ثم سرية مؤتة- بضم الميم وسكون الواو- بغير همز لأكثر الرواة، وبه جزم المبرد، وجزم ثعلب والجوهرى وابن فارس بالهمز، وحكى غيرهم الوجهين.
وهى من عمل البلقاء بالشام، دون دمشق. فى جمادى الأولى سنة ثمان.
وذلك أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان أرسل الحارث بن عمير الأزدى بكتاب إلى ملك بصرى، فلما نزل مؤتة عرض له شرحبيل بن عمرو الغسانى فقتله، ولم يقتل لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- رسول غيره.
فأمر- صلى الله عليه وسلم- زيد بن حارثة على ثلاثة آلاف وقال: إن قتل فجعفر بن أبى طالب فإن قتل فعبد الله بن رواحة فإن قتل فليرتض المسلمون برجل من بينهم يجعلونه عليهم «2» .
__________
(1) انظرها فى «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 373- 389) ، وابن سعد فى «الطبقات الكبرى» (2/ 128) ، والطبرى فى «تاريخه» (3/ 107) ، وابن كثير فى «البداية والنهاية» (3/ 455- 493) ، وابن القيم فى «زاد المعاد» (3/ 381- 385) .
(2) انظر صحيح البخارى (4261) فى المغازى، باب: غزوة مؤتة من أرض الشام، من حديث عبد الله بن عمر- رضى الله عنهما-.
وفى حديث عبد الله بن جعفر عند أحمد والنسائى. بإسناد صحيح «إن قتل زيد فأميركم جعفر» «1» الحديث.
قالوا: وعقد لهم- صلى الله عليه وسلم- لواء أبيض، ودفعه إلى زيد بن حارثة، وأوصاهم أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير، وأن يدعوا من هناك إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلا استعينوا عليهم بالله وقاتلوهم.
وخرج مشيعا لهم، حتى إذا بلغ ثنية الوداع فوقف وودعهم، فلما ساروا نادى المسلمون: دفع الله عنكم وردكم صالحين غانمين، فقال ابن رواحة.
لكننى أسأل الرحمن مغفرة ... وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا
فلما فصلوا من المدينة سمع العدو بمسيرهم، فجمعوا لهم، وقام شرحبيل بن عمرو فجمع أكثر من مائة ألف، وقدم الطلائع أمامه.
وقد نزل المسلمون معان- بفتح الميم- موضع من أرض الشام، وبلغ الناس كثرة العدو وتجمعهم، وأن هرقل نزل بأرض البلقاء فى مائة ألف من المشركين. فأقاموا ليلتين لينظروا فى أمرهم وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- فنخبره الخبر، فشجعهم عبد الله بن رواحة على المضى، فمضوا إلى مؤتة.
ووافاهم المشركون فجاء منهم ما لا قبل لأحد به من العدد والعدد والسلاح والكراع والديباج والحرير والذهب.
والتقى المسلمون والمشركون. فقاتل الأمراء يومئذ على أرجلهم، فأخذ اللواء زيد بن حارثة فقاتل وقاتل المسلمون معه على صفوفهم حتى قتل طعنا بالرماح.
__________
(1) أخرجه أحمد فى «مسنده» (1/ 204) ، من حديث عبد الله بن جعفر- رضى الله عنهما-، وهو عند النسائى فى «الكبرى» (8249) ، وأحمد فى «مسنده» (5/ 300- 301) ، وابن حبان فى «صحيحه» (7048) من حديث أبى قتادة- رضى الله عنه-.
ثم أخذ اللواء جعفر بن أبى طالب، فنزل عن فرس له شقراء وقاتل حتى قتل، ضربه رجل من الروم فقطعه نصفين، فوجد فى أحد نصفيه بضعة وثمانون جرحا وفيما أقبل من بدنه اثنتان وسبعون ضربة بسيف وطعنة برمح.
قال فى رواية البخارى: ووجدنا ما فى جسده بضعا وتسعين من طعنة ورمية «1» .
وفى رواية: أن ابن عمر وقف على جعفر يومئذ وهو قتيل قال:
فعددت به خمسين بين طعنة وضربة ليس منها شىء فى دبره «2» .
وذكر ابن إسحاق بإسناد حسن، وهو عند أبى داود من طريقه عن رجل من مرة قال: والله لكأنى أنظر إلى جعفر بن أبى طالب، حين اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها ثم تقدم فقاتل حتى قتل «3» .
قالوا: ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة فقاتل حتى قتل.
فأخذ اللواء ابن أقرم العجلانى، إلى أن اصطلح الناس على خالد بن الوليد، فأخذ اللواء، وانكشف الناس فكانت الهزيمة فتبعهم المشركون فقتل من قتل من المسلمين.
وقال الحاكم: قاتلهم خالد بن الوليد فقتل منهم مقتلة عظيمة وأصاب غنيمة.
وقال ابن سعد: إنما انهزم بالمسلمين.
وقال ابن إسحاق: انحازت كل طائفة من غير هزيمة «4» .
ورفعت الأرض لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى نظر إلى معترك القوم.
__________
(1) هى عند البخارى (4261) وقد تقدم قبل حديث.
(2) هى عند البخارى (4260) فيما سبق.
(3) حسن: أخرجه أبو داود (2573) فى الجهاد، باب: فى الدابة تعرقب فى الحرب والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(4) انظر «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 373- 389) .
وعن عباد بن عبد الله بن الزبير قال: حدثنى أبى الذى أرضعنى- وكان أحد بنى مرة قال: شهدت مؤتة مع جعفر بن أبى طالب وأصحابه، فرأيت جعفرا حين التحم القتال اقتحم عن فرس له شقراء ثم عقرها وقاتل القوم حتى قتل، خرجه البغوى فى معجمه.
وقطعت فى تلك الوقعة يداه جميعا ثم قتل، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:
«إن الله أبدله بيديه جناحين يطير بهما فى الجنة حيث شاء» «1» ، أخرجه أبو عمر.
وفى البخارى عن عائشة- رضى الله عنها-: لما جاء قتل ابن رواحة وابن حارثة وجعفر بن أبى طالب جلس رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعرف فيه الحزن «2» .
وأخرج الطبرانى بإسناد حسن عن عبد الله بن جعفر قال: قال لى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «هنيئا لك أبوك يطير مع الملائكة فى السماء» «3» .
وعن أبى هريرة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «رأيت جعفر بن أبى طالب يطير مع الملائكة» «4» ، أخرجه الترمذى والحاكم وفى إسناده ضعف، لكن له شاهد من حديث على عند ابن سعد.
وعن أبى هريرة أيضا عن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «مر بى جعفر الليلة فى ملأ من الملائكة وهو مخضب الجناحين بالدم» «5» ، أخرجه الترمذى والحاكم بإسناد على شرط مسلم.
وأخرج أيضا هو والطبرانى عن ابن عباس مرفوعا: دخلت البارحة الجنة فرأيت فيها جعفر بن أبى طالب يطير مع الملائكة «6» .
__________
(1) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (9/ 273) وقال: رواه الطبرانى بإسنادين أحدهما حسن.
(2) صحيح: والخبر أخرجه البخارى (4263) فى المغازى، باب: غزوة مؤتة.
(3) إسناده حسن: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (9/ 273) وقال: رواه الطبرانى وإسناده حسن.
(4) صحيح: أخرجه الترمذى (3763) فى المناقب، باب: مناقب جعفر بن أبى طالب رضى الله عنه-، وابن حبان فى «صحيحه» (7047) ، والحاكم فى «مستدركه» (3/ 231) وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وهو كما قال.
(5) صحيح: انظر ما قبله.
(6) حسن: أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (3/ 217 و 231) ، والطبرانى فى «الكبير» (2/ 107 و 3/ 146) بسند حسن.
وفى طريق أخرى عنه: إن جعفرا يطير مع جبريل وميكائيل له جناحان، عوضه الله من يديه «1» . وإسناد هذا جيد.
فقد عوضه الله تعالى عن قطع يديه فى هذه الوقعة، حيث أخذ اللواء بيمينه فقطعت ثم أخذه بشماله فقطعت ثم احتضنه فقتل.
قال السهيلى: له جناحان، ليسا كما يسبق إلى الوهم كجناحى الطائر وريشه، لأن الصورة الآدمية أشرف الصور وأكملها، فالمراد بالجناحين صفة ملكية وقوة روحانية أعطيها جعفر. وقد عبر القرآن عن العضد بالجناح توسعا فى قوله تعالى: وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ «2» . وقال العلماء فى أجنحة الملائكة إنها صفات ملكية لا تفهم إلا بالمعاينة، فقد ثبت أن لجبريل ستمائة جناح، ولا يعهد للطير ثلاثة أجنحة فضلا عن أكثر من ذلك، وإذا لم يثبت خبر فى بيان كيفيتها فنؤمن بها من غير بحث عن حقيقتها. انتهى.
قال الحافظ ابن حجر: وهذا الذى جزم به فى مقام المنع، والذى حكاه عن العلماء ليس صريحا فى الدلالة لما ادعاه.
ولا مانع من الحمل على الظاهر، إلا من جهة ما ذكره من المعهود، وهو قياس الغائب على الشاهد وهو ضعيف.
وكون الصورة البشرية أشرف الصور لا يمنع من حمل الخبر على ظاهره، لأن الصورة باقية. وقد روى البيهقى فى الدلائل من مرسل عاصم ابن عمر بن قتادة: أن جناحى جعفر من ياقوت. وجاء فى جناحى جبريل أنهما من لؤلؤ. أخرجه ابن منده فى ترجمة ورقة.
وذكر موسى بن عقبة فى المغازى، أن يعلى بن أمية قدم بخبر أهل مؤتة، فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إن شئت فأخبرنى وإن شئت أخبرتك» قال: أخبرنى، فأخبره خبرهم فقال: والذى بعثك بالحق ما تركت من حديثهم حرفا لم تذكره.
__________
(1) انظر ما قبله.
(2) سورة طه: 22.
وعند الطبرانى من حديث أبى اليسر الأنصارى: أن أبا عامر الأشعرى هو الذى أخبر النبى- صلى الله عليه وسلم- بمصابهم «1» .
ثم سرية عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل «2» . وسميت بذلك لأن المشركين ارتبط بعضهم إلى بعض مخافة أن يفروا. وقيل لأن بها ماء يقال له السلسل، وراء ذات القرى، من المدينة على عشرة أيام.
وكانت فى جمادى الآخرة سنة ثمان، وقيل: كانت سنة سبع، وبه جزم ابن أبى خالد فى كتاب صحيح التاريخ، ونقل ابن عساكر الاتفاق على أنها كانت بعد غزوة مؤتة. إلا أن ابن إسحاق قال قبلها.
وسببها: أنه بلغه- صلى الله عليه وسلم- أن جمعا من قضاعة قد تجمعوا للإغارة، فعقد له لواء أبيض وجعل معه راية سوداء، وبعثه فى ثلاثمائة من سراة المهاجرين والأنصار. ومعهم ثلاثون فرسا.
فسار الليل وكمن النهار، فلما قرب منهم بلغه أن لهم جمعا كثيرا، فبعث رافع بن مكيث- بفتح الميم- الجهنى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يستمده، فبعث إليه أبا عبيدة بن الجراح، وعقد له لواء، وبعث معه مائتين من سراة المهاجرين والأنصار فيهم أبو بكر وعمر- رضى الله عنهم-، وأمره أن يلحق بعمرو، وأن يكونا جميعا ولا يختلفا.
فأراد أبو عبيدة أن يؤم الناس فقال عمرو: إنما قدمت على مددا، وأنا الأمير فأطاع له بذلك أبو عبيدة، فكان عمرو يصلى بالناس.
وسار حتى وصل إلى العدو: بلى وعذرة، فحمل عليهم المسلمون، فهربوا فى البلاد وتفرقوا.
ثم سرية أبى عبيدة بن الجراح. وسماها البخارى: غزوة سيف البحر، وتعرف بسرية الخبط.
__________
(1) قاله الحافظ ابن حجر فى «الفتح» (7/ 513) .
(2) انظرها فى «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 131) ، وابن القيم فى «زاد المعاد» (3/ 386 387) .
وبعث معه- صلى الله عليه وسلم- ثلاثمائة، كما فى الصحيحين وغيرهما «1» وهو المشهور، لكن فى رواية النسائى: وبضع عشرة، فإن صحت هذه الرواية فلعله اقتصر فى الرواية المشهورة على الثلاثمائة استسهالا لأمر الكسر، والأخذ بالزيادة مع صحتها واجب.
وكان فيهم عمر بن الخطاب- رضى الله عنه-.
يتلقى عيرا لقريش. رواه مسلم، وعنده أيضا: إلى أرض جهينة.
ولا منافاة بينهما: فالجهة أرض جهينة، والقصد تلقى عير قريش- وهى الإبل المحملة للطعام وغيره-.
لكن فى كتب السير: أن البعث إلى حى من جهينة بالقبلية- بفتح القاف والموحدة- مما يلى ساحل البحر، وبينها وبين المدينة خمس ليال.
ولعل البعث لمقصدين: رصد عير قريش، ومحاربة حى من جهينة.
وقال ابن سعد: وكانت فى رجب سنة ثمان.
وفيه نظر: فإن تلقى عير قريش ما يتصور أن يكون فى هذه المدة، لأنهم حينئذ كانوا فى الهدنة، فالصحيح أن تكون هذه السرية سنة ست أو قبلها، قبل هدنة الحديبية.
نعم يحتمل أن يكون تلقيهم العير ليس لمحاربتهم بل لحفظهم من جهينة، ولهذا لم يقع فى شىء من طرق الخبر أنهم قاتلوا أحدا. بل فيه أنهم أقاموا نصف شهر أو أكثر فى مكان واحد. فالله أعلم. قاله الحافظ ابن حجر.
لكن قال شيخ الإسلام ابن العراقى فى شرح التقريب، قالوا: وكانت هذه السرية فى شهر رجب سنة ثمان من الهجرة وذلك بعد نكث قريش العهد وقبل الفتح، فإنه كان فى رمضان من السنة المذكورة انتهى.
__________
(1) انظر القصة فى صحيح البخارى (4360- 4362) فى المغازى، باب: غزوة سيف البحر، ومسلم (1935) فى الصيد والذبائح، باب: إباحة ميتات البحر، والنسائى (7/ 207) فى الصيد والذبائح، باب: ميتة البحر من حديث جابر- رضى الله عنه-.
قالوا وزودهم- صلى الله عليه وسلم- جرابا من التمر، فلما فنى أكلوا الخبط- وهو بفتح المعجمة والموحدة بعدها مهملة- ورق السلم. وفى رواية أبى الزبير:
وكنا نضرب بعصينا الخبط ونبله بالماء فنأكله، وهذا يدل على أنه كان يابسا، خلافا لمن زعم أنه كان أخضر رطبا.
وقد كان معهم تمر غير الجراب النبوى، ويدل عليه حديث البخارى فى الجهاد- خرجنا ونحن ثلاثمائة نحمل زادنا على رقابنا حتى فنى زادنا، حتى كان الرجل منا يأكل تمرة تمرة «1» .
وابتاع قيس بن سعد جزورا ونحرها لهم «2» .
وأخرج الله لهم من البحر دابة تسمى العنبر فأكلوا منها وتزودوا ورجعوا ولم يلقوا كيدا.
وفى رواية جابر عند الأئمة الستة: بعثنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثلاثمائة راكب، أميرنا أبو عبيدة بن الجراح، فأقمنا على الساحل حتى فنى زادنا، حتى أكلنا الخبط ثم إن البحر ألقى لنا دابة يقال لها العنبر، فأكلنا منها نصف شهر، حتى صلحت أجسامنا، فأخذ أبو عبيدة ضلعا من أضلاعها فنصبه ونظر إلى أطول بعير فجاز تحته «3» الحديث.
زاد الشيخان فى رواية: فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فذكرنا ذلك له فقال: «هو رزق أخرجه الله لكم، فهل معكم شىء من لحمه فتطعمونا؟» قال: فأرسلنا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- منه فأكل «4» .
ثم سرية أبى قتادة بن ربعى الأنصارى إلى خضرة وهى أرض محارب
__________
(1) صحيح: وقد تقدم فيما قبله.
(2) صحيح: وقد تقدم فيما قبله.
(3) صحيح: والحديث أخرجه البخارى (5493 و 5494) فى الذبائح والصيد، باب: قول الله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ، ومسلم (1935) فى الصيد والذبائح، باب: إباحة ميتات البحر.
(4) صحيح: أخرجه البخارى (4362) فى المغازى، باب: غزوة سيف البحر، ومسلم (1935) فيما تقدم.
بنجد، فى شعبان سنة ثمان، وبعث معه خمسة عشر رجلا إلى غطفان، فقتل من أشرف منهم، وسبى سبيا كثيرا، واستاق النعم، وكانت الإبل مائتى بعير، والغنم ألفى شاة، وكانت غيبته خمس عشرة ليلة.
ثم سرية أبى قتادة أيضا إلى بطن أضم- فيما بين ذى خشب وذى المروة- على ثلاثة برد من المدينة، فى أول شهر رمضان سنة ثمان.
وذلك أنه- صلى الله عليه وسلم- لما هم أن يغزو أهل مكة، بعث أبا قتادة فى ثمانية نفر، سرية إلى بطن أضم، ليظن ظان أنه- صلى الله عليه وسلم- توجه إلى تلك الناحية، ولأن تذهب بذلك الأخبار.
فلقوا عامر بن الأضبط، فسلم عليهم بتحية الإسلام، فقتله محلم بن جثامة، فأنزل الله تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً «1» إلى آخر الآية «2» رواه أحمد، وهو عند ابن جرير من حديث ابن عمر بنحوه وزاد: فجاء محلم بن جثامة فى بردين فجلس بين يدى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليستغفر له، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: لا غفر الله لك، فقام يتلقى دموعه ببرديه فما مضت له سابعة حتى مات فلفظته الأرض. وعند غيره: ثم عادوا به فلفظته الأرض، فلما غلب قومه عمدوا إلى صدين فسطحوه ثم رضموا عليه الحجارة حتى واروه.
وفى رواية ابن جرير: فذكروا ذلك لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: إن الأرض تقبل من هو شر من صاحبكم، ولكن الله يريد أن يعظكم «3» .
ونسب ابن إسحاق هذه السرية لابن أبى حدرد ومعه رجلان إلى الغابة، لما بلغه- صلى الله عليه وسلم- أن رفاعة بن قيس يجمع لحربه، فقتلوا رفاعة وهزموا عسكره، وغنموا غنيمة عظيمة، حكاه مغلطاى والله أعلم.
__________
(1) سورة النساء: 94.
(2) انظر القصة بنحوها فى «صحيح البخارى» (4591) فى التفسير، باب: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً، ومسلم (3025) فى التفسير، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.
(3) أخرجه ابن جرير فى «تفسيره» (5/ 222) ، كما ذكره الحافظ ابن كثير فى «تفسيره» (1/ 540) .
ثم فتح مكة زادها الله شرفا. وهو كما قال فى زاد المعاد:
«الفتح الأعظم، الذى أعز الله به دينه ورسوله وجنده وحرمه الأمين، واستنقذ به بلده وبيته الذى جعله هدى للعاملين من أيدى الكفار والمشركين، وهو الفتح الذى استبشر به أهل السماء، وضربت أطناب عزه على مناكب الجوزاء، ودخل الناس فى دين الله أفواجا، وأشرق به وجه الأرض ضياء وابتهاجا» «1» .
خرج له- صلى الله عليه وسلم- بكتائب الإسلام وجنود الرحمن لنقض قريش العهد الذى وقع بالحديبية. فإنه كان قد وقع الشرط: أنه من أحب أن يدخل فى عقد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعهده فعل، ومن أحب أن يدخل فى عقد قريش وعهدهم فعل. فدخلت بنو بكر فى عقد قريش وعهدهم، ودخلت خزاعة فى عقد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعهده.
وكان بين بنى بكر وخزاعة حروب وقتلى فى الجاهلية، فتشاغلوا عن ذلك لما ظهر الإسلام، فلما كانت الهدنة خرج نوفل بن معاوية الديلى من بنى بكر فى بنى الديل حتى بيت خزاعة وهم على ماء لهم يقال له الوتير، فأصاب منهم رجلا يقال له منبه، واستيقظت لهم خزاعة فاقتتلوا إلى أن دخلوا الحرم ولم يتركوا القتال.
وأمدت قريش بنى بكر بالسلاح، وقاتل بعضهم معهم ليلا فى خفية.
وخرج عمرو بن سالم الخزاعى فى أربعين راكبا من خزاعة، فقدموا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يخبرونه بالذى أصابهم ويستنصرونه. فقام وهو يجر رداءه وهو يقول: «لا نصرت إن لم أنصركم بما أنصر منه نفسى» «2» .
وفى المعجم الصغير للطبرانى، من حديث ميمونة أنها سمعته- صلى الله عليه وسلم-
__________
(1) قاله ابن القيم فى «الهدى» (3/ 394) .
(2) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (6/ 161- 162) بنحوه عن عائشة وقال: رواه أبو يعلى عن حزام بن هشام بن حبيش عن أبيه عنها، وقد وثقهما ابن حبان، وبقية رجاله رجال الصحيح.
يقول فى متوضئه ليلا: «لبيك لبيك ثلاثا، نصرت نصرت ثلاثا» ، فلما خرج قلت: يا رسول الله سمعتك تقول فى متوضئك: لبيك لبيك ثلاثا، نصرت نصرت ثلاثا، كأنك تكلم إنسانا، فهل كان معك أحد؟ فقال: - صلى الله عليه وسلم-:
«هذا راجز بنى كعب يستصرخنى ويزعم أن قريشا أعانت عليهم بنى بكر» .
ثم خرج- عليه السّلام- فأمر عائشة أن تجهزه ولا تعلم أحدا. قالت: فدخل عليها أبو بكر فقال: يا بنية، ما هذا الجهاز؟ فقالت: والله ما أدرى، فقال:
والله ما هذا زمان غزو بنى الأصفر، فأين يريد رسول الله- صلى الله عليه وسلم-؟ قالت:
والله لا علم لى. قالت فأقمنا ثلاثا ثم صلى الصبح بالناس فسمعت الراجز ينشده:
يا رب إنى ناشد محمدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا
أن قريشا أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكدا
وزعموا أن لست تدعو أحدا ... فانصر هداك الله نصرا أبدا
وادع عباد الله يأتوا مددا ... فيهم رسول الله قد تجردا
إن سيم خسفا وجهه تربدا
قال فى القاموس: وتربد- يعنى بالراء- تغير. انتهى. وزاد ابن إسحاق:
هم بيتونا بالوتير هجدا ... وقتلونا ركعا وسجدا
وزعموا أن لست أدعو أحدا ... وهم أذل وأقل عددا
فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «نصرت يا عمرو بن سالم» «1» .
فكان ذلك ما هاج فتح مكة. وقد ذكر البزار من حديث أبى هريرة بعض الأبيات المذكورة.
وقدم أبو سفيان بن حرب على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- المدينة يسأله أن يجدد العهد ويزيد فى المدة. فأبى عليه، فانصرف إلى مكة.
__________
(1) أخرجه البيهقى فى «السنن الكبرى» (9/ 234) وفى «الدلائل» (5/ 5- 7) .
فتجهز رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من غير إعلام أحد بذلك.
فكتب حاطب كتابا وأرسله إلى مكة يخبر بذلك. فأطلع الله نبيه على ذلك.
فقال- عليه السّلام- لعلى بن أبى طالب والزبير والمقداد: «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب، فخذوه منها» . قال فانطلقنا.. حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، قلنا: أخرجى الكتاب، قالت: ما معى كتاب. قلنا لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب. قال: فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. فإذا فيه: من حاطب بن أبى بلتعة إلى ناس من المشركين بمكة، يخبرهم ببعض أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. فقال: «يا حاطب، ما هذا؟» . قال: يا رسول الله لا تعجل على، إنى كنت امرأ ملصقا فى قريش- يقول: كنت حليفا ولم أكن من أنفسها- وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتنى ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتى، ولم أفعله ارتدادا عن ذنبى ولا رضا بالكفر بعد الإسلام. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أما إنه قد صدقكم» . فقال عمر: يا رسول الله، دعنى أضرب عنق هذا المنافق، فقال:
«إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدرا فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ إلى قوله: فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ «1» «2» . رواه البخارى.
قال فى فتح البارى: وإنما قال عمر- رضى الله عنه-: دعنى يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق مع تصديق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لحاطب فيما اعتذر به، لما كان عند عمر من القوة فى الدين وبغض المنافقين، فظن أن من خالف ما
__________
(1) سورة الممتحنة: 1.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (3007) فى الجهاد والسير، باب: الجاسوس، ومسلم (2494) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل أهل بدر- رضى الله عنهم- وقصة حاطب بن أبى بلتعة- رضى الله عنه-.
أمر به النبى- صلى الله عليه وسلم- استحق القتل. لكنه لم يجزم بذلك، فلذلك استأذن فى قتله. وأطلق عليه منافقا لكونه أبطن خلاف ما أظهر.
وعذر حاطب ما ذكره، فإنه صنع ذلك متأولا ألاضرر فيه.
وعند الطبرى أيضا: عن عروة: فإنى غافر لكم. وهذا يدل على أن المراد: ب «غفرت» أغفر، على طريق التعبير عن الآتى بالواقع مبالغة فى تحققه.
قال: والذى يظهر أن هذا الخطاب خطاب إكرام وتشريف، تضمن أن هؤلاء حصلت لهم حالة غفرت بها ذنوبهم السالفة وتأهلوا أن يغفر لهم ما يستأنف من الذنوب اللاحقة. وقد أظهر الله تعالى صدق رسوله فى كل من أخبر عنه بشىء من ذلك، فإنهم لم يزالوا على أعمال أهل الجنة إلى أن فارقوا الدنيا، ولو قدر صدور شىء من أحدهم لبادر إلى التوبة ولازم الطريقة المثلى، يعلم ذلك من أحوالهم بالقطع من اطلع على سيرهم قاله القرطبى.
وذكر بعض أهل المغازى- وهو فى تفسير يحيى بن سلام- أن لفظ الكتاب الذى كتبه حاطب: أما بعد: يا معشر قريش، فإن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- جاءكم بجيش عظيم يسير كالسيل، فو الله لو جاءكم وحده لنصره الله وأنجز له، فانظروا لأنفسكم والسلام. هكذا حكاه السهيلى.
وروى الواقدى بسند له مرسل: أن حاطبا كتب إلى سهيل بن عمرو، وصفوان بن أمية، وعكرمة: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أذن فى الناس بالغزو، ولا أراه يريد غيركم وقد أحببت أن تكون لى عندكم يد. انتهى.
وبعث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى من حوله من العرب فجلبهم: أسلم وغفار ومزينة وجهينة وأشجع وسليم، فمنهم من وافاه بالمدينة ومنهم من لحقه بالطريق.
فكان المسلمون فى غزوة الفتح: عشرة آلاف.
وفى «الإكليل» و «شرف المصطفى» اثنى عشر ألفا.
ويجمع بينهما أن العشرة آلاف خرج بها من نفس المدينة، ثم تلاحق به الألفان.
واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم وقيل أبا رهم الغفارى.
وخرج- صلى الله عليه وسلم- يوم الأربعاء لعشر ليال خلون من رمضان، بعد العصر، سنة ثمان، قاله الواقدى.
وعند أحمد بإسناد صحيح عن أبى سعيد قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم- عام الفتح لليلتين خلتا من شهر رمضان «1» .
فما قاله الواقدى ليس بقوى لمخالفته ما هو أصح منه. وفى تعيين هذا التاريخ أقوال أخر منها عند مسلم: لست عشرة «2» ، ولأحمد: ثمانى عشرة «3» ، وفى أخرى: لثنتى عشرة «4» ، والذى فى المغازى: لتسع عشرة مضت. وهو محمول على الاختلاف فى أول الشهر، وفى أخرى: تسع عشرة أو سبع عشرة «5» على الشك.
ولما بلغ- صلى الله عليه وسلم- الكديد- بفتح الكاف- الماء الذى بين قديد وعسفان أفطر فلم يزل مفطرا حتى انسلخ الشهر «6» . رواه البخارى، وفى أخرى: أفطر وأفطروا، الحديث.
وكان العباس قد خرج قبل ذلك بأهله وعياله مسلما مهاجرا، فلقى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالجحفة، وكان قبل ذلك مقيما بمكة على سقايته، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- عنه راض.
__________
(1) أخرجه أحمد فى «مسنده» (3/ 87) ، وأصله فى الصحيح.
(2) هى عند مسلم (1116) فى الصيام، باب: جواز الصوم والفطر فى شهر رمضان للمسافر فى غير معصية.
(3) أخرجه أحمد فى «مسنده» (3/ 92) .
(4) أخرجه أحمد فى «مسنده» (3/ 45) .
(5) أخرجه أحمد فى «مسنده» (3/ 71) .
(6) صحيح: أخرجه البخارى (4275 و 4276) فى المغازى، باب: غزوة الفتح فى رمضان، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.
وكان ممن لقيه فى الطريق أبو سفيان بن الحارث، ابن عمه، وأخوه من رضاع حليمة السعدية، ومعه ولده جعفر بن أبى سفيان. وكان أبو سفيان يألف رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فلما بعث عاداه وهجاه. وكان لقاؤهما له- عليه السّلام- بالأبواء وأسلما قبل دخول مكة.
وقيل: بل لقيه هو وعبد الله بن أبى أمية، ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب بين السقيا والعرج، فأعرض- صلى الله عليه وسلم- عنهما لما كان يلقى منهما من شدة الأذى والهجو، فقالت له أم سلمة: لا يكن ابن عمك وابن عمتك أشقى الناس بك، وقال على لأبى سفيان- فيما حكاه أبو عمر وصاحب ذخائر العقبى-: ائت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من قبل وجهه فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف: تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ «1» فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن منه قولا، ففعل ذلك أبو سفيان، فقال له صلى الله عليه وسلم-: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ «2» «3» .
ويقال: إنه ما رفع رأسه إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- منذ أسلم حياء منه.
قالوا: ثم سار- صلى الله عليه وسلم- فلما كان بقديد عقد الألوية والرايات ودفعها إلى القبائل.
ثم نزل مر الظهران عشاء، فأمر أصحابه فأوقدوا عشرة آلاف نار، ولم يبلغ قريشا مسيره وهم مغتمون لما يخافون من غزوه إياهم، فبعثوا أبا سفيان ابن حرب وقالوا: إن لقيت محمدا فخذ لنا منه أمانا، فخرج أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء حتى أتوا مر الظهران، فلما رأوا العسكر أفزعهم.
وفى البخارى: (فإذا هم بنيران كأنها نيران عرفة، فقال أبو سفيان: ما
__________
(1) سورة يوسف: 91.
(2) سورة يوسف: 92.
(3) أخرجه الحاكم فى «مستدركه» (3/ 46- 48) من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما- بسند جيد.
هذه؟ لكأنها نيران عرفة، فقال له بديل بن ورقاء: نيران بنى عمرو، فقال أبو سفيان: عمرو أقل من ذلك. فرآهم ناس من حرس رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فأدركوهم فأخذوهم فأتوا بهم إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأسلم أبو سفيان.
فلما سار قال للعباس: احبس أبا سفيان عند خطم الجبل حتى ينظر إلى المسلمين، فحبسه العباس، فجعلت القبائل تمر مع النبى- صلى الله عليه وسلم-: تمر كتيبة كتيبة على أبى سفيان. فمرت كتيبة فقال: يا عباس من هذه؟ قال: هذه غفار؟ قال: مالى ولغفار؟ ثم مرت جهينة فقال مثل ذلك، حتى أقبلت كتيبة لم ير مثلها، قال: من هذه؟ قال: هؤلاء الأنصار عليهم سعد بن عبادة معه الراية، فقال سعد بن عبادة: يا أبا سفيان: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة، فقال أبو سفيان: يا عباس، حبذا يوم الذمار) «1» .
بالمعجمة المكسورة: الهلاك.
قال الخطابى: تمنى أبو سفيان أن تكون له يد فيحمى قومه ويدفع عنهم. وقيل: هذا الغضب للحريم والأهل والانتصار لهم لمن قدر عليه، وقيل: هذا يوم يلزمك فيه حفظى وحمايتى من أن ينالنى مكروه.
وقال ابن إسحاق: زعم بعض أهل العلم أن سعدا قال: اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة، فسمعها رجل من المهاجرين فقال: يا رسول الله، ما آمن أن يكون لسعد فى قريش صولة. فقال لعلى: «أدركه فخذ الراية منه فكن أنت تدخل بها» .
وقد روى الأموى فى المغازى: أن أبا سفيان قال للنبى- صلى الله عليه وسلم- لما حاذاه: أمرت بقتل قومك؟ قال: «لا» ، فذكر له ما قال سعد بن عبادة ثم ناشده الله والرحم، فقال: «يا أبا سفيان: اليوم يوم المرحمة، اليوم يعز الله قريشا» ، وأرسل إلى سعد فأخذ الراية منه فدفعها إلى ابنه قيس.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخارى (4280) فى المغازى، باب: أين ركز النبى- صلى الله عليه وسلم- الراية يوم الفتح.
وعند ابن عساكر من طريق أبى الزبير عن جابر قال: لما قال سعد بن عبادة ذلك عارضت امرأة من قريش رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقالت:
يا نبى الهدى إليك لجا ... حى قريش ولات حين لجائى
حين ضاقت عليهم سعة الأر ... ض وعاداهم إله السماء
إن سعدا يريد قاصمة الظه ... ر بأهل الحجون والبطحاء
فلما سمع هذا الشعر دخلته رأفة لهم ورحمة. فأمر بالراية فأخذت من سعد ودفعت إلى ابنه قيس.
وعند أبى يعلى من حديث الزبير أن النبى- صلى الله عليه وسلم- دفعها إليه فدخل مكة بلواءين، وإسناده ضعيف جدّا. لكن جزم موسى بن عقبة فى المغازى عن الزهرى أنه دفعها إلى الزبير بن العوام.
فهذه ثلاثة أقوال فيمن دفعت إليه الراية التى نزعت من سعد.
والذى يظهر فى الجمع أن عليّا أرسل لينزعها ويدخل بها، ثم خشى تغير خاطر سعد فأمر بدفعها إلى ابنه قيس، ثم إن سعدا خشى أن يقع من ابنه شىء يكرهه النبى- صلى الله عليه وسلم- فسأل النبى- صلى الله عليه وسلم- أن يأخذها منه فحينئذ أخذها الزبير.
قال فى رواية البخارى (.. ثم جاءت كتيبة فيهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وراية النبى- صلى الله عليه وسلم- مع الزبير، فلما مر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بأبى سفيان قال: ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة؟ قال: ما قال؟ قال: قال كذا وكذا فقال: كذب سعد، ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة ويوم تكسى فيه الكعبة. قال وأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن تركز رايته بالحجون.
قال: وقال عروة أخبرنى نافع بن جبير بن مطعم قال: سمعت العباس يقول للزبير بن العوام: يا أبا عبد الله، ها هنا أمرك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن تركز الراية؟ قال: نعم.
وأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يومئذ خالد بن الوليد أن يدخل من أعلى مكة من كداء- أى بالفتح والمد- ودخل النبى- صلى الله عليه وسلم- من كدى- أى بالضم والقصر- فقتل من خيل خالد يومئذ رجلان: جيش بن الأشعر وكرز بن جابر الفهرى) «1» .
قال الحافظ ابن حجر: وهذا مخالف للأحاديث الصحيحة الآتية فى البخارى أيضا أن خالدا دخل من أسفل مكة والنبى- صلى الله عليه وسلم- من أعلاها.
يعنى حديث ابن عمر: أنه- صلى الله عليه وسلم- أقبل يوم الفتح من أعلى مكة على راحلته مردفا أسامة بن زيد «2» ، وحديث عائشة أنه- صلى الله عليه وسلم- دخل عام الفتح من كداء التى بأعلى مكة وغيرهما «3» .
قال: وقد ساق ذلك موسى بن عقبة سياقا واضحا فقال:
وبعث- صلى الله عليه وسلم- الزبير بن العوام على المهاجرين وخيلهم وأمره أن يدخل من كداء من أعلى مكة وأن يغرز رايته بالحجون ولا يبرح حتى يأتيه.
وبعث خالد بن الوليد فى قبائل قضاعة وسليم وغيرهم وأمره أن يدخل من أسفل مكة وأن يغرز رايته عند أدنى البيوت.
وبعث سعد بن عبادة فى كتيبة الأنصار فى مقدمة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأمرهم أن يكفوا أيديهم ولا يقاتلوا إلا من قاتلهم.
واندفع خالد بن الوليد حتى دخل من أسفل مكة، وقد تجمع بها بنو بكر وبنو الحارث بن عبد مناف، وناس من هذيل ومن الأحابيش الذين استنصرت بهم قريش، فقاتلوا خالدا فقاتلهم فانهزموا، وقتل من بنى بكر نحو من عشرين رجلا، ومن هذيل ثلاثة أو أربعة، حتى انتهى بهم القتل إلى الحزورة إلى باب المسجد حتى دخلوا الدور، فارتفعت طائفة منهم على الجبال.
__________
(1) صحيح: وهو تتمة الحديث السابق.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (2988) فى الجهاد والسير، باب: الردف على الحمار.
(3) صحيح: أخرجه البخارى (4290) فى المغازى، باب: دخول النبى- صلى الله عليه وسلم- من أعلى مكة.
وصاح أبو سفيان: من أغلق بابه وكف يده فهو آمن.
قال: ونظر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى البارقة فقال: «ما هذا؟ وقد نهيت عن القتال» .
فقالوا: نظن أن خالدا قوتل وبدئ بالقتال فلم يكن له بد من أن يقاتلهم.
قال: وقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعد أن اطمأن- لخالد بن الوليد: «لم قاتلت وقد نهيتك عن القتال؟» فقال هم بدؤنا بالقتال، وقد كففت يدى ما استطعت، قال: «قضاء الله خير» .
وعند ابن إسحاق: فلما نزل- صلى الله عليه وسلم- مر الظهران، رقت نفس العباس لأهل مكة، فخرج ليلا راكبا بغلة النبى- صلى الله عليه وسلم- لكى يجد أحدا فيعلم أهل مكة بمجىء النبى- صلى الله عليه وسلم- ليستأمنوه، فسمع صوت أبى سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء، فأردف أبا سفيان خلفه وأتى به إلى النبى صلى الله عليه وسلم- فأسلم وانصرف الآخران ليعلما أهل مكة.
ويمكن الجمع: بأن الحرس لما أخذوه استنقذه العباس.
وروى أن عمر- رضى الله عنه- لما رأى أبا سفيان رديف العباس دخل على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان، دعنى أضرب عنقه، فقال العباس: يا رسول الله إنى قد أجرته. فقال- صلى الله عليه وسلم-: «اذهب يا عباس به إلى رحلك، فإذا أصبحت فأتنى به» ، فذهب فلما أصبح غدا به على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فلما رآه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم ألاإله إلا الله؟» فقال: بأبى أنت وأمى، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، لقد ظننت أنه لو كان مع الله إله غيره لما أغنى عنى شيئا. ثم قال: «ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنى رسول الله؟» قال: بأبى أنت وأمى ما أحلمك وأكرمك وأوصلك أما هذه ففى النفس منها شىء.
فقال له العباس: ويحك أسلم واشهد ألاإله إلا الله وأن محمدا رسول الله قبل أن تضرب عنقك. فأسلم وشهد شهادة الحق. فقال العباس:
يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئا، قال: «نعم» .
وأمر- صلى الله عليه وسلم- فنادى مناديه: من دخل المسجد فهو آمن ومن دخل دار أبى سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن إلا المستثنين «1» .
وهم كما قال مغلطاى: عبد الله بن سعد بن أبى سرح. أسلم. وابن خطل: قتله أبو برزة. وقينتاه وهما: فرتنى- بالفاء المفتوحة، والراء الساكنة والتاء المثناة الفوقية والنون- وقريبة- بالقاف والراء والموحدة مصغرا- أسلمت إحداهما وقتلت الآخرى.
وذكر غير ابن إسحاق أن التى أسلمت فرتنى وأن قريبة قتلت. وسارة:
مولاة لبنى المطلب، أسلمت، ويقال كانت مولاة عمرو بن صيفى بن هشام.
وأرنب- علم امرأة- وقريبة: قتلت وعكرمة بن أبى جهل: أسلم. والحويرث ابن نقيد قتله على. ومقيس بن صبابة- بمهملة وموحدتين الأولى خفيفة- قتله نميلة الليثى. وهبار بن الأسود: أسلم وهو الذى عرض لزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم- حين هاجرت فنخس بها بعيرها حتى سقطت على صخرة وأسقطت جنينها. وكعب بن زهير: أسلم. وهند بنت عتبة: أسلمت. ووحشى بن حرب: أسلم انتهى. وابن خطل: بفتح الخاء والطاء المهملة. وابن نقيد:
بضم النون وفتح القاف وسكون المثناة التحتية آخره دال مهملة مصغرا.
ومقيس: بكسر الميم وسكون القاف وفتح المثناة التحتية آخره مهملة. وقد جمع الواقدى عن شيوخه أسماء من لم يؤمن يوم الفتح وأمر بقتله عشرة أنفس، ستة رجال، وأربع نسوة.
وروى أحمد ومسلم والنسائى عن أبى هريرة قال: لما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم- وقد بعث على أحد المجنبتين خالد بن الوليد، وبعث الزبير على الآخرى، وبعث أبا عبيدة على الحسر. بضم المهملة وتشديد السين المهملة، أى الذين بغير سلاح- فقال لى يا أبا هريرة، اهتف لى بالأنصار، فهتف بهم فجاؤا فأطافوا به، فقال لهم: أترون إلى أوباش قريش وأتباعهم، ثم قال
__________
(1) حسن: أخرجه أبو داود (3021) فى الخراج والفىء، باب: ما جاء فى خبر مكة، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث له شواهد عند مسلم (1780) وسيأتى فى الحديث الآتى.
بإحدى يديه على الآخرى: احصدوهم حصدا، حتى توافونى بالصفا. قال أبو هريرة: فانطلقنا، فما نشاء أن نقتل أحدا منهم إلا قتلناه، فجاء أبو سفيان فقال: يا رسول الله: أبيحت خضراء قريش لا قريش بعد اليوم. فقال صلى الله عليه وسلم-: «من أغلق بابه فهو آمن» «1» .
قال فى فتح البارى: وقد تمسك بهذه القصة من قال: إن مكة فتحت عنوة، وهو قول الأكثر.
وعن الشافعى، وهو رواية عن أحمد: أنها فتحت صلحا، لما وقع من هذا التأمين، ولإضافة الدور إلى أهلها، ولأنها لم تقسم، ولأن الغانمين لم يملكوا دورها. وإلا لجاز إخراج أهل الدور منها.
وحجة الأولين: ما وقع التصريح به من الأمر بالقتال، ووقوعه من خالد بن الوليد، وبتصريحه- صلى الله عليه وسلم- بأنها أحلت له ساعة من نهار، ونهيه عن التأسى به فى ذلك.
وأجابوا عن ترك القسمة: بأنها لا تستلزم عدم العنوة، فقد تفتح البلد عنوة ويمن على أهلها، ويترك لهم دورهم.
وأما قول النووى: واحتج الشافعى بالأحاديث المشهورة بأن النبى صلى الله عليه وسلم- صالحهم بمر الظهران قبل دخول مكة ففيه نظر، لأن الذى أشار إليه، إن كان مراده ما وقع من قوله- صلى الله عليه وسلم-: «من دخل دار أبى سفيان فهو آمن» كما تقدم وكذا من دخل المسجد- كما عند ابن إسحاق- فإن ذلك لا يسمى صلحا إلا إذا التزم من أشير إليه بذلك الكف عن القتال، والذى ورد فى الأحاديث الصحيحة ظاهر فى أن قريشا لم يلتزموا بذلك لأنهم استعدوا للحرب. وإن كان مراده بالصلح وقوع عقده فهذا لم ينقل، ولا أظنه عنى إلا الاحتمال الأول وفيه ما ذكرته. انتهى.
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم (1780) فى الجهاد والسير، باب: فتح مكة، والنسائى فى «الكبرى» (11298) ، وأحمد فى «مسنده» (2/ 538) من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
ثم دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مكة فى كتيبته الخضراء، وهو على ناقته القصواء بين أبى بكر وأسيد بن حضير، فرأى أبو سفيان ما لا قبل له به، فقال للعباس: يا أبا الفضل، لقد أصبح ملك ابن أخيك ملكا عظيما، فقال العباس: ويحك، إنه ليس بملك ولكنها نبوة، قال: «نعم» «1» .
وروى أنه- صلى الله عليه وسلم- وضع رأسه تواضعا لله لما رأى ما أكرمه الله به من الفتح حتى إن رأسه لتكاد تمس رحله شكرا وخضوعا لعظمته أن أحل له بلده ولم تحل لأحد قبله ولا لأحد بعده.
وفى البخارى من حديث أنس أن النبى- صلى الله عليه وسلم- دخل مكة يوم الفتح وعلى رأسه المغفر- وهو بكسر الميم وسكون الغين المعجمة وفتح الفاء: زرد ينسج من الدروع على قدر الرأس، وفى المحكم: هو ما يجعل من فضل درع الحديد على الرأس مثل القلنسوة- فلما نزعه جاء رجل فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال: اقتله «2» .
وفى حديث سعيد بن يربوع عند الدار قطنى والحاكم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: «أربعة لا أؤمنهم فى حل ولا حرم: الحويرث وهلال بن خطل ومقيس بن صبابة وعبد الله بن أبى سرح. قال: فأما هلال بن خطل فقتله الزبير» «3» . الحديث.
وفى حديث سعد بن أبى وقاص عند البزار والحاكم والبيهقى فى الدلائل نحوه، لكن قال: أربعة نفر وامرأتان وقال: اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة فذكره. لكن قال: عبد الله بن خطل بدل هلال، وقال عكرمة بدل الحويرث، ولم يسم المرأتين. وقال: فأما عبد الله بن خطل فأدرك
__________
(1) ذكره الهيثمى فى «المجمع» (6/ 164) عن ميمونة بنت الحارث زوج النبى- صلى الله عليه وسلم-، وقال: رواه الطبرانى فى الصغير والكبير وفيه يحيى بن سليمان بن فضلة وهو ضعيف.
(2) صحيح: أخرجه البخارى (4286) فى المغازى، باب: أين ركز النبى- صلى الله عليه وسلم- الراية يوم الفتح.
(3) لم أقف عليه، وانظر ما بعده.
وهو متعلق بأستار الكعبة فاستبق إليه سعيد بن حريث وعمار بن ياسر فسبق سعيد عمارا، وكان أشب الرجلين فقتله «1» . الحديث.
وروى ابن أبى شيبة من طريق أبى عثمان النهدى: أن أبا برزة الأسلمى قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة وإسناده صحيح مع إرساله.
ورواه أحمد من وجه آخر، وهو أصح ما ورد فى تعيين قاتله، وبه جرم البلاذرى وغيره من أهل الأخبار.
وتحمل بقية الروايات على أنهم ابتدروا قتله فكان المباشر له منهم أبو برزة، ويحتمل