"ولما كان في شهر ربيع الأول" أو الآخر أو رجب أو رمضان أو شوال، أقوال خمسة "أسرى بروحه وجسده يقظة" لا مناما مرة واحدة في ليلة واحدة عند جمهور المحدثين والفقهاء والمتكلمين وتواردت عليه ظواهر الأخبار الصحيحة، ولا ينبغي العدول عنه، وقيل: وقع الإسراء والمعراج في مرتين مناما ويقظة، وقيل: الإسراء في ليلة والمعراج في ليلة، وقيل: الإسراء يقظة والمعراج منام، وقيل: الخلاف في أنه يقظة أو منام خاص بالمعراج لا بالإسراء، وقيل: الإسراء مرتان يقظة الأولى بلا معراج والثانية به، "من المسجد الحرام" عند البيت في الحطيم أو الحجز.
إلى المسجد الأقصى، ثم عرج به من المسجد الأقصى إلى فوق سبع سماوات، ورأى ربه بعيني رأسه، وأوحى الله إليه ما أوحى، وفرض عليه الصلاة، ثم انصرف في ليلته إلى مكة.
فأخبر بذلك، فصدقه الصديق، وكل من آمن بالله.
وكذبه الكفار واستوصفوه مسجد بيت المقدس، فمثله الله له،............
__________
وفي رواية: فرج سقف بيتي، وفي أخرى أنه أسرى به من شعب أبي طالب، وفي أخرى: من بيت أم هانئ، وجمع الحافظ بأنه كان في بيت أم هانئ وهو عند شعب أبي طالب ففرج سقف بيته وأضافه إليه؛ لأنه كان يسكنه فنزل منه الملك فأخرجه منه حتى أتى المسجد وبه أثر النعاس ثم أخرجه إلى باب المسجد فأركبه البراق، "إلى المسجد الأقصى" وصرحت السنة بأن دخله، وإليه أشار بقوله: "ثم عرض به من المسجد الأقصى إلى فوق سبع سماوات" إلى حيث شاء العلي الأعلى "ورأى ربه بعيني رأسه" على ما رجحه جمع ونفتها عائشة وابن مسعود، ورجح في المفهم القول بالوقف وعزاه لجماعة من المحققين، وقول عائشة: ما فقدت جسده، إنما احتج به من قال إن الإسراء كان مناما؛ كما سيأتي بسط ذلك للمصنف في مقصده.
"وأوحى إليه ما أوحى" أيهم للتعظيم فلا يطلع عليه بل يتعبد بالإيمان به أو {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} [الضحى: 6] الآية، ألخ أو الجثة حرام على الأنبياء حتى تدخلها وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك أو تخصيصه بالكوثر أو الصلوات الخمس، أقوال.
"وفرض عليه الصلاة ثم انصرف في ليلته إلى مكة، فأخبر بذلك" الناس مؤمنهم وكافرهم "فصدقه الصديق" قيل: فلقب بذلك يومئذ، "وكل من آمن بالله" تعالى إيمانا قويا لا تعرض له الشكوك والأوهام فلا ينافي أنه ارتد كثيرا استبعادا للخبر "وكذبه الكفار" وزادوا عليه عتوا "واستوصفوه مسجد بيت المقدس" فسألوه عن أشياء لم يثبتها، قال صلى الله عليه وسلم: "فكربت كربا شديدا لم أكرب مثله قط"، ومن جملة اأشياء قولهم: كم للمسجد من باب، قال: ولم أكن عددتها، "فمثله الله له" وعند ابن سعد: "فخيل إلي بيت المقدس وطفقت أخبرهم عن آياته"، قال الحافظ: يحتمل أن المراد مثل قريبا منه كما قيل في حديث: "أريت الجنة والنار".
وفي البخاري: "فجلى الله لي بيت المقدس"، أي: كشف الحجب بيني وبينه حتى رأته ويحتمل أنه حمل حتى وضع حيث يراه ثم أعيد، ففي حديث ابن عباس عند أحمد والبزار: "فجيء بالمسجد وأنا انظر إليه"، وهذا أبلغ في المعجزة ولا استحالة فيه فقد أحضر عرش بلقيس في طرفة عين، انتهى ملخصا.
فجعل ينظر إليه ويصفه.
قال الزهري: وكان ذلك بعد المبعث بخمس سنين. حكاه عنه القاضي عياض، ورجحه القرطبي والنووي. واحتج: بأنه لا خلاف أن خديجة صلت معه بعد فرض الصلاة، ولا خلاف أنها توفيت قبل الهجرة إما بثلاث أو بخمس، ولا خلاف أن فرض الصلاة كان ليلة الإسراء.
وتعقب: بأن موت خديجة عبد المبعث بعشر سنين على الصحيح في رمضان، وذلك قبل أن تفرض الصلاة. ويؤيده إطلاق حديث عائشة أن خديجة ماتت قبل أن تفرض الصلوات الخمس. ويلزم منه أن يكون موتها قبل الإسراء وهو المعتمد، وأما تردده في سنة وفاتها فيرده جزم عائشة بأنها ماتت قبل الهجرة بثلاث سنين قاله الحافظ ابن حجر.
__________
"فجعل ينظر إليه ويصفه" فيطابق ما عندهم ولكن من يضلل الله فما له من هاد، "قال الزهري" الأولى العطف بالواو؛ لأنه مقابل ما أفاده قوله في شهر ربيع الأول من أنه من سنة إحدى عشرة من المبعث؛ لأنه يرتب الوقائع على السنين. "وكان ذلك" الإسراء "بعد المبعث" كذا في النسخ والذي في الفتح عن الزهري قيل الهجرة "بخمس سنين" فيكون بعد المبعث بثمان؛ لأنه أقام بمكة ثلاث عشرة سنة، اللهم إلا أن يكون المصنف ألغى مدة الفترة على أنها ثلاث سنين وهذا إن أمكن به صحته لكن المنقول عن الزهري كما ترى خلافه "حكاه عنه القاضي عياض" ورجحه كما في الفتح عنه.
"و" كذا "رجحه القرطبي والنووي" تبعا لعياض ثلاثتهم في شرح مسلم "واحتج" عياض وتابعاه "بأنه لا خلاف أن خديجة صلت معه بعض فرض الصلاة ولا خلاف أنها توفيت قبل الهجرة، إما بثلاث أو بخمس ولا خلاف أن فرض الصلاة كان ليلة الإسراء وتعقب بأن موت خديجة بعد المبعث بعشر سنين على الصحيح في رمضان وذلك قبل أن تفرض الصلاة" فبطل قولهم: صلت معه الخمس اتفاقا "ويؤيده" أي: الصحيح، "إطلاق حديث عائشة أن خديجة ماتت قبل أن تفرض الصلوات الخمس ويلزم منه أن يكون موتها قبل الإسراء وهو المعتمد، وأما تردده" أي: عياض وتابعيه "في سنة وفاتها" بقوله: إما بثلاث أو بخمس "فيرده جزم عائشة" عند البخاري، "بأنها ماتت قبل الهجرة بثلاث سنين، قاله الحافظ ابن حجر" في فتح الباري، وقال فيه في باب المعراج في جميع ما نفاه أي: عياض وتابعاه من الخلاف نظر، أما أولا فقد حكى العسكري أنا ماتت قبل الهجرة بسبع سنين وقيل: بأربع، وعن ابن الأعرابي أنها ماتت عام
وقيل: الهجرة بسنة وخمسة أشهر، قاله السيدي وأخرجه من طريقه الطبري والبيهقي، فعلى هذا كان في شوال.
وقيل: كان في رجب. حكاه ابن عبد البر، وقبله ابن قتيبة، وبه جزم النووي في الروضة.
وقيل: كان قبل الهجرة بسنة وثلاثة أشهر، فعلى هذا يكون في ذي الحجة، وبه جزم ابن فارس.
وقيل: قبل الهجرة بثلاث سنين، ذكر ابن الأثير.
__________
الهجرة، وأما ثانيا فإن فرض الصلاة اختلف فيه، فقيل: كان من أول البعثة وكان ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي، وأما الذي فرض ليلة الإسراء، فالصلوات الخمس، وأما ثالثا: فقد جزمت عائشة بأن خديجة ماتت قبل أن تفرض الصلاة المكتوبة فالمعتمد أن مراد من قال بعد أن فرضت الصلاة ما فرض قبل الصلوات الخمس إن ثبت ذلك، ومراد عائشة الصلوات الخمس، فيجمع بين القولين بذلك، ويلزم منه أنها ماتت قبل الإسراء، انتهى.
"وقيل" كان الإسراء "قبل الهجرة بسنة وخمسة أشهر، قاله السدي، وأخرجه من طريقه" أي: عنه، "الطبري" ابن جرير "والبيهقي، فعلى هذا كان في شوال" لما يجيء أنه خرج إلى المدينة لهلال ربيع الأول وقدمها لاثنتي عشرة خلت منه، وقال الحافظ: فعلى هذا كان في رمضان أو شوال على إلغاء الكسرين، "وقيل: كان في رجب حكاه" أبو عمرو يوسف "بن عبد البر" النمري بفتحتين القرطبي الحافظ المشهور ساد أهل الزمان في الحفظ والاتقان ولد في ربيع الآخر سنة ثمان وستين وثلاثمائة، ومات سنة ثلاث وستين وأربعمائة، مر بعض ترجمته.
"و" حكاه "قبله" بسكون الباء ظرف أبو محمد عبد الله بن مسلم "بن قتيبة" الدينوري بفتح الدال وتكسر النحوي اللغوي مؤلف أدب الكاتب وغيره ولد سنة ثلاث عشرة ومائتين ومات سنة سبع وستين ومائتين، "وبه جزم النووي الروضة" تبعا للرافعي وقيل: قبل الهجرة بسنة واحدة قاله ابن سعد وغيره، وبه جزم النووي وقاله ابن حزم وبالغ وادعى فيه الإجماع قال الحافظ: وهو مردود، ففي ذلك خلاف يزيد على عشرة أقوال، "وقيل: قبل الهجرة بسنة وثلاثة أشهر فعلى هذا يكون في ذي الحجة" لما مر في خروجه من المدينة، "وبه جزم" أحمد "بن فارس" اللغوي أبو الحسين الرازي الإمام في علوم شتى المالكي الفقيه غل عليه علم النحو ولسان العرب فشهر به له مصنفات وأشعار جيدة مات سنة تسعين، وقيل: خمس وسبعين وثلاثمائة.
"وقيل: قبل الهجرة بثلاث سنين، ذكر ابن الأثير" وقيل: قبلها بثمانية أشهر، وقيل: بستة
وقال الحربي: إنه كان في سابع عشري ربيع الآخر، وكذا قال النووي في فتاويه، لكن قال في شرح مسلم: في ربيع الأول.
وقيل: كان ليلة السابع والعشرين من رجب، واختاره الحافظ عبد الغني بن سرور المقدسي.
وأما اليوم الذي يسفر عن ليلتها، فقيل الجمعة، وقيل السبت،.............
__________
أشهر، حكاهما ابن الجوزي، وقيل: بسنة وشهرين، حكاه ابن عبد البر "وقال": إبراهيم بن إسحاق "الحربي" نسبة إلى محلة الحربية ببغداد، البغدادي شيخ الإسلام الإمام البارع في العلوم الزاهد، مات في ذي الحجة سنة خمس وسبعين ومائتين، "أنه كان في سابع عشري ربيع الآخر" قبل الهجرة بسنة واحدة، ورجحه ابن المنير في شرح سيرة ابن عبد البر كذا نسبه للحربي جمع منهم الحافظ في الفتح، وابن دحية في الابتهاج، والذي نقله ابن دحية في التنوير والمعراج الصغير، وأبو شامة في الباعث، والحافظ في فضائل رجل عن الحربي ربيع الأول.
"وكذا قال النووي في فتاويه" على ما في بعض نسخها "لكن قال في شرح مسلم" على ما في بعض نسخه "ربيع الأول" وفي أكثر نسخ الشرح ربيع الآخر والذي في النسخ المعتمدة من الفتاوى الأول، وهكذا نقله عنها الإسنوي والأذرعي والدميري، "وقيل: كان ليلة السابع والعشرين من رجب" وعليه عمل الناس، قال بعضهم: وهو الأقوى، فإن المسألة إذا كان فيها خلاف للسلف ولم يقم دليل على الترجيح واقترن العمل بأحد القولين أو الاقوال، وتلقى بالقبول فإن ذلك مما يغلب على الظن كونه راجحا.
"و" لذا "اختاره الحافظ عبد الغني" ابن عبد الواحد بن علي "بن سرور المقدسي" فنسبه لجد أبيه الحنبلي الإمام أوحد زمانه في الحديث والحفظ الزاهد العابد صاحب العمدة والكمال وغير ذلك، نزل مصر في آخر عمره وبها مات يوم الاثنين ثالث عشرى ربيع الآخر سنة ستمائة وله تسع وخمسون سنة، وقال ابن عطية بعد نقل الخلاف: والتحقيق أنه كان بعد شق الصحيفة، قبل بيعة العقبة، وقيل: كان قبل المبعث، قال الحافظ: وهو شاذ إلا أن حمل على أنه وقع حينئذ في المنام.
"وأما اليوم الذي يسفر" بفتح الياء وكسر الفاء من سفرت الشمس: طلعت، "عن ليلتها" أي: الذي يطلع فجره بعد ليلتها وبضمها من أسفر الصبح إسفارا أضاء، أي: الذي يضيء بعد ليلتها وعن بمعنى بعد عليهما، "فقيل" هو "الجمعة" أي: اليوم المسمى به، "وقيل": هو "السبت" أي: يومه.
وعن ابن دحية: يكون إن شاء الله تعالى يوم الاثنين، ليوافق المولد والمبعث والهجرة والوفاة، فإن هذه أطوار الانتقالات: وجودا ونبوة ومعراجا وهجرة ووفاة.
وستأتي إن شاء الله تعالى قصة الإسراء والمعراج وما فيهما من المباحث والله الموفق والمعين.
__________
"وعن ابن دحية" الحافظ أبي الخطاب عمر بفتح الدال وكسرها نسبة إلى جده الأعلى دحية بن خليفة الكلبي الصحابي؛ لأنه كان يقول إنه من ولده، "يكون إن شاء الله تعالى يوم الاثنين ليوافق المولد والمبعث والهجرة والوفاة، فإن هذه أطوار الانتقالات وجودا ونبوة ومعراجا وهجرة ووفاة" لكن في عده المعراج شيء؛ لأنه محل النزاع فكيف يستدل به؟ وحاصله؛ كما قال الشامي أنه استنبطه بمقدمات حساب من تاريخ الهجرة وحاول موافقته لتلك الأطوار، وقال: يكون الاثنين في حقه كالجمعة لآدم، "وستأتي إن شاء الله تعالى قصة الإسراء والمعراج وما فيهما من المباحث" في المقصد الخامس، وإنما ذكر هنا زمن وقوعه مراعاة لالتزامه ترتيب الوقائع، "والله الموفق" للخير "والمعين" عليه لا غيره.
ذكر عرض المصطفى نفسه على القبائل ووفود الأنصار:
ولما أراد الله تعالى إظهار دينه وإعزاز نبيه، وإنجاز موعده له، خرج -صلى الله عليه وسلم- في الموسم الذي لقي فيه الأنصار -الأوس والخزرج.
__________
,
...
بسم الله الرحمن الرحيم
المقصد الخامس: في تخصيصه عليه الصلاة والسلام بخصائص المعراج
والإسراء، وتعميمه بعموم لطائف التكريم في حضرة التقريب بالمكالمة والمشاهدة والآيات الكبرى.
اعلم -منحني الله وإياك الترقي في معارج السعادات، وأولصلنا به إليه في حظائر الكرامات- أن قصة الإسراء والمعراج من أشهر المعجزات وأظهر البراهين البينات، وأقوى الحجج المحكمات وأصدق الأنباء، وأعظم الآيات، وأتم الدلالات الدالة على تخصيصه عليه الصلاة والسلام بعموم الكرامات.
__________
"المقصد الخامس: في" بيان "تخصيصه عليه الصلاة والسلام بخصائص المعراج والإسراء" أي: جعلها مخصوصة به لا تتجاوزه إلى غيره، والمراد به الأمور الخارقة التي اختص بها ليلته كرؤية الله والجنة، وقطعه في زمن قليل، واتساع الزمن حتى صلى بالأنبياء التي غير ذلك، فلمان كانت تلك الأمور كلها لم تتعده إلى غيره جعل المصنف همته في الترجمة بيانها؛ لأنه صار بها مقدمًا على من عداه ومقربًا في حضرة التقديس عن كل ما سواه، وقدم المعراج في الذكر لتعلقه بالحضرة الإلهية، وآخره في الترتيب مطابقة للواقع.
"وتعميمه"، أي: تغطيته وستره "بعموم،" أي: كثرة "لطائف التكريم" أي: النعم التي أكرمه الله بها التي لا تحصى بجعلها شاملة كالملاءة التي تشتمل على جميع جسد من جعلت عليه طفي حضرة التقريب،" أي: المكان الذي خاطبه فيه، "بالمكالمة والمشاهدة" له سبحانه وتعالى "والآيات الكبرى" العظمى.
"اعلم منحني" أعطاني، "الله وإياك الترقي في معارج السعادات" أي: المراتب المحصلة لها لمن أراد الله به الخير والمعراج عند أهل الطريق منتهى سير المقربين الذي هو عروجهم، أي: سلوكهم؛ لأن كل سالك إلى طريق كان غايته الحق بشرط فوزه منه بسعادة ما، فذلك السالك صاحب معراج وسلوكه عروج، "وأصولنا" الله "به"، أي: النبي -صلى الله عليه وسلم- "إليه"، أي: إلى قرب المكانة إلى الله "في حظائر الكرامات"، أي: المحلات التي تنزل بها الكرمات وتليق بها، أو المراد بها الجنهة، وأصل الحظيرة ما يعمل للإبل من الشجر ليقيها البرد، ونحوه، "أن قصة الإسلاء والمعراج"، بزنة مفتاح السلم، وجمعه معارج ومعاريج، ويقال: معرج للواحد، بكسر الميم وفتحا "من أشهر المعجزات وأظهر البراهين البينات" الواضحات، "وأقوى الحجج" بالضم، جمع حجة "المحكمات وأًدق الأنباء"، جمع نبأ، بالهمز، وهو الخبر، "وأعظم الآيات وأتم الدلالات الدالة على تخصيصه عليه الصلاة والسلام بعمو الكرامات" لما اشتملت عليه من الأمور الخارقة للعادة التي تقصر العقول عن إدراك مثلها.
وقد اختلف العلماء في الإسراء.
هل هو إسراء واحد في ليلة واحدة؟ يقظة أو منامًا؟ أو إسراءان كل واحد منهما في ليلة، مرة بروحه وبدنه يقظة ومرة منامًا، أو يقظة بروحه وجسده؟ من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم منامًا من المسجد الأقصى إلى العرش، أو هي أربع إسراءات؟
احتج القائلون بأنه رؤيا منام مع اتفاقهم على أن رؤيا الأنبياء وحي -بقوله: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60] ؛ لأن الرؤيا مصدر الحلمية، وأما البصرية: فالرؤية بالتاء، وقد أنكر ابن مالك والحريري وغيرهما -كما أفاده الشيخ بدر الدين الزركشي- ورود "الرؤيا" للبصرية، ولحنوا المتنبي في قوله:
ورؤياك أحلى من العيون من الغض وأجيب: بأنه إنما قال: "الرؤيا" لوقوع ذلك المرئيفي الليل، وسرعة تفضيه كأنه
__________
"وقد اختلف العلماء" بحسب اختلاف الأخبار "في الإسراء" أي: في جواب قول السائل: "هل هو إسراء واحد في ليلة واحدة"، فقيل: كان كذلك، ثم اختلف بناء على ذا القول هل كان "يقظة أو منامًا"، وعلى أنه يقظة هل إلى المسجد الأقصى فقط، أو إلى العرش منامًا، "أو" هما "إسراءان" واحد يقظة، وآخر منامًا، "كل واحد منهما في ليلة مرة بروحه وبدنه يقظة، ومرة منامًا"، وليلة اليقظة غير ليلة المنام، وبهذا فارق القول الذي قبله، "أو يقظة بروحه وجسده في المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم منامًا من المسجد الأقصى إلى العرش،" فالإسراء كان يقظة، والمعراج منامًا، عند هذا القائل، وقد علم تفريع هذا القول على اتحاد الليلة فيهما، "أو هي أربع إسراءات" يقظة كلها كما يأتي.
"احتج القائلون بأنه رؤيا منام مع اتفاقهم على أن رؤيا الأنبياء وحي بقوله: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ} [الإسراء: 60] ، ليلة الإسراء، {إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} ، أهل مكة إذ كذبوا بها، وارتد بعضهم لما أخبرهم؛ "لأن الرؤيا" بالألف "مصدر
الحلمية"، وهي المنامية، منسوبة إلى الحلم "بضمتين وقد تسكن اللام تخفيفًا" "وأما البصرية، فالرؤية بالتاء" بالألف "وقد أنكر ابن مالك والحريري وغيرهما، كما أفاده الشيخ بدر الدين الزركشي ورود الرؤيا" بالألف "للبصرية، ولحنوا" أبا الطيب أحمد بن الحسين "المتنبي" الشاعر المشهور "في قوله: ورؤياك أحلى في العيون من الغض"؛ لأنه استعمل الرؤيا بالألف في البصرية التي بالتاء، "وأجيب: بأنه" لا حجة في الآية على أنه منام؛ لأنه "إنما قال: الرؤيا لوقوع ذلك المرئي في وقد اختلف العلماء في الإسراء.
هل هو إسراء واحد في ليلة واحدة؟ يقظة أو منامًا؟ أو إسراءان كل واحد منهما في ليلة، مرة بروحه وبدنه يقظة ومرة منامًا، أو يقظة بروحه وجسده؟ من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم منامًا من المسجد الأقصى إلى العرش، أو هي أربع إسراءات؟
احتج القائلون بأنه رؤيا منام مع اتفاقهم على أن رؤيا الأنبياء وحي -بقوله: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60] ؛ لأن الرؤيا مصدر الحلمية، وأما البصرية: فالرؤية بالتاء، وقد أنكر ابن مالك والحريري وغيرهما -كما أفاده الشيخ بدر الدين الزركشي- ورود "الرؤيا" للبصرية، ولحنوا المتنبي في قوله:
ورؤياك أحلى من العيون من الغض وأجيب: بأنه إنما قال: "الرؤيا" لوقوع ذلك المرئيفي الليل، وسرعة تفضيه كأنه
__________
"وقد اختلف العلماء" بحسب اختلاف الأخبار "في الإراء" أي: في جواب قول السائل: "هل هو إسراء واحد في ليلة واحدة،" فقيل: كان كذلك، ثم اختلف بناء على ذا القول هل كان "يقظة أو منامًا"، وعلى أنه يقظة هل إلى المسجد الأقصى فقط، أو إلى العرش منامًا، "أو" هما "إسراءان" واحد يقظة، وآخر منامًا، "كل واحد منهما في ليلة مرة بروحه وبدنه يقظة، ومرة منامًا،" وليلة اليقظة غير ليلة المنام، وبهذا فارق القول الذي قبله، "أو يقظة بروحه وجسده في المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم منامًا من المسجد الأقصى إلى العرش،" فالإسراء كان يقظة، والمعراج منامًا، عند هذا القائل، وقد علم تفريع هذا القول على اتحاد الليلة فيهما، "أو هي أربع إسراءات" يقظة كلها كما يأتي.
"احتج القائلون بأنه رؤيا منام مع اتفاقهم على أن رؤيا الأنبياء وحي بقوله: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ} [الإسراء: 60] ، ليلة الإسراء، {إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} ، أهل مكة إذ كذبوا بها، وارتد بعضهم لما أخبرهم؛ "لأن الرؤيا" بالألف "مصدر
الحلمية"، وهي المنامية، منسوبة إلى الحلم "بضمتين وقد تسكن اللام تخفيفًا" "وأما البصرية، فالرؤية بالتاء" بالألف "وقد أنكر ابن مالك والحريري وغيرهما، كما أفاده الشيخ بدر الدين الزركشي ورود الرؤيا" بالألف "للبصرية، ولحنوا" أبا الطيب أحمد بن الحسين "المتنبي" الشاعر المشهور "في قوله: ورؤياك أحلى في العيون من الغض"؛ لأنه استعمل الرؤيا بالألف في البصرية التي بالتاء، "وأجيب: بأنه" لا حجة في الآية على أنه منام؛ لأنه "إنما قال: الرؤيا لوقوع ذلك المرئي في
منام، وبأن "الرؤيا" و"الرؤية" واحدة كقربى وقربة، ويشهد له قول ابن عباس في الآية -كما عند البخاري-: هي رؤية أريها -صلى الله عليه وسلم- ليلة أسري به، وزاد سعيد بن منصور عن سفيان في آخر الحديث: وليس رؤيا منام: ولم يصرح في رواية البخاري بالمرئي.
وعند سعيد بن منصور من طريق أبي مالك هو ما أري في طريقه إلى بيت المقدس، وهذا مما يستدل به على إطلاق لفظ: "الرؤيا" على ما يرى بالعين في
__________
الليل وسرعة تقضيه" حتى "كأنه منام"، فهو مجاز علاقته المشابهة، "وبأن الرؤيا" بالألف "والرؤية" "بالتاء" "واحدة"، يعني أن كلا منهما يستعمل موضع الآخر "كقربى وقربة"، وهذا نقله ابن دحية ولفظه.
قال أهل اللغة: رأيت رؤية ورؤيا مثل قربة وقربى، "ويشهد له قول ابن عباس" وهو من أئمة اللسان "في" تفسير "الآية، كما عند البخاري: هي رؤية عين أريها -صلى الله عليه وسلم- ليلة أسرى به"، فاستعمل ابن عباس الرؤيا "بالألف" في البصرية، "وزاد سعيد بن منصور عن سفيان" بن عيينة راويه عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس، "في آخر الحديث وليس منام"، فهو دليل قوي على استعمال كل منهما موضع الآخر.
قال الحافظ: وقد تمسك بكلام ابن عباس هذا من قال: الإسراء منام، ومن قال: يقظة فالأول أخذه من لفظ الرؤيا لاختصاصها برؤيا المنام، والثاني من قوله: أريها ليلة الإسراء إذ لو كان منامًا كذبه الكفار ولا فيما هو أبعد منه، وإذا كان يقظة والمعراج تلك الليلة تعين كونه يقظة أيضًا إذ لم ينقل أنه نام لما وصل بيت المقدس، ثم عرج به وهو نائم، "ولم يصرح في رواية البخاري بالمرئي"، بل لفظه ما قدمه المصنف.
قال الحافظ عقب ما نقلته عنه: وإذا كان يقظة فإضافة الرؤيا إلى العين للاحتراز عن رؤيا القلب، وقد أثبت الله في القرآن رؤيا القلب، فقال: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11] الآية، ورؤيا العين، فقال: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى، لَقَدْ رَأَى} [النجم: 17-18] .
وروى الطبراني في الأوسط بإسناد قوي عن ابن عباس قال: رأى محمد ربه مرتين ومن وجه آخر قال: نظر محمد إلى ربه، جعل الكلام لموسى والخلة لإبراهيم والنظر لمحمد، فإذا تقرر ذلك ظهر أن مراد ابن عباس هنا برؤيا العين جميع ما ذكره -صلى الله عليه وسلم- من الأشياء في تلك الليلة.
"وعند سعيد بن منصور من طريق أبي مالك هو ما أري في طريقه إلى بيت المقدس" مما يأتي بعضه، "وهذا مما يستدل به على إطلاق لفظ الرؤيا على ما يرى بالعين في اليقظة"، كما تطلق على رؤيا المنام، "وهو يرد من خطا المتنبي", ولا عبرة بإنكار ذلك
اليقظة، وهو يرد على من خطأ المتنبي.
على أنه اختلف المفسرون في هذه الآية.
فقيل: أن الرؤيا التي أريناك ليلة المعراج، قال البيضاوي: ففسر الرؤيا بالرؤية.
وقيل: رؤيا عام الحديبية، حين رأى أنه دخل مكة فصده المشركون وافتتن بذلك ناس.
وقيل: رؤيا وقعة بدر، وسأل ابن النقيب شيخه أبا العباس القرطبي فقال:
__________
إذ من حفظ حجة خصوصًا وابن عباس من فصحاء بني هاشم وأئمة اللسان.
وفي كلام الأشموني إفادة أن مصدر رأي: حلمية، أو بصرية أو علمية بالدليل، أو السمع يجيء بالألف في لغة، وأن المشهور كونها مصدرًا للحلمية؛ "على أنه اختلف المفسرون في هذه الآية" على هذه للاستدراك، وقيل: تتعلق بما قبلها من الكلام، وقيل: لا تتعلق بشيء، "فقيل: إن الرؤيا التي أريناك ليلة المعراج" كما مر عن ابن عباس.
"قال البيضاوي:" وتعلق به من قال في المنام، ومن قال: كان في اليقظة، "ففسر الرؤيا" "بالألف" "بالرؤية" "بالتاء"، "وقيل: رؤيا عام الحديبية حين رأى أنه دخل" المسجد الحرام، فسافر قاصدًا "مكة فصده المشركون وافتتن بذلك ناس"، أي: تحيروا من ذلك؛ لأن رؤياه وحي حتى قال -صلى الله عليه وسلم-: "أقلت لكم في هذا العام"، وفي الفتح قال هذا القائل والمراد بقوله: فتنة للناس ما وقع من صد المشركين له في الحديبية عن دخول المسجد الحرام، وهذا وإن أمكن أنه مراد الآية لكن الاعتماد في تفسيرها على ترجمان القرآن أولى.
"وقيل: رؤياه وقعة بدر، وسأل ابن النقيب" الإمام المفسر العلامة المفتي جمال الدين أبو عبد الله محمد بن سليمان بن حسن البلخي، ثم المقدسي الحنفي مدرس العاشورية بالقاهرة، ولد سنة إحدى عشرة وستمائة، قدم مصر فسمع بها من يوسف المخلي، وأقام مدة بالجامع الأزهر، وصنف بها تفسيرًا كبيرًا إلى الغاية، وكان إماما ابدًا زاهدًا، أمارًا بالمعروف، كبير القدر، يتبرك بدعائه وزيارته، مات بالقدس في المحرم سنة ثمان وتسعين وستمائة، ذكره الذهبي في العبر "شيخه أبا العباس" أحمد بن عمر بن إبراهيم "القرطبي" الأنصاري، المالكي، الفقيه المحدث، نزيل الإسكندرية، ولد سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، وسمع الكثير وقدم الإسكندرية، فأقام بها يدرس، وصنف المفهم في شرح صحيح مسلم، واختصر الصحيحين، مات في ذي القعدة سنة ست وخمسين وستمائة، وليس المراد بابن النقيب هنا شهاب الدين بن النقيب أحمد أبو العباس، أحد علماء الشافعية؛ لأنه ولد بالقاهرة سنة اثنين وسبعمائة، ومات بها في رمضان
الصحيح أنها رؤية عين، أراه جبريل مصارع القوم ببدر، فأرى النبي -صلى الله عليه وسلم- الناس مصارعهم التي أراه جبريل، فتسامعت به قريش فاستخروا منه. انتهى.
واستدل القائلون بأنها رؤيا منام أيضًا بقول عائشة: "ما فقد جسده الشريف".
وأجيب بأن عائشة لم تحدث به عن مشاهدة؛ لأنها لم تكن إذا ذاك زوجًا، ولا في سن من يضبط، أو لم تكن ولدت بعد على الخلاف في الإسراء متى كان.
__________
سنة تسع وستين، كما ذكر السيوطي فلم يدرك القرطبي، "فقال: الصحيح أنها رؤية عين أراه جبريل مصارع القوم ببدر، فأري النبي -صلى الله عليه وسلم- الناس" أصحابه الحاضرين "مصارعهم،" أي: القوم الهالكين ببدر من المشركين "التي أراه جبريل،" فصار يقول قبل الوقعة واضعًا يده على الأرض: "هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان"، "فتسامعت به قريش
فاستخروا" مثل سخروا، أي: هزؤوا "منه،" فلما التقى الجمعان كان كما قال "انتهى".
لكن ما صححه خلاف ما صححه الشامي أنها رؤيا عين ليلة الإسراء، ونحوه للحافظ في الفتح قائلًا: وما روى ابن مردويه عن ابن عباس؛ أن المراد رؤيا الحديبية، وعن الحسن بن علي مرفوعًا، "إني أريت كأن بني أمية يتعاورون منبري هذا، فقيل: دنيا تنالهم"، ونزلت الآية، فكلاهما إسناده ضعيف.
"واستدل القائلون بأنها منام أيضًا عائشة" المروي عند ابن إسحق، حدثني بعض آل أبي بكر أن عائشة كانت تقول: "ما فقد جسده الشريف" ولكن أسري بروحه.
قال الشامي: كذا فيما وقفت عليه من نسخ السير فقد بالبناء للمفعول، والذي وقفت عليه من نسخ الشفاء ما فقدت بالبناء للفاعل وإسناد الفعل لتاء المتكلم، كذا قال وقد حكاهما في الشفاء، روايتين، فقال أولًا: وأما قول عائشة: ما فقد جسده، فهي لم تحدث به عن مشاهدة ... إلخ" ثم قال بعد أسطر، وأيضًا قد روي حديث عائشة: ما فقدت، يعني بالبناء للفاعل، قال: ولم يدخل بها النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا بالمدينة، وكل هذا يوهنه، بل الذي يدل عليه صحيح قولها: إنه بجسده الشريف لإنكارها رؤيته لربه رؤية عين، ولو كانت عندها لم تنكره، وحديثها هذا ليس بالثابت عنها انتهى، يعني لما في متنه من العلة القادحة، وفي سنده من انقطاع وراو مجهول.
وقال ابن دحية في التنوير: إنه حديث موضوع عليها، وقال في معراجه الصغير: قال إمام الشافعية أبو العباس بن سريج: هذا حديث لا يصح، وإنما وضع ردًا للحديث الصحيح.
"وأجيب" على تقدير صحته؛ "بأن عائشة لم تحدث به عن مشاهدة؛ لأنها لم تكن إذ ذاك زوجًا، ولا في سن من يضبط"؛ لأنها سنة الهجرة، وكانت بنت ثمان سنين، "أو لم تكن
وقال التفتازاني: أي ما فقد جسده عن الروح، بل كان مع روحه، وكان المعراج للجسد والروح جميعًا، انتهى.
واحتج القائون بأنه بالجسد يقظة إلى بيت المقدس، وإلى السماء بالروح، بقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: 1] ، فجعل المسجد الأقصى غاية الإسراء الذي وقع التعجب به بعظيم القدرة، والتمدح بتشريف النبي -صلى الله عليه وسلم- وإظهار الكرامة له بالإسراء، ولو كان الإسراء بجسده إلى زائد على المسجد الأقصى لذكره، فيكون أبلغ في المدح.
__________
ولدت بعد،" بالناء على الضم، أي: بعد هذه القصة، وهي ضد قبل، ويستعملان في التقدم والتأخر المتصل والمنفصل، والمراد هنا الأول، أو المراد زمن وقوعه للمحاورة والتضاد، وهو استعمال شائع "على الخلاف في الإسراء متى كان"، فعلى أنه كان بعد المبعث بعام لم تكن ولدت، وعلى أنه قبل الهجرة بعام تكون ابنة سبع، وعلى أنه قبلها بأكثر تكون أصغر من سبع.
قال عياض: وإذا لم تشاهد ذلك عائشة دل على أنها حدثت بذلك عن غيرها، فلم يرجح خبرها على خبر غيرها، وكان الظاهر أن يقول: فرجح خبر غيرها على خبرها، أي: لعدم ثبوته عنها كما أفصح به بعد، وقد قدمت كلامه لا لروايتها عن مجهول إذ لو ثبت لكان مرسل صحابي وهو حجة.
"وقال التفتازاني" في الجواب على تقدير الصحة، "أي: ما فقد جسده عن الروح، بل كان مع روحه وكان المعراج للجسد والروح جميعًا. انتهى"، وهو جواب حسن على ما فيه من كونه خلاف المتبادر من اللفظ.
"واحتج القائلون بأنه بالجسد يقظة إلى بيت المقدس، وإلى السماء بالروح،" فالإسراء يقظة، والمعراج منام، "بقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: 1] الآية، فجعل المسجد الأقصى غاية الإسراء الذي وقع التعجب به"، من الكفاء تعجب استحالة، ومن المؤمنين تعجب تعظيم "بعظيم القدرة" بالباء الجارة، وفي نسخة بالفوقية منصوب على أنه مفعول له، أي: لتعظيم قدرة الله الباهرة "والتمدح بتشريف النبي -صلى الله عليه وسلم- وإظهار الكرامة له بالإسراء، ولو كان الإسراء بجسده إلى" مكان "زائد عن المسجد الأقصى لذكره، فيكون أبلغ في المدح،" فلما لم يقع ذكر المعراج في هذا الموضع من كون شأنه أعجب وأمره أغرب بكثير من الإسراء دل على أنه كان
وأجيب: بأن حكمة التخصيص بالمسجد الأقصى سؤال قريش له على سبيل الامتحان على ما شاهدوه وعرفوه، من صفة بيت المقدس، وقد علموا أنه لم يسافر إليه، فيجيبهم بما عاين ويوافق ما يعلمونه، فتقوم الحجة عليهم، وكذلك وقع، ولهذا لم يسألوه عما رأى في السماء، ولا عهد لهم بذلك.
وقال النووي في فتاويه: وكان الإسراء به عليه الصلاة والسلام مرتين: مرة في المنام، ومرة في اليقظة.
وذكر السهيلي تصحيح هذا المذهب عن شيخه القاضي أبي بكر بن العربي،
__________
منامًا، وأما الإسراء فلو كان منامًا، لما كذبوه ولا استنكروه لجواز وقوع مثل ذلك وأبعد منه لآحاد الناس.
"وأجيب" كما ذكر ابن المنير؛ "بأن حكمة التخصيص بالمسجد الأقصى سؤال قريش له على سبيل الأمتحان على ما شاهدوه وعرفوه من صفة بيت المقدس، وقد علموا أنه لم يسافر إليه فيجيبهم بما عاين"، كما يأتي بيانه؛ "ويوافق ما يعلمونه، فتقوم الحجة عليهم، وكذلك وقع، ولهذا لم يسألوه عما أرى في السماء، ولا عهد لهم بذلك"، عطف علة على معلول، أي: لأنه لا عهد أي: لا علم لهم به.
وفي الشامي، وأجب الأئمة عن ذلك، بأنه استدرجهم إلى الإيمان بذكر الإسراء، فلما ظهرت أمارات صدقه، ووضحت له براهين رسالته، واستأنسوا بتلك الآية أخبرهم بما هو أعظم منها، وهو المعراج فحدثهم به، وأنزله الله في سورة النجم.
قال الحافظ: ويؤيد وقوع الإسراء عقب المعراج في ليلة واحدة رواية ثابت عن أنس عند مسلم: "أتيت بالبراق فركبت حتى أتيت بيت المقدس"، فذكر القصة إلى أن قال: "ثم عرج بنا إلى السماء الدنيا"، وحديث أبي سعيد عند ابن إسحاق، فلما فرغ مما كان في بيت المقدس أتي بالمعراج.
"وقال النووي في فتاويه: وكان الإسراء عليه الصلاة والسلام مرتين: مرة في المنام، ومرة في اليقظة"، وإلى هذا ذهب المهلب شارح البخاري، وحكاه عن طائفة، وأبو نصر بن القشيري ومن قبلهم أبو سعد في شرف المصطفى قال: كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- معاريج، منها ما كان في اليقظة، ومن ما كان في المنام.
"وذكر السهيلي تصحيح هذا المذهب عن شيخ القاضي أبي بكر بن العربي" واختاره؛ "وأن مرة النوم توطئة له" وتمهيد "وتيسير عليه، كما كان بدء نبوته الرؤيا الصادقة"،
وأن مرة النون توطئة وتيسير عليه، كما كان بدء نوبته الرؤيا الصادقة ليسهل عليه أمر النبوة، فإنه أمر عظيم تضعف عنه القوى البشرية، وكذلك الإسراء سهلت عليه بالرؤيا؛ لأن هوله عظيم، فجاءت اليقظة على توطئة وتقدمة، رفقًا من الله بعبده وتسهيلًا عليه.
وقد جوز بعض قائلي ذلك أن تكون قصة المنام قبل المبعث، لأجل قول شريك في روايته: "وذلك قبل أن يوحى إليه"، وسيأتي البحث في ذلك إن شاء الله تعالى.
واحتج القائلون بأنه أربع إسراءات يقظة بتعدد الروايات في الإسراء، واختلف ما يذكر فيها، فبعضهم يذكر شيئًا لم يذكر الآخر، وبعضهم يسقط شيئًا ذكره الآخر.
وأجيب: بأنه لا يدل على التعدد؛ لأن بعض الرواة قد يحذف بعض الخبر للعلم به، أو ينساه، وقال الحافظ ابن كثير: من جعل كل رواية خالفت الأخرى
__________
كما قالت عائشة: أول ما بدئ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الرؤيا الصادقة، وفي رواية: الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، "ليسهل عليه" بالرؤيا "أمر النبوة، فإنه أمر عظيم تضعف عنه القوى البشرية"، فقد ذكر أبو ميسرة التابعي الكبير، وغيره؛ أن ذلك وقع في المنام، وجمعوا بينه وبين حديث عائشة؛ بأن ذلك وقع مرتين كما في الفتح، "وكذلك الإسراء سهلت" قصته عليه "بالرؤيا" في النوم قبل اليقظة؛ "لأن هوله عظيم، فجاءت اليقظة على توطئة وتقدمة رفقًا من الله بعبده وتسهيلًا عليه".
"وقد جوز بعض قائلي ذلك؛ أن تكون قصة المنام قبل المبعث لأجل قول شريك" بن أبي نمر "في روايته" عن أنس؛ "وذلك قبل أن يوحى إليه، وسيأتي البحث في ذلك إن شاء الله تعالى" قريبًا مع الجواب عن إشكاله بالإجماع، على أن فرض الصلاة كان ليلة الإسراء فكيف يكون قبل الوحي.
"واحتج القائلون، بأنه أربع إسراءات يقظة،" كما ذهب إليه جماعة "بتعدد الروايات في الإسراء واختلاف ما يذكر فيها، فبعضهم يذكر شيئًا لم يذكره الآخر، وبعضهم يسقط شيئًا لم يذكره الآخر، وبعضهم يسقط شيئًا ذكره الآخر، وأجيب بأنه لا يدل على التعدد؛ لأن بعض الرواة قد يحذف بعض الخبر للعلم به أو ينساه،" أو ما يذكر هو الأهم عنده، أو ينشط تارة فيسوقه كله، وتارة يحدث المخاطب با هو أنفع له.
مرة على حدة فأثبت إسراءات متعددة فقد أبعد وأغرب، وهرب إلى غير مهرب، ولم يحصل على مطلب، ولم ينقل ذلك عن أحد من السلف، ولو تعدد هذا التعدد لأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته، بذلك ولنقله الناس على التعدد والتكرار. انتهى.
وقد وقع في رواية عبثر بن القاسم الزبيدي -بموحدة ثم مثلثة بوزن جعفر- في روايته عن حصين بن عبد الرحمن، عند الترمذي والنسائي: لما أسري برسول الله -صلى الله عليه وسلم- جعل يمر بالنبي ومعه الواحد، الحديث، فإن كان ذلك محفوظًا
__________
"وقال الحافظ ابن كثير: من جعل كل رواية خالقت الأخرى مرة على حدة، فأثبت إسراءات متعددة فقد أبعد وأغرب"، جاء بشيء غريب لا يعرف، "وهرب إلى غير مهرب"، يعني أن ذلك لا يجد به نفعًا في دفع التعارض، "ولم يحصل على مطلب"، حذف من كلام ابن كثير في تاريخه تعليله بقوله؛ لأن كل السياقات فيها تعريفه بالأنبياء، وفي كلها تفرض عليه الصلاة، فكيف يدعي تعدد ذلك، هذا في غاية البعد، ووصله بقوله: "ولم ينقل ذلك عن أحد من السلف، ولو تعدد هذا التعدد لأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته بذلك، ولنقله الناس على التعدد والتكرار،" ولم يقع ذلك. "انتهى".
ونحوه في الفتح، وزاد: ويلزم أيضًا وقوع التعدد في سؤاله -صلى الله عليه وسلم- عن كل نبي، وسؤال أهل كل باب هل بعث إليه وفرض الصلوات الخمس وغير ذلك؟، فإن تعدد مثل ذلك في القصة لا يتجه، فتعين رد بعض الروايات المختلفة إلى بعض أو الترجيح.
وقال ابن القيم: هذه طريقة ضعفاء الظاهرية الذين إذا رأوا في القصة لفظة تخالف سياق بعض الرواة جعلوه مرة أخرى، فكلما اختلفت عليهم الرواة عددوا لهم الوقائع والصواب الذي عليه أئمة النقل؛ أن الإسراء كان مرة واحدة بمكة بعد البعثة، ويا عجبًا لهؤلاء الذين زعموا أنه وقع مرارًا كيف ساغ أن يظنوا أنه في كل مرة تفرض عليه الصلاة خمسين، ثم يتردد بين ربه تعالى وبين موسى حتى يظنوا أنه في كل مرة تفرض عليه الصلاة خمسين، ثم يتردد بين ربه تعالى وبين موسى حتى تصير خمسًا، فيقول: أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي، ثم يعيدها في المرة الثانية خمسين، ثم يحطها عشرًا عشرًا.
"وقد وقع رواية عبثر بن القسم الزبيدي" "بضم الزاي" أبو زبيد، كذلك الكوفي الثقة من رجال الجميع، مات سنة تسع وسبعين ومائة، وعبثر بفتح العين المهملة، و"بموحدة" ساكنة، "ثم مثلثة" مفتوحة، ونسخحة فمثناة تحريف، فالذي في التقريب: وفتح المثلثة "بوزن جعفر في روايته عن حصين بن عبد الرحمن" السلمي، الكوفي، ثقة، روي له الجماعة وتغير حفظه في الآخر، مات سة ست وثلاثين ومائة، وله ثلاث وتسعون سنة.
"عند الترمذي والنسائي: لما أسري برسول الله -صلى الله عليه وسلم- جعل يمر بالنبي ومعه الواحد ...
كان فيه قوة لمن ذهب إلى تعدد الإسراء، وأنه وقع بالمدينة أيضًا غير الذي وقع بمكة.
قال في فتح الباري: والذي يتحرر في هذه المسألة أن الإسراء الذي وقع بالمدينة ليس فيه ما وقع بمكة، من استفتاح أبواب السماء بابا بابًا، ولا من التقاء الأنبياء كل واحد في سماء، ولا المراجعة مع موسى فيما يتعلق بفرض الصلوات، ولا طلب تخفيفها وسائر ما يتعلق بذلك، وإنما تكررت قضايا كثيرة سوى ذلك رآها -صلى الله عليه وسلم- فمنها بمكة البعض، ومنها بالمدينة بعد الهجرة البعض، ومعظمها في المنام والله أعلم. انتهى.
__________
الحديث، فإن كان ذلك محفوظًا كان فيه قوة لمن ذهب إلى تعدد الإسراء، وأنه وقع بالمدينة أيضًا" إسراء "غير الذي وقع بمكة"، فغير صفة محذوف.
"قال في فتح الباري: والذي يتحرر من هذه المسألة أن الإسراء الذي وقع بالمدينة ليس فيه وما وقع بمكة من استفتاح أبوب السماء بابًا بابًا" بالتكرير، "ولا من التقاء الأنبياء كل واحد في سماء، ولا المراجعة مع موسى فيما يتعلق بفروض الصلوات، ولا طلب تخفيفها وسائر ما يتعلق بذلك، وإنما تكررت قضايا كثيرة سوى ذلك رآها النبي -صلى الله عليه وسلم- فمنها بمكة البعض، ومنها بالمدينة بعد الهجرة البعض، ومعظمها في المنام" ضد اليقظة، "والله أعلم، انتهى".
وفي فتح الباري أيضًا: وجنح الإمام أبو شامة إلى وقوع المعراج مرارًا، واستند إلى ما أخرجه البزار، وسعيد بن منصور عن أنس رفعه: بينا أنا جالس إذ جاء جبريل، فوكز بين كتفي، فقمنا إلى شجرة فيها مثل وكري الطائر، فقعدت في أحدهما، وقعد جبريل في الآخر، فارتفعت حتى سدت الخافقين.. الحديث، وفيه: ففتح لي باب من السماء، فرأيت النور الأعظم، وإذا حجاب رفرف الدر والياقوت، ورجاله لا بأس بهم، إلا أن الدارقطني ذكر له علة تقتضي إرساله، وعلى كل حال، فهي قصة أخرى، الظاهر أنها وقعت بالمدينة، لا بعد في وقوع أمثالها، وإنما المستبعد وقوع التعدد في قصة المعراج الذي وقع سؤاله عن كل نبي، وسؤال أهل كل باب هل بعث إليه وفرض الصلوات الخمس وغير ذلك، فإن تعدد ذلك في اليقظة لا يتجه، فتعين رد بعض الروايات المخلتفة إلى بعض، أو الترجيح، إلا أنه بعد في وقوع جميع ذلك في المنام توطئة، ثم وقوعه في اليقظة على وفقه كما قدمته، ومن المستغرب قول ابن عبد السلام في تفسيره: وكان الإسراء في النوم واليقظة ووقع بمكة والمدينة، فإن أراد تخصيص المدينة بالنوم،
وقال بعض العارفين: إن له -صلى الله عليه وسلم- أربعة وثلاثين مرة، والذي أسري به منها واحد بجسمه، والباقي بروحه رؤيا رآها. انتهى.
فالحق: أنه إسراء واحد، بروحه وجسده يقظة، في القصة كلها.
وإلى هذا ذهب الجمهور من علماء المحدثين والفقهاء والمتكلمين وتواردت عليه ظواهر الأخبار الصحيحة، لا ينبغي العدول عن ذلك، إذ ليس في العقل ما يحيله.
__________
ويكون كلامه على طريق اللف والنشر غير المرتب، فيحتمل، ويكون الإسراء الذي اتصل به المعراج، وفرضت فيه الصلاة بمكة، والآخر في المنام بالمدينة، وينبغي أن يزاد فيه أن الإسراء بالمنام تكرر بالمدينة النبوية.
"وقال بعض العارفين؛ أن له -صلى الله عليه وسلم- أربعة وثلاثين مرة" من الإسراءات "الذي أسري به منها واحد بجسمه، والباقي بروحه" دون جسده "رؤيا رآها انتهى".
"فالحق" وهو الصحيح "أنه إسراء واحد برروحه وجسده يقظة في القصة كلها، وإلى هذا ذهب الجمهور من علماء المحدثين والفقهاء والمتكلمين، وتواردت عليه ظواهر الأخبار الصحيحة، ولا ينبغي العدول": الرجوع والميل "عن ذلك" الظاهر، "إذ ليس في العقل ما يحيله" حتى يعدل عنه، وإنما عده محالًا صدر من كفار قريش وبعض ضعفاء المسلمين، لتوهمهم أن قطع مثل هذه المسافة ذهابًا وإيابًا في بعض ليلة محال لبعدها، فتقطع في أيام كثيرة، ومن بعض أرباب علم الهيئة، الزاعمين أن الأفلاك لا فرجة فيها ولا تقبل الخرق والالتئام، وكلاهما خطا عقلًا ونقلًا. ألاى ترى نقل عرش بلقيس في طرفة عين مع بعد مسافته، وقد نطقت النصوص بأن للسماء أبوابًا تفتح وتغلق، فلا عبرة بأوهام الفلاسفة.
قال التفتازاني: ادعاء استحالة المعراج باطل؛ لأنه إنما ينبني على أصول الفلاسفة من امتناع الخرق والالتئام على السموات، وإلا فلخرق والالتئام على السموات واقع عند أهل الحق، والأجسام العلوية والسفلية متماثلة مركبة من الجواهر الفردة المتماثلة ما يصح على كل من الأجسام ما يصح على الآخر ضرورة التماثل المذكور، فإن أمكن خرق الأجسام السفلية أمكن خرق الأجسام العلوية، والله قادر على الممكنات كلها، فهو قادر على خرق السموات وقد ورد به السمع، فيجب تصديقه.
وقال البيضاوي تبعًا للرازي الاستحالة مدفعوة بما ثبت في الهندسة، أما ما بين طرفي قرص الشمس ضعف ما بين طرفي كرة الأرض مائة ونيفًا وستين مرة، ثم إن طرفها الأسفل ليصل لموضع طرفها الأعلى في أقل من درجة، والأجسام كلها متساوية في قبول الإعراض، والله قادر
قال الرازي: قال أهل التحقيق: الذي يدل على أنه تعالى أسرى بروح سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- وجسده من مكة إلى المسجد الأقصى القرآن والخبر.
أما القرآن فهو قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} ، وتقرير الدليل: أن "العبد" اسم للجسد والروح، فواجب أن يكون الإسراء حاصلًا بجميع الجسد والروح، ويدل عليه قوله: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى، عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق: 9] ولا شك أن المراد هنا مجموع الجسد والروح، وأيضًا: قال سبحانه وتعالى في سورة الجن: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن: 19] ، والمردج: جميع الروح والجسد وكذا ههنا، في قوله: {أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} ، انتهى.
واحتجوا أيضًا: بظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: "أسري بي"؛ لأن الأصل في الأفعال أن تحمل على اليقظة حتى تدل دليل على خلافه.
__________
على كل الممكنات، فيقدر أن يخلق مثل هذه الحركة السريعة في بدن النبي صلى الله عليه وسلم، أو فيما حمله، والتعجب من لوازم المعجزات.
"ال الرازي" الإمام فخر الدين: "قال أهل التحقيق: الذي يدل على أنه تعالى أسرى بروح سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وجسده" معا يقظة "من مكة إلى المسجد الأقصى القرآن والخبر" أي: الحديث، "أما القرآن، فهو قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: 1] الآية، إلا بعد، "وتقرير الدليل أن العبد اسم للجسد والروح، فواجب أن يكون الإسراء حاصلا بجميع الجسد والروح" إذ لو كان مناما لقال بروح عبده.
"ويدل عليه قوله: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى، عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق: 9] الآية, ولا شك أن المراد هنا مجموع الجسد والروح"؛ لأن العبد هنا محمد صلى الله عليه وسلم والناهي له عن الصلاة أبو جهل، وهو لا ينهاه عن الصلاة بروحه، "وأيضا قال سبحانه وتعالى في سورة الجن: وأنه بالفتح عطفا، وبالكسر استئنافا، والضمير للشأن {لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ} محمد صلى الله عليه وسلم {يَدْعُوهُ} ، يعبده ببطن نخلة، "والمراد" في تينك الآيتين "جميع الروح والجسد، وكذلك ههنا" في قوله: {أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1] الآية، إذ الآيات تحمل على نظيرها. انتهى.
وأما الخبر فأشار إليه بقوله: "واحتجوا أيضا بظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: "أسري بي"؛ لأن الأصل في الأفعال أن تحمل على اليقظة حتى يدل دليل على خلافه" عقلي أو شرعي.
وإن ذلك لو كان منامًا لما كان فيه فتنة للضعفاء، ولا استعبده الأغبياء.
ولأن الدواب لا تحمل الأرواح وإنما تحمل الأجسام، وقد تواترت الأخبار بأنه أسري به على البراق.
فإن قلت: ما الحكمة في كونه تعالى جعل الإسراء ليلًا؟
أجيب: بأنه إنما جعل ليلًا تمكينًا للتخصيص بمقام المحبة؛ لأنه تعالى اتخذه -صلى الله عليه وسلم- حبيبًا وخليلًا، والليل أخص زمان للمحبين لجمعهما فيه، والخلوة
__________
قال عياض وتبعه غيره: الحق والصحيح أنه إسراء بالجسد في القصة كلها، وتدل عليه الآية نصًا، وصحيح الأخبار إلى السموت استفاضة، ولا يعدل عن الظاهر والحقيقة إلى التأويل إلا عند الاستحالة، وليس في الإسراء بجسده حال يقظته استحالة تؤذن بتأويل، إذ لو كان منامًا لقال بروح عبده ولم يقل بعبده، وقوله: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 17] الآية، أي: ما عدل عن رؤية ما أمر به من عجائب الملكوت، وما جاوزها لصراحة ظاهره في أنه بجسده يقظه؛ لأنه أضاف الأمر إلى البصر، وهو لا يكون إلا يقظة بجسده، بشهادة لقد رأى من آيات ربه الكبرى، ولو كان منامًا لما كانت فيه آية ولا معجزة خارقة للعادة، دالة على صدقه وإن كانت رؤيا الأنبياء وحيًا، وليس فيها من الأبلغية وخرق العادة ما فيه يقظة على أن ذلك إنما يعرف من صدقه وصدق خبره، "وإن ذلك لو كان منامًا لما كان فيه فتنة للضعفاء" الذين كانوا أسلموا فارتدوا فوقعوا في فتنة، أي: بلية عظيمة توقعهم في العاب لردتهم وتكذيبهم وإنكارهم لخبر الصادق بما هو خارق للعادة، "ولا استبعده الأغبياء": جمع غبي بمعجمة، أي: الكفار ولا كذبوه، فيه؛ لأن مثل هذا من المنامات لا ينكر، بل لم يكن منهم ذلك إلا وقد علموا أن خبره إنما كان عن إسرائه بجسده وحال يقظته؛ "ولأن الدواب لا تحمل الأرواح وإنما تحمل الأجسام، وقد تواترت الأخبار، بأنه أسري به على البراق" وهو دابة، فوجب كونه بالجسد والروح معًا.
"فإن قلت ما الحكمة في كونه تعالى جعل الإسراء ليلًا،" مع أن غالب الفرائض كالصوم والجهاد والصبح والظهر والعصر والابتغاء من فضل الله، إنما هو بالنهار، وإن وقع جهاد ليلًا فنادر لنحو غارة، وفيه الصلاة الوسطى، والصوم الذي قال الله فيه: "كل عمر ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به"، ومن ثم صحح الشرف المناوي أنه أفضل من الليل، وصحح غيره تفصيل الليل.
"أجيب بأنه إنما جعل ليلًا تمكينا للتخصيص بمقام المحبة؛ لأنه تعالى أتخذه عليه السلام حبيبًا وخليلًا"، فجمع له من بين المقامين، وهذا دليل لما أفهمه قوله بمقام المحبة، "والليل أخص زمان للمحبين" بفتح الباء المشددة تثنية محب، أي: أولى زمان يلخلو فيه
بالحبيب متحققة بالليل.
وقال ابن المنير: ولعل تخصيص الإسراء بالليل ليزداد الذين آمنوا إيمانًا بالغيب، وليفتتن الذين كفروا زيادة على فتنتهم، إذ الليل أخفى حالًا من النهار، قال: ولعله لو عرج به نهارًا لفات المؤمن فضيلة الإيمان بالغيب، ولم يحصل ما وقع من الفتنة على من شقي وجحد، انتهى.
وفي ذلك حكمة أخرى على طريق أهل الإشارات، ذكرها العلامة ابن مرزوق، وهي: أنه قيل؛ لأن الله تعالى لما محا آية الليل وجعل آية النهار مبصرة انكسر الليل، فجبر بأن أسري فيه بمحمد -صلى الله عليه وسلم- وقيل: افتخر النهار على الليل
__________
المحب بحبيب "لجمعهما فيه"، فليس المراد بأخص هنا مقابل الأعم، ثم المحب لغة من وقعت منه المحبة، والحبيب والمحبوب من وقت عليه فغلب المحب على المحبوب، فقال المحبين، أو إشارة إلى أن المتحابين إذا صدقت محبة كل منهما لصاحبه كان محبًا ومحبوبًا باعتبارين، "والخلوة بالحبيب متحققة" بالليل من تحقق الأمر إذا ثبت، ويجوز فتح القاف اسم مفعول أي: مثبتة، والأول أولى.
"وقال ابن المنير: ولعل تخصيص الإسراء بالليل ليزداد الذين آمنوا إيمانًا بالغيب، وليفتتن الذين كفروا زيادة على فتنتهم، إذ الليل أخفى حالًا من النهار"، فما وقع فيه لا يطلع عليه غالبًان فكان من الغيب، وما وقع نهارًا يطلع عليه غالبًا لمشاهدته، فإذا أخبر -صلى الله عليه وسلم- عما وقع له ليلًا صدقه المؤمنون فزادوا به إيمانًا، وكذبه الكافرون فزادت فتنتهم.
"قال ابن المنير": ولعله لو عرج به نهارًا لفات المؤمن من فضيلة الإيمان بالغيب"، وقد أثنى الله على الذين يؤمنون بالغيب، ففيه فضل عظيم، "ولم يحصل ما وقع من الفتنة على من شقي وجحد"، عطف علة على معلول أي: شقي بجحوده "انتهى".
"وفي ذلك حكمة أخرى" ثالثة "على طريق أهل الإشارات"، وهم المحققون من الصوفية، والإشارات الحقائق التي يأخذونها من نص القرآن وغيره، ولا يقصدون أن ما أخذوه تفسير صريح النص، كما قاله العز بن عبد السلام وغيره.
"ذكرها العلامة" محمد "بن مرزوق، وهي أنه قيل: لأن الله تعلى لما محا آية الليل" طمس نورها بالظلام لنكسن فيه، والإضافة للبيان، "وجعل آية النهار مبصرة"، أي: مبصرًا فيها بالضوء، وفائدة إضافة البيان تحقيق مضمون الجملة السابقة، "انكسر الليل، فجبر بأن أسري فيها بمحمد -صلى الله عليه وسلم-" وذلك أعظم الجبر، "وقيل: افتخر النهار على الليل بالشمس، فقيل له:
بالشمس فقيل له: لا تفتخر، فإن كانت الشمس الدنيا تشرق فيك فسيعرج شمس الوجود في الليل إلى السماء، وقيل: لأنه -صلى الله عليه وسلم- سراج، والسراج إنما يوقد بالليل، وأنشد:
قلت: يا سيدي فلم تؤثر الليـ ... ـل على بهجة النهار المنير
قال: لا أستطيع تغيير رسمي ... هكذا الرسم في طلوع البدور
إنما زرت في الظلام لكيما ... يشرق الليل من أشعة نوري
فإن قلت: أيما أفضل، ليلة الإسراء أم ليلة القدر؟
فالجواب: كما قاله الشيخ أبو أمامة بن النقاش -أن ليلة الإسراء أفضل في حق النبي -صلى الله عليه وسلم- من ليلة القدر، وليلة القدر أفضل في حق الأمة؛ لأنها لهم خير لهم
__________
لا تفتخر، فإن كانت شمس الدنيا تشرق فيك فسيعرج شمس الوجود في الليل إلى السماء،" وهذا أيضًا من كلام أهل الإشارات، "وقيل: لأنه -صلى الله عليه وسلم- سراج"، كما قال تعالى: {وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 46] الآية، "والسراج إنما يوقد بالليل"، أي: إنما يحصل الانتفاع بإيقاده ليلًا، ويذم بإيقاده نهارًا.
قال الفرزدق:
فك والد لك يا جرير كأنه ... قمر المجرة أو سراج نهار
"وأنشد" في ذلك المعنى يقول:
"قلت: يا سيدي فلم تؤثر الليـ ... ـل على بهجة النهار المنير
قال: لا أستطيع تغيير رسمي ... هكذا الرسم في طلوع البدرو
إنما زرت في الظلام لكيما ... يشرق الليل من أشعة نوري"
وحاصل معنى الأبيات أنه سأل محبوبه عن حكمة زيارته ليلًا دون النهار، فقال: أنا بدر، وهو إنما يظهر أثره ليلًا ولا يستطيع تغيير ذلك الأثر، وإن في زيارته ليلًا فائدة لا تظهر لو زاره نهارًا، وهي إشراق الليل بنوره، فصار الليل في حقه كالنهار في الإضاءة والإشراق.
"فإن قلت: إيما أفضل ليلة الإسراء أم ليلة القدر" التي هي خير من ألف شهر؟، "فالجواب كما قاله الشيخ أبو أمامة بن النقاش، أن ليلة الإسراء أفضل في حق النبي -صلى الله عليه وسلم- من ليلة القدر،" لما أكرم به فيها من خوارق العادات التي أجلها رؤيته لله تعالى على الصحيح.
"وليلة القدر أفضل في حق الأمة؛ لأنها" أي: العمل فيها "خير لهم من عمل في ثمانين سنة لمن قبلهم"، بإلغاء الكسر، وهو ثلاث سنين وثلث سنة، بناء على أن المراد حقيقة العدد
من عمل في ثمانين سنة لمن قبلهم، وأما ليلة الإسراء فلم يأت في أرجحية العمل فيها حديث صحيح ولا ضعيف، ولذلك لم يعينها النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه، ولا عينها أحد من الص