة.
حين خرج رافع اللواء طلحة بن أبي طلحة العبدري ينادي المسلمين هازئا من قولهم بأن سيوفهم تعجل بالعدو للنار وتعجل لهم بالجنة، خرج له علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقطع رجله فوقع أرضا وتكشف، ولولا مناشدته الرحم بابن عمه لما تركه حيا، وقد أخذ اللواء أخوه عثمان وقتله حمزة، ولما قُتل أصحاب اللواء الأحد عشر، صار المشركون كتائب متفرقة فجاش المسلمون فيهم ضربا حتى أجهضوهم وأزالوهم عن أمكنتهم وكان شعار المسلمين يومئذ: - أمت أمت - وشعار الكفار: - يا للعزى يا لهبل -.
وحقق المسلمون الانتصار في الجولة الأولى من المعركة، ونزلت فيهم الآية {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ }
كان الجيش الإسلامي يسجل نصرا جديدا يضاف لنصر بدر، حتى كانت نساء المشركين مشمرت هوارب والمسلمون يقعون على الغنائم ويعملون السيف بالكفار، حسبما روى عبد الله بن الزبير عن أبيه، لكن بينما كان ذلك غلبت أثارة من حب الدنيا على أغلب فئة الرماة، ورغم تحذير قائدهم عبد الله لكنهم لم يلقون له بالا، وكان عددهم أربعون رجلا التحقوا بسواد الجيش وهكذا خلت ظهور المسلمين ولم يبق فيها إلا ابن جبير وتسعة من أصحابه صمموا على موقفهم ..
هنا رأى خالد بن الوليد وكان على خيالة المشركين الفرصة سانحة ليلتف على المسلمين ويطبق عليهم في هجمة مرتدة، بعد انكشاف ظهورهم، ولما رأى المشركون ذلك عادوا إلى القتال من جديد وأحاطوا بالمسلمين من جهتين وفقد المسلمون مواقعهم الاولى وأخذوا يقاتلون بدون تخطيط فأصبحوا متفرقين بل فقدوا التمييز لبعضهم فقتلوا اليمان والد حذيفة بالخطأ، وهنا شاع أن محمدا قد قتل، واختلط الحابل بالنابل واشتدت حرارة القتال ..
حمل المشرك ابن قمئة على مصعب بن عمير فاستشهد، ولما كان شديد الشبه بالرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم، أشيع أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل، فاضطرب المسلمون وانطلق بعضهم للمدينة وبعضهم فوق الجبل ولم يكن الصحابة يدرون ما يفعلون من هول الفاجعة، وجلس بعضهم منتحيا بعيدا عن ميدان القتال، وآثر أخرون للشهادة، وفي ذلك جاء قوله {إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غما بغم .. }
وقد نص القرآن الكريم على أن الله تعالى قد عفا عن تلك الفئة التي فرت بعد سماع نبأ مقتل النبي الحبيب صلى الله عليه وسلم الذي شاع، وقال تعالى { إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا}
وقد مر رجل من المهاجرين برجل من الأنصار،وهو يتشحط في دمه، فقال: يا فلان أشعرت أن محمدا قد قتل؟ فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل فقد بلغ، فقاتلوا عن دينكم
ابتدأ الهجوم المعاكس من المشركين خلف المسلمين والهدف فيه شخص النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وقد حصروه وليس معه إلا تسعة من أصحابه واستشهد الأنصار في الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا بعد الآخر، وقاتل عنه طلحة بن عبيد الله حتى أثخن وأصيب بسهم شلت يمينه، وقاتل معه سعد بن أبي وقاص وكان النبي الحبيب صلى الله عليه وسلم يناوله النبال ويقول »ارم يا سعد، فداك أبي وأمي«وقاتل بين يديه أبو طلحة الأنصاري أحد أمهر الرماة، وقال عنه »لصوت أبي طلحة في الجيش أشد على المشركين من فئة«، وكان يفدي الرسول بنحره.
كان عتبة بن أبي وقاص الزهري قد استطاع أن يصل للرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم ويكسر خوذته فوق رأسه الشريف فيما تمكن المشرك عبد الله بن شهاب الزهري من إحداث قطع بجبهته وتمكن عبدالله بن قمئة الليثي الكناني من كسر أنفه، فانطلق إليه أبو دجانة وانحنى عليه يقع النبل في ظهره، والتف حوله أبوبكر، ووقفت نسيبة بنت كعب تذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف وترمي بالقوس وأصيبت بجراح كبيرة، وقد بشرها النبي الحبيب صلى الله عليه وسلم بالجنة، وقام أبوعبيدة بنزع السهمين من وجه النبي صلى الله عليه وسلم بأسنانه، وتوافد قتادة وثابت بن الدحداح وسهل بن حنيف وعمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام.
وقد كان قتادة بن النعمان يتقي السهام بوجهه دون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان آخرها سهما ندرت منه حدقته فأخذها بيده وسعى بها إلى رسول الله فردها وكانت أحسن عينيه
وقد رأى سعد أن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم يقاتل معه رجلان عليهما ثياب بيض كأشد القتال، وفي رواية يعني جبريل وميكائيل.
في هذه الأثناء كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم يتابع صعوده في شعب الجبل متحاملا على طلحة والزبير، وقد قتل حاطب بن أبي بلتعة، المشرك عتبة بن أبي وقاص الذي اعتدى على النبي الحبيب صلى الله عليه وسلم، وهو شقيق الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص، وشتان بينهما، وقد سعى سعد لقتله أيضا.
ولما علت فئة من المشركين بقيادة أبي سفيان وخالد بن الوليد لجبل أحد، قاتل عمر ورهط من المهاجرين حتى أهبطوهم، وطلب النبي صلى الله عليه وسلم من سعد أن يرميهم بسهم من كنانته فكان يرمي الواحد تلو الآخر فيموت، وهكذا تراجعوا وصعد المسلمون بقيادة النبي الحبيب صلى الله عليه وسلم.
وخلال المعركة قتل النبي صلى الله عليه وسلم أبي بن خلف الجمحي القرشي، والذي ظهر عليه شاهرا سيفه للمرة الثانية، وصعد فوق الجبل، فانحازت إليه الطائفة التي اعتصمت بالصخرة وقت الفرار.
يئس المشركون من إنهاء المعركة وتعبوا من طولها ومن جلادة المسلمين، وانسحب النبي – صلى الله عليه وسلم- بمن معه ومن لحق به من أصحابه إلى أحد شعاب جبل أحد، وكانوا بحالة من الألم والخوف والغم لما أصابهم، فأنزل الله عليهم النعاس ثم أفاقوا آمنين مطمئنين .
دعا رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) ربه، وقد صف المجاهدين خلفه صفوفاً فقال فيه بالثناء على الله وطلب عونه والنصر على المشركين والإقرار بقدرته وحده ومنه يقول صلى الله عليه وسلم »اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لما أضللت، ولا مضل لمن هديت.. «
انتهت المعركة في صفحتها الثانية باستشهاد 70 صحابيا، نزل فيهم قوله تعالى : {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
وقد قتل 35 مشركا على أرجح الأقوال.وقد أقدمت قريش قبل انسحابها من ساحة القتال على جريمة شنعاء بالتمثيل بأجساد الشهداء وبقر بطونهم وجذع أنوفهم وقطع آذانهم، وشق هذا المشهد الأليم على النبي الحبيب صلى الله عليه وسلم والصحابة، وتعهد برد الصاع لقريش، ولكن جاء أمر الله بالصبر والاحتساب، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم صحابته عن التمثيل بالعدو في الغزوات.
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم بين ظهراني صحابته الممثل بهم »أنا شهيد على هؤلاء كفنوهم في دمائهم فإنه ليس جرح يجرح في الله إلا جاء يوم القيامة يدمي، لونه لون الدم، وريحه ريح المسك، قدموا أكثرهم قرآنا فاجعلوهم في اللحد«
"
ثم قال النبي »أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة فأتوهم وزوروهم، والذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه«
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بدفن شهداء أُحد ولم يصلِّ على أحدمنهم ولم يغسلهم.
ومن سيرة عظماء الشهداء بغزوة أحد، نستعرض تلك القطوف اليانعة:
حمزة بن عبد المطلب "أسد الله" : أطاح برؤوس نفر من حملة لواء المشركين من بني عبد الدار، وقتله العبد وحشي، ومثل بجثته، وشوهد الرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم وهو يبكي حتى ارتفع نشيغه حزنا عليه وكمدا. وقد وجدوا إلى جواره أنصاري شهيد ممثل به أيضا، وأعطوا لكل واحد منهما ثوب للكفن، وأنشدت صفية برحيله: دعاه إله الحق ذو العرش دعوة إلى جنة يحيا بها وسرور
مصعب بن عمير: حامل لواء المهاجرين بالمعركة، فلما استشهد بأحد على يد ابن قمئة، أمر الرسول بتغطية رأسه وأن يجعلوا على رجليه نوعا من العشب يسمى الإذخر، فلم يكن الكفن يكفي طوله، وقرأ صلى الله عليه وسلم، قوله تعالى : {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا }
حنظلة بن أبي عامر "غسيل الملائكة": وجد عمر في يديه بللا وهو يكفنه له رائحة المسك، فأرسل النبي الصحابة ليسألوا أهله، وكان أن خرج في ليلة زفافه بعد البناء بعروسه، إذ نادى المنادي قبل الفجر "حي على الجهاد"، فقام فزعا حتى نسي أن يغتسل وأسرع إلى أرض المعركة، فاستشهد، فرأي الرسول صلى الله عليه وسلم الملائكة تغسله بين السماء والأرض. وكان أن ضرب فرس أبي سفيان فوقع على الأرض، وهم ليذبحه، حتى أتاه ابن شعوب، وحمل عليه بالرمح .
أنس بن النضر.. سمع في غزوة أحد أن الرسول قد مات، وأنه قتل، فقال لأصحابه : "فما تصنعون بالحياة بعد رسول الله؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله ".واندفع في صفوف القتال قائلا لسعد بن معاذ "يا سعد والله إني لأجد ريح الجنة دون أحد"، فقاتل حتى قتل، وما عرفته إلا أخته ببنانه، وبه بضع وثمانون ما بين طعنة برمح وضربة بسيف ورمية بسهم.
سعد بن الربيع.. سأل النبي الحبيب صلى الله عليه وسلم عنه أفي الأحياء أم الأموات، فوجده زيد بن ثابت في الرمق الأخير بين الجرحى، وأوصاه بأن يقريء نبي الله السلام ويخبره بأنه يجد ريح الجنة، موصيا : يا زيد بلغ قومي من الأنصار السلام، وقل لهم: لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله مكروه وفيكم عين تطرف"
عمرو بن الجموح: كان ذا عرج، فرفع عنه الجهاد، ولكنه خرج بإذن النبي، فرآه في الجنة برجل سليمة .
مخيريق: حبر يهودي خالف قومه فأسلم وقتل في المعركة، فقال عنه الرسول الحبيب "مخيريق خير يهود"، وكان لليهود موقف مخز عموما شامت مما حل بالمسلمين باحد.
عبد الله بن جحش: دعا ربه أن يرزقه بغزوة أحد رجلا شديدا بأسه وحرده يقاتله في الله ويقتله ويجدع أنفه وأذنه ، ونال ما تمنى طلبا للجنة.
عبد الله بن عمرو بن حرام: قال لابنه " ما أراني إلا مقتولا في أول من يقتل من أصحاب النبي " وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد استشهاده لعمته وولده يبكيانه، فقال:
»ما كلم الله أحدا قط إلا من وراء حجاب وكلم أباك كفاحا، يا جابر أما علمت أن الله أحيا أباك فقال: يا عبدي، تمن علي أعطك،ـ قال : يارب تحييني فأقتل فيك ثم ثانية ، فقال الرب سبحانه: إني سبق مني أنهم إليها لا يرجعون، قال يارب فأبلغ من ورائي ، فأنزل تعالى ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا ..«
وقد اعتاد الصحابة الشهداء على رؤية من سبقوهم ببدر يبشرونهم بقرب الملتقى،جرى ذلك مع ابن حرام وخيثمة أبو سعد الذي فقد ابنه ببدر، كما خرج للمعركة الشيوخ كأبي حذيفة بن اليمان وثابت بنوقش، وقد قتل الأول خطأ وتصدق ابنه بديته، كما دعا رسول الله لوهب المزني والذي أتى وابن أخيه واستشهدا بساحة القتال بعزم شديد، والأصيرم الذي أسلم حديثا فما صلى في حياته صلاة ولكنه استشهد فنال الجنة.
ومروا بامرأة من بني دينار، وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها بأحد، فلما نعوا لها قالت: فما فعل رسول الله قالوا خيرا، فلما رأته قالت: كل مصيبة بعدك صغيرة، وقالتها أم سعد بن معاذ شهيد المعركة، وقد بشرها النبي أن قتلى أحد ترافقوا في الجنة وشفعوا في أهلهم جميعا،ودعا الرسول لمن خلف منهم .
لخص العلامة ابن القيم أهم العبر في : تعريف المسلمين سوء عاقبة المعصية بالإشارة لموقف الرماة، ولولا تلك الهزائم لما عرف المؤمنون سوء عاقبة الفشل والتنازع.
الحرب ميزت المؤمن الصادق و المنافق الكاذب لقوله{ ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حَتَّى يميز الخبيث من الطيب }
أنه إذا امتحنهم بالغلبة، والكَسرَة، والهزيمة، ذلَوا وانكسروا، وخضعوا، ما استوجبوا منه العز والنصر، قال تعالى: { ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة} ،وقال: { ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً }
أنه سبحانه هيَّأ لعباده المؤمنين منازل في دار كرامته، لم تبلغها أعمالهم، ولم يكونوا بالغيها إلا بالبلاء والمحنة
أن النفوس تكتسب من العافية الدائمة والنصر والغنى طغياناً وركوناً إلى العاجلة
صدق رؤيا النَّبيِّ وحكمته كقائد وشجاعته كمقاتل، وبعد رأيه وتحسبه للمخاطر ويقظته، ورحمته بصحابته والمسلمين، ورجوعه للحق، وصبره على المكاره، وإقراره لمبدأ الشورى
يقول صاحب "الرحيق المختوم" صفي الدين المباركفوري: لا شك أن دفة القتال جرت لصالح الجيش المكي لكن هناك أمورا تمنعنا أن نعبر عن كل ذلك بالنصروالفتح ؛ فمما لا شك فيه أن الجيش المكي لم يستطع احتلال معسكر المسلمين، وأن المقدار الكبير من الجيش المدني لم يلتجيء إلى الفرار- مع الارتباك الشديد والفوضى العامة- بل قاوم بالبسالة حتى تجمع حول مقر قيادته، وأن كفته لم تسقط إلى حد أن يطارده الجيش المكي، وأن أحدا من جيش المدينة لم يقع في أسر الكفار، وأن الكفار لم يحصلوا على شيء من غنائم المسلمين، وأن الكفار لم يقوموا إلى الصفحة الثالثة من القتال مع أن جيش المسلمين لم يزل في معسكره، وأنهم لم يقيموا بساحة القتال يوما أو يومين- كما هو دأب الفاتحين في ذلك الزمان- بل سارعوا إلى الانسحاب وترك ساحة القتال، قبل أن يتركها المسلمون، ولم يجترثوا على الدخول في المدينة لنهب الذراري والأموال، مع أنها على بعد عدة خطوات فحسب، وكانت مفتوحة وخالية تماما.
كل ذلك يؤكد لنا أن ما حصل لقريش لم يكن أكثر من أنهم وجدوا فرصة، نجحوا فيها بإلحاق الخسائر الفادحة بالمسلمين، مع الفشل فيما كانوا يهدفون إليه من إبادة الجيش الإسلامي،بعد عمل التطويق- بل يؤكد لنا تعجيل أبي سفيان في الانسحاب والانصراف؛ أنه كان يخاف على جيشه المعرة والهزيمة، {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ }
نزل القرآن يلقي ضوءا على جميع المراحل المهمة في هذه المعركة، ما يفيد مكانتها في امتحان قلوب المؤمنين وعبرتها للاحقين، وفضحها للمنافقين وربتها بعطف على المؤمنين مهما بدا ضعفهم وكسرتهم، وقد وردت 60 آية بسورة آل عمران تبتدي بذكر أول مرحلة من مراحل المعركة {وإذ غدوت من أهلك تبويء المؤمنين مقاعد للقتال } وتترك في نهايتها تعليقا جامعا على المعركة { مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِه}
كما ترى بالآيات تطييب لنفوس أهل الإيمان{ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}
وقوله { إن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}وقوله بالبشرى : {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ }
البخاري : "كتاب المغازي"، ابن هشام : "السيرة النبوية"، ابن القيم : "زاد المعاد في هدي خير العباد، الواقدي "كتاب المغازي"، ابن كثير : "الفصول في سيرة الرسول"، المباركفوري : "الرحيق المختوم"، علي الصلابي :"غزوات الرسول"، ومحمد الغزالي "فقه السيرة"