ثم كانت غزوة أحد يوم السبت لسبع خلون من شوال على رأس اثنين وثلاثين شهرا [ (3) ] ، وقيل: كانت لإحدى عشرة ليلة خلت من شوال، وقيل: كانت للنصف منه، وعن مالك بن أنس: كانت بعد بدر بسنة، وعنه أيضا كانت على أحد وثلاثين شهرا من الهجرة، وهي وقعة امتحن اللَّه عز وجل فيها عباده المؤمنين واختبرهم، وميز فيها المؤمنين والمنافقين.
,
وذلك أنه لما عاد المشركون من بدر إلى مكة وجدوا العير التي قدم بها أبو سفيان بن حرب من الشام موقوفة في دار الندوة- وكذلك كانوا يصنعون- لم يحركها ولا فرّقها فطابت أنفس أشرافهم أن يجهزوا منها جيشا كثيفا لقتال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وباعوها. وكانت ألف بعير، والمال خمسون ألف دينار، وكانوا يربحون في الدينار دينارا، فأخرجوا منها أرباحهم، فنزل فيهم قول اللَّه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [ (1) ] .
,
وخرج سلمة بن سلامة بن وقش يوم الجمعة فلقى عشرة أفراس طليعة فراشقهم
__________
[ (1) ] في (خ) «ابنا» .
[ (2) ] زيادة للإيضاح.
[ (3) ] في (خ) «خيرا» .
[ (4) ] زيادة من (الواقدي) ج 1 ص 205.
[ (5) ] في (خ) «عمرو بن صيني» .
[ (6) ] «والعرب تقول لكل مسيل ماء شقّه السيل في الأرض فأنهره ووسعه، عقيق وفي بلاد العرب أربعة أعقّة وهي أودية عادية شقّتها السيول» ، والمراد في هذا الخبر هو: عقيق بناحية المدينة، (معجم البلدان) ج 4 ص 138- 139.
بالنّبل والحجارة حتى انكشفوا عنه، وعدا إلى قومه بني عبد الأشهل فأخبرهم ما لقي، وباتت وجوه الأوس والخزرج ليلة الجمعة لست مضين من شوال عليهم السلاح في المسجد بباب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم خوفا من بيات [ (1) ] المشركين، وحرست المدينة حتى أصبحوا.
رؤيا رسول اللَّه وخطبته
ورأى صلّى اللَّه عليه وسلّم رؤيا، فلما أصبح يوم الجمعة واجتمع الناس خطب على المنبر فحمد اللَّه وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إني رأيت في منامي رؤيا، رأيت كأني في درع حصينة، ورأيت كأن سيفي ذا الفقار انقصم [ (2) ] من عند ظبته [ (3) ] ، ورأيت بقرا تذبح، ورأيت كأني مردف كبشا. فقال الناس: يا رسول اللَّه، فما أولتها؟ قال:
أما الدرع الحصينة فالمدينة، فامكثوا فيها، وأما انقصام سيفي من عند ظبته فمصيبة في نفسي، وأما البقر المذبح فقتلى في أصحابي، وأما أني مردف كبشا فكبش الكتيبة نقتله إن شاء اللَّه. وفي رواية: وأما انقصام سيفي فقتل رجل من أهل بيتي. وقال:
أشيروا عليّ.
,
ورأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ألا يخرج من المدينة فواقفه عبد اللَّه بن أبيّ والأكابر من الصحابة مهاجرهم وأنصارهم، وقال عليه السلام: امكثوا في المدينة واجعلوا النساء والذراري في الآطام، فإن دخل علينا قاتلناهم في الأزقة- فنحن أعلم بها منهم- ورموا من فوق الصياصي والآطام [ (4) ] .
وكانوا قد شبكوا المدينة بالبنيان من كل ناحية فهي كالحصن، فقال فتيان أحداث لم يشهدوا بدرا وطلبوا الشهادة وأحبوا لقاء العدو: اخرج بنا إلى عدونا، وقال حمزة وسعد بن عبادة، والنعمان بن مالك ابن ثعلبة، في طائفة من الأنصار: إنا نخشى يا رسول اللَّه أن يظن عدونا أنا كرهنا الخروج إليهم جبنا عن لقائهم، فيكون هذا جرأة منهم علينا، وقد كنت يوم بدر
__________
[ (1) ] البيات: أن يوقعوا بالناس ليلا.
[ (2) ] انقصم: تكسر.
[ (3) ] الظبة: حد السيف من قبل ذبابه وطرفه.
[ (4) ] الصياصي: جمع صيصية وهي الحصن. (المعجم الوسيط) ج 1 ص 531 والآطام: جمع أطم وهو البيت المرتفع (المرجع السابق) ج 1 ص 21.
في ثلاثمائة رجل فظفّرك اللَّه عليهم، ونحن اليوم بشر كثير، قد كنا نتمنى هذا اليوم وندعو اللَّه به، فساقه اللَّه إلينا في ساحتنا.
كراهية رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم للخروج
ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لما يرى من إلحاحهم كاره، وقد لبسوا السلاح. وقال حمزة: والّذي أنزل عليك الكتاب لا أطعم اليوم طعاما حتى أجالدهم [ (1) ] بسيفي خارجا من المدينة، وكان يوم الجمعة صائما ويوم السبت صائما. وتكلم مالك ابن سنان والد أبي سعيد الخدريّ، والنعمان بن مالك بن ثعلبة، وإياس بن أوس ابن عتيك، في معنى الخروج للقتال. فلما أبوا إلا ذلك صلى [ (2) ] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الجمعة بالناس وقد وعظهم وأمرهم بالجد والجهاد، وأخبرهم أن لهم النصر ما صبروا، ففرح الناس بالشخوص [ (3) ] إلى عدوهم، وكره ذلك المخرج كثير. ثم صلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم العصر بالناس وقد حشدوا، وحضر أهل العوالي [ (4) ] ورفعوا النساء في الآطام: ودخل صلّى اللَّه عليه وسلّم بيته ومعه أبو بكر وعمر رضي اللَّه عنهما فعمماه ولبساه. وقد صف الناس له ما بين حجرته إلى منبره.
خبر ندامة المسلمين على استكراههم الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم للخروج
فجاء سعد بن معاذ وأسيد بن حضير فقالا للناس: قلتم لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ما قلتم واستكرهتموه على الخروج، والأمر ينزل عليه من السماء، فردوا الأمر إليه فما أمركم فافعلوه، وما رأيتم فيه له هوى أو رأي فأطيعوه، فبينا هم على ذلك إذ خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد لبس لأمته [ (5) ] ، ولبس الدرع فأظهرها وحزم وسطها بمنطقة (من أدم) [ (6) ] من حمائل سيف، واعتم وتقلد السيف،
فقال الذين يلحون: يا رسول اللَّه، ما كان لنا أن نخالفك، فاصنع ما بدا لك، فقال: قد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم، ولا ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم اللَّه بينه وبين أعدائه، انظروا ما أمرتكم به فاتبعوه، امضوا على اسم اللَّه فلكم
__________
[ (1) ] جالد بالسيف: ضرب بسرعة كأنه يجلد بسوط.
[ (2) ] في (خ) «صلى اللَّه» .
[ (3) ] الشخوص: الخروج.
[ (4) ] العوالي: ضيعة بينها وبين المدينة أربعة ليال (معجم البلدان) ج 4 ص 166.
[ (5) ] اللأمة: أداة الحرب ولباسها.
[ (6) ] ما بين القوسين كان في (خ) بعد قوله: «حمائل سيف» .
النصر ما صبرتم.
ووجد مالك بن عمرو النّجّاري [ (1) ]- وقيل بل هو محرز بن عامر بن مالك ابن عدي بن عامر بن غنم بن عدي النجار، وهو قول ابن الكلبي- قد مات، ووضعوه عند موضع الجنائز فصلّى عليه.
,
ثم دعا بثلاثة أرماح فعقد ثلاثة ألوية، فدفع لواء الأوس إلى أسيد بن حضير، ولواء الخزرج إلى حباب بن المنذر بن الجموح- ويقال إلى سعد بن عبادة- ودفع لواء المهاجرين إلى على بن أبي طالب، ويقال: إلى مصعب بن عمير [ (2) ] رضي اللَّه عنهم.
ثم ركب فرسه وتقلد القوس وأخذ قباءه [ (3) ] بيده. والمسلمون عليهم السلاح فيهم مائة دارع، وخرج السعدان أمامه يعدوان- سعد بن عبادة وسعد بن معاذ- والناس عن يمينه وشماله، حتى انتهى إلى رأس الثنية.
كتيبة عبد اللَّه بن أبي وحلفاؤه من يهود
[حتى إذا كان بالشيخين التفت فنظر إلى] [ (4) ] كتيبة خشناء لها زجل [ (5) ] فقال: ما هذه؟ فقالوا: هؤلاء حلفاء عبد اللَّه بن أبي بن سلول من يهود، فقال:
لا نستنصر بأهل الشرك على أهل الشرك،
ومضى فعسكر بالشيخين [ (6) ]- وهما أطمان-، والمشركون بحيث يرونه، فاستعدوا لحربه، وهمّ بنو سلمة وبنو حارثة ألا يخرجوا إلى أحد ثم خرجا.
,
وكان المسلمون ألفا فيهم مائة دارع، وفرسان: أحدهما لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
__________
[ (1) ] وهو قول (الواقدي) ج 1 ص 214.
[ (2) ] في (خ) «عمرو» .
[ (3) ] في (المغازي) ج 1 ص 215 «وأخذ قناة بيده» .
[ (4) ] في (خ) مكان ما بين القوسين «رأى» وما أثبتناه من (ابن سعد) ج 2 ص 99.
[ (5) ] زجل: صوت وجلبة.
[ (6) ] موضع سمّي كذلك لأن شيخا وشيخة كانا يجلسان عليه يتناجيان هناك.
والآخر لأبي بردة بن نيار.
عرض الغلمان وردّهم عن القتال
وعرض عليه غلمان: عبد اللَّه بن عمر، وزيد بن ثابت، وأسامة بن زيد، والنعمان بن بشير، وزيد بن أرقم، والبراء بن عازب (وعمرو بن حزم) [ (1) ] ، وأسيد بن ظهير، وعرابة بن أوس، وأبو سعيد الخدريّ، (وسعد بن حبتة الأنصاري) [ (2) ] ، وسمرة بن جندب، ورافع بن خديج، فردّهم، ثم أجاز رافع بن خديج لأنه رام،
فقال سمرة بن جندب لزوج أمه مري بن سنان: أجاز رسول اللَّه رافع بن خديج وردّني وأنا أصرعه، فأعلم بذلك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال:
تصارعا، فصرع سمرة رافعا فأجازه،
ونزل عبد اللَّه بن أبيّ ناحية.
,
فلما فرغ العرض وغابت الشمس، أذّن بلال بالمغرب، فصلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بأصحابه، ثم أذّن بالعشاء فصلى بهم، واستعمل على الحرس محمد بن مسلمة في خمسين رجلا يطوفون بالعسكر.
وقال حين صلى العشاء: من يحفظنا الليلة؟ فقام ذكوان بن عبد قيس فلبس درعه وأخذ درقته، فكان يطيف بالعسكر ليلته، ويقال:
بل كان يحرس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يفارقه. ونام صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى [ (3) ] كان السحر قال:
أين الأدلاء؟ من رجل يدلنا على الطريق [و] [ (4) ] يخرجنا على القوم من كثب؟
فقام أبو حثمة الحارثي، ويقال: أوس بن قيظي، ويقال: محيصة، وأبو حثمة أثبت- فقال: أنا يا رسول اللَّه.
__________
[ (1) ] زيادة من (ابن هشام) ج 3 ص 18.
[ (2) ] أغفله (الواقدي) و (ابن هشام) ، وذكر ابن سيد الناس في (عيون الأثر) ج 2 ص 6 «وسعد ابن حبته- بفتح الحاء المهملة وسكون الباء الموحدة وفتح التاء المثناة من فوق تاء التأنيث- جد أبي يوسف الفقيه وهو سعد بن بحير- بفتح الحاء الموحدة وكسر الحاء المهملة وسكون الياء- ابن معاوية حليف بني عمرو بن عوف» وذكره ابن عبد البر في (الاستيعاب) ج 4 ص 36 ترجمة رقم 923.
[ (3) ] في (الواقدي) ج 1 ص 217 «فلما كان في السحر» ، وفي (ابن هشام) «حتى إذا كان السحر» .
[ (4) ] زيادة من (الواقدي) ج 1 ص 8.
نبوءة رسول اللَّه بسل السيوف
فخرج صلّى اللَّه عليه وسلّم فركب فرسه فسلك به في بني حارثة، فذبّ فرس أبي بردة بن نيار بذنبه فأصاب كلّاب [ (1) ] سيفه فسل سيفه،
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا صاحب السيف، شم شيفك، فإنّي إخال السيوف ستسلّ فيكثر سلها [ (2) ] .
ولبس من الشيخين درعا واحدة حتى انتهى إلى أحد، فلبس درعا أخرى ومغفرا وبيضة فوق المغفر، ولما نهض صلّى اللَّه عليه وسلّم من الشيخين زحف المشركون على تعبئة، وقد رأس فيهم أبو سفيان صخر بن حرب لعدم أكابرهم الذين قتلوا ببدر، ووافى عليه السلام أحدا وقد حانت الصلاة وهو يرى المشركين، فأذن بلال وأقام، وصلى عليه السلام بأصحابه الصبح صفوفا.
,
وانخزل [ (3) ] ابن أبيّ في كتيبة وهو يقول: أيعصيني ويطيع الولدان؟ حتى عاد إلى المدينة ومعه ثلاثمائة، فبقي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في سبعمائة، وذكر له قوم من الأنصار أن يستعينوا بحلفائهم من يهود فأبي [ (4) ] صلّى اللَّه عليه وسلّم من ذلك ومن أن يستعين بمشرك.
,
وصفّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أصحابه وجعل الرماة خمسين رجلا، عليهم عبد اللَّه ابن جبير، [ويقال: بل جعل عليهم سعد بن أبي وقاص، وابن جبير أثبت] [ (5) ] ، وجعل على إحدى المجنبتين الزبير بن العوام، وعلى الأخرى المنذر بن عمرو
__________
[ (1) ] كلّاب السيف: المسمار أو الحلقة التي تكون في قائم السيف وتكون فيها علاقته.
[ (2) ] هذه رواية (الواقدي) ج 1 ص 218، وأما رواية (الطبري) ج 2 ص 506 فهي كما نقلها عن (ابن إسحاق) : «فذبّ فرس بذنبه، فأصاب كلاب سيف، فاستلّه،
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- وكان يحب الفأل ولا يعتاف- لصاحب السيف: شم سيفك، فإنّي أرى السيوف ستسلّ اليوم» . ورواية (ابن الأثير) في (الكامل) ج 2 ص 151: «وذبّ فرس بذنبه فأصاب كلّاب سيف صاحبه، فاستله، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: سيوفكم، فإنّي أرى السيوف ستسلّ اليوم» .
[ (3) ] انخزل: انقطع ثم انفرد ثم تراجع (هامش ط) وفي (المغازي) «ارتحل» .
[ (4) ] تقول: «أبى ذلك» ، «أبى من ذلك» متعديا بنفسه أو بحرف جر.
[ (5) ] ما بين القوسين في (خ) بعد قوله «الغنوي» وهذا حق موضعها.
الغنوي [ (1) ] ، وجعل أحدا خلف ظهره واستقبل المدينة.
,
وأقبل المشركون: على ميمنتهم خالد بن الوليد، وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل، ولهم مجنّبتان مائتا فارس، وعلى الخيل صفوان بن أمية، ويقال: عمرو ابن العاص، وعلى رماتهم- وكانوا مائة- عبد اللَّه بن أبي [ (2) ] ربيعة. ودفعوا لواءهم إلى طلحة بن أبي طلحة: واسمه عبد اللَّه بن عبد العزّى بن عثمان بن عبد الدار ابن قصيّ.
,
ومشى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على رجليه يسوي الصفوف حتى كأنما يقوّم بها القداح، إن رأى صدرا خارجا قال: تأخر.
فلما استوت دفع اللواء إلى مصعب ابن عمير فتقدم به بين يدي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
خطبة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم أحد
ثم قام فخطب الناس فقال: يا أيها الناس: أوصيكم بما أوصاني اللَّه في كتابه من العمل بطاعته والتناهي عن محارمه. ثم إنكم بمنزل أجر وذخر لمن ذكر الّذي عليه ثم وطّن نفسه له على الصبر واليقين والجدّ والنشاط، فإن جهاد العدو شديد كريه [ (3) ] ، قليل من يصبر عليه إلا من عزم اللَّه له رشده، فإن اللَّه مع من أطاعه، وإن الشيطان مع من عصاه، فافتحوا أعمالكم بالصبر على الجهاد، والتمسوا بذلك ما وعدكم اللَّه. وعليكم بالذي أمركم به، فإنّي حريص على رشدكم، وإن الاختلاف والتنازع والتثبط من أمر العجز والضعف مما لا يحب اللَّه ولا يعطي عليه النصر ولا الظفر. يا أيها الناس: حدد في صدري [ (4) ] أن من كان على حرام فرّق اللَّه بينه وبينه ورغب له عنه غفر اللَّه له ذنبه، ومن صلى عليّ صلى اللَّه عليه وملائكته عشرا،
__________
[ (1) ] لعله المنذر بن عمرو بن خنيس بن حارثة، ذكره صاحب (الإصابة) ترجمة رقم 8219 ج 9 ص 285، ولم أجده في ما عندي من كتب السيرة أو الرجال باسم «الغنوي» .
[ (2) ] في (خ) «ابن ربيعة» والتصويب من (المغازي) ج 1 ص 220.
[ (3) ] في نسخة من (المغازي) : «شديد كربه» .
[ (4) ] حدد: أي قد امتنع بي ولزمني.
ومن أحسن من مسلم أو كافر وقع أجره على اللَّه في عاجل دنياه أو آجل آخرته، ومن كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر فعليه الجمعة يوم الجمعة إلا صبيا أو امرأة أو مريضا أو عبدا مملوكا، ومن استغنى عنها [ (1) ] استغنى اللَّه عنه، واللَّه غني حميد.
ما أعلم من عمل يقربكم إلى اللَّه إلا وقد أمرتكم به، ولا أعلم من عمل يقربكم إلى النار إلا وقد نهيتكم عنه، وإنه قد نفث في روعي الروح الأمين أنه لن تموت نفس حتى تستوفي أقصى رزقها، لا ينقص منه شيء وإن أبطأ عنها، فاتقوا اللَّه ربكم، وأجملوا في طلب الرزق، ولا يحملنكم استبطاؤه أن تطلبوه بمعصية ربكم، فإنه لا يقدر ما عنده إلا بطاعته. قد بين لكم الحلال والحرام، غير أن بينهما شبها [ (2) ] من الأمر لا يعلمها كثير من الناس إلا من عصم اللَّه، فمن تركها حفظ عرضه ودينه، ومن وقع فيها كان كالراعي إلى جنب الحمى أو شك أن يقع فيه، وليس ملك إلا وله حمى، ألا وإن حمى اللَّه محارمه. والمؤمن من المؤمنين كالرأس من الجسد إذا اشتكى [ (3) ] تداعى إليه سائر الجسد [ (4) ] ، والسلام عليكم.
,
وأول من أنشب الحرب أبو عامر. طلع في خمسين من قومه مع عبيد قريش فنادى: يا للأوس، أنا أبو عامر، فقالوا: لا مرحبا بك ولا أهلا يا فاسق! فقال:
لقد أصاب قومي بعدي شر! فتراموا بالحجارة ساعة حتى ولّى. ودعا طلحة ابن أبي طلحة إلى البراز فبرز له علي رضي اللَّه عنه فقتله، فكبر المسلمون وسرّ النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بقتله: فإنه هو كبش الكتيبة.
,
وكانت نساء المشركين- قبل التقاء الجمعين- أمام صفوفهم يضربن بالأكبار والدّفاف والغرابيل، ثم يرجعن فيكن في مؤخر الصف، فإذا دنا القوم بعضهم من بعض تأخر النساء وقمن خلف الصفوف: فجعلن كلما ولّى رجل حرضنه وذكرنه
__________
[ (1) ] في (خ) «استغنى عن اللَّه» وما أثبتناه من (المغازي) ج 1 ص 222.
[ (2) ] في (خ) «شبهات» وما أثبتناه من (المغازي) ج 1 ص 222.
[ (3) ] في (خ) «إذا اشتكى» مكررة.
[ (4) ] في (ط) «جسده» . وما أثبتناه من (المغازي) ج 1 ص 222.
قتلاهم ببدر، ويقلن:
نحن بنات طارق ... نمشي على النّمارق [ (1) ]
إن تقبلوا نعانق ... أو تدبروا نفارق
فراق غير وامق
وكان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا سمع قولهن قال: اللَّهمّ إني بك أجول وأصول، وفيك أقاتل، حسبي اللَّه ونعم الوكيل،
ويقال: إن هندا قامت في النسوة يضربن بالدفوف وتقول:
ويها بني عبد الدار ... ويها حماة الأديار
ضربا بكل بتار
وتقول:
نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق
[إلى آخره..
النمارق، جمع نمرقة بضم النون والراء، وربما كسرت النون، حكاه يعقوب: وهي الوسائد، وقد تسمى الطنفسة التي فوق الرحل نمرقة، ويقال في قولها: «نحن بنات طارق» : إنما أرادت بنات الأمر الواضح المضيء كإضاءة النجم، وذلك من قوله تعالى: وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ] .
,
وكان قزمان [ (2) ] يعرف بالشجاعة وقد تأخر، فعيرته نساء بني ظفر فأتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو يسوي الصفوف حتى انتهى إلى الصف الأول، فكان أول من رمى من المسلمين بسهم، فجعل يرسل نبلا كأنها الرماح، ويكت كتيت [ (3) ]
__________
[ (1) ] في (عيون الأثر) ج 2 ص 9 «ونفرش النمارق» وفي (تاريخ الطبري) ج 2 ص 510 «ونبسط النمارق» . والنمارق: جمع نمرقة، وهي الوسادة الصغيرة، قال تعالى: وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ آية 15/ الغاشية وأضاف ابن الأثير في (الكامل) ج 1 ص 153:
«إيها بني عبد الدار ... إيها حماة الديار
ضربا بكل بتار
[ (2) ] يقول الواقدي في (المغازي) ج 1 ص 223: «وكان قزمان من المنافقين، وكان قد تخلف عن أحد، فلما أصبح عيّره نساء بني ظفر ... إلخ» .
[ (3) ] كتّ يكتّ كتيتا: دفع من صدره صوتا شديدا يكون من شدة الغيظ. وفي اللغة: كتّت القدر كتيتا:
صوّتت عند ابتداء غليانها (المعجم الوسيط) ج 2 ص 775.
الجمل، ثم فعل بالسيف الأفاعيل حتى قتل سبعة، وأصابته جراحة فوقع، فناداه قتادة بن النعمان، أبا الغيداق، هنيئا لك الشهادة! فقال: إني واللَّه ما قاتلت يا أبا عمرو على دين، ما قاتلت إلى على الحفاظ [ (1) ] أن تسير إلينا قريش حتى تطأ سعفنا [ (2) ] ، ثم تحامل على سيفه فقتل نفسه.
فذكر للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: من أهل النار، إن اللَّه يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر.
,
وتقدم صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الرماة فقال: احموا لنا ظهورنا، فإنا نخاف أن نؤتى من ورائنا، والزموا مكانكم لا تبرحوا منه، وإذا رأيتمونا نهزمهم حتى ندخل عسكرهم فلا تفارقوا مكانكم، وإن رأيتمونا نقتل فلا تعينونا ولا تدافعوا عنا، اللَّهمّ إني أشهدك عليهم. وأرشقوا خيلهم بالنبل، فإن الخيل لا تقدم [ (3) ] على النبل.
وكان الرماة تحمي ظهور المسلمين، ويرشقون خيل المشركين بالنبل فلا تقع إلا في فرس أو رجل فتولي الخيل هوارب. وشدّ المسلمون على كتائب المشركين فجعلوا يضربون حتى اختلت صفوفهم.
,
[وحمل لواءهم بعد طلحة ابنه أبو شيبة عثمان بن طلحة] [ (4) ] فحمل عليه حمزة فقتله، فحمله أخوه أبو سعد بن أبي طلحة فرماه سعد بن أبي وقاص فقتله. فحمله مسافع بن طلحة بن أبي طلحة فرماه عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح فقتله. فحمله الحارث بن طلحة فرماه عاصم فقتله. فنذرت أمهم سلافة بنت سعد بن الشّهيد- وكانت مع نساء المشركين- أن تشرب في قحف رأس عاصم الخمر، وجعلت لمن جاء به مائة من الإبل. ثم تداول حمل لوائهم عدّة، وكلهم يقتلون، وقال
__________
[ (1) ] الحفاظ: الذب عن المحارم والمنع عند الحروب (المعجم الوسيط) ج 1 ص 185 وفي (ابن هشام) ج 3 ص 34 «فو اللَّه ما قاتلت إلا عن أحساب قومي ولولا ذلك ما قاتلت» .
[ (2) ] سعف النخيل، كناية عن الزرع والأرض.
[ (3) ] في (خ) «لا تقوم» . والتصويب من (الواقدي) ج 1 ص 225.
[ (4) ] كذا في (خ) وهو خطأ، وصوابه في (المغازي) ج 1 ص 226: «ثم حمل لواءهم بعد طلحة عثمان بن أبي طلحة، أبو شيبة» .
الزبير بن بكار: حدثني أبو الحسن الأثرم، عن أبي عبيدة، قال: كان لواء المشركين يوم أحد مع طلحة بن أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار فقتله عليّ ابن أبي طالب رضي اللَّه عنه. وفي ذلك يقول الحجاج بن علاط السّلميّ ثم البهزي [بزاي] [ (1) ] :
للَّه أيّ مذبّب عن حرمة ... أعني ابن فاطمة المعمّ المخولا
جادت يداك لهم بعاجل طعنة ... فتركت طلحة للجبين مجدّلا
وشددت شدّة باسل فكشفتهم ... بالجرّ إذ يهوون أخول أخولا
وعللت سيفك بالدماء ولم تكن ... لتردّه حران [ (2) ] حتى ينهلا
قال: ثم أخذ اللواء بعد طلحة أخوه أبو سعد بن أبي طلحة فقتله سعد بن أبي وقاص رضي اللَّه عنه، ثم أخذ اللواء أخوهما عثمان بن أبي طلحة وهو أبو شيبة، فقتله حمزة بن عبد المطلب رضي اللَّه عنه، ثم أخذ اللواء مسافر بن طلحة بن أبي طلحة، فقتله عاصم [بن ثابت] [ (3) ] بن أبي الأقلح، رماه فلما أحسّ بالموت دفع اللواء إلى أخيه الجلاس بن طلحة بن أبي طلحة فرماه أيضا عاصم [بن ثابت [ (2) ]] ابن أبي الأقلح، فلما أحس الموت دفع اللواء إلى أخيه كلاب بن طلحة فقتله قزمان عديد [ (4) ] بني ظفر من الأنصار، ثم أخذ اللواء الحارث بن أبي طلحة فقتله قزمان،
__________
[ (1) ] ترجمته في (الإصابة) ج 2 ص 214- 216 برقم 1618.
[ (2) ] كذا في (خ) ، وفي المرجع السابق: «لتردّه في الغمد حتى ينهلا» وهذه الأبيات في ابن هشام ج 3 ص 79 على هذا النحو:
للَّه أي مذبب عن حرمة ... أعني ابن فاطمة المعم المخولا
سبقت يداك له بعاجل طعنة ... تركت طليحة للجبين مجدلا
وشدت شدة باسل فكشفتهم ... بالجر إذ يهون أخول أخولا
- المذبب: الحامي.
- الحرمة: ما يجب على الإنسان أن يدافع عنه.
- ابن فاطمة: الإمام علي.
- المعم المخول: كريم الأعمام والأخوال.
- الجر: أصل الجبل.
- أخول أخولا: واحدا بعد واحد.
[ (3) ] زيادة من (الواقدي) ج 1 ص 227.
[ (4) ] يقال فلان عديد بني فلان: أي يعد فيهم وليس منهم صليبة.
فأخذ اللواء ارطأة بن شرحبيل [ (1) ] بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار فقتله مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار صاحب لواء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم قتل مصعب بن عمير. ثم أخذ لواء المشركين أبو يزيد بن عمير بن هاشم ابن عبد مناف بن عبد الدار فقتله قزمان أيضا. ثم أخذ اللواء القاسط بن شريح [ (2) ] ابن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار فقتله قزمان أيضا. فذلك عشرة، وقيل:
سبعة من صليبتهم مشركون قتلوا يوم أحد. ثم أخذ اللواء «صؤاب» غلام لهم حبشي، فقالوا له: [لا] [ (3) ] نؤتينّ من قبلك، فقطعت يمينه فأخذ اللواء بشماله، فقطعت فالتزم القناة، وقال [ (4) ] : قضيت ما عليّ؟ قالوا: نعم، فرماه قزمان فقتله. ووقع اللواء فتفرق المشركون، فأخذت اللواء عمرة بنت علقمة الحارثية، [قال الكلبي: عمرة بنت الحارث بن الأسود بن عبد اللَّه بن عامر بن عوف بن الحارث بن عبد مناة بن كنانة] فأقامته، فتراجع المشركون فقال حسان ابن ثابت رضي اللَّه عنه، يعير بني مخزوم بالفرار، ويذكر صبر بني عبد الدار:
صلي البأس منهم إذ فررتم ... عصبة من بني قصي صميم
عمرة تحمل اللواء وطارت ... في رعاع من القنا مخزوم
لم تطق حمله الزعانف منهم ... إنما يحمل اللواء النجوم
وقال في صؤاب [ (5) ] :
__________
[ (1) ] كذا في (ابن سعد) ج 2 ص 41، و (الواقدي) ج 1 ص 228. وفي (ابن هشام) ج 3 ص 62 «أرطاة عبد شرحبيل» .
[ (2) ] في (خ) «القاسط ثم شرحبيل» والتصويب من (ابن هشام) ج 3 ص 62.
[ (3) ] زيادة للسياق.
[ (4) ] في (المغازي) ج 1 ص 228 «وقال: يا بني عبد الدار، هل أعذرت؟» .
[ (5) ] هذه الأبيات في ديوان حسان بن ثابت ص 372 هكذا:
فخرتم باللواء وشر فخر ... لواء حين ردّ إلى صؤاب
جعلتم فخركم فيه لعبد ... من الأم من يطا عفر التراب
حسبتهم والسفيه أخو ظنون ... وذلك ليس من أمر الصواب
بأن لقاءنا إذ حان يوم ... بمكة بيعكم حمر العياب
أقر العين إن عصبت يداه ... وما إن تعصبان على خضاب
ورواها أيضا (الطبري) ج 2 ص 513- 514 (وابن هشام) ج 3 ص 27، باختلاف يسير وقال: آخرها بيتا يروى لأبي خراش الهذلي وأنشدنيه له خلف الأحمر:
فخرتم باللواء وشرّ فخر ... لواء حين ردّ إلى صؤاب
جعلتم فخركم فيه لعبد ... لألأم من مشى فوق التراب
وقال في إقامة الحارثية اللواء، وفي سياق الأحابيش معهم [ (1) ] :
إذا عضل [ (2) ] سيقت إلينا كأنهم ... جداية شرك معلمات الحواجب
أقمنا لهم ضربا مبيرا منكلا ... وحزناهم بالطعن من كل جانب
ولولا لواء الحارثية أصبحوا ... يباعون في الأسواق بيع الجلائب [ (3) ]
وقال أبو عبيدة فيما سمع من علي:
أقمنا لكم ضربا طلخفا [ (4) ] منكّلا ... وحزناكم بالطعن من كل جانب
,
وما ظفر اللَّه نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم في موطن قط ما ظفره وأصحابه يوم أحد حتى عصوا الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم وتنازعوا في الأمر. لقد قتل أصحاب اللواء، وانكشف المشركون منهزمين لا يلوون، ونساؤهم يدعون بالويل بعد ضرب الدفاف والفرح، ولكن المسلمين أتوا من قبل الرماة، فإن المشركين لما انهزموا وتبعهم المسلمون: يضعون السلاح فيهم حيث شاءوا، ووقعوا ينتهبون عسكرهم، قال بعض الرماة لبعض:
لم [ (5) ] تقيمون هاهنا في غير شيء؟ قد هزم اللَّه العدوّ وهؤلاء إخوانكم ينتهبون عسكرهم! فادخلوا عسكر المشركين فاغنموا مع إخوانكم.
فقال بعضهم: ألم تعلموا أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال لكم: احموا ظهورنا، ولا تبرحوا مكانكم، وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن غنمنا فلا تشركونا، احموا ظهورنا.
فقال
__________
[ () ]
أقر العين أن عصبت يداها ... وما إن تعصبان على خضاب
في أبيات له، يعني امرأته، في غير حديث أحد.
[ (1) ] انظر الديوان ص 172.
[ (2) ] عضل: اسم قبيلة. والجداية: الصغير من ولد الظبي. شرك: موضع. انظر (ابن هشام) ج 3 هامش ص 28.
[ (3) ] الجلائب: ما يجلب إلى الأسواق ليباع فيها (المرجع السابق) .
[ (4) ] كذا في (خ) و (ط) ولعلها «طلحفا» بالحاء المهملة. والطلحف: الشديد (ترتيب القاموس) ج 3 ص 86.
[ (5) ] في (خ) «لا» .
الآخرون: لم يرد رسول اللَّه هذا. وانطلقوا، فلم يبق منهم مع أميرهم عبد اللَّه ابن جبير إلا دون العشرة، وذهبوا إلى عسكر المشركين ينتهبون، وكانت الريح أول النهار صبا فصارت دبورا، وبينا المسلمون قد شغلوا بالنهب والغنائم، إذ دخلت الخيول تنادي فرسانها بشعارهم: يا للعزى [يا لهبل] [ (1) ] ، ووضعوا في المسلمين السيوف وهم آمنون، وكل منهم في يده أو حضنه شيء قد أخذه، فقتلوا فيهم قتلا ذريعا، وتفرق المسلمون في كل وجه، وتركوا ما انتهبوا، وخلوا من أسروا، وكرّ خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل في الخيل إلى موضع الرماة، فرماهم عبد اللَّه بن جبير بمن معه حتى قتل، فجردوه ومثل به أقبح المثل [ (2) ] ، وكانت الرماح قد شرعت في بطنه حتى خرقت ما بين سرته إلى خاصرته إلى عانته وخرجت حشوته [ (3) ] . وجرح عامة من كان معه، وانتقضت صفوف المسلمين.
,
ونادى إبليس عند جبل عينين [ (4) ]- وقد تصور في صورة جعال بن سراقة-: إن محمدا قد قتل: ثلاث صرخات، فما كانت دولة أسرع من دولة المشركين [ (5) ] .
,
واختلط المسلمون وصاروا يقتلون، ويضرب بعضهم بعضا، ما يشعرون من العجلة والدّهش، وجرح أسيد بن حضير جرحين ضربه أحدهما أبو بردة [بن نيار] [ (6) ] وما يدري، وضرب أبو زعنة [ (7) ] أبا بردة ضربتين وما يشعر والتقت أسياف المسلمين على اليمان [حسيل بن جابر] وهم لا يعرفونه حين اختلطوا، وحذيفة يقول: أبي، أبي!! حتى قتل. فقال حذيفة: يغفر اللَّه لكم وهو أرحم
__________
[ (1) ] في (خ) «إذ دخلت الخيول بالهبل تنادي فرسانها بشعارهم يا للعزى» .
[ (2) ] المثلة: التنكيل والعقوبة (المعجم الوسيط) ج 2 ص 854.
[ (3) ] الحشوة: جميع ما في البطن عدا الشحم (المرجع السابق) ج 1 ص 177.
[ (4) ] أحد جبال أحد، ويقال ليوم أحد: «يوم عينين» .
[ (5) ] الدّولة: الغلبة (المعجم الوسيط) ج 1 ص 304.
[ (6) ] زيادة من (الواقدي) ج 1 ص 232.
[ (7) ] في (خ) «أبو رعنة» وما أثبتناه من (الواقدي) ج 1 ص 233.
الراحمين. فزادته عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خيرا، وأمر رسول اللَّه بديته أن تخرج، فتصدق حذيفة بن اليمان بديته على المسلمين. ويقال: إن الّذي أصابه عتبة بن مسعود.
وأقبل الحباب بن المنذر بن الجموح يصيح: يا آل سلمة!، فأقبلوا إليه عنقا [ (1) ] واحدة: لبيك داعي اللَّه!! فيضرب يومئذ جبّار بن صخر في رأسه وما يدري، حتى أظهروا الشعار بينهم [ (2) ] فجعلوا يصيحون: أمت أمت! فكف بعضهم عن بعض، وقتل مصعب بن عمير وبيده اللواء، فقتله ابن قميئة واسمه عمرو، وقيل:
عبد اللَّه.
تفرق المسلمون ثم البشرى بسلامة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
وتفرق المسلمون في كل وجه، وأصعدوا في الجبل لما نادى الشيطان: قتل محمد! فكان أول من بشرهم برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سالما كعب بن مالك، فجعل يصيح ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يشير إليه بإصبعه على فيه: أن اسكت. ودعا بلأمة كعب- وكانت صفراء أو بعضها- فلبسها ونزع لأمته فلبسها كعب. وقاتل كعب حتى جرح سبعة عشر جرحا لشدة قتاله. وصار أبو سفيان بن حرب يقول:
يا معشر قريش أيكم قتل محمدا؟ فقال ابن قميئة: أنا قتلته! قال: نسوّرك [ (3) ] كما تفعل الأعاجم بأبطالها [ (4) ] . وجعل يطوف بأبي عامر الفاسق في المعرك، هل يرى محمدا؟ وتصفح القتلى فقال: ما نرى مصرع محمد، كذب ابن قميئة. ولقي خالد ابن الوليد فقال: هل تبين عندك قتل محمد؟ قال: رأيته قبل في نفر من أصحابه مصعدين في الجبل. قال [أبو سفيان] [ (5) ] هذا حق، كذب ابن قميئة، زعم أنه قتله.
__________
[ (1) ] العنق: الجماعة من الناس، يقال جاء الناس عنقا عنقا. (المعجم الوسيط) ج 2 ص 632.
[ (2) ] في (خ) «منهم» ، والتصويب من (الواقدي) ج 1 ص 234.
[ (3) ] نسوّرك: نلبسك السّوار (المعجم الوسيط) ج 1 ص 462.
[ (4) ] في (خ) «ببطلانها» . والتصويب من (المغازي) ج 1 ص 236.
[ (5) ] زيادة للإيضاح.
نداء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المسلمين إليه
وجعل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- وقد انكشف الناس إلى الجبل وهم لا يلوون عليه- يقول: إليّ يا فلان، إلي يا فلان، أنا رسول اللَّه! فما عرّج واحد عليه.
هذا، والنبل يأتيه صلّى اللَّه عليه وسلّم من كل ناحية وهو في وسطها واللَّه يصرفها عنه. وعبد اللَّه بن شهاب الزهريّ يقول: دلوني على محمد فلا نجوت إن نجا! ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إن جنبه ما معه أحد. ثم جاوزه عبد للَّه بن شهاب فلقي صفوان بن أمية [ (1) ] فقال له:
ترحت [ (2) ] ! ألم يمكنك أن تضرب محمدا فتقطع هذه الشأفة [ (3) ] ، فقد أمكنك اللَّه منه؟ قال: وهل رأيته؟ قال: نعم! إنه إلى جنبك، قال: واللَّه ما رأيته! أحلف [ (4) ] أنه منا ممنوع، خرجنا أربعة تعاهدنا على قتله فلم نخلص إلى ذلك.
,
وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لما انكشف المسلمون لم يبق معه إلا نفير [ (5) ] ، فأحدق به أصحابه من المهاجرين والأنصار، وانطلقوا به إلى الشعب وما للمسلمين لواء قائم ولا فئة ولا جمع، وإن كتائب المشركين لتحوشهم [ (6) ] مقبلة ومدبرة في الوادي يلتقون ويفترقون: ما يرون أحدا من الناس يردهم، ثم رجعوا نحو معسكرهم واشتوروا [ (7) ] في المدينة وفي طلب المسلمين، فبينا هم على ما هم فيه إذ طلع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى أصحابه: فكأنهم لم يصبهم شيء حين رأوه سالما.
,
وكان ابن قميئة- لما قتل مصعب بن عمير وسقط اللواء من يده- ابتدره رجلان من بني عبد الدار: سويبط بن حرملة وأبو الروم فأخذه أبو الروم فلم يزل في يده حتى دخل به المدينة حين انصرف المسلمون. ويقال: بل دفعه رسول اللَّه
__________
[ (1) ] في (خ) «صفوان بن أمية بن شهاب» وما أثبتناه من (المغازي) ج 1 ص 238.
[ (2) ] ترحت: في (خ) «قرحت» ، والصواب ما أثبتناه، وهو دعاء من التّرح، وهو الحزن.
[ (3) ] الشأفة: قرحة تخشن فتستأصل بالكي (المعجم الوسيط) ج 1 ص 469.
[ (4) ] في (المغازي) «أحلف باللَّه» ج 1 ص 238.
[ (5) ] تصغير نفر.
[ (6) ] يأخذونهم من حواليهم من كل جانب.
[ (7) ] في (الواقدي) ج 1 ص 238: «نحو معسكرهم، وتآمروا في المدينة وفي طلبنا» .
صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه. واقتتل الفريقان على الاختلاط من الصفوف، ونادى المشركون بشعارهم [يا للعزى، يا آل هبل] [ (1) ] فأوجعوا في المسلمين قتلا ذريعا، ونالوا من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ما نالوا. ولم يزل صلّى اللَّه عليه وسلّم شبرا واحدا بل وقف في وجه العدو، وأصحابه تثوب إليه مرة منهم طائفة، وتتفرق عنه مرة، وهو يرمي عن قوسه أو بحجر حتى تحاجزوا.
من ثبت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من المسلمين في أحد
وثبت معه خمسة عشر رجلا [ (2) ] : سبعة من المهاجرين هم: أبو بكر، وعمر، وعبد الرحمن بن عوف، وعلي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد اللَّه، وأبو عبيدة بن الجراح، والزبير بن العوام، ومن الأنصار سبعة: الحباب بن المنذر، وأبو دجانة، وعاصم بن ثابت، والحارث بن الصمة، وسهل بن حنيف، وأسيد بن حضير، وسعد بن معاذ. ويقال: ثبت سعد بن عبادة، ومحمد بن مسلمة: فيجعلونهما مكان أسيد بن حضير، وسعد بن معاذ.
,
وبايعه يومئذ على الموت ثمانية: ثلاثة من المهاجرين هم: علي، والزبير، وطلحة، وخمسة من الأنصار هم: أبو دجانة، والحارث بن الصمة، وحباب بن المنذر، وعاصم بن ثابت، وسهل بن حنيف، فلم يقتل منهم أحد يومئذ، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يدعوهم في أخراهم [حتى انتهى من انتهى منهم إلى قريب من دون المهراس] [ (3) ] ويقال: ثبت بين يديه يومئذ ثلاثون رجلا كلهم يقول: وجهي دون وجهك، ونفسي دون نفسك، وعليك السلام غير مودّع [ (4) ] .
__________
[ (1) ] زيادة من المرجع السابق.
[ (2) ] كذا في (خ) و (ط) ، ورواية (ابن سعد) ج 2 ص 42، و (الواقدي) ج 1 ص 240 «أربعة عشر رجلا، سبعة من المهاجرين وسبعة من الأنصار» .
[ (3) ] زيادة من (الواقدي) ج 1 ص 240، والمهراس: ماء بجبل أحد (انظر المرجع السابق) .
[ (4) ] غير مودّع: غير متروك، إشارة إلى قوله تعالى: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى آية 3/ الضحى.
خبر المدافعين عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
ويقال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لما لحمه القتال [ (1) ] وخلص إليه، ذبّ عنه مصعب ابن عمير، وأبو دجانة حتى كثرت به الجراحة،
فجعل صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: من رجل يشري [ (2) ] نفسه؟
فوثب فتية من الأنصار خمسة، منهم عمارة بن زيادة بن السكن فقاتل حتى أثبت وفاءت [ (3) ] فئة من المسلمين فقاتلوا حتى أجهضوا أعداء اللَّه.
فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم لعمارة بن زياد: أدن منّي، إليّ إليّ! حتى وسّده رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قدمه- وبه أربعة عشر جرحا- حتى مات.
وجعل صلّى اللَّه عليه وسلّم يومئذ يذمّر [ (4) ] الناس ويحضهم على القتال. وكان رجال من المشركين قد أذلقوا [ (5) ] المسلمين بالرّمي، منهم حبان بن العرقة وأبو أسامة الجشمي،
فجعل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول لسعد بن أبي وقاص: إرم فداك أبي وأمي.
,
ورمى حبان بن العرقة بسهم فأصاب ذيل أم أيمن- وقد جاءت تسقي الجرحى- فانكشف عنها فاستغرب [ (6) ] في الضحك، فشق ذلك على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فدفع إلى سعد بن أبي وقاص سهما لا نصل له فقال: إرم، فوقع السهم في نحر حبّان فوقع مستلقيا وبدت عورته، فضحك صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى بدت نواجذه، ثم قال:
استقاد [ (7) ] لها سعد! أجاب اللَّه دعوتك وسدد رميتك.
وكان مالك بن زهير [ (8) ]- أخو أبي سلمة [ (9) ] الجشمي- هو وحبان بن العرقة قد أكثرا [ (10) ] في المسلمين القتل بالنبل، فرمى سعد بن أبي وقاص مالكا أصاب السهم عينه حتى خرج من قفاه فقتله، ورمى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يومئذ عن قوسه حتى صارت شظايا فأخذها قتادة بن النعمان فلم تزل عنده.
__________
[ (1) ] كذا في (المغازي) ج 1 ص 240.
[ (2) ] أي يبيع نفسه للموت.
[ (3) ] رجعت.
[ (4) ] يحرض.
[ (5) ] في (خ) «أولقو» ، وأذلق: أسرع في الرمي وأضعفوا (المعجم الوسيط) ج 1 ص 314.
[ (6) ] في (خ) «استغرت» .
[ (7) ] أي انتصف.
[ (8) ] في (خ) «أخا» .
[ (9) ] كذا في (خ) ، (ط) وفي (الواقدي) «أبي أسامة» ج 1 ص 241.
[ (10) ] في (خ) «أكثروا» .
,
وأصيبت عين قتادة بن النعمان حتى وقعت على وجنته، فجاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخذها وردها فعادت كما كانت، ولم تضرب عليه بعدها. وكان يقول بعد ما أسنّ: هي أقوى عينيّ! وكانت أحسنهما.
مباشرته صلّى اللَّه عليه وسلّم القتال
وباشر صلّى اللَّه عليه وسلّم القتال ورمى بالنبل حتى فنيت نبله، وتكسرت سية [ (1) ] قوسه.
وقبل ذلك ما انقطع وتره وبقيت في يده قطعة تكون شبرا في سية القوس،
فأخذ القوس عكاشة بن محصن ليوتر [ (2) ] له فقال: يا رسول اللَّه، لا يبلغ الوتر، فقال مدّه يبلغ!
قال عكاشة: فو الّذي بعثه بالحق، لمددته حتى بلغ وطويت منه ليتين أو ثلاثا على سية القوس، ثم أخذ صلّى اللَّه عليه وسلّم قوسه فما زال يرام القوم- وأبو طلحة يستره مترسا عنه- حتى تحطمت القوس.
,
وكان أبو طلحة قد نثر كنانته- وفيها خمسون سهما- بين يدي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم- وكان راميا وكان صيّتا [ (3) ]-
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: صوت أبي طلحة في الجيش خير من أربعين رجلا، فلم يزل يرم بها ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من خلفه بين رأسه ومنكبه ينظر إلى مواقع النّبل حتى فنيت نبله وهو يقول: نحري دون نحرك جعلني اللَّه فداك. فإن كان صلّى اللَّه عليه وسلّم ليأخذ العود من الأرض فيقول: ارم أبا طلحة! فيرمي بها سهما جيدا.
,
ورمى يومئذ أبو رهم الغفاريّ بسهم فوقع في نحره، فبصق عليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فبرأ، وسمّي بعد ذلك المنحور.
__________
[ (1) ] سية القوس: طرفه.
[ (2) ] يوتر للقوس: يشدّ وترها.
[ (3) ] رفيع الصوت جهيره.
المتعاهدون من قريش على قتل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
وكان أربعة من قريش قد تعاهدوا وتعاقدوا على قتل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وعرفهم المشركون بذلك، وهم: عبد اللَّه بن شهاب، وعتبة بن أبي وقاص، وعمرو بن قميئة، وأبي بن خلف [وزاد بعضهم [ (1) ] وعبد اللَّه بن حميد بن زهير بن الحارث ابن أسد بن عبد العزى بن قصي] .
خبر ما أصاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الجراحة يوم أحد
ورمى عتبة يومئذ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بأربعة أحجار فكسر رباعيته، أشظى [ (2) ] باطنها اليمنى السفلى، وشج في وجنتيه حتى غاب حلق المغفر [ (3) ] في وجنته، وأصيبت ركبتاه: جحشتا [ (4) ] ، وكانت حفر حفرها أبو عامر كالخنادق يكيد بها المسلمين، وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم واقفا على بعضها ولا يشعر به. والثبت أن الّذي رمى وجنته صلّى اللَّه عليه وسلّم ابن قميئة، والّذي رمى شفته وأصاب رباعيته عتبة بن أبي وقاص.
وأقبل ابن قميئة- وهو يقول: دلوني على محمد، فو الّذي يحلف به [ (5) ] لئن رأيته لأقتلنه- فعلاه بالسيف، ورماه عتبة بن أبي وقاص مع تجليل [ (6) ] السيف- وكان عليه درعان. فوقع صلّى اللَّه عليه وسلّم في الحفرة التي أمامه على جنبه فجحشت ركبتاه، ولم يصنع سيف ابن قميئة شيئا إلا وهن الضربة بثقل السيف فقد وقع لها صلّى اللَّه عليه وسلّم وانتهض، وطلحة يحمله من ورائه، وعليّ آخذ بيده حتى استوى قائما. ويقال: الّذي شج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في جبهته ابن شهاب، والّذي أشظي رباعيته وأدمى شفتيه عتبة ابن أبي وقاص، والّذي دمّى وجنتيه حتى غاب الحلق في وجنته ابن قميئة وسال الدم من شجته التي [ (7) ] في جبهته حتى أخضل الدم لحيته صلّى اللَّه عليه وسلّم،
وكان سالم مولى أبي حذيفة رضي اللَّه عنه يغسل الدم من وجه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهو صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول:
__________
[ (1) ] ذكره ابن الأثير في (الكامل) ج 2 ص 154- 155.
[ (2) ] الرباعية: إحدى الأسنان الأربعة التي في مقدم الفم من أعلى وأسفل، وأشظى: كسرت فصارت لها شظية.
[ (3) ] من أدوات الحرب لوقاية العنق والعاتقين.
[ (4) ] جحشت الركبة: أصيب إصابة كالخدش أو أشد.
[ (5) ] كناية عن اللات والعزى، وهو من أيمان الشرك.
[ (6) ] في (خ) «تحليل» وجلل السيف: إذا علّاه.
[ (7) ] في (خ) «الّذي» .
كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم؟ وهو يدعوهم إلى اللَّه عز وجل، فأنزل اللَّه تعالى:
لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ [ (1) ] وقال:
اشتد غضب اللَّه [ (2) ] على قوم دمّوا فا [ (3) ] رسول اللَّه، اشتد غضب اللَّه على قوم دمّوا وجه رسول اللَّه، اشتد غضب اللَّه على رجل قتله رسول اللَّه، وقال: اللَّهمّ لا يحولنّ الحول على أحد منهم! فما حال الحول على أحد ممن رماه أو جرحه صلّى اللَّه عليه وسلّم:
فمات عتبة، وقتل ابن قميئة في المعركة. ويقال بل رمي بسهم فأصاب مصعب ابن عمير رضي اللَّه عنه قتله، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما له أقمأه اللَّه؟ فعمد إلى شاة يحتلبها فنطحته بقرنها وهو معتقلها فقتلته فوجد ميتا بين الجبال.
وكان عدو اللَّه قد رجع إلى قومه فأخبرهم أنه قتل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [وهو رجل من بني الأدرم [ (4) ] من بني فهر] وأقبل عبد اللَّه بن حميد بن زهير- حين رأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على تلك الحال- يركض فرسه مقنعا في الحديد يقول: أنا ابن زهير! دلوني على محمد، فو اللَّه لأقتلنه أو لأموتن دونه. فقال له أبو دجانة: هلم إلى من يقي نفس محمد بنفسه. وضرب فرسه عرقبها [ (5) ] ثم علاه بالسيف فقتله،
ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ينظر إليه ويقول: اللَّهمّ ارض عن أبي خرشة كما أنا عنه راض، وكان أبو دجانة قد ترّس عنه صلّى اللَّه عليه وسلّم بظهره، ونبل يقع فيه وهو لا يتحرك، رضي اللَّه عنه.
نزع الحلق من وجنته صلّى اللَّه عليه وسلّم
ولما أصاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ما أصاب أقبل أبو بكر رضي اللَّه عنه يسعى، فوافاه طلحة بن عبيد اللَّه، وبدر [ (6) ] أبو عبيدة بن الجراح فأخذ بثنيته حلقة المغفر فنزعها وسقط على ظهره وسقطت ثنيته، ثم أخذ الحلقة الأخرى [فكان أبو عبيدة في الناس أثرم [ (7) ]] ويقال: إن الّذي نزع الحلقتين من وجه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عقبة ابن وهب بن كلدة، ويقال: أبو اليسر، وأثبت ذلك: عقبة بن وهب، فيما ذكره الواقدي [ (8) ] . وقال غيره: الصحيح أن أبا عبيدة بن الجراح وعقبة بن وهب
__________
[ (1) ] الآية 128/ آل عمران، وفي (خ) «عليهم الآية» .
[ (2) ] في (خ) «غضب علي» .
[ (3) ] أي فم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
[ (4) ] هم بني تيم الأدرم.
[ (5) ] أي قطع عرقوبها.
[ (6) ] بدر: أسرع.
[ (7) ] في (خ) «وكان أثرم» وما أثبتناه من (المغازي) ج 1 ص 247، والثرم هو سقوط الثنية أو انكسار السن من أصلها (ترتيب القاموس) ج 1 ص 402.
[ (8) ] المغازي ج 1 ص 247.
عالجاها حتى طارت ثنيتا أبي عبيدة في معالجته لهما، فكان أحسن أهتم خلق. ولما نزعتا جعل الدم يسيل، فجعل مالك بن سنان [وهو والد أبي سعيد الخدريّ] يملج الدم بفيه ثم ازدرده [ (1) ] ،
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من أحب أن ينظر إلى من خالط دمه دمي فلينظر إلى مالك بن سنان. وقيل له: تشرب الدم؟ فقال نعم! أشرب دم رسول اللَّه. فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: من مسّ دمه دمي لم تصبه النار.
مسح فاطمة الدم عن وجهه صلّى اللَّه عليه وسلّم
وخرجت فاطمة عليها السلام في نساء، فلما رأت الّذي بوجه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم اعتنقته وجعلت تمسح الدم عن وجهه، وذهب علي رضي اللَّه عنه يأتي بماء وقال لفاطمة: أمسكي هذا السيف غير ذميم فأتى بماء في مجنه [ (2) ] فأراد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يشرب منه- وكان قد عطش- فلم يستطع، ووجد ريحا من الماء كرهها فقال:
هذا ماء آجن [ (3) ] ، فمضمض منه فاه للدم الّذي فيه، وغسلت فاطمة عن أبيها الدم، ورأى صلّى اللَّه عليه وسلّم سيف علي مختضبا فقال: إن كنت أحسنت القتال فقد أحسن عاصم بن ثابت، والحارث بن الصمة، وسهل بن حنيف، وسيف أبي دجانة غير مذموم.
,
وخرج محمد بن مسلمة يطلب مع النساء ماء- وكن قد جئن أربع عشرة امرأة منهن فاطمة عليها السلام، يحملن الطعام والشراب على ظهورهن، ويسقين الجرحى، ويداوينهم [ (4) ] . ومنهن أم سليم بنت ملحان، وعائشة أم المؤمنين رضي اللَّه عنها على ظهورهما القرب، ومنهن حمنة بنت جحش وكانت تسقي العطشى وتداوي الجرحى، ومنهن أم أيمن تسقي الجرحى- فلم يجد محمد بن مسلمة عند النساء ماء. وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد عطش عطشا شديدا، فذهب محمد إلى قناة حتى استفى من حسي [ (5) ] ، فأتى بماء عذب فشرب منه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ودعا له
__________
[ (1) ] ملج: امتصّ ورضع، ازدرد: ابتلع، تقول ملج الصبي أمه إذا رضعها (النهاية) ج 4 ص 353.
[ (2) ] المجن: الترس.
[ (3) ] الماء الآجن: الماء المتغير الطعم واللون (النهاية) ج 1 ص 26.
[ (4) ] في (خ) : و «يداويهن» .
[ (5) ] الحسي: حفيرة قريبة من القعر، قيل إنه لا يكون إلا في أرض أسفلها حجارة وفوقها رمل، فإذا
بخير. وجعل الدم لا ينقطع،
وجعل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: لن ينالوا منا مثلها حتى تستلموا الركن.
دواء جرح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
فلما رأت فاطمة الدم لا يرقأ [ (1) ]- وهي تغسله وعلي يصب الماء عليها بالمجنّ، أخذت قطعة حصير فأحرقته حتى صار رمادا، ثم ألصقته بالجرح فاستمسك الدم، ويقال: داوته بصوفة محترقة. وكان صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد يداوي الجرح في وجهه بعظم بال حتى يذهب أثره. ومكث يجد وهن ضربة ابن قميئة على عاتقه شهرا أو أكثر من شهر.
قتل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أبي بن خلف
وأقبل يومئذ أبي بن خلف يركض فرسه حتى [إذا] [ (2) ] دنا من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم اعترض له ناس من المسلمين ليقتلوه فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: استأخروا عنه!
وقام وحربته في يده فرماه بها بين سابغة [ (3) ] البيضة والدرع فطعنه [ (4) ] هناك، فوقع عن فرسه وكسر ضلع من أضلاعه، فاحتملوه فمات- لما ولوا [قافلين] [ (5) ]- بالطريق، وفيه نزلت: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [ (6) ]
وكان أبيّ بن خلف قدم المدينة في فداء ابنه وقد أسر يوم بدر، فقال: يا محمد! إن عندي فرسا أجلها فرقا [ (7) ] من ذرة كل يوم أقتلك عليها، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: بل أنا أقتلك عليها إن شاء اللَّه. ويقال: قال ذلك بمكة فبلغ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كلمته بالمدينة فقال:
أنا أقتله عليها إن شاء اللَّه. وكان صلّى اللَّه عليه وسلّم في القتال لا يلتفت وراءه، فكان يقول لأصحابه: إني أخشى أن يأتي أبيّ بن خلف من خلفي فإذا رأيتموه فآذوني،
فإذا بأبيّ يركض على فرسه، وقد رأى رسول اللَّه فعرفه، فجعل يصيح بأعلى صوته:
__________
[ () ] أمطرت نشفها الرمل فإذا انتهى إلى الحجارة أمسكته (النهاية) ج 1 ص 387.
[ (1) ] في (خ) «يرقى» .
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] السابغ والسابغة والتسبغة: ما توصل به من حلق الدروع فتستر العنق. (المعجم الوسيط) ج 1 ص 414.
[ (4) ] في (خ) فقطعه.
[ (5) ] زيادة للإيضاح.
[ (6) ] الآية 17/ الأنفال.
[ (7) ] أجلها: أي أعلفها. (النهاية) ج 1 ص 289، والفرق: مكيال بالمدينة يسع ثلاثة آصع، (ترتيب القاموس) ج 3 ص 479.
يا محمد، لا نجوت إن نجوت! فقال القوم: يا رسول اللَّه! ما كنت صانعا حين يغشاك، فقد جاءك! وإن شئت عطف عليه بعضنا. فأبى صلّى اللَّه عليه وسلّم، ودنا أبيّ، فتناول صلّى اللَّه عليه وسلّم الحربة من الحارث بن الصمة، [ويقال: من الزبير بن العوام] ، ثم انتفض [بأصحابه] [ (1) ] كما ينتفض البعير، فتطاير عنه أصحابه- ولم يكن أحد يشبه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذ جد الجد- ثم أخذ الحربة فطعنه بها في عنقه وهو على فرسه، فجعل يخور كما يخور الثور، ويقول له أصحابه: أبا عامر! واللَّه ما بك بأس، ولو كان هذا الّذي بك بعين أحدنا ما ضره! فيقول: لا واللات والعزى، ولو كان هذا الّذي بي بأهل [ذي] [ (1) ] المجاز لماتوا أجمعون! أليس قال: لأقتلنك؟
فاحتملوه، وشغلهم ذلك عن طلب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ولحق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعظم أصحابه في الشعب. وقال عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنه: مات أبيّ بن خلف ببطن رابغ، فإنّي لأسير ببطن رابغ- بعد هويّ [ (2) ] من الليل- إذا نار تأجج لي فهبتها، فإذا رجل يخرج منها في سلسلة يجذبها يصيح: العطش! وإذا رجل يقول:
لا تسقه، فإن هذا قتيل رسول اللَّه، هذا أبيّ بن خلف. فقلت: ألا سحقا [ (3) ] ويقال: مات بسرف [ (4) ] ويقال: لما تناول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم الحربة من الزبير حمل أبيّ على رسول اللَّه ليضربه، فاستقبله مصعب بن عمير يحول بنفسه دون رسول اللَّه، فضرب مصعب وجه أبيّ، وأبصر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فرجة بين سابغة البيضة والدروع فطعنه هناك، فوقع وهو يخور.
قتل عثمان بن عبد اللَّه المخزومي
وأقبل عثمان بن عبد اللَّه بن المغيرة المخزومي على فرس أبلق يريد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وعليه لأمة [ (5) ] كاملة- ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم موجه إلى الشّعب- وهو يصيح: لا نجوت إن نجوت! فوقف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وعثر بعثمان فرسه في تلك
__________
[ (1) ] زيادة للإيضاح والسياق.
[ (2) ] الهوى: الساعة من الليل (المعجم الوسيط) ج 2 ص 1002. ورابغ موضع بين المدينة، والجحفة (معجم ما استعجم) ج 1 ص 625.
[ (3) ] سحقا: بعد أشد البعد وسحق اللَّه فلانا أي أبعده، (المعجم الوسيط) ج 1 ص 420.
[ (4) ] موضع على ستة أميال من مكة (معجم البلدان) ج 3 ص 212.
[ (5) ] اللأمة: أدوات الحرب كلها من رمح وبيضة ومغفر وسيف ودرع (المعجم الوسيط) ج 3 ص 810.
الحفرة فيقع، ويخرج الفرس عائرا [ (1) ] فأخذه المسلمون فعقروه. ومشى الحارث بن الصمة إليه فاضطربا ساعة بسيفهما، ثم ضربه الحارث على رجله فبرك، ودفف عليه وأخذ درعه ومغفره وسيفه- ولم يسمع بأحد [ (2) ] سلب يومئذ غيره-
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: الحمد للَّه الّذي أحانه
[ (3) ] . وكان عبد اللَّه بن جحش أسره ببطن نخلة، فافتدى من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وعاد إلى مكة حتى قدم فقتله اللَّه بأحد.
,
[ويرى مصرعه] [ (4) ] عبيد بن حاجز العامري [فأقبل] يعدو فضرب الحارث ابن الصمة فجرحه على عاتقه، فاحتمله أصحابه. ووثب أبو دجانة سماك بن خرشة الأنصاري إلى عبيد فناوشه ساعة ثم ذبحه بالسيف ذبحا، ولحق برسول اللَّه [ (5) ] صلّى اللَّه عليه وسلّم.
سهل بن حنيف ينضح بالنبل عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
وكان سهل بن حنيف ينضح بالنبل عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال عليه السلام: نبلو سهلا فإنه سهل. ونظر صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى أبي الدرداء رضي اللَّه عنه والناس منهزمون فقال: نعم الفارس عويمر غير أفّة
[ (6) ] . ويقال: لم يشهد أبو الدرداء أحدا. ولقي أبو أسيرة بن الحارث بن علقمة رجلا فاختلفا ضربات [ (7) ] حتى قتله أبو أسيرة، فأقبل خالد بن الوليد على فرس أدهم أغر فطعن أبا أسيرة من خلفه: خرج الرمح من صدره فمات.
قتال طلحة بن عبيد اللَّه
وقاتل طلحة بن عبيد اللَّه عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قتالا شديدا- حين انهزم عنه أصحابه وكرّ المشركون فأحدقوا به من كل ناحية- وصار يذب بالسيف من بين
__________
[ (1) ] عار الفرس: انفلت فذهب على وجهه (هامش (ط) ص 141) .
[ (2) ] في (خ) «بأخذ» .
[ (3) ] أحانه: أهلكه.
[ (4) ] زيادة للسياق من (الواقدي) ج 1 ص 253.
[ (5) ] في (خ) «رسول اللَّه» .
[ (6) ] أغير آفة: غير جبان (المعجم الوسيط) ج 1 ص 21.
[ (7) ] في (خ) «في ضرباته» .
يديه ومن ورائه وعن يمينه وعن شماله: يدور حوله يترس بنفسه حول رسول اللَّه، وإن السيوف لتغشاه، والنبل من كل ناحية، وإن هو إلا جنة بنفسه لرسول اللَّه حتى انكشفوا،
فجعل صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول لطلحة: قد أوجب
[ (1) ] . وكان طلحة أعظم الناس غناء عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يومئذ.
ورمى مالك بن زهير الجشمي بسهم يريد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فاتقى طلحة بيده عن وجهه المقدس فأصاب خنصره فشل خنصره. وقال حين رماه: حس [ (2) ] ! فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: لو قال بسم اللَّه لدخل الجنة والناس ينظرون! من أحب أن ينظر إلى رجل يمشى في الدنيا وهو من أهل الجنة فلينظر إلى طلحة بن عبيد اللَّه، طلحة ممن قضى نحبه.
ولما جال المسلمون تلك الجولة ثم تراجعوا، أقبل رجل من بني عامر بن لؤيّ- يقال له: شيبة بن مالك المضرّب- يصيح: دلوني على محمد! فضرب طلحة عرقوب فرسه فاكتسعت [ (3) ] به، ثم طعن حدقته وقتله. وأصيب يومئذ طلحة في رأسه: ضربه رجل من المشركين ضربة وهو مقبل وأخرى وهو معرض عنه، فنزف الدم حتى غشي عليه، فنضح أبو بكر رضي اللَّه عنه الماء في وجهه حتى أفاق، فقال: ما فعل رسول اللَّه؟ قال: خيرا، هو أرسلني إليك. قال: الحمد للَّه كل مصيبة بعده جلل [ (4) ] .
,
وكان علي بن أبي طالب يذب عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من ناحية، وأبو دجانة مالك بن خرشة بن لوذان بن عبد ودّ بن ثعلبة الأنصاري يذب من ناحية، وسعد ابن أبي وقاص يذب طائفة. وانفرد علي بفرقة فيها عكرمة بن أبي جهل، فدخل وسطهم بالسيف- فضرب به وقد اشتملوا عليه- حتى أفضى إلى آخرهم، ثم
__________
[ (1) ] قد أوجب لنفسه الجنة.
[ (2) ] حسّ: كلمة يقولها الإنسان إذا أصابه ما مضّه وأحرقه غفلة كالجمرة والضربة ونحوهما (النهاية) ج 1 ص 385.
[ (3) ] في (خ) «فانعكست» ، وهي رواية الواقدي في (المغازي) ج 1 ص 255 ومعناها: سقطت من ناحية مؤخرها، ورمت به إلى الأرض.
[ (4) ] جلل: هينة قليلة.
كرّ فيهم ثانيا حتى رجع من حيث جاء. وكان الحباب بن المنذر الجموح يحوش المشركين كما تحاش الغنم، واشتملوا عليه حتى قيل قد قتل، ثم برز والسيف في يده وافترقوا عنه، وجعل يحمل على فرقة منهم وإنهم ليهربون [ (1) ] منه. وكان يومئذ معلما بعصابة خضراء في مغفره.
,
وطلع يومئذ عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق فقال: من يبارز؟ وارتجز فقال:
لم يبق إلا شكة ويعبوب ... وصارم يقتل ضلّال الشيب [ (2) ]
وفي رواية: «وناشي يشرب أرحام الشيب» فنهض إليه أبو بكر رضي اللَّه عنه وهو يقول: أنا ذلك الأشيب! ثم ارتجزه فقال:
لم يبق إلا حسبي وديني ... وصارم تقضي به يميني
فقال له عبد الرحمن: لولا أنك أبي لم أنصرف.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لأبي بكر رضي اللَّه عنه: شم شيفك، وارجع مكانك، ومتعنا بنفسك.
,
كان شماس بن عثمان بن الشريد المخزومي لا يرمي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [ببصره] [ (3) ] يمينا ولا شمالا إلا رآه في ذلك الوجه يذب بسيفه، حتى غشي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فترس بنفسه دونه حتى قتل رحمه اللَّه،
فذلك قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما وجدت لشماس شبها إلا الجنة
[ (4) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) «ليهزموك» ، وما أثبتناه من (المغازي) ج 1 ص 257.
[ (2) ] ذكر الواقدي هذا الخبر بغير الشعر، وذكره (ابن هشام) ج 2 ص 203 ضمن أخبار غزوة بدر، والبيت في (ابن هشام) هكذا:
لم يبق غير شكة ويعبوب ... وصار يقتل ضلال الشيب
وفي (خ) «إلا صارم» .
والشكة: السلاح. واليعبوب: الفرس الكثير الجري.
[ (3) ] زيادة للسياق.
[ (4) ] الجنة: كل ما وقى من سلاح وغيره (المعجم الوسيط) ج 1 ص 147.
,
وكان أول من أقبل من المسلمين بعد التولية قيس بن محرث، [ويقال: قيس ابن الحارث بن عدي بن جشم بن مجدعة بن حارثة] مع طائفة من الأنصار، فصادفوا المشركين فدخلوا في حومتهم، فما أفلت منهم رجل حتى قتلوا، ولقد ضاربهم قيس حتى قتل نفرا فما قتلوه إلا بالرماح: نظموه، ووجد به أربع عشرة ضربة قد جافته [ (1) ] وعشر ضربات في بطنه.
,
وكان عباس بن عبادة بن نضلة بن مالك بن العجلان بن زيد بن غنم بن سالم ابن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج، وخارجة بن زيد بن أبي زهير بن مالك ابن امرئ القيس بن مالك الأغر، وأوس بن أرقم بن زيد بن قيس بن النعمان يرفعون أصواتهم، فيقول عباس: يا معشر المسلمين! اللَّه ونبيكم! هذا الّذي أصابكم بمعصية نبيكم، فيوعدكم النصر فما [ (2) ] صبرتم. ثم نزع مغفرة وخلع درعه وقال لخارجة بن زيد: هل لك فيهما؟ قال: لا، أنا أريد الّذي تريد. فخالطوا القوم جميعا، وعباس يقول: ما عذرنا عند ربنا إن أصيب رسول اللَّه ومنا عين تطرف؟ فيقول خارجة: لا عذر لنا عند ربنا ولا حجة، فقتل سفيان بن عبد شمس السلمي عباسا، وأخذت [ (3) ] خارجة الرماح، فجرح بضعة عشر جرحا، وأجهز عليه صفوان بن أمية. وقتل [ (4) ] أوس بن أرقم رضي اللَّه عنهم.
,
وقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يومئذ: من يأخذ هذا السيف بحقه؟ قالوا: وما حقه؟
قال: يضرب به العدو.
فقال عمر رضي اللَّه عنه: أنا يا رسول اللَّه، فأعرض عنه. ثم عرضه بذلك الشرط، فقام الزبير رضي اللَّه عنه، فقال: أنا، فأعرض عنه حتى وجدا [ (5) ] في أنفسهما. ثم عرضه الثالثة، فقال ذو المشهرة أبو دجانة:
__________
[ (1) ] جافته: أصابت جوفه (المرجع السابق) ج 1 ص 147.
[ (2) ] في (خ) «ما» .
[ (3) ] في (خ) «وأخذ» .
[ (4) ] في (خ) «وقيل» .
[ (5) ] وجدا: غضبا (المعجم الوسيط) ج 2 ص 1013.
أنا يا رسول اللَّه آخذه بحقه. فدفعه إليه، فصدق به حين لقي العدو، فأعطى السيف حقه، فما قاتل أحد أفضل من قتاله. لقد كان يضرب به حتى إذا كلّ عليه شحذه على الحجارة، ثم يضرب به العدو حتى رده كأنه منجل، وكان حين أعطاه السيف لبس مشهرة فأعلم بها، وكان قومه يعلمون- لما بلوا منه- أنه إذا لبس تلك المشهرة لم يبق في نفسه غاية. فخرج يمشي بين الصفين واختال في مشيته،
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حين رآه: إن هذه لمشية يبغضها اللَّه إلا في مثل هذا الموطن،
ويقال: كان يعلم رأسه بعصابة حمراء.
,
ولقي رشيد الفارسيّ مولى بني معاوية [ (1) ] رجلا من المشركين قد ضرب سعدا مولى حاطب جزله [ (2) ] باثنتين، فضربه على عاتقه فقتله، فاعترض له أخوه يعدو [ (3) ] فقتله، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أحسنت يا أبا عبد اللَّه وكنّاه يومئذ ولا ولد له.
,
وكان عمرو [ (4) ] بن ثابت بن وقش بن زغبة بن عبد الأشهل الأنصاري شاكا في الإسلام حتى كان يوم أحد فأسلم وقاتل حتى أثبت فوجد وهو بآخر رمق فقالوا: ما جاء بك؟ قال: الإسلام! آمنت باللَّه ورسوله، ثم أخذت سيفي وحضرت، فرزقني اللَّه الشهادة. ومات، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنه لمن أهل الجنة.
,
وكان مخيريق من أحبار يهود، فقال يوم السبت: يا معشر يهود! واللَّه إنكم لتعلمون أن محمدا لنبي، وأن نصره عليكم لحق! ثم أخذ سلاحه وحضر أحدا
__________
[ (1) ] في (خ) «بني معوفة» وما أثبتناه من (المغازي) ج 1 ص 261.
[ (2) ] في (المغازي) «ضربة جزلة» ج 1 ص 261.
وجزله جزلا: أي قطعه (المعجم الوسيط) ج 1 ص 121.
[ (3) ] في (المغازي) ج 1 ص 261 «وأقبل يعدو كأنه كلب» .
[ (4) ] في (خ) «عمر» .
مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقتل. وقال حين خرج: إن أحببت فأموالي لمحمد يضعها حيث أراد: فهي عامة صدقات رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وقال فيه صلّى اللَّه عليه وسلّم: مخيريق خير يهود.
,
وخرج عمرو بن الجموح بن زيد بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة وهو أعرج، وهو يقول: اللَّهمّ لا تردني إلى أهلي!! فقتل شهيدا، واستشهد ابنه خلاد بن عمرو، وعبد اللَّه بن عمرو بن حرام [بن ثعلبة بن حرام الأنصاري الخزرجي] [ (1) ] ، أبو جابر بن عبد اللَّه، فحملتهم هند بنت عمرو بن حرام- زوجة عمرو بن الجموح- على بعير لها تريد بهم المدينة، فلقيتها عائشة رضي اللَّه عنها- وقد خرجت في نسوة تستروح الخبر، ولم يضرب الحجاب يومئذ- فقالت لها: عندك الخبر، فما وراءك؟ قالت: أما رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فصالح، وكل مصيبة بعده جلل، واتخذ اللَّه من المؤمنين شهداء، وردّ اللَّه الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا، وكفى اللَّه المؤمنين القتال، وكان اللَّه قويا عزيزا. قالت عائشة: من هؤلاء؟
قالت: أخي وابن أخي خلاد وزوجي عمرو بن الجموح، قالت: فأين تذهبين بهم؟ قالت: إلى المدينة أقبرهم فيها، ثم قالت: حل [ (2) ] ، تزجر بعيرها فبرك، فقالت عائشة: لما عليه [ (3) ] ، قالت: ما ذاك به، لربما حمل ما يحمل البعيران، ولكني أراه لغير ذلك. وزجرته فقام [ (4) ] فوجهته راجعة إلى أحد فأسرع،
فرجعت إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخبرته بذلك فقال: فإن الجمل مأمور، هل قال شيئا [ (5) ] ؟
قالت [ (6) ] إن عمرا لما وجّهه إلى أحد قال: اللَّهمّ لا تردني إلى أهلي خزيان [ (7) ] وارزقني الشهادة! فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: فلذلك الجمل لا يمضي، إن منكم
__________
[ (1) ] زيادة من نسبه.
[ (2) ] كلمة لزجر الإبل (ترتيب القاموس) ج 1 ص 698.
[ (3) ] أي برك للذي عليه من الحمل.
[ (4) ] في (خ) بعد قولها: «فقام» ، و «برك» ولا معنى لها. ومناسبتها في رواية (الواقدي) «فقام، فلما وجهت به إلى المدينة برك» ج 1 ص 265.
[ (5) ] الضمير في قوله: «قال» عائد على الشهيد.
[ (6) ] في (خ) «قال» .
[ (7) ] في (خ) «خربا» ، وفي (الواقدي) ج 1 ص 266 «خريا» ولعل الصواب ما أثبتناه.
يا معشر الأنصار من لو أقسم على اللَّه لأبره: منهم عمرو بن الجموح. يا هند! ما زالت الملائكة مظلمة على أخيك من لدن قتل إلى الساعة ينظرون أين يدفن. ثم مكث صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى قبرهم. ثم قال يا هند! قد ترافقوا في الجنة، عمرو بن الجموح، وابنك خلاد، وأخوك عبد اللَّه، قالت: يا رسول اللَّه، ادع اللَّه أن يجعلني معهم [ (1) ] .
,
وقال جابر بن عبد اللَّه: كان أبي أول قتيل قتل من المسلمين يوم أحد، قتله سفيان بن عبد شمس أبو أبي الأعور السلميّ، فصلى عليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قبل الهزيمة.
,
وكانت أم عمارة [نسيبة بنت كعب بن عمرو بن عوف [ (2) ] بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن بن النجار] امرأة غزية بن عمرو بن عطية بن خنساء بن مبذول [بن عمرو بن غنم بن مازن بن النجار] [ (3) ]-: قد شهدت أحدا هي وزوجها وابنها، ومعها شنّ [ (4) ] لتسقي الجرحى. فقاتلت وأبلت بلاء حسنا يومئذ- وهي حاجزة ثوبها على وسطها- حتى جرحت اثنى عشر جرحا، بين طعنة برمح أو ضربة بسيف. وذلك أنها كانت بين يدي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم هي وابناها عبد اللَّه وحبيب ابنا زيد بن عاصم بن كعب بن عمرو بن مبذول، وزوجها غزية بن عمرو- يذبون عنه، فلما انهزم المسلمون جعلت تباشر القتال وتذب عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالسيف، وترمي بالقوس. ولما أقبل ابن قميئة- لعنه اللَّه- يريد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كانت فيمن اعترض له، فضربها على عاتقها ضربة صار لها فيما بعد ذلك غور أجوف، وضربته هي ضربات.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لمقام نسيبة بنت
__________
[ (1) ] في المرجع السابق «عسى أن يجعلني معهم» .
[ (2) ] في (خ) مكان «عوف» «خنساء» وهو خطأ في نسبها.
وما أثبتناه من (الإصابة) ترجمة 1240 ج 13 ص 257.
[ (3) ] زيادة من (الاستيعاب) ج 3 ص 259 ترجمتها رقم (3590) .
[ (4) ] يقال: شنّ الماء على الشراب، وشنت العين الدمع (المعجم الوسيط) ج 1 ص 496.
كعب اليوم خير من مقام فلان وفلان، وقال: ما التفتّ يمينا ولا شمالا إلا وأنا أراها تقاتل دوني. وقال لابنها عبد اللَّه بن زيد: بارك اللَّه عليكم من أهل بيت، مقام أمك خير من مقام فلان وفلان، ومقام ربيبك [يعني زوج أمه] خير من مقام فلان وفلان، ومقامك خير من مقام فلان وفلان، رحمكم اللَّه أهل بيت، قالت أم عمارة: ادع اللَّه أن نرافقك في الجنة، قال: اللَّهمّ [ (1) ] اجعلهم رفقائي في الجنة، قالت: ما أبالي ما أصابني من الدنيا.
خبر حنظلة «غسيل الملائكة»
وخرج حنظلة بن أبي عامر [بن عمرو بن صيفي بن مالك بن أمية [ (2) ] بن ضبيعة بن زيد بن [ (3) ] عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس] هو حنظلة الغسيل- إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو يسوي الصفوف بأحد، فلما انكشف المشركون ضرب فرس أبي سفيان بن حرب فوقع [على [ (4) ]] الأرض وصاح، وحنظلة يريد ذبحه، فأدركه الأسود بن شعوب [ (5) ] فحمل على حنظلة بالرمح فأنفذه، ومشى حنظلة إليه في الرمح وقد أثبته ثم ضربه الثانية فقتله، ونجا أبو سفيان.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إني رأيت الملائكة تغسّل حنظلة بن [أبي] [ (6) ] عامر بين السماء والأرض بماء المزن في صحاف الفضة.
قال أبو أسيد الساعدي: فذهبنا إليه فإذا رأسه يقطر ماء. فلما أخبر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بذلك أرسل إلى امرأته فسألها، فأخبرته أنه خرج وهو جنب.
,
وكانت هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف- زوجة أبي سفيان بن حرب- أول من مثل بقتلى المسلمين، وأمرت نساء المشركين أن
__________
[ (1) ] في (خ) مكان «اللَّهمّ» ما نصه: «أبو مالك بن الأوس اجعلهم» والصواب: ما أثبتناه، وانظر (المغازي) ج 1 ص 273.
[ (2) ] في (خ) «أمه» .
[ (3) ] في (خ) «زيد بن مالك بن عوف» وهو خطأ، والتصويب من (ط) .
[ (4) ] في (خ) «فوقع الأرض» .
[ (5) ] كذا في (خ) وفي (الواقدي) ج 1 ص 273، ولكن في (ابن هشام) ج 3 ص 60 «شداد ابن الأسود بن شعوب الليثي» . وفي (الكامل) ج 2 ص 158. بنحوه
[ (6) ] في (خ) «بن عامر» .
يمثلن بهم، فجدّعن الأنوف والآذان، فمثلن بالجميع إلا حنظلة الغسيل.
,
ولما صاح إبليس: إن محمدا قد قتل. تفرق الناس، فمنهم من ورد المدينة، فكان أول من دخلها بهذا الخبر أبو عبادة سعد بن عثمان بن خلدة بن مخلد بن عامر ابن زريق الأنصاري، ثم ورد بعده رجال. فجعل النساء يقلن: عن رسول اللَّه تفرّون. وجعل ابن أم مكتوم يقول: عن رسول اللَّه تفرون!! وحثت أم أيمن في وجوه بعضهم التراب وتقول: هاك المغزل، اغزل به، وهلمّ سيفك!! وقيل:
إن المسلمين لم يعدوا الجبل- وكانوا في سفحه- لم يجاوزوه [ (1) ] . وأقبل [أبو] [ (2) ] أمية بن أبي حذيفة بن المغيرة وهو يقول: يوم بيوم بدر. وقتل رجلا من المسلمين فضربه علي رضي اللَّه عنه فقتله.
وقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يومئذ: أنا ابن العواتك [ (3) ] . وقال أيضا:
أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب
خبر أنس بن النّضر
ومر أنس بن النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم ابن عدي بن النجار- وهو عم أنس بن مالك- بنفر من المسلمين قعود فقال:
ما يقعدكم؟ قالوا: قتل رسول اللَّه! قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه! ثم جالد بسيفه حتى قتل رضي اللَّه عنه، فوجد به سبعون ضربة، وما عرف حتى عرفته أخته.
__________
[ (1) ] في (خ) «لم يجاوزه» .
[ (2) ] في (خ) ، وفي (الواقدي) ج 1 ص 279 «أمية» وما أثبتناه من (ابن هشام) ج 3 ص.
[ (3) ] العواتك: جمع عاتكة: وهي التي تكثر من الطيب حتى تحمّر بشرتها. (المعجم الوسيط) ج 2 ص 583، وقال ابن الأثير في (النهاية) ج 3 ص 180: «والعواتك: ثلاث نسوة كن من أمهات النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: إحداهن: عاتكة بنت هلال بن فالج بن ذكوان، وهي أم عبد مناف بن قصي.
والثانية: عاتكة بنت مرّة بن هلال بن فالج بن ذكوان، وهي أم هاشم بن عبد مناف.
والثالثة: عاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال، وهي أم وهب أبي آمنة أم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
فالأولى من العواتك عمة الثانية، والثانية عمة الثالثة. وبنو سليم تفخر بهذه الولادة.
,
ومرّ مالك بن الدّخشم على خارجة بن زيد أبي زهير وهو قاعد، في حشوته ثلاثة عشر جرحا، كلها قد خلصت إلى مقتل فقال: أما علمت أن محمدا قد قتل! فقال خارجة: فإن [ (1) ] كان محمد قد قتل فإن اللَّه حي لا يموت، لقد بلّغ [محمد] [ (2) ] ، فقاتل عن دينك. ومرّ على سعد بن الربيع بن عمرو بن أبي زهير الأنصاري أحد النقباء- وبه اثنا عشر جرحا كلها خلص إلى مقتل- فقال:
علمت أن محمدا قد قتل!! فقال سعد: أشهد أن محمدا قد بلغ رسالة ربه، فقاتل عن دينك فإن اللَّه حي لا يموت، وقال منافق: إن رسول اللَّه قد قتل فارجعوا إلى قومكم فإنّهم داخلوا البيوت.
,
وأقبل ثابت بن الدّحداحة [ (3) ] (ويقال: ابن الدحداح) بن نعيم بن غنم بن إياس بن بكير والمسلمون أوزاع [ (4) ] قد سقط في أيديهم فصاح: يا معشر الأنصار!! إليّ إليّ، أنا ثابت بن الدحداحة، إن كان محمد قد قتل فإن اللَّه حي لا يموت، فقاتلوا عن دينكم فإن اللَّه مظهركم وناصركم. فنهض إليه نفر من الأنصار فحمل بهم على كتيبة فيها: خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعكرمة بن أبي جهل، وضرار بن الخطاب، فحمل عليه خالد بن الوليد بالرمح فقتله وقتل من كان معه من الأنصار رضي اللَّه عنهم، فيقال: إن هؤلاء آخر من قتل من المسلمين.
ووصل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الشّعب مع أصحابه فلم يكن هناك قتال.
,
وقدم أبو سفيان مكة فلم يصل إلى بيته حتى أتى هبل فقال: قد أنعمت ونصرتني وشفيت نفسي من محمد وأصحابه، وحلق رأسه.
,
فكان أول من قدم مكة بخبر أحد وانكشاف المشركين عبد اللَّه بن [أبي] [ (1) ] أمية بن المغيرة فكره أن يأتيهم بهزيمة أهلهم، فقدم الطائف وأخبر أن أصحاب محمد قد ظفروا وانهزمنا. ثم قدم وحشيّ مكة فأخبرهم بمصاب المسلمين وقد سار أربعا على راحلته، ووقف على الثنية التي تطل الحجون فنادى: يا معشر قريش! أبشروا، قد قتلنا أصحاب محمد مقتلة لم يقتل مثلها في زحف قط، وجرحنا محمد فأثبتناه بالجراح، وقتل حمزة. فسرّوا بذلك.
,
وقتل من المسلمين بأحد أربعة وسبعون [ (2) ] : أربعة من قريش وسائرهم من الأنصار، ويقال: خمسة من قريش. وقتل من المشركين أربعة وعشرون،
وأسر من المشركين أبو عزة عمرو [ (3) ] بن عبد اللَّه بن عمير بن وهب بن حذافة بن جمح، ولم يؤسر منهم غيره فقال: يا محمد، منّ عليّ! فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، لا ترجع إلى مكة تمسح عارضيك تقول: خدعت [وفي رواية سحرت] محمدا مرتين، ثم أمر به عاصم بن ثابت فضرب عنقه،
ويقال:
__________
[ (1) ] في (خ) «بن أمية» .
[ (2) ] رواية (الواقدي) ج 1 ص 330 «سبعون» .
[ (3) ] في (خ) «عمر» .
إن المشركين لما انصرفوا بحمراء الأسد في أول الليل ساعة، ثم حلوا وتركوا أبا عزّة نائما مكانه حتى ارتفع النهار، ولحقه المسلمون وهو مستنبه يتلدد، وكان الّذي أخذه عاصم بن ثابت، فأمره النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فضرب عنقه.
صلاة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على شهداء أحد
ولما انصرف المشركون أقبل المسلمون على أمواتهم،
فكان حمزة رضي اللَّه عنه فيمن أتي به أولا، فصلى عليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقال: رأيت الملائكة تغسله، لأن حمزة كان جنبا ذلك اليوم. ولم يغسّل صلّى اللَّه عليه وسلّم الشهداء، وقال: لفوهم بدمائهم وجراحهم، فإنه ليس أحد يجرح في سبيل اللَّه إلا جاء يوم القيامة جرحه لونه لون الدم وريحه ريح مسك، ثم قال: ضعوهم، أنا الشهيد على هؤلاء يوم القيامة.
فكان حمزة أول من كبّر عليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم جمع إليه الشهداء. فكان كلما أتي بشهيد وضع إلى جنب حمزة فصلى عليه وعلى الشهداء، حتى صلى عليه سبعين مرة، ويقال: كان يؤتى بتسعة وحمزة عاشرهم فيصلي عليهم ثم ترفع التسعة وحمزة مكانه، ويؤتى بتسعة آخرين فيوضعون إلى جنب حمزة فيصلي عليهم حتى فعل ذلك سبع مرات. ويقال: كبّر عليهم تسعا وسبعا وخمسا. وقيل: لم يصلّ عليهم.
أخرجه أبو داود [ (1) ] من حديث جابر وأنس وابن عباس رضي اللَّه عنهم: وهو مذهب مالك، والليث بن سعد والشافعيّ، وأحمد، وداود [ (2) ] : ألا يصلى على المقتول في المعركة. وقال فقهاء الكوفة والبصرة والشام: يصلى عليهم.
__________
[ (1) ] في سنن أبي داود ج 3 ص 498 حديث رقم 3135: «حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا ابن وهب، ...
أن أنس بن مالك حدثهم أن شهداء أحد لم يغسلوا، ودفنوا بدمائهم ولم يصلّ عليهم» وفي تعليق ابن القيم على أبي داود: «وقد ورد في الصلاة على قتلى أحد من المسلمين عدة أحاديث: منها ما أخرجه الشيخان عن عقبة بن عامر أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خرج يوما يصلي أهل أحد صلاته على الميت، ومنها حديث أنس أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم صلى على حمزة، ومنها حديث أبي مالك الغفاريّ قال: كان قتلى أحد يؤتى منهم بتسعة عاشرهم حمزة، فيصلي عليهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثم يحملون، ثم يؤتى بتسعة، وحمزة مكانه، حتى صلى عليهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وفي (عون المعبود) ج 8 ص 311.
قال الحافظ: والخلاف في الصلاة على قتيل الكفار مشهور، قال الترمذي: قال بعضهم: يصلى على الشهيد وهو قول الكوفيين وإسحاق، وقال بعضهم لا يصلى عليه، وهو قول المدنيين والشافعيّ وأحمد.
والحديث سكت عنه المنذري» .
[ (2) ] صاحب مذهب مستقل، وأتباعه يعرفون بالظاهرية توفى ببغداد سنة 270 هـ[هامش (ط) ] .
,
وقال صلّى اللَّه عليه وسلّم للمسلمين، احفروا وأوسعوا وأحسنوا وادفنوا الاثنين والثلاثة في القبر. وقدموا أكثرهم قرآنا، فكانوا يقدمون أكثرهم قرآنا في القبر، ولما واروا حمزة رضي اللَّه عنه أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ببردة تمدّ عليه وهو في القبر، فجعلت البردة إذا خمّروا [ (1) ] رأسه بدت قدماه، وإذا خمّروا رجليه ينكشف وجهه، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: غطوا وجهه، وجعل على رجليه الحرمل [ (2) ] . فبكى المسلمون وقالوا:
يا رسول اللَّه! عم رسول اللَّه لا نجد له ثوبا؟ فقال: تفتح الأرياف والأمصار فيخرج إليها الناس ثم يبعثون إلى أهليهم، إنكم بأرض حجاز [ (3) ] جردية [الجردية التي ليس بها شيء من الأشجار] [ (4) ] والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون. والّذي نفسي بيده لا يصبر أحد على لوائها وشدتها إلا كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة.
,
ومر صلّى اللَّه عليه وسلّم على مصعب بن عمير وهو مقتول في بردة [ (5) ] فقال: لقد رأيتك بمكة وما بها أحد أرق حلة منك ولا أحن لمّة منك، ثم أنت شعث الرأس في بردة. ثم أمر به فقبر.
وكان كثير من الناس حملوا موتاهم إلى المدينة فدفنوهم، فنادى منادي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ردّوا القتلى إلى مضاجعهم. فلم يردّ أحد إلا رجل واحد أدركه المنادي ولم يدفن، وهو شماس بن عثمان المخزوميّ.
موقف المسلمين للثناء على اللَّه
ولما فرغ صلّى اللَّه عليه وسلّم من دفن أصحابه ركب فرسه وخرج، والمسلمون حوله:
عامتهم جرحى، ولا مثل لبني [ (6) ] سلمة وبني عبد الأشهل ومعه أربع عشرة امرأة،
__________
[ (1) ] خمروا: غطّوا.
[ (2) ] الحرمل: نبات صحراوي.
[ (3) ] الحجاز: سمّى بذلك لأنه يحتجز بالجبال، (معجم البلدان) ج 2 ص 218.
[ (4) ] هذه الزيادة من نص (الراقدي) ج 1 ص 311.
[ (5) ] البردة: كساء مخطط يلحف به. (المعجم الوسيط) ج 1 ص 48.
[ (6) ] في (خ) «ولا مثل نبي» ، وما أثبتاه عبارة (الواقدي) ج 1 ص 314.
فلما كانوا بأصل الحرة قال:
اصطفوا فنثني على اللَّه، فاصطف الرجال صفين خلفهم النساء ثم دعا فقال: اللَّهمّ لك الحمد كله، اللَّهمّ لا قابض لما بسطت ولا باسط لما قبضت، ولا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا هادي لمن أضللت ولا مضل لمن هديت، ولا مقرب لما باعدت ولا مباعد لما قربت. اللَّهمّ إني أسألك النعيم المقيم الّذي لا يحول ولا يزول، اللَّهمّ إني أسألك الأمن يوم الخوف، والغنى يوم الفاقة، عائذا بك اللَّهمّ من شر ما أعطيتنا وشرّ ما منعت منا. اللَّهمّ توفنا مسلمين. اللَّهمّ حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين. اللَّهمّ عذب كفرة أهل الكتاب الذين يكذبون رسولك ويصدون عن سبيلك، اللَّهمّ أنزل عليهم رجسك وعذابك إله الحق.
آمين.
دخول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى المدينة
وأقبل حتى طلع على بني عبد الأشهل وهم يبكون على قتلاهم
فقال: لكن حمزة لا بواكي له:
فخرج الناس ينظرون إلى سلامته، فقالت أم عامر الأشهلية:
كل مصيبة بعدك جلل [ (1) ] وجاءت أم سعد بن معاذ [وهي كبشة بنت رافع بن معاوية] [ (2) ] بن عبيد بن ثعلبة بن عبيد بن الأبجر، [وهو خدرة بن عوف بن الحارث بن الخزرج] [ (2) ] تعدو نحو رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقد وقف على فرسه، وسعد ابن معاذ آخذ بعنان الفرس،
فقال سعد: يا رسول اللَّه: أمي، فقال: مرحبا بها،
فدنت حتى تأملت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقالت: أما إذ رأيتك سالما فقد أشوت المصيبة [ (3) ] .
فعزاها صلّى اللَّه عليه وسلّم بعمرو بن معاذ ابنها ثم قال: يا أم سعد: أبشري وبشّري أهليهم أن قتلاهم ترافقوا في الجنة جميعا- وهم اثنى عشر رجلا- وقد شفعوا في أهليهم، قالت: رضينا برسول اللَّه، ومن يبكي عليهم بعد هذا؟ ثم قالت:
ادع يا رسول اللَّه لمن خلفوا. قال: اللَّهمّ اذهب حزن قلوبهم، وأجبر مصيبتهم، وأحسن الخلف على من خلفوا. ثم قال: خلّ أبا عمرو الدابة. فخلى سعد الفرس، فتبعه الناس فقال: يا أبا عمرو، إن الجراح في أهل دارك فاشية، وليس منهم مجروح
__________
[ (1) ] جلل: هيّنة، قال ابن هشام: الجلل يكون من القليل ومن الكثير وهو هاهنا من القليل.
[ (2) ] زيادة من النسب.
[ (3) ] أشوت المصيبة: قلت، والشوية: القليل من الكثير (المعجم الوسيط) ج 1 ص 502.
إلا يأتي يوم القيامة جرحه كأغزر ما كان: اللون لون الدم والريح ريح المسك، فمن كان مجروحا فليقرّ في داره وليداو جرحه، ولا يبلغ معي بيتي، عزمة مني.
فنادى فيهم سعد، عزمة من رسول اللَّه ألا يتبع رسول اللَّه جريح من بني عبد الأشهل، فتخلف كل مجروح. فباتوا يوقدون النيران ويداوون الجراح، وإن فيهم لثلاثين جريحا، ومضى سعد مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى جاء بيته فما نزل عن فرسه إلا حملا، واتكأ على سعد بن عبادة وسعد بن معاذ حتى دخل بيته، فلما أذّن بلال بصلاة المغرب خرج على مثل تلك الحال يتوكأ على السعدين فصلى ثم عاد إلى بيته.
,
وجعل عبد اللَّه بن أبيّ بن سلول والمنافقون يشمتون معه ويسرّون بما أصاب
__________
[ (1) ] الكمادة: خرقة تسخّن وتوضع على الورم أو موضع الوجع (المرجع السابق) ج 2 ص 798.
[ (2) ] فرقا: خوفا.
[ (3) ] زيادة للإيضاح.
المسلمين، ويظهرون أقبح القول: فيقول ابن أبيّ لابنه عبد اللَّه- وهو جريح قد بات يكوي الجراحة بالنار- ما كان خروج معه إلى هذا الوجه برأي! عصاني محمد وأطاع الولدان، واللَّه لكأنّي كنت انظر إلى هذا. فقال ابنه: الّذي صنع اللَّه لرسوله [ (1) ] وللمسلمين خير.
,
وأظهرت اليهود القول السيء فقالوا: ما محمد إلا طالب ملك، ما أصيب هكذا نبي قط! أصيب في بدنه، وأصيب في أصحابه! وجعل المنافقون يخذّلون عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أصحابه ويأمرونهم بالتفرق عنه، ويقولون: لو كان من قتل منكم عندنا ما قتل. وسمع عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه ذلك في أماكن، فمشى إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يستأذنه في قتل من سمع ذلك منه من يهود والمنافقين.
فقال عليه السلام: يا عمر، إن اللَّه مظهر دينه ومعزّ نبيه، ولليهود ذمة فلا أقتلهم، قال: فهؤلاء المنافقون! قال: أليس يظهرون شهادة أن لا إله إلا اللَّه، وأني رسول اللَّه؟ قال: بلى يا رسول اللَّه! وإنما يفعلون ذلك تعوذا من السيف، فقد بان لنا أمرهم، وأبدى اللَّه أضغانهم عن هذه النكبة! فقال: نهيت عن قتل من قال لا إله إلا اللَّه وأن محمدا رسول اللَّه يا ابن الخطاب، إن قريشا لن ينالوا منا مثل هذا اليوم حتى نستلم الركن.
,
ونزل في غزوة أحد من قوله تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ من سورة آل عمران إلى آخرها [ (2) ] ، وكان قد نزل قبل أن يخرج صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى حد قوله تعالى: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [ (3) ] . فلم يصبروا وانكشفوا، فلم يمدّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بملك واحد يوم أحد.
__________
[ (1) ] في (خ) «ولرسوله» .
[ (2) ] قال ابن هشام: ستون آية.
[ (3) ] في (خ) تبدأ الآيات بقوله تعالى: إني ممدكم بثلاثة آلاف ... وهكذا نص (الواقدي) ج 1 ص 320، وما أثبتناه أجود.
خبر معاوية بن المغيرة وكان هو الّذي مثّل بحمزة
وكان معاوية بن المغيرة بن أبي العاص قد انهزم ومضى على وجهه ونام قريبا من المدينة، فلما أصبح دخلها، وأتى عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه، فلما رآه قال:
ويحك أهلكتني وأهلكت نفسك، وأدخله بيته. ثم سأل فيه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأجله ثلاثا فإن وجد بعدهن قتل. فجهزه عثمان. وخرج بعد ثلاث فأدركه زيد بن حارثة وعمار بن ياسر بالجماء [ (1) ] فرمياه حتى قتلاه، وكان هو الّذي مثّل بحمزة رضي اللَّه عنه.
,
فخرج سعد بن معاذ إلى داره يأمر قومه بالمسير وكلها جريح فقال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يأمركم أن تطلبوا عدوكم. فقال أسيد بن حضير- وبه سبع جراحات
__________
[ (1) ] الجماء: جبل بالمدينة، على ثلاثة أميال من ناحية العقيق إلى الجرف.
[ (2) ] حمراء الأسد: موضع على ثمانية أميال من المدينة، إليه انتهى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم أحد في طلب المشركين.
(معجم البلدان) ج 2 ص 301.
[ (3) ] هذه رواية (الواقدي) في (المغازي) ج 2 ص 334 وقد ذكر (ابن هشام) ج 3 ص 44، و (الكامل) ج 2 ص 164 و (الطبري) ج 2 ص 534، ذكروا خلاف ذلك في أمر بدء هذه الغزوة.
[ (4) ] هذه اللفظة عامية، وقد أكثر (المقريزي) من استعمالها.
يريد أن يداويها- سمعا وطاعة للَّه ولرسوله، وأخذ سلاحه ولم يعرّج على دواء، ولحق برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وجاء سعد بن عبادة قومه، وجاء أبو قتادة إلى طائفة فبادروا جميعا. وخرج من بني سلمة أربعون جريحا- بالطفيل بن النعمان ثلاثة عشر جرحا [ (1) ] ، وبخراش بن الصمة عشر جراحات-
حتى وافوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال لما رآهم: اللَّهمّ ارحم بني سلمة.
,
ثم كانت غزاة أحد، يوم السبت لسبع خلون من شوال، على رأس اثنتين وثلاثين شهرا ظاهر المدينة، [واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم] [ (1) ] .
[قال الواقدي: وقد روى كثير من الصحابة ممن شهد أحدا قال كل واحد منهم: واللَّه إني لأنظر إلى هند وصواحبها منهزمات، وكلما أتى خالد من قبل مسيرة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ليجوز حتى يأتى من قبل السفح فيرده الرماة، حتى فعلوا ذلك مرارا، ولكن المسلمين أتوا من قبل الرماة. إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أو عز إليهم فقال: قوموا على مصافكم هكذا فاحموا ظهرنا، فإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا، وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا] [ (2) ] .
[فلما انهزم المشركون وتبعهم المسلمون، يضعون السلاح فيهم، حيث شاءوا حتى أجهضوهم عن العسكر، ووقعوا ينتهبون العسكر] [ (2) ] .
[قال بعض الرماة لبعض: لم تقيمون هنا في غير شيء؟ قد هزم اللَّه العدو، وهؤلاء إخوانكم ينتهبون عسكرهم، فادخلوا عسكر المشركين فاغنموا مع إخوانكم، فقال بعض الرماة لبعض: ألم تعلموا أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال لكم: احموا ظهورنا فلا تبرحوا مكانكم، وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا نغنم فلا تشركونا، احموا ظهورنا؟] [ (2) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من كتب السيرة.
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 229 وما بعدها مختصرا.
[فقال الآخرون: لم يرد رسول اللَّه هذا، وقد أذل اللَّه المشركين وهزمهم، فادخلوا العسكر فانتهبوا مع إخوانكم يقول رافع بن خديج: فكنا أتينا من قبل أنفسنا ومعصية نبينا، واختلط المسلمون وصاروا يقتلون ويضرب بعضهم بعضا، ما يشعرون به من الدهشة والعجل. ولقد جرح يومئذ أسيد بن حضير جرحين، ضربه أحدهما أبو بردة وما يدرى، يقول: خذها وأنا الغلام الأنصاري!
وكر أبو زغنة في حومة القتال فضرب أبا بردة ضربتين وما يشعر، إنه يقول: خذها وأنا أبو زغنة! حتى عرفه بعد ذلك، فكان إذا لقيه قال: انظر إلى ما صنعت بى، فيقول له أبو زغنة: أنت ضربت أسيد ابن حضير ولا تشعر، ولكن هذا الجرح في سبيل اللَّه] [ (1) ] .
[فذكر ذلك لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: هو في سبيل اللَّه، يا أبا بردة لك أجره، حتى كأنه ضربك أحد من المشركين، ومن قتل فهو شهيد] [ (1) ] .
[وكانت عائشة زوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم خرجت في نسوة تستروح الخبر- ولم يضرب الحجاب يومئذ- حتى إذا كانت بمنقطع الحرة وهي هابطة من بنى حارثة إلى الوادي، لقيت هند بنت عمرو بن حرام، أخت عبد اللَّه بن عمرو ابن حرام تسوق بعيرا لها، عليه زوجها عمرو بن الجموح، وابنها خلاد بن عمرو، وأخوها عبد اللَّه بن عمرو بن حرام أبو جابر، فقالت عائشة- رضى اللَّه عنها- عندك الخبر، فما وراءك؟ فقالت: هند: خيرا، أما رسول اللَّه فصالح، وكل مصيبة بعده جلل] [ (1) ] .
[واتخذ اللَّه من المؤمنين شهداء، وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً [ (2) ]] .
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 229 وما بعدها مختصرا.
[ (2) ] الأحزاب: 25.
,
فقال اللَّه تعالى:
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ [ (1) ] الأمن وهو نقيض الخوف، يقال أمن أمنا وأمنه، وقيل الأمنة الأمن وهو نقيض الخوف إنما تكون من استباق الخوف، والأمن يكون مع عدم الخوف، وكان في ذلك علم من أعلام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فإن المسلمين كانوا في غم شديد، وقد انهزموا من عدوهم، وخرج الشيطان فيهم قبل محمد، واستشهد منهم سبعون، فما نزل اللَّه- سبحانه وتعالى- عليهم مع هذه الشدائد العظيمة النعاس حتى نام أكثرهم، وإنما ينعس من يأمن، والخائف لا ينام.
خرّج البخاريّ [ (2) ] من حديث حسين بن محمد عن شيبان، عن قتادة، حدثنا أنس بن أبا طلحة قال: غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد قال:
فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه، ويسقط وآخذه.
وخرّج الترمذيّ [ (3) ] من حديث سعيد عن قتادة، عن أنس أن أبا طلحة قال:
غشينا ونحن في مصافنا يوم أحد، حدث أنه كان فيمن غشيه النعاس يومئذ قال:
فجعل سيفي يسقط من يدي، وآخذ، ويسقط من يدي وآخذه، والطائفة الأخرى المنافقون ليس لهم هم إلا أنفسهم، أجبن قوم وأرغبه، وأخذ له للحق.
قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح.
وخرّج أبو نعيم [ (4) ] والبيهقيّ [ (5) ] من طريق حماد بن سلمة عن ثابت، عن أنس، عن أبي طلحة قال: رفعت رأسي يوم أحد فجعلت انظر وما منهم أحد
__________
[ (1) ] آل عمران: 154.
[ (2) ] (فتح الباري) : 8/ 288، كتاب التفسير، باب (11) أَمَنَةً نُعاساً، حديث رقم (4562) .
[ (3) ] (الترمذيّ) : 5/ 214، كتاب تفسير القرآن، باب (4) ومن سورة آل عمران، حديث رقم (3008) .
[ (4) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 487، حديث رقم (421) .
[ (5) ] (دلائل البيهقيّ) : 3/ 267، باب قول اللَّه- عز وجل-: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ الآية. وقول اللَّه- عز وجل- إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ [آل عمران: 153- 152، 153، 154] .
إلا وهو يميد تحت حجمته من النعاس، فذلك قوله- تعالى عز وجل-: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ [ (1) ] الآية.
وخرّج أبو نعيم [ (2) ] من حديث هشام بن عروة عن أبيه، عن الزهريّ أنهم كانوا جلوسا مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم أحد في أصل الجبل حتى أرسل اللَّه عليهم النعاس أمنة منه، وأنهم ليغطون حتى إن حجفهم لتنتطح في أيديهم والعدو تحتهم.
وقال ابن إسحاق [ (3) ] : حدثني يحيى بن عباد بن عبد اللَّه بن الزبير، عن أبيه، عن عبد اللَّه بن الزبير، عن الزبير قال: واللَّه إني لأسمع قول معتب بن قشير أخي بني عمرو بن عوف والنعاس يغشاني ما أسمعه إلا كالحلم حين قال:
لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا [ (4) ] .
وخرّج البيهقيّ من حديث ابن شهاب عن عبد الرحمن بن مصور بن محرقة، عن عابية، عن عبد الرحمن بن عوف- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- في قوله- تعالى-: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ [ (5) ] قال: ألقى علينا النوم يوم أحد.
__________
[ (1) ] آل عمران: 154.
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 487، حديث رقم (422) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (423) .
[ (4) ] آل عمران: 154.
[ (5) ] آل عمران: 154.
وذكر الواقدي [ (1) ] في (مغازيه) قصة أحد، ثم قال أبو أسيد الساعدي:
لقد رأيتنا قبل أن يلقى علينا النعاس، وإنا لسلم لمن أرادنا، لما بنا من الحزن، فألقى علينا النعاس فنمنا حتى تناطح الحجف، وفزعنا وكأنا لم تصبنا قبل ذلك نكبة.
وقال طلحة بن عبيد اللَّه: غشينا النعاس حتى كان حجف القوم تناطح.
وقال الزبير بن العوام: غشينا النعاس فما منا رجل إلا وذقنه في صدره من النوم، فأسمع معتب بن قشير يقول: وإني لك لكالحالم لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا [ (2) ] ، فأنزل اللَّه- تعالى- فيه.
وقال أبو اليسر: لقد رأيتني يومئذ في أربعة عشر رجلا من قومي إلى جنب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقد أصابنا النعاس أمنة منه، ما منهم رجل إلا يغط غطيطا حتى إن الحجف لنناطح، ولقد رأيت سيف بشر بن البراء بن معرور سقط من يده وما يشعر به، وأخذه بعد ما تثلم وإن المشركين لتحتنا.
__________
[ () ] قال الشيخ أبو نعيم- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: وفي هذه الغزوة مما ذكرناه من الدلائل ما حقق اللَّه من
قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في أبيّ بن خلف: بل أنا أقتلك، وكذب أبيّ إذ قال: أنا أقتل محمدا.
ومنها: ما أراهم اللَّه- عزّ وجلّ- منن ردّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حدقة قتادة بن النعمان إلى موضعها بعد سقوطها، حتى كانت أحسن عينيه وأحدهما، فثبتت الدلالة فيه من وجهين.
وفيها: غسل الملائكة لحنظلة، وظهور ذلك للأنصار، فرأوا الماء يقطر من رأسه رفعا للجنابة التي كانت عليه.
وفيها: ما غشيهم من النعاس مع قرب العدوّ منهم، وما يوجب في العادة أن لا يناموا، فلما كان ما وقع شيئا خارجا عن العادة، ثبتت في الدلالة فيه، واللَّه- تعالى- أعلم. (دلائل أبي نعيم) : 2/ 488.
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 295- 296.
[ (2) ] آل عمران: 154.
وقال أبو طلحة: ألقى علينا النعاس فكنت أنعس حتى يسقط سيفي من يدي، وكان النعاس لم يصب أهل النفاق والشك يومئذ، فكان منافق يتكلم بما في نفسه، وإنما أصاب النعاس أهل اليقين والإيمان.
وقال أبو نعيم [ (1) ] : ما غشيهم من النعاس مع قرب العدو منهم، وما يوجب في العادة أن لا يناموا فلما كان فيما وقع شيئا خارجا عن العادة ثبتت الدلالة فيه واللَّه أعلم.
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 488، حديث رقم (423) .
وأما ظهور صدق الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم في إخباره أن قزمان في النار
فقال الواقدي [ (1) ] : وكان قزمان من المنافقين، وكان قد تخلف عن أحد، فلما أصبح عيره نساء بنى ظفر فقلن: يا قزمان، قد خرج الرجال وبقيت! يا قزمان، ألا تستحي مما صنعت؟ ما أنت إلى إلا امرأة، خرج قومك فبقيت في الدار! فأحفظته، فدخل بيته فأخرج قوسه وجعبته وسيفه- وكان يعرف بالشجاعة- فخرج يعدو حتى انتهى إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو يسوي صفوف المسلمين، فجاء من خلف الصفوف حتى انتهى الصف الأول فكان فيه، وكان أول من رمى بسهم من المسلمين، فجعل يرسل نبلا كأنها الرماح، وإنه ليكت كتيت الجمل، ثم صار إلى السيف ففعل الأفاعيل، حتى إذا كان آخر ذلك قتل نفسه،
وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا ذكره قال: من أهل النار،
فلما انكشف المسلمون كسر جفن سيفه وجعل يقول: الموت أحسن من الفرار! يا آل أوس، قاتلوا على الأحساب واصنعوا مثل ما اصنع! قال: فيدخل بالسيف وسط المشركين حتى يقال: قد قتل، ثم يطلع ويقول: أنا الغلام الظفري! حتى قتل منهم سبعة، وأصابته الجراحة وكثرت به فوقع، فمر به قتادة بن النعمان فقال:
أبا الغيداق! قال له قزمان: يا لبيك! قال: هنيئا لك الشهادة! قال قزمان: إني واللَّه ما قاتلت يا أبا عمرو على دين، ما قاتلت إلا على الحفاظ، أن قريش إلينا حتى تطأ سعفنا،
فذكر للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم جراحته فقال: من أهل النار،
فأندبته الجراحة، فقتل نفسه،
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن اللَّه يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر.
وقال الواقدي [ (2) ] في موضع آخر: وكان قزمان عديدا في بني ظفر لا يدري ممن هو، وكان لهم حائطا محبا، وكان مقلا لا ولد له ولا زوجة، وكان شجاعا يعرف بذلك في حروبهم، تلك التي كانت تكون بينهم، فشهد أحدا فقاتل
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 223- 224.
[ (2) ] (المرجع السابق) : 1/ 263- 264.
قتالا شديدا فقتل ستة أو سبعة، وأصابته الجراح
فقيل للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم: قزمان قد أصابته الجراح، فهو شهيد! قال: من أهل النار،
فأتى إلى قزمان فقيل له:
هنيئا لك يا أبا الغيداق الشهادة! قال: بم تبشرون؟ واللَّه ما قاتلنا إلا على الأحساب، قالوا: بشرناك بالجنة، قال: جنة من حرمل، واللَّه ما قاتلنا على جنة ولا نار، إنما قاتلنا على أحسابنا! فأخرج سهما من كنانته، فجعل يتوجأ به نفسه، فلما أبطأ عليه المشقص أخذ السيف فاتكأ عليه حتى خرج من ظهره،
فذكر ذلك للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: من أهل النار.
حدثنا يونس [ (1) ] بن محمد الظفري، عن أبيه، قال: أقبل قزمان يشد على المشركين، وتلقاه خالد بن الأعلم، وكل واحد منهما راجل، فاضطربا بأسيافهما، فيمر بهما خالد بن الوليد فحمل الرمح على قزمان، فسلك الرمح في غير مقتل، شطب الرمح، ومضى خالد وهو يرى أنه قد قتله، فضربه عمرو بن العاص وهما على تلك الحال، وطعنه أخرى فلم يجهز عليه، فلم يزالا يتجاولان حتى قتل قزمان خالد بن الأعلم، ومات قزمان من جراحة به من ساعة، وعثمان بن عبد اللَّه بن المغيرة قتله الحارث بن الصمة خمسة.
فقال الواقدي [ (2) ] في (مغازيه) : قال جابر بن عبد اللَّه: لما قتل سعد بن ربيع بأحد رجع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى المدينة، ثم مضى إلى حمراء الأسد، وجاء أخو سعد بن ربيع فأخذ ميراث سعد، وكان لسعد ابنتان وكانت امرأته حاملا، وكان المسلمون يتوارثون على ما كان في الجاهلية حتى قتل سعد بن ربيع، فلما قبض عمهن المال- ولم تنزل الفرائض- وكانت امرأة سعد امرأة حازمة، صنعت طعاما- ثم دعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- خبزا ولحما وهي يومئذ بالأسواف [ (3) ] ،
فانصرفنا إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من الصبح، فبينا نحن عنده جلوس ونحن نذكر وقعة أحد ومن قتل من المسلمين، ونذكر سعد بن ربيع إلى أن قال رسول
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 1/ 308.
[ (2) ] (المرجع السابق) : 1/ 329- 331، هذا الحديث مطموس في الأصل ونقلناه بتمامه من المرجع السابق.
[ (3) ] الأسواف: اسم حرم المدينة، وقيل: اسم موضع بعينه بناحية البقيع: (معجم البلدان) .
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: قوموا بنا، فقمنا معه ونحن عشرون رجلا حتى انتهينا إلى الأسواف، فدخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ودخلنا معه فنجدها قد رشت ما بين صورين، وطرحت خصفة [ (1) ] .
قال جابر بن عبد اللَّه: واللَّه ما ثم وسادة ولا بساط، فجلسنا ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يحدثنا عن سعد بن ربيع، يترحم عليه ويقول: لقد رأيت الأسنة شرعت إليه يومئذ حتى قتل، فلما سمع ذلك النسوة بكين، فدمعت عينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وما نهاهن عن شيء من البكاء.
قال جابر: ثم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يطلع عليكم رجل من أهل الجنة، قال: فتراءينا من يطلع، قال فطلع أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فقمنا فبشرناه بما قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم سلم ثم ردوا عليه، ثم جلس.
ثم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يطلع عليكم رجل من أهل الجنة، فتراءينا من يطلع من خلال السعف، فطلع عمر بن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-، فقمنا فبشرناه بما قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فسلم ثم جلس.
ثم قال: يطلع عليكم رجل من أهل الجنة، فنظرنا من خلال السعف، فإذا علي بن أبي طالب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قد طلع، فقمنا فبشرناه بالجنة، ثم جاء فجلس فسلم ثم جلس، ثم أتي بالطعام.
قال جابر: فأتى من الطعام بقدر ما يأكل رجل واحدا واثنان، فوضع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يده فيه، فقال: خذوا بسم اللَّه! فأكلنا منها حتى نهلنا، واللَّه ما أرانا حركنا منها شيئا، ثم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ارفعوا هذا الطعام! فرفعوه، ثم أتينا برطب في طبق في باكورة أو مؤخر قليل، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: بسم اللَّه، كلوا! قال: فأكلنا حتى نهلنا، وإني لأرى في الطبق نحوا مما أتى به، وجاءت الظهر فصلى بنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ولم يمس ماء، ثم رجع إلى مجلسه فتحدث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم جاءت العصر فأتى ببقية الطعام يتشبع به، فقام النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فصلى بنا العصر، ولم يمس ماء.
__________
[ (1) ] الخصفة: الشيء المنسوج من خوص.
ثم قامت امرأة سعد بن ربيع فقالت: يا رسول اللَّه، إن سعد بن ربيع قتل بأحد، فجاء أخوه فأخذ ما ترك، وترك ابنتين ولا مال لهما، وإنما ينكح- يا رسول اللَّه- النساء على المال، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ أحسن الخلافة على تركته، لم ينزل عليّ في ذلك شيء، وعودي إليّ إذا رجعت! فلما رجع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى بيته جلس على بابه وجلسنا معه، فأخذ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم برحاء حتى ظننا أنه أنزل عليه، قال: فسرى عنه والعرق يتحدر عن جبينه مثل الجمان، فقال: عليّ بامرأة سعد قال: فخرج أبو مسعود عقبة بن عمرو حتى جاء بها، قال: وكانت امرأة حازمة جلدة، فقال: أين عم ولدك؟ قالت:
يا رسول اللَّه في منزله، قال: أدعية لي، ثم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: اجلسي، فجلست وبعث رجلا يعدو إليه فأتى به وهو في بلحارث بن الخزرج، فأتى به وهو متعب، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ادفع إلى بنات أخيك ثلثي ما ترك أخوك فكبرت امرأته تكبيرة سمعها أهل المسجد، وقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ادفع إلى زوجة أخيك الثمن وشأنك وسائر ما بيدك، ولم يورث الحمل يومئذ،
وهي أم سعد بنت سعد بن ربيع امرأة زيد بن ثابت أم خارجة بن زيد، فلما ولى عمر بن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وقد تزوج زيد أم سعد بنت سعد وكانت حملا، فقال: إن كانت لك حاجة أن تكلمي في ميراثك من أبيك، فإن أمير المؤمنين قد ورّث الحمل اليوم، وكانت أم سعد يوم قتل أبوها سعد حملا، فقالت: ما كنت لأطلب من أخي شيئا.
وأما حماية الدبر عاصم بن ثابت حتى لم تمسه أيدي المشركين تكرمة لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وعلما من أعلام نبوته
فخرّج البخاريّ من حديث الزهريّ قال: أخبرني عمرو بن أبي سفيان بن أسيد بن جارية الثقفي- وهو حليف لبني زهرة- وكان من أصحاب أبي هريرة إن أبا هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: بعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عشرة رهط سرية عينا، وأمر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري- جد عاصم بن عمرو بن الخطاب- فانطلقوا حتى إذا كانوا بالهدأة- وهو بين عسفان ومكة- ذكروا لحي من هذيل يقال لهم بنو لحيان، فنفروا لهم قريبا من مائتي رجل كلهم رام، فاقتصوا آثارهم حتى وجدوا مأكلهم تمرا تزودوه من المدينة، فقالوا: هذا تمر يثرب فاقتصوا آثارهم، فلما رآهم عاصم وأصحابه لجئوا إلى فدفد، وأحاط بهم القوم، فقالوا لهم: انزلوا وأعطونا بأيديكم ولكم العهد والميثاق ولا نقتل منكم أحدا.
فقال عاصم بن ثابت أمير السرية: أما أنا فو اللَّه لا أنزل اليوم في ذمة كافر، اللَّهمّ أخبر عنا نبيك، فرموهم بالنبل، فقتلوا عاصما في سبعة، فنزل إليهم ثلاثة رهط بالعهد والميثاق، منهم خبيب الأنصاريّ وابن دثنة ورجل آخر، فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم، فأوثقوهم.
فقال الرجل الثالث: هذا أول الغدر، واللَّه لأصحبكم، إن لي في هؤلاء لأسوة- يريد القتلى- وجرروه وعالجوه على أن يصحبهم فأبى، فقتلوه، فانطلقوا بخبيب، وابن دثنة حتى باعوهما بمكة بعد وقيعة بدر، فابتاع خبيبا بنو الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف، وكان خبيب هو قتل الحارث بن عامر يوم بدر، فلبث خبيب عندهم أسيرا، فأخبرني عبيد اللَّه بن عياض أن بنت الحارث أخبرته أنهم حين اجتمعوا استعار منها موسى يستحد بها فأعارته، فأخذ ابنا لي وأنا غافله حين أتاه، قالت: فوجدته مجلسه على فخذه والموس بيده، ففزعت فزعة عرفها خبيب في وجهي، فقال: تخشين أن أقتله؟ ما كنت
لأفعل ذلك، واللَّه ما رأيت أسيرا قط خير من خبيب، واللَّه لقد وجدته يوما يأكل من قطف عنب في يده وإنه لموثق في الحديد وما بمكة من ثمر، وكانت تقول إنه لرزق من اللَّه رزقه خبيبا، فلما خرجوا من الحرم ليقتلوه في الحل قال لهم خبيب: ذروني أركع ركعتين، ثم قال:
لولا أن تظنون أن بى جزع ... اللَّهمّ أحصهم عددا
ولست أبالي حين أقتل مسلما ... على أي شق كان للَّه مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع
فقتله ابن الحارث، فكان خبيب هو سنّ الركعتين لكل امرئ مسلم قتل صبرا، فأستجاب اللَّه لعاصم بن ثابت يوم أصيب، وبعث ناس من كفار قريش إلى عاصم حين حدثوا أنه قتل ليؤتوا بشيء منه يعرف، وكان قد قتل رجلا من عظمائهم يوم بدر، فبعث اللَّه على عاصم مثل الظلة من الدبر، فحمته من رسولهم، فلم يقدر على أن يقطع من لحمه شيئا. ذكره البخاريّ في كتاب الجهاد [ (1) ] ، وترجم عليه: هل يستأسر الرجل؟ ومن لم يستأسر، ومن ركع ركعتين عند القتل.
وذكره في غزوة الرجيع [ (2) ] بنحوه أو قريب منه، وذكر بعقبه من طريق سفيان، عن عمرو سمع جابر بن عبد اللَّه يقول: الّذي قتل خبيبا هو أبو سروعة.
وذكره أيضا في غزوة بدر [ (3) ] ، وذكر موسى بن عقبة هذا الحديث، وقصة من قتل منهم ومن أسر بنحو حديث أبي هريرة.
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 6/ 203- 204، كتاب الجهاد والسير، باب (170) هل يستأسر الرجل؟
ومن لم يستأسر، ومن ركع ركعتين عند القتل حديث رقم (3045) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : 7/ 481- 482، كتاب المغازي باب (29) غزوة الرجيع، ورعل وذكوان، وبئر معونة وحديث عضل والقارة وعاصم بن ثابت وخبيب وأصحابه، قال ابن إسحاق: حدثنا عاصم بن عمر أنها بعد أحد، حديث رقم (4086) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : 7/ 392- 393، كتاب المغازي، باب (10) بدون ترجمة، حديث رقم (3989) ، وذكره في كتاب التوحيد، باب (14) ما يذكر في الذات والنعوت وأسامي اللَّه
وذكره عروة بن الزبير أيضا، وزاد فيه قول خبيب: اللَّهمّ إني لا انظر في وجه عدوك، اللَّهمّ إني لا أجد رسولك، فبلغه عنى السلام، فجاء جبريل عليه السلام إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخبره ذلك، وزاد موسى بن عقبة: وزعموا أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال وهو جالس في ذلك اليوم الّذي قتلا فيه: وعليكما أو عليك السلام، خبيب قتلته قريش، ولا أدري أذكر زيد الدّثنّة معه أم لا؟ قال:
وزعموا أنهم رموا ابن الدّثنّة بالنبل وأرادوا قتله، فلم يزدد إلا إيمانا وتثبيتا.
وزاد عروة وموسى بن عقبة جميعا: أنهم لما رفعوا خبيبا على الخشبة نادوه يناشدونه: أتحب أن محمدا مكانك؟ قال: لا واللَّه العظيم ما أحب أن يفديني بشوكة يشاكها في قدميه، فضحكوا منه، وزاد بيانا قالها.
وذكر الواقدي في (مغازيه) [ (1) ] في غزوة الرجيع بأتم سياقه قال: حدثني موسى بن يعقوب، عن أبي الأسود عن عروة قال: بعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أصحاب الرجيع عيونا إلى مكة ليخبروه خبر قريش، فسلكوا على النجدية حتى كانوا بالرجيع، فاعترضت لهم بنو لحيان.
حدثني محمد بن عبد اللَّه، ومعمر بن راشد، وعبد الرحمن بن عبد العزيز، وعبد اللَّه بن جعفر، ومحمد بن صالح، ومحمد بن يحيى بن سهل بن أبي حثمة، ومعاذ بن محمد، في رجال من لم أسمّ، وكل قد حدثني ببعض الحديث، وبعض القوم كان أوعى له من بعض، وقد جمعت الّذي حدثوني، قالوا: لما قتل سفيان بن خالد بن نبيح الهذلي مشت بنو لحيان إلى عضل والقارة، فجعلوا لهم فرائض على أن يقدموا على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فيكلموه، فيخرج إليهم نفرا من أصحابه يدعونهم إلى الإسلام، فنقتل من قتل صاحبنا، ونخرج بسائرهم إلى قريش بمكة فنصيب بهم ثمنا، فإنّهم ليسوا لشيء أحب إليهم من أن يؤتوا بأحد من أصحاب محمد، يمثلون به ويقتلونه بمن قتل منهم ببدر.
__________
[ () ] عز وجل-، وقال خبيب: وذلك في ذات الإله فذكر الذات باسمه- تعالى-، حديث رقم (7402) .
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 354- 363، غزوة الرجيع في صفر على رأس ستة وثلاثين شهرا.
فقدم سبعة نفر من عضل والقارة- وهما حيان إلى خزيمة- مقرين بالإسلام، فقالوا لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنا فينا إسلاما فاشيا، فابعث معنا نفرا من أصحابك يقرئوننا القرآن، ويفقهوننا في الإسلام، فبعث معهم سبعة نفر:
مرثد بن أبي مرثد الغنوي، وخالد بن أبي البكير، وعبد اللَّه بن طارق البلوي حليف في بنى ظفر، وأخاه لأمه معتب بن عبيد، حليف في بني ظفر، وخبيب بن عديّ بن بلحارث بن الخزرج، وزيد بن الدّثنّة من بني بياضة، وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، ويقال: كانوا عشرة وأميرهم مرثد بن أبي مرثد، ويقال أميرهم عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح.
فخرجوا حتى إذا كانوا بماء لهذيل- يقال له الرجيع قريب من الهدة- خرج النفر فاستصرخوا عليهم أصحابهم الذين بعثهم اللحيانيون، فلم يرع أصحاب محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم إلا بالقوم، مائة رام وفي أيديهم السيوف، فاخترط أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أسيافهم، ثم قاموا، فقال العدو: ما نريد قتالكم، وما نريد إلا أن نصيب منكم من أهل مكة ثمنا، ولكم عهد اللَّه وميثاقه لا نقتلكم.
فأما خبيب بن عدي، وزيد بن الدّثنّة، وعبد اللَّه بن طارق فاستأسروا، وقال خبيب: إن لي عند القوم يدا، وأما عاصم بن ثابت، ومرثد، وخالد بن أبي البكير، ومعتب بن عبيد، فأبوا أن يقبلوا جوارهم ولا أمانهم، وقال عاصم بن ثابت: إني نذرت ألا أقبل جوار مشرك أبدا، فجعل عاصم يقاتلهم وهو يقول:
ما علتي وأنا جلد نابل ... النبل والقوس لها بلابل
نزلّ عن صفحتها المعابل ... الموت حق والحياة باطل
وكل ما حم الإله نازل ... بالمرء والمرء إليه آئل
إن لم أقاتلكم فأمي هابل [ (1) ]
قال الواقدي: ما رأيت من أصحابنا أحدا يدفعه، قال: فرماهم بالنبل حتى فنيت نبله، ثم طعنهم بالرمح حتى كسر رمحه، وبقي السيف فقال: اللَّهمّ حميت دينك أول نهاري فاحم لي لحمي آخره! وكانوا يجردون كل من قتل من
__________
[ (1) ] هابل: أي فاقد، يقال: هبلته أمه إذا فقدته.
أصحابه، قال: فكسر غمد سيفه، ثم قاتل حتى قتل، وقد جرح رجلين وقتل واحد، فقال عاصم وهو يقائل:
أنا أبو سليمان ومثلي رامي ... ورثت مجدا معشرا كراما
أصبت مرثدا وخالدا قياما
ثم شرعوا فيه الأسنة حتى قتلوه، وكانت سلافة بنت سعد بن الشهيد قد قتل زوجها وبنوها أربعة، قد كان عاصم قتل منهم اثنين، الحارث، ومسافعا، فندرت لئن أمكنها اللَّه منه أن تشرب في قحف رأسه الخمر، وجعلت لمن جاء برأس عاصم مائة ناقة، قد علمت ذلك العرب وعلمته بنو لحيان فأرادوا أن يحتزوا رأس عاصم ليذهبوا به إلى سلافة بنت سعد ليأخذوا منها مائة ناقة.
فبعث اللَّه- تبارك وتعالى- عليهم الدبر فحمته فلم يدن إليه أحد إلا لدغت وجهه، وجاء منها شيء كثير لا طاقة لأحد به، فقالوا: دعوه إلى الليل، فإنه إذا جاء الليل ذهب عنه الدبر، فلما جاء الليل بعث اللَّه عليه سيلا- وكنا ما نرى في السماء سحابا في وجه من الوجوه- فاحتمله فذهب به فلم يصلوا إليه، فقال: عمر بن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وهو يذكر عاصما- وكان عاصم نذر ألا يمس مشركا ولا يمسه مشرك تنجسا به، فقال عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: إن اللَّه- عز وجل- ليحفظ المؤمنين، فمنعه اللَّه- عز وجل- أن يمسوه بعد وفاته كما امتنع في حياته.
وقاتل معتب بن عبيد حتى جرح فيهم، ثم خلصوا إليه فقتلوه، وخرجوا بخبيب، وعبد اللَّه بن طارق، وزيد بن الدّثنّة حتى إذا كانوا بمر الظهران، وهم موثقون بأوتار قسيهم، قال عبد اللَّه بن طارق: هذا أول الغدر! واللَّه لا أصاحبكم، إن لي في هؤلاء لأسوة- يعني القتل، فعالجوه فأبى، ونزع يده من رباطه، ثم أخذ سيفه، فانحازوا عنه، فجعل يشد فيهم وينفرجون عنه، فرموه بالحجارة حتى قتلوه- فقبره بمر الظهران، وخرجوا بخبيب بن عدي، وزيد بن الدّثنّة حتى قدموا بهما مكة، فأما خبيب فابتاعه حجير بن أبي إهاب بثمانين مثقال ذهب، ويقال اشتراه بخمسين فريضة، ويقال اشترته ابنة الحارث بن عامر بن نوفل بمائة من الإبل، وكان حجير إنما اشتراه لابن أخيه عقبة بن الحارث بن عامر ليقتله بأبيه- قتل يوم بدر-، وأما زيد بن الدّثنّة،
فاشتراه صفوان بن أمية بخمسين فريضة فقتله بأبيه، ويقال إنه شرك فيه أناس من قريش، فدخل بهما في شهر حرام، وفي ذي القعدة، فحبس حجير خبيب بن عدي في بيت امرأة، يقال لها ماوية، مولاة لبني عبد مناف، وحبس صفوان بن أمية زيد بن الدّثنّة عند ناس من بني جمح، ويقال عند نسطاس غلامه، وكانت ماوية قد أسلمت بعد فحسن إسلامها، وكانت تقول:
واللَّه ما رأيت أحدا خيرا من خبيب، واللَّه لقد أطلعت عليه من صير الباب وإنه لفي الحديد، وما أعلم في الأرض حبة عنب تؤكل، وإن في يده لقطف عنب مثل رأس الرجل يأكل منه، وما هو إلا رزق رزقه اللَّه، وكان خبيب يتهجد بالقرآن، وكان يسمعه النساء فيبكين ويرققن عليه، قالت: فقلت له: يا خبيب، هل لك من حاجة؟ قال: لا، إلا أن تسقيني العذب، ولا تطعميني ما ذبح على النصب، وتخبريني إذا أرادوا قتلي، قالت: فلما انسلخت الأشهر الحرم وأجمعوا على قتله أتيته فأخبرته، فو اللَّه ما رأيته اكترث لذلك، وقال: ابعثي لي بحديدة أستصلح بها، قالت: فبعثت إليه موسى مع ابني أبي حسين، فلما ولى الغلام قلت: أدرك واللَّه الرجل ثأره، أي شيء صنعت؟ بعثت هذا الغلام بهذه الحديدة، فيقتله ويقول: «رجل برجل» فلما أتاه ابني بالحديدة تناولها منه، ثم قال ممازحا له: وأبيك إنك لجريء! أما خشيت أمك غدري حين بعثت معك بحديدة وأنتم تريدون قتلي؟ قالت ماوية: وأنا أسمع ذلك فقلت: يا خبيب، إنما أمنتك بأمان اللَّه وأعطيتك بإلهك، ولم أعطك لتقتل ابني، فقال خبيب: ما كنت لأقتله، وما نستحل في ديننا الغدر، ثم أخبرته أنهم مخرجوه فقاتلوه بالغداة، قال: فأخرجوه بالحديد حتى انتهوا به إلى التنعيم، وخرج معه النساء والصبيان والعبيد وجماعة من أهل مكة، فلم يتخلف أحد، إما موتور فهو يريد أن يتشافي بالنظر من وتره، وأما غير موتور فهو مخالف للإسلام وأهله، فلما انتهوا به إلى التنعيم، ومعه زيد بن الدّثنّة، فأمروا بخشبة طويلة فحفر لها، فلما انتهوا بخبيب إلى خشبته قال: هل أنتم تاركي فأصلي ركعتين؟ قالوا: نعم، فركع ركعتين أتمهما من غير أن يطول فيهما.
فحدثني معمر، عن الزهريّ، عن عمرو بن أبي سفيان بن أسيد بن العلاء، عن أبي هريرة، قال: أول من سن الركعتين عند القتل خبيب.
قالوا: ثم قال: أما واللَّه لولا أن تروا أني جزعت من الموت لاستكثرت من الصلاة، ثم قال: اللَّهمّ أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا.
فقال معاوية بن أبي سفيان: لقد حضرت دعوته ولقد رأيتني وإن أبا سفيان ليضجعني إلى الأرض فرقا من دعوة خبيب، ولقد جبذني يومئذ أبو سفيان جبذة، فسقطت على عجب ذنبي فلم أزل أشتكي السقطة زمانا.
وقال حويطب بن عبد العزى: لقد رأيتني أدخلت إصبعي في أذني وعدوت هربا فرقا أن أسمع دعاؤه.
وقال حكيم بن حزام: لقد رأيتني أتوارى بالشجر فرقا من دعوة خبيب منهم أحدا.
فحدثني عبد اللَّه بن يزيد قال: حدثني بن عمرو قال: سمعت جبير بن مطعم يقول: لقد رأيتني يومئذ أتستر بالرجال فرقا من أن أشرف لدعوته.
وقال الحارث بن برصاء: واللَّه ما ظننت أن تغادر دعوة خبيب منهم أحد وحدثني عبد اللَّه، قال: سمعت عمرو بن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- سعيد بن عامر بن حذيم الجمحيّ على حمص، وكانت تصيبه غشية وهو بين ظهري أصحابه، فذكر ذلك لعمر بن الخطاب فسأله في قدمة قدم عليه من حمص فقال: يا سعيد ما الّذي يصيبك؟ أبك جنة؟ قال: لا واللَّه يا أمير المؤمنين، ولكني كنت فيمن حضر خبيبا حين قتل وسمعت دعوته، فو اللَّه ما خطرت على قلبي وأنا في مجلس إلا غشي علي، قال: فزادته عند عمر خيرا.
وحدثني قدامة بن موسى، عن عبد العزيز بن رمانة، عن عروة بن الزبير، عن نوفل بن معاوية الديليّ، قال: حضرت يومئذ دعوة خبيب، فما كنت أرى أن أحدا ممن حضر ينفلت من دعوته، ولقد كنت قائما فأخلدت إلى الأرض فرقا من دعوته، ولقد مكثت قريش شهرا أو أكثر وما لها حديث في أنديتها إلا دعوة خبيب.
قالوا: فلما صلى ركعتين حملوه إلى الخشبة، ثم وجهوه إلى المدينة وأوثقوه رباطا، ثم قالوا: أرجع عن الإسلام، نخل سبيلك! قال: لا واللَّه ما أحب أني رجعت عن الإسلام وأن لي ما في الأرض جميعا! قالوا: فتحب أن
محمدا في مكانك وأنت جالس في بيتك؟ قال: واللَّه ما أحب أن يشاك محمد بشوكة وأنا جالس في بيتي، فجعلوا يقولون: ارجع يا خبيب! قال: لا أرجع أبدا! قالوا: أما واللات والعزى، لئن لم تفعل لنقتلنك! فقال: إن قتلي في اللَّه لقليل! فلما أبى عليهم وقد جعلوا وجهه من حيث جاء، قال: أما صرفكم وجهي عن القبلة فإن اللَّه يقول: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [ (1) ] ، ثم قال:
اللَّهمّ إني لا أرى إلا وجه عدو، اللَّهمّ أنه ليس ها هنا أحد يبلغ رسولك السلام عني، فبلغه أنت عني السلام.
فحدثني أسامة بن زيد، عن أبيه، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان جالسا مع أصحابه، فأخذته غمية كما كان يأخذه إذا أنزل عليه الوحي، قال: ثم سمعناه يقول: وعليه السلام ورحمة اللَّه، ثم قال: هذا جبريل يقرئني من خبيب السلام،
قال: ثم دعوا أبناء من أبناء من قتل ببدر فوجدوهم أربعين غلاما، فأعطوا كل غلام رمحا، ثم قالوا: هذا الّذي قتل آباءكم، فطعنوه برماحهم طعنا خفيفا، فاضطرب على الخشبة فانقلب، فصار وجهه إلى الكعبة، فقال:
الحمد للَّه الّذي جعل وجهي نحو قبلته التي رضي لنفسه ولنبيه وللمؤمنين! وكان الذين أجلبوا على قتل خبيب: عكرمة بن أبي جهل، وسعيد بن عبد اللَّه بن قيس، والأخنس بن شريق، وعبيدة بن حكيم بن أمية بن الأوقص السلميّ، وكان عقبة بن الحارث بن عامر ممن حضر، وكان يقول: واللَّه ما أنا قتلت خبيبا إن كنت يومئذ لغلاما صغيرا، ولكن رجلا من بني عبد الدار يقال له أبو ميسرة من عوف بن السباق أخذ بيدي فوضعها على الحربة، ثم أمسك بيدي، ثم جعل يطعن بيده حتى قتله، فلما طعنه بالحربة أفلت، فصاحوا: يا أبا سروعة، بئس ما طعنه أبو ميسرة! فطعنه أبو سروعة حتى أخرجها من ظهره، فمكث ساعة يوحد اللَّه ويشهد أن محمدا رسول اللَّه.
يقول الأخنس بن شريق: لو ترك ذكر محمد على حال لتركه على هذه الحال، ما رأينا قط والدا يجد بوالده ما يجد أصحاب محمد بمحمد صلّى اللَّه عليه وسلّم.
__________
[ (1) ] البقرة: 115.
قالوا: وكان زيد بن الدّثنّة عند آل صفوان بن أمية محبوسا في حديد، وكان يتهجد بالليل ويصوم بالنهار، ولا يأكل شيئا مما أوتي به من الذبائح، فشق ذلك على صفوان، وكانوا قد أحسنوا إساره، فأرسل إليه صفوان: فما الّذي تأكل من الطعام؟ قال: لست آكل مما ذبح لغير اللَّه، ولكني أشرب اللبن، وكان يصوم، فأمر له صفوان بعس من اللبن عند فطره فيشرب منه حتى يكون مثلها من القابلة، فلما خرج به وبخبيب في يوم واحد التقيا، ومع كل واحد منهما فئام من الناس، فالتزم كل منهما صاحبه، وأوصى كل واحد منهما صاحبه بالصبر على ما أصابه، ثم افترقا، وكان الّذي ولى قتل زيد نسطاس غلام صفوان، خرج به إلى التنعيم فرفعوا له جزعا، فقال: أصلي ركعتين فصلى ركعتين، ثم حملوه على الخشبة، ثم جعلوا يقولون لزيد: أرجع عن دينك المحدث وأتبع ديننا، ونرسلك! قال: لا واللَّه، لا أفارق ديني أبدا! قالوا: أيسرك أن محمدا في أيدينا مكانك وأنت في بيتك؟ قال: ما يسرني أن محمد أشيك بشوكة وأني في بيتي! قال: يقول أبو سفيان بن حرب: لا، ما رأينا أصحاب رجل قط أشد له حبا من أصحاب محمد بمحمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقال حسان بن ثابت، صحيحة سمعتها من يونس بن محمد الظفري:
فليت خبيبا لم تخنه أمانة ... وليت خبيبا كان بالقوم عالما
شراه زهير بن الأغر وجامع ... وكانا قديما يركبان المحارما
أجرتم فلما أن أجرتم غدرتم ... وكنتم بأكناف الرجيع اللهازما
وقال حسان بن ثابت، ثبته قديمة:
لو كان في الدار قرم ذو محافظة ... حامي الحقيقة ماض في خاله أنس
إذن حللت خبيبا منزلا فسحا ... ولم يشد عليك الكبل والحرس
ولم تقدك إلى التنعيم زعنفة ... من المعاشر ممن قد نفت عدس
فأصبر خبيب فإن القتل مكرمة ... إلى جنان نعيم ترجع النفس
دلوك غدرا وهم فيها أولو خلف ... وأنت ضيف لهم في الدار محتبس
وقد ذكر يونس بن بكير بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة هذه القصة وزاد فيها أن قدوم النفر من القادة على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة بعد أحد وزاد أن خبيبا قال: حين بلغه أن القوم قد اجتمعوا على صلبه أبياتا:
لقد جمع الأحزاب حولي وألبوا ... قبائلهم واستجمعوا كل مجمع
وكلهم مبري العداوة جاهد ... علي لأني في وثاق بمضجع
وقد جمعوا أبناءهم ونساءهم ... وقربت من جزع طويل ممنع
إلى اللَّه أشكو غربتي ثم كربتي ... وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي
فذا العرش، صبرني على ما يراد بي ... فقد بضعوا لحمي وقد بأس مطمعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع
وقد خيروني الكفر والموت دونه ... وقد هملت عيناي من غير مجزع
وما بي حذار الموت إني لميت ... ولكن حذاري حجم نار ملفع
فو اللَّه ما أرجو إذا مت مسلما ... على أي جنب كان في اللَّه مصرعي
فلست بمبد العدو تخشعا ... ولا جزعا إني إلى اللَّه مرجعي
وذكر عبد اللَّه بن وهب قال: حدثنا عمر بن الحرث بن عبد الرحمن بن عبد اللَّه الزهريّ أخبره عن بريدة بن سفيان الأسلمي، فذكر القصة، وزاد فيها رفع خبيب على الخشبة أستقبل الدعاء.
قال رجل: فلما رأيته يدعوا لبثت بالأرض، فلم يحل الحول ومنهم أحد غير ذلك الرجل الّذي لبث بالأرض.
وقال يونس عن إبراهيم بن إسماعيل: حدثني جعفر بن عمرو بن أمية الضمريّ أن أباه حدثه عن جده- وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعثه عينا وحده- قال:
جئت إلى خشبة خبيب، فرقيت فيها وأنا أخوف العيون، فأطلقته، فوقع بالأرض، ثم اقتحمه فانتبذت قليلا، ثم التفت فكأنما ابتلعته الأرض. ذكره جعفر بن عون، عن إبراهيم بن إسماعيل، فذكره بمعناه إلا أنه قال: فانتبذت غير بعيد، فلم أر خبيبا فكأنما ابتلعته الأرض، فلم يذكر لخبيب رمة حتى الساعة.
قال كاتبه: قد تضمن هذا الخبر عشرة أعلام من أعلام النبوة: أن الدبر جمعت عاصما حتى لم تمسه أيدي المشركين، ومنها أن السيل غيبه، ومنها أكل خبيب العنب في غير أوانه، وهي كرامة كما قصه اللَّه- تعالى- من شأن
مريم كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً [ (1) ] ومنها ثباته، وثبات زيد على دين الإسلام، ومحبة الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم مع عظيم ما جمع فيه من المحبة العظيمة في ذلك، ومنها تغييب رمة خبيب عن المشركين بعد صلبه، ومنها توجيه اللَّه تعالى له إلى نحو الكعبة بعد صرفهم إياه عنها، ومنها إعلام اللَّه- تعالى- رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم بما نزل بالقوم، وإبلاغه تعالى سلام خبيب له، ومنها إجابة اللَّه دعوة خبيب، وهلاك من شهد قتله من عامة كل ذلك تكرمة من اللَّه لرسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم.
__________
[ (1) ] آل عمران: 37.
وأما حماية اللَّه تعالى رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم ممن بعثه أبو سفيان بن حرب ليقتله وتخليصه تعالى عمرو بن أمية الضمريّ ومن معه من فتك المشركين وتأييدهما عليهم حتى قتلا منهم وأسرا
قال الواقدي [ (1) ] : حدثني إبراهيم بن جعفر، عن أبيه قال: وحدثنا عبد اللَّه بن أبي عبيدة، عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمريّ، قال: وحدثنا عبد اللَّه بن جعفر، عن عبد الواحد بن أبي عون، وزاد بعضهم على بعض قال:
كان أبو سفيان بن حرب قد قال لنفر من قريش بمكة: ما أحد يغتال محمدا فإنه يمشي في الأسواق فندرك ثأرنا، فأتاه رجل من العرب فدخل عليه منزله، وقال له: إن أنت قويتني خرجت إليه حتى أغتاله فإنّي هاد بالطريق خريت، ومعي خنجر مثل خافية النسر، قال: أنت صاحبنا فأعطاه بعيرا ونفقة وقال:
أطو أمرك فإنّي لا آمن أن يسمع هذا أحد فينمه إلى محمد، قال العربيّ: لا يعلم به أحد.
فخرج ليلا على راحلته فسار خمسا وصبح ظهر الحرة، صبح سادسة، ثم أقبل يسأل عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى أتى المصلي، فقال له قائل: قد توجه إلى بني عبد الأشهل، فخرج يقود راحلته حتى انتهى إلى بنى عبد الأشهل، فعقل راحلته،
ثم أقبل يؤم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فوجده في جماعة من أصحابه يحدث في مسجدهم، فدخل، فلما رآه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال لأصحابه: إن هذا الرجل يريد غدرا واللَّه حائل بينه وبين ما يريد.
فوقف، فقال: أيكم ابن عبد المطلب؟ فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أنا ابن عبد المطلب، فذهب ينحني على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كأنه يساره، فجبذه أسيد بن الحضير، وقال له: تنح عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وجبذ بداخله إزاره، فإذا الخنجر، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: هذا غادر، وسقط في يدي العربيّ، وقال: دمي دمي يا محمد، وأخذ أسيد يلبب، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم اصدقني: ما أنت؟ وما أقدمك؟
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقيّ) : 3/ 333- 337.
فإن صدقتني نفعك الصدق، وإن كذبتني فقد أطلعت على ما هممت به، قال العربيّ: فأنا آمن؟ قال فأنت آمن، فأخبره بخير أبي سفيان وما جعل له، فأمر به فحبس عند أسيد، ثم دعا به من الغد فقال: قد أمنتك، فأذهب حيث شئت، أو خير لك من ذلك، قال: وما وهو؟ قال: أن تشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأني رسول اللَّه، قال: فإنّي أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأنك رسول اللَّه، واللَّه يا محمد ما كنت أفرق الرجال فما هو إلا أن رأيتك فذهب عقلي، وضعفت نفسي، ثم اطلعت على ما هممت به مما سبقت به الركبان، ولم يعلمه أحد، فعرفت أنك ممنوع، وأنك على حق، وأن حزب أبي سفيان حزب الشيطان، فجعل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يتبسم، وأقام أياما ثم استأذن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فخرج من عنده فلم يسمع له بذكر.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لعمرو بن أمية الضمريّ، ولسلمة بن أسلم بن حريش: أخرجا حتى تأتيا أبا سفيان بن حرب، فإن أصبتما منه غرة فاقتلاه، قال عمرو: فخرجت أنا وصاحبي حتى أتينا بطن [يأجج] فقيدنا بعيرنا،
فقال لي صاحبي: يا عمرو هل لك في أن نأتي مكة ونطوف بالبيت سبعا، ونصلي ركعتين؟ فقلت: إني أعرف بمكة من الفرس الأبلق، وأنهم أن رأوني عرفوني، وأنا أعرف أهل مكة إنهم إذا أمسوا أنفجعوا بأفنيتهم، فأبى أن يطيعني، فأتينا مكة فطفنا سبعا وصلينا ركعتين، فلما خرجت لقيني معاوية بن أبي سفيان فعرفني وقال عمرو بن أمية: [وأحزناه] فأخبر أباه فنيد بنا أهل مكة، فقالوا: ما جاء عمرو في خير- وكان عمرو رجلا فاتكا في الجاهلية- فحشد أهل مكة، وتجمعوا، وهرب عمرو، وسلمة، وخرجوا في طلبهما، واشتدوا في الجبل قال عمرو: فدخلت غارا فتغيبت عنهم، حتى أصبحت وباتوا يطلبون في الجبل، وعمى اللَّه عليهم طريق المدينة أن يهتدوا لراحلتنا فلما كان الغد ضحوة أقبل عثمان بن مالك بن عبيد اللَّه التيمي يختلي لفرسه حشيشا، فقلت لسلمة بن أسلم: إن أبصرنا أشعر بنا أهل مكة، وقد أقصروا عنا فلم يزل يدنو من باب الغار حتى أشرف علينا وخرجت فطعنته طعنة تحت الثدي بخنجري فسقط وصاح، وأسمع أهل مكة، فأقبلوا بعد تفرقهم، ودخلت الغار فقلت لصاحبي: لا تحرك وأقبلوا حتى أتوا عثمان بن مالك، فقالوا: من قتلك؟
قال عمرو بن أمية قال أبو سفيان: وما علمنا أنه لم يأت بعمرو خير، ولم يستطع أن يخبرهم بمكاننا كان بآخر رمق ومات، وشغلوا عن طلبنا بصاحبهم يحملونه، فمكثنا ليلتين في مكاننا، ثم خرجنا، فقال صاحبي: يا عمرو بن أمية، هل لك في خبيب بن عدي ننزله؟ فقلت له: أين هو؟ قال: هو ذاك مصلوب حوله الحرس، فقلت: أمهلني وتنح عني