اعلم أن علم الغيب يختص بالله تعالى، وما وقع منه على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام وغيره فمن الله تعالى، إما بوحي أو إلهام، والشاهد لهذا قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 27] ، ليكون معجزة له.
واستدل به على إبطال الكرامات.
وأجيب: بتخصيص الرسول بالملك، والإظهار بما يكون بغير توسطه،
__________
الفصل الثالث: في إنبائه
"بكسر الهمزة" أي إخباره "صلى الله عليه وسلم بالأنباء" "بفتح الهمز" جمع نبأ "بالهمز" أي الأخبار "المغيبات" أي الأمور التي بعدت عنا، فلم يتعلق علمنا بها.
"اعلم أن علم الغيب" أي ما غاب عنا جمعه غيوب، "يختص بالله تعالى" علام الغيوب، "وما وقع منه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم" وعلى لسان "غيره" من الأنبياء والصالحين، "فمن الله تعالى، إما بوحي" للأنبياء "أو إلهام" لغيرهم، "والشاهد لهذا" أي الدليل عليه "قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ} ما غاب عن العباد، {فَلَا يُظْهِرُ} يطلع {عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} من الناس {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} ، "ليكون" العلم به "معجزة له" أي لمن أظهر على يديه.
وكرامات الأولياء على المغيبات إنما تكون برؤيا الملائكة، كإطلاق اطلاعنا على أحوال الآخرة بتوسط الأنبياء، وفي حديث مر: أنه عليه الصلاة والسلام قال: "والله إني لا أعلم إلا ما علمني ربي". فكل ما ورد عنه عليه الصلاة والسلام من الأنباء المنبئة عن الغيوب ليس هو إلا من إعلام الله له به، إعلاما على ثبوت نبوته، ودلائل على صدق رسالته، وقد اشتهر وانتشر أمره عليه الصلاة والسلام بين أصحابه بالاطلاع على الغيوب، حتى إن كان بعضهم ليقول لصاحبه: اسكت فوالله لو لم يكن عنده من يخبره لأخبرته حجارة البطحاء، ويشهد له قول ابن رواحة:
وفينا رسول الله يتلو كتابه ... إذا انشق معروف من الصبح ساطع
__________
"واستدل به على إبطال الكرامات" لأنها إذا كانت إخبارا عن غيب، فالعلم بها مناف لقوله: {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} ، فإن المستثنى منه شامل لما يظهر على يد بعض الأولياء من اغيب.
"وأجيب بتخصيص الرسول بالملك والإظهار بما يكون بغير توسطه" أي الملك "وكرامات الأولياء" الحاصلة باطلاعهم "على المغيبات" فهو متعلق بمحذوف، "إنما تكون برؤيا الملائكة" للغيوب، ويلقون ما يطلعون عليه إلى من شاء الله بوحي أو إلهام، فلا حاجة إلى تأويل رؤيا براءة الملاكئة للناس، وأن يطلعوهم على ذلك بطريق من الطرق، "كإطلاق اطلاعنا على أحوال الآخرة" أي علمنا بها "بتوسط الأنبياء".
"وفي حديث مر" في غزوة تبوك: "أنه عليه الصلاة والسلام قال" لما ضلت ناقته وقال بعض المنافقين: لو كان نبيا لعلم مكانها فقال صلى الله عليه وسلم: "والله إني لا أعلم إلا ما علمني ربي" وأنه أخبرني أنها بمكان، كذا حبستها شجرة، وأرسل فأتى بها، "فكل ما ورد عنه عليه الصلاة والسلام من الأنباء المنبئة عن الغيوب ليس هو إلا من إعلام الله له به" لتكون تلك الغيوب "أعلاما" "بفتح الهمزة" جمع علم، أي دلائل "على ثبوت نبوته ودلائل" أي علامات "على صدق رسالته" "عطف تفسير"، وقد تواترت الأخبار واتفقت معانيها على اطلاعه صلى الله عليه وسلم على الغيب، كما قال عياض، ولا ينافي الآيات الدالة على أنه لا يعلم الغيب إلا الله، وقوله: {لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} ، لأن المنفي علمه من غير واسطة، كما أفاده المتن، أما اطلاعه عليه بإعلام الله، فمحقق لقوله: {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} .
قال في لطائف المنن: اطلاع العبد على غيب من غيوب الله بنور منه، لدليل خبر: "اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله" لا يستغرب، وهو معنى "كنت بصره الذي يبصر به"، فمن كان الحق بصره أطلعه على غيبه، فلا يستغرب.
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات أن ما قال واقع
وقول حسان بن ثابت:
__________
وقال بعض العارفين: قوله: {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} ، لا ينافي قول العارف المرسي في تفسيرها، أو صديق، أو ولي، ولا زيادة فيه على النص، فإن السلطان إذا قال: لا يدخل علي اليوم إلا الوزير، لا ينافي دخول أتباع الوزير معه، فكذلك الولي إذا أطلعه الله على غيبه لم يره بنور نفسه، وإنما رآه بنور متبوعه، وما كلفنا الله الإيمان بالغيب إلا وقد يفتح لنا باب غيبه، وإلى هذا أشار الغزالي في أماليه على الإحياء، ثم قال: ويحتمل أن المراد بالرسول في الآية ملك الوحي، الذي بواسطته تنكشف الغيوب، فيرسله للإعلام بمشافهة، أو إلقاء في روع، أو ضرب مثل في يقظة، أو منام، ليطلع على الغيب من أراد، وفائدة ذلك الامتنان على من رزقه الله ذلك، وإعلامه بأنه لم يصل إليه بحوله وقوته، فلا يظهر على غيبه أحدا من عباده إلا على يدي رسول من ملائكته، أرسله لمن فرغ قلبه لانصباب أنهار العلوم الغيبية في أوديته، حتى يصل لأسرار الغيب المكنونة في خزائن الألوهية. انتهى.
وهو نفيس من المهمات، والثاني: هو ما أشار إليه المصنف بقول: واستدل ... إلخ، تبعا للبيضاوي، لكن لم ينمقه هذا التنميق الحسن.
"وقد اشتهر وانتشر أمره عليه الصلاة والسلام بين أصحابه" ولو ظاهرا كالمنافقين والمؤلفة، "بالاطلاع على الغيوب، حتى أن" مخففة من الثقيلة، أي أنه "كان بعضهم" أي بعض أصحابه بحسب الظاهر، وهم بعض المؤلفة قبل خلوص إسلامهم والمنافقون، "ليقول لصاحبه" أي من هو معه: إذا أراد أن يتكلم بشيء في حقه صلى الله عليه وسلم "اسكت": لا تنطق بشيء من أمره، "فوالله لو لم يكن عنده من يخبره" بما نقوله في شأنه من ملك ونحوه، "لأخبرته حجارة البطحاء" أرض مستوية يسيل فيها، وحجارتها ما فيها من الحصباء، أي أنها تخبره بما غاب عنه حقيقة، إن فرض أنه ليس عنده من يخبره غيرها، فلا داعي لجعله مبالغة في هذا المقام.
روي أنه صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة وأمر بلالا، بأن يؤذن فوق الكعبة، قال عتاب بن أسيد: لقد أكرم الله أسيدا إذا لم ير هذا اليوم، وقال الحارث بن هشام: أما وجد محمد مؤذنا غير هذا الغراب الأسود.
وقال أبو سفيان بن حرب: لا أقول شيئا، ولو تكلمت لأخبرته هذه الحصباء، فخرج صلى الله عليه وسلم وقال: قد علمت الذي قلتم، وذكر مقالتهم، فقال الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول الله، ما كان معنا أحد فنقول: أخبرك، ثم حسن إسلام الثلاثة بعد، فالغاية إنما تتعلق ببعض المؤلفة والمنافقين، وسماهم أصحابه بحسب الظاهر، كما أشرت إليه، فأما أصحابه المؤمنون، فإنهم جازمون بإطلاعه
نبي يرى ما لا يرى الناس حوله ... ويتلو كتاب الله في كل مشهد
فإن قال في يوم مقالة غائب ... فتصديقها في ضحوة اليوم أو غد
وهذا الفصل ينقسم قسمين:
الأول: فيما أخبر به عليه الصلاة والسلام مما نطق به القرآن العظيم.
من ذلك: في قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} إلى قوله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة: 24] ، فقوله: {وَلَنْ تَفْعَلُوا} إخبار عن غيب تقضي العادة بخلافه.
ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنعام: 7] الآية فإنها كان لقريش قافلتان:
__________
على الغيب، لكنهم لا يتكلمون بشيء في حقه، ولا يريدون إخفاء كلام عنه حتى يأمر بعضهم بعضا بالسكوت، ولذا قصر في شفاء الغاية على المنافقين، "ويشهد له قول ابن رواحة" عبد الله الأنصاري، الأمير، الشهيد بموته من قصيدة: "وفينا رسول الله يتلو كتابه" القرآن "إذا انشق معروف من الصبح ساطع" أي مرتفع، يقال: سطع الصبح يسطع "بفتحتين": ارتفع "أرانا الهدى" يعني الإيمان "بعد العمى" أي الكفر "فقلوبنا به" أي بالهدى "موقنات أن ما قال واقع" لا محالة.
"وقول حسان بن ثابت" الأنصاري في جملة قصيدة: "نبي يرى ما لا يرى الناس حوله" كرؤيته لجبريل وغيره من الملائكة، وكرؤيته الجنة والنار وغيرهما في صلاة الكسوف دون الناس وهم حوله.
وقد قال: إني أرى ما لا ترون، "ويتلو كتاب الله" القرآن العظيم "في كل مشهد" محضر، "فإن قال في يوم مقالة غائب" أي مقالة أخبر بها عن أمر غائب، "فتصديقها" أي نسبتها إلى الصدق حاصل بسرعة، فيظهر "في ضحوة اليوم" الذي قالها فيه، "أو غد" أي ما يليه "وهذا الفصل ينقسم قسمين: الأول: فيما أخبر به عليه الصلاة والسلام مما نطق به القرآن العظيم، من ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} شك {مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن أنه من عند الله، {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} " أي المنزل، ومن للبيان، أي هي مثله في البلاغة وحسن النظم والأخبار عن الغيب، فإنكم عربيون فصحاء، مثله، "إلى قوله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} " ما ذكر لعجزكم، {وَلَنْ تَفْعَلُوا} ذلك أبدًا لظهور إعجازه، "فقوله: {وَلَنْ تَفْعَلُوا} إخبار عن غيب" هو عدم
إحداهما ذات غنيمة دون الأخرى، فأخبر الله تعالى عما في ضمائرهم، وأنجز لهم ما وعد، ولا شك أن الوعد كان قبل اللقاء، لأن الوعد بالشيء بعد وقوعه غير جائز.
ومن ذلك قوله تعالى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45] ، وهذا إخبار عن المستقبل، لأن "السين" تعين الاستقبال، يعني كفار قريش يوم بدر، وقد كان عددهم ما بين تسعمائة إلى ألف، وكانوا مستعدين بالمال والسلاح، وكان عدد المسلمين ثلاثمائة عشر رجلا، وليس معهم إلا فرسان، إحداهما للزبير بن العوام، والأخرى للمقداد بن الأسود فهزم الله المشركين ومكن المسلمين من قتل أبطالهم واغتنام أموالهم.
__________
إتيانهم بسورة من مثله "تقضي العادة بخلافه" لأنهم كانوا غاية في البلاغة، مع استنكافهم أن يغلبوا خصوصا في الفصاحة، فما فعلوا ولا قدروا، ومر بسط هذا في المعجزات.
"ومن ذلك قوله تعالى": اذكر {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ} [الأنفال: 7] ، العير أو النفير {أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ} تريدون {أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ} ، أي البأس والسلاح {تَكُونُ لَكُمْ} " لقلة عَددها، وعُددها بخلاف النفير، "الآية فإنها" أي القصة، وفي نسخة: فإنه، أي الشأن "كان لقريش قافلتان، إحداهما ذات غنيمة دون الأخرى، فأخبر الله تعالى عما في ضمائرهم" وهو ودهم للغنيمة دون القتال، "وأنجز لهم ما وعد" من النصر البالغ يوم بدر، "ولا شك أن الوعد كان قبل اللقاء، لأن الوعد بالشيء بعد وقوعه غير جائز" إذ هو مجرد عبث.
"ومن ذلك قوله تعالى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45] ، قال الزجاج: يعني الأدبار، لأن اسم الواحد يقع على الجمع، أي سيفرق جمعهم ويغلبون، "وهذا إخبار عن المستقبل، لأن السين تعين الاستقبال يعني" بالجمع "كفار قريش يوم بدر" وفيه علم من أعلام النبوة، لأن الآية: نزلت بمكة، وأخبرهم أنهم سيهزمون في الحرب، فكان كما قال.
وعند ابن أبي حاتم عن عكرمة، وعبد الرزاق, عن معمر، عن قتادة أن عمر بن الخطاب قال: لما نزلت، أي جمع يهزم، أي جمع يغلب، قال: فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم تثبت في الدرع، وهو يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} ، فعرفت تأويلها يومئذ، "وقد كان عددهم ما بين تسعمائة إلى ألف" أي تسعمائة وخمسين مقاتلا عند ابن عقبة وابن عائذ.
وفي صحيح مسلم عن عمر: كانوا ألفا، وهو أولى بالصواب على أنه يمكن الجمع، بأن الخمسين غير مقاتلين، لأنهما قيدا بمقاتلا، ومر بسط ذلك، "وكانوا مستعدين بالمال والسلاح،
ومن ذلك في كفار قريش: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} [آل عمران: 151] ، يريد ما قذف في قلوبهم من الخوف يوم أحد حتى تركوا القتال ورجعوا من غير سبب، ونادى أبو سفيان: يا محمد! موعدنا موسم بدر القابل إن شئت، فقال عليه الصلاة والسلام: "إن شاء الله تعالى". قيل: لما رجعوا وكانوا ببعض الطريق ندموا، وعزموا أن يعودوا عليهم ليستأصلوهم، فألقى الله تعالى الرعب في قلوبهم.
ومن ذلك قوله تعالى: {الم، غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 601] إلى قوله: {لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} ، وسبب نزول هذه الآية أن كسرى وقيصر تقاتلا فغلب كسرى قيصر، فساء المسلمين ذلك، لأن الروم أهل كتاب، ولتعظيم قيصر كتاب النبي صلى الله عليه وسلم وتمزيق كسرى كتابه، وفرح المشركون به، فأخبر الله تعالى بأن الروم بعد أن غلبوا سيغلبون في بضع سنين، والبضع ما بين
__________
وكان عدد المسلمين ثلاثمائة وثلاثة عشر رلا" على أرجح الأقوال، "وليس معهم إلا فرسان، أحدهما للزبير بن العوم، والأخرى للمقداد بن الأسود، فهزم الله المشركين ومكن المسلمين، من قتل أبطالهم" سبعين، "و" من "اغتنام أموالهم" وأسر سبعين.
"ومن ذلك في كفار قريش: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} بسكون العين وضمها {بِمَا أَشْرَكُوا} بسبب إشراكهم {بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} حجة على عبادته، وهو الأصنام، "يريد ما قذف" تفسير نلقي "في قلوبهم من الخوف" تفسير الرعب "يوم أحد حتى تركوا القتال، ورجعوا من غير سبب" بحسب الظاهر، "ونادى أبو سفيان" صخر بن حرب: "يا محمد! موعدنا موسم بدر القابل" أي الآتي بعد هذا، وفي نسخ: لقابل، أي لعام قابل "إن شئت فقال عليه الصلاة والسلام" لعمر بن الخطاب: قل: "نعم هو موعد بيننا وبينكم إن شاء الله تعالى".
"قيل: لما رجعوا وكانوا ببعض الطريق ندموا، وعزموا أن يعودوا عليهم" على المؤمنين "ليستأصلوهم" بالقتل، "فألقى الله تعالى الرعب في قلوبهم" فاستمروا راجعين.
ومن ذلك قوله تعالى: {الم، غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} [الروم: 1-3] ، أي أقرب أرض الروم إلى فارس، بالجزيرة التي التقى فيها الجيشان والبادئ بالغزو الفرس {وَهُمْ} أي الروم {مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ} .
أضيف المصدر إلى المفعول به، أي غلبة فارس إياهم، {سَيَغْلِبُونَ} فارس {فِي بِضْعِ
الثلاثة إلى العشرة، فغلبت الروم أهل فارس يوم الحديبية، وأخرجوهم من بلادهم، وذلك بعد سبع سنين.
ومن ذلك، قوله تعالى: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا} [الجمعة: 7] ، فأخبر أنهم لا يتمنون الموت بالقلب ولا بالنطق باللسان مع قدرتهم عليه أبدا، فأخبر فوجد مخبره كما أخبر، فلو لم يعلموا ما يلحقهم من الموت لسارعوا إلى تكذيبه، بالتمني، ولو لم يعلم ذلك لخشي أن يجيبوا إليه فيقضى عليه بالكذب، قال البيضاوي: وهذه الجملة إخبار بالغيب وكان كما أخبر، لأنهم لو تمنوا الموت ثقل وانتشر، فإن التمني ليس من عمل القلب فيخفى، وروي مرفوعا: "لو تمنوا الموت لغص كل إنسان منهم بريقه فمات مكانه وما بقي يهودي على وجه الأرض".
ومن ذلك قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
__________
سِنِينَ} إلى قوله: {لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} بالنصر، "وسبب نزول هذه الآية أن كسرى" ملك الفرس، "وقيصر" ملك الروم "تقاتلا، فغلب كسرى قيصر، فساء" أحزن "المسلمين ذلك، لأن الروم أهل كتاب" وفارس عباد أوثان، "ولتعظيم قيصر كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، وتمزيق كسرى كتابه" من باب العلة الغائية، وإلا فالآية مكية، والكتابة إليهما وإلى غيرهما من الملوك إنما كانت سنة سبع من الهجرة، "وفرح المشركون به" وقالوا للمسلمين: نحن نغلبكم كما غلبت فارس الروم، وهذا السبب رواه ابن أبي حاتم عن الزهري بلاغا، "فأخبر الله تعالى بأن الروم بعد أن غلبوا سيغلبون في بضع سنين، والبضع ما بين الثلاثة إلى العشرة، فغلبت الروم أهل فارس يوم الحديبية وأخرجوهم من بلادهم، وذلك بعد سبع سنين" من غلبة فارس على الروم.
"ومن ذلك قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 94] تعلق بتمنيه الشرطان على أن الأول قيد في الثاني، أي إن صدقتم في زعمكم أنها لكم، ومن كانت له يؤثرها والموصل إليها، فتمنوه {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة: 94] "فأخبر" بالبناء للمفعول النبي، أي أخبره الله "أنهم لا يتمنون الموت بالقلب، ولا" يتمنونه "بالنطق باللسان مع قدرتهم عليه أبدا" فنفى عنهم تمنيه في جميع الأزمنة المستقبلة بقوله: {أَبَدًا} ، وبقوله: {لَنْ} ، "فأخبر" صلى الله عليه وسلم بذلك الذي أوحي إليه، "فوجد مخبره، كما أخبره فلو لم يعلموا ما يلحقهم من الموت"، أي العذاب الأليم بعده "لسارعوا إلى تكذيبه بالتمني", إذ هم أحرص شيء على تكذيبه لو قدروا "ولو لم يعلم ذلك" صلى الله عليه وسلم "لخشي أن يجيبوا إليه، فيقضى عليه بالكذب،" فظهر
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 55] الآية.
هذا وعد من الله لرسوله عليه الصلاة والسلام بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض، أئمة الناس والولاة عليهم، وبهم تصلح البلاد، وتخضع لهم العباد،
__________
بذلك معجزته، وبانت حجته بصدق خبره عن الغيب.
"قال البيضاوي: وهذه الجملة إخبار بالغيب، وكان كما أخبر، لأنهم لو تمنوا الموت لثقل وانتشر، فإن التمني ليس من عمل القلب فيخفى", بل هو أن يقول: ليت كذا، ولو كان بالقلب لقالوا تمنينا، هذا كلام البيضاوي، وهو اختصار لقول الكشاف: إن قلت التمني من أعمال القلوب، وهو سر لا يطلع عليه أحد، فمن أين علم أنهم لن يتمنوه، قلت: ليس التمني من أعمال القلوب، وإنما هو قول الإنسان بلسانه: ليت لي كذا، وليت كلمة تمنٍ، ومحال أن يقع التحدي بما في الضمائر والقلوب، ولو كان بالقلوب لقالوا: قد تمنيناه بقلوبنا، ولم ينقل أنهم قالوه.
قال القطب في حواشيه: استدل على أن التمني ليس من أفعال القلوب، بأن التحدي إنما يكون بأمر ظاهر، وفيه أن التحدي إنما يكون بإظهار المعجز لإلزام من لم يقبل الدعوى، والتمني ليس بمعجز، فهو كقول الخصم: احلف لي إن كنت صادقا، ويمكن أن يقال التحدي هنا لطلب دفع المعجزة، فإن إخباره بأنهم لن يتمنوه أبداً معجزة، طلب دفعها بتمنيهم، والدفع إنما يكون بأمر ظاهر.
"وروي مرفوعا: لو تمنوا الموت لغص" "بفتح المعجمة والصاد المهملة"، أي مات، كما جز به التلمساني وضبطه غيره "بضم المعجمة وفتح المهملة المشددة"، وهما لغتان، "كل إنسان منهم بريقه" أي رضاب فمه، وخصه لأنه إذا جف فمه أسرع هلاكه، "فمات مكانه" سريعا، "وما بقي يهودي على وجه الأرض"، كذا ساق الحديث البيضاوي، وأشار محشيه الحافظ السيوطي، إلى أنه لم يرد بهذ اللفظ، فقال: أخرج البخاري والترمذي عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه" ولابن جرير من وجه آخر عن ابن عباس، موقوفا: "لو تمنوه يوم قال ذلك ما بقي على وجه الأرض يهودي إلا مات"، وللبيهقي عنه، رفعه: "لا يقولها رجل منهم إلا غص بريقه". انتهى.
وأخرجه أحمد بسند جيد عن ابن عباس، مرفوعا: "لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا" وأخرجه البيهقي من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، رفعه: "والذي نفسي بيده، لا يقولها رجل منهم إلا غص بريقه"، وبهذا اللفظ الأخير، أورده في الشفاء وقال: يعني يموت مكانه، وقدمت هذا وما قبله في وجوه إعجاز القرآن.
"ومن ذلك قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ
{وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ} من الناس {أَمْنًا} وحكما فيهم، وقد فعل ذلك فيهم ولله الحمد والمنة، فإنه لم يمت عليه الصلاة والسلام حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين وسائر جزيرة العرب وأرض اليمن بكمالها، وأخذ الجزية من مجوس هجر، ومن بعد أطراف الشام، وهاداه هرقل ملك الروم، وصاحب مصر والإسكندرية، وهو المقوقس، وملوك عمان، والنجاشي ملك الحبشة الذي تولى بعد أصحمة رحمه الله.
ثم لما مات رسول الله عليه الصلاة والسلام واختار الله له ما عنده من الكرامة، قام بالأمر بعد خليفته أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- فلمَّ شعث ما
__________
فِي الأَرْضِ} ، بدلا من الكفار، {كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 55] من بني إسرائيل بدلا عن الجبابرة، "الآية" سبب نزولها ما أخرجه ابن مردويه في تفسيره والدارمي، ومن طريقه الطبراني والضياء في المختارة، والحاكم، وصححه عن أبي بن كعب، قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة، وآوتهم الأنصار، رمتهم العرب عن قوس واحدة، فكانوا لا يبيتون إلا بالسلاح، ولا يصبحون إلا فيه، فقالوا: ترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين، لا نخاف إلا الله، "هذا وعد من الله لرسول صلى الله عليه وسلم بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض، أئمة الناس" قادتهم، "و" يجعلهم "الولاة" أي الحكام "عليهم، وبهم تصلح البلاد، وتخضع" وتذل "لهم العباد" وهذا كالتفسير لقوله: {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} ، وهو الإسلام، بأن يظهره على جميع الأديان، ويوسع لهم في البلاد فيملكونها، {وَلَيُبِدِّلَنَّهُمْ} "بالتخفيف والتشديد"، " {مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ} من الناس" الكفار " {أَمْنًا} وحكما فيهم"، "لفظا ومعنى"، "وقد فعل تعالى ذلك فيهم، والحمد لله والمنة"؛ لأن وعده عز وجل متحتم الوقوع، "فإنه لم يمت صلى الله عليه وسلم حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين" بلفظ تثنية بحر اسم لموضع بين البصرة وعمان, "وسائر جزيرة العرب".
قال أبو عبيدة: هي ما بين حفر أبي موسى إلى أقصى تهامة طولا، وأما العرض فما بين يبرين إلى منقطع السماوة.
وقال الأصمعي: هي ما بين عدن أبين إلى أطراف الشام طولا، وأما العرض فمن جدة وما والاها من شاطئ البحر إلى ريف العراق "وأرض اليمن بكمالها", وهو إقليم كبير معروف، "وأخذ الجزية من مجوس هجر"، "بفتحتين" إقليم معلوم، "ومن بعد أطراف الشام" كأيلة وغيرها، "وهاداه هرقل ملك الروم وصاحب مصر والإسكندرية، وهو المقوقس" مع أنه لم يسلم واحدة منهما "وملوك عمان"، "بضم العين وتخفيف الميم" موضع باليمن، أما عمان:
وهي عند موته عليه الصلاة والسلام وأطد جزيرة العرب ومهدها، وبعث الجيوش الإسلامية إلى بلاد فارس صحبة خالد بن الوليد ففتحوا منها طرفا، وجيشا آخر صحبة أبي عبيدة إلى أرض الشام، وجيشا ثالثا صحبة عمرو بن العاصي إلى بلاد مصر، ففتح الله للجيش الشامي في أيامه بصرى ودمشق ومخاليفها من بلاد حوران وما والاها. وتوفاه الله واختار له ما عنده. ومنّ على الإسلام وأهله بأن ألهم الصديق أن يستخلف عمر الفاروق.
فقام في الأمر بعده قياما تاما، لم يدر الفلك بعد الأنبياء على مثله في قوة سيره وكمال عدله، وتم في أيامه فتح البلاد الشامية بكمالها، وديار مصر إلى آخرها، وأكثر إقليم فارس، وكسر كسرى وأهانه غاية الهوان وتقهقر إلى أقصى مملكته، وقصر قيصر وانتزع يده من بلاد الشام، فانحاز إلى قسطنطينية، وأنفق
__________
"بالفتح والتشديد" بلدة بطرف الشام من بلاد البلقاء، فلا تراها هنا، "والنجاشي ملك الحبشة الذي تولى بعد أطحمة رحمه الله" دعاء لأصحمة كما هو ظاهر، إذ هو الذي أسلم، وكان رد المهاجرين إلى الحبشة، ونعاه النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه يوم موته وصلى عليه، أما الذي تولى بعده فكافر، لم يعرف له إسلام ولا اسم، والنجاشي لقب لكل من ملك الحبشة، "ثم لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم واختار الله له ما عنده من الكرامة" التي لا يدرك مداها، "قام بالأمر بعده خليفته أبو بكر الصديق رضي الله عنه فلمَّ": جمع "شعث ما وهى" تفرق "عند موته عليه الصلاة والسلام" من ضعف الأمر بردة قبائل تقدم ذكرها في الرؤيا، ومنع الزكاة حتى رجعوا إلى الحق وهو جواب لما دخلته "الفاء على قلة"، "وأطد"، "بفتح الهمزة والطاء المهملة المشددة ودال مهملة ثبت"، "جزيرة العرب ومهدها، وبعث الجيوش الإسلامية إلى بلاد فارس صحبة خالد بن الوليد" سيف الله، "ففتحوا منها طرفا، وجيشا آخر صحبة أبي عبيدة" عامر بن الجراح، أمين هذه الأمة "إلى أرض الشام، وجيشا ثالثا صحبة عمرو بن العاصي إلى بلاد مصر، ففتح الله للجيش الشامي في أيامه بصرى"، "بضم
الموحدة"، "ودمشق" بكسر الدال وفتح الميم وقد تكسر"، "ومخالفيها جمع مخلاف "بكسر الميم والحاء معجمة" بناء على استعمال مخلاف في غير اليمن، بمعنى الناحية، أي نواحيها "من بلاد حوران" وما والها، وتوفاه الله واختار له ما عنده ومنّ على الإسلام وأهله بأن ألهم الصديق أن يستخلف عمر الفاروق، فقام في الأمر بعده قياما تاما، لم يدر الفلك"، "بفتحتين" بعد الأنبياء" وبعد أبي بكر، كما زاده السخاوي "على مثله في قوة سيره وكمال عدله، وتم في أيامه فتح البلاد
أموالهما في سبيل الله، كما أمر بذلك ووعد به صلى الله عليه وسلم.
ثم لما كانت الدولة العثمانية امتدت الممالك الإسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها، ففتحت بلاد المغرب إلى أقصى ما هنالك أندلس وقيروان وسبتة مما يلي البحر المحيط ومن ناحية المشرق إلى أقصى بلاد الصين، وقتل كسرى، وباد ملكه بالكلية، وفتحت مدائن العراق وخراسان والأهواز، وقتل المسلمون من الترك مقتلة عظيمة جدا، وجيء بالخراج من المشارق والمغارب إلى حضرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان، وذلك ببركة تلاوته ودراسته وجمعه الأمة على حفظ القرآن، فها نحن نتقلب فيما وعدنا الله، ورسوله، وصدق الله ورسوله.
ومن ذلك قوله تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} [البقرة: 61] ، فاليهود أذل الكفار في كل مكان وزمان كما أخبر.
__________
الشامية بكمالها، وديار مصر إلى آخرها، وأكثر إقليم فارس، وكسر": هزم "كسرى، وأهانه غاية الهوان، وتقهقر" رجع "إلى أقصى مملكته، وقصر قيصر وانتزع يده من بلاد الشام، فانحاز إلى قسطنطينية"، "بضم القاف"، "وأنفق أموالهما في سبيل الله، كما أخبر بذلك ووعد به صلى الله عليه وسلم".
وقد قال بعض السلف: خلافة أبي بكر وعمر حق في كتاب الله، ثم تلا هذه الآية، وفي المجالسة عن ابن قتيبة: هذه الآية شاهدة لخلافة الصديق، وقوله: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} ، أي بعد النبي صلى الله عليه وسلم والمراد بقوله: من بعد خوفهم أمنا الصحابة، لأنهم كانوا الخائفين في صدر الإسلام وقبل الهجرة المستضعفين، ثم وجدوا بعد هذا جميع ما وعدهم الله من النصر والظهور والعز، قاله في التماس السعد، "ثم لما كانت الدولة العثمانية" أي خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، "امتدت الممالك الإسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها، ففتحت بلاد المغرب إلى أقصى ما هنالك أندلس"، "بفتح الهمزة والدال وضم اللام" إقليم بالمغرب، "وقيروان"، "بفتح القاف والراء والواو" بلد بإفريقية "وسبتة"، "بفتح المهملة وسكون الموحدة وفوقية" مدينة "مما يلي البحر والمحيط و" فتح "من ناحية المشرق إلى أقصى بلا الصين"، بكسر الصاد: إقليم "وقتل كسرى وباد" هلك "ملكه بالكلية" تصديقا لقوله صلى الله عليه وسلم لما مزق كتابه: "والله ممزقه وملكه". "وفتحت مدائن العراق وخراسان"، "بضم المعجمة والتخفيف" إقليم من الري إلى مطلع الشمس "والأهواز"، "بفتح الهمزة والواو بينهما هاء ساكنة، ثم ألف فزاي" بلد مشهور "وقتل المسلمون من الترك مقتلة عظيمة جدا، وجيء بالخراج من المشارق والمغارب إلى حضرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان، وذلك ببركة تلاوته ودراسته وجمعه الأمة على حفظ
ومن ذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33] ، وهذا ظاهر في العيان بأن دين الإسلام كما أخبر عال على جميع الأديان.
ومن ذلك، قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} إلى آخرها، فكان كما أخبر، دخل الناس في دين الله أفواجا، فما مات عليه الصلاة والسلام وفي بلاد العرب كلها موضع لم يدخله الإسلام, إلى غير ذلك مما يطول استقصاؤه.
__________
القرآن، فها نحن نتقلب فيما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله" وهذا جاء به المصنف من مؤلف لطيف لشيخه السخاوي، سماه التماس السعد في الوفاء بالوعد، وقال عقب هذا: وبهذا ظهر قوله صلى الله عليه وسلم، الذي ثبت في الصحيح: "إن الذي زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها". وقوله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم حين وفد عليه: "أتعرف الحرة"؟. قلت: لم أرها، سمعت بها. قال: "فوالذي نفسي بيده ليتمنَّ الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت في غير جوار أحد، ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز". قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: "نعم كسرى بن هرمز، وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد". قال عدي: فهذه الظعينة تخرج من الحيرة، فتطوف بالبيت في غير جوار، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى، والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها، وقوله: "بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة، والدين والنصر، والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا، لم يكن له في الآخرة نصيب".
"ومن ذلك قوله تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} [آل عمران: 112] ، الذل والهوان {وَالْمَسْكَنَةُ} أي أثر الفقر من السكون والخزي، فهي لازمة لهم وإن كانوا أغنياء لزوم الدرهم المضروب لسكته، "فاليهود أذل الكفار في كل مكان وزمان، كما أخبر" الله تعالى، ومن ذلك أنه ليس لهم مملكة قط، بل هم مبددون في البلدان.
"ومن ذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ} محمدًا صلى الله عليه وسلم: {بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ} يعليه {عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} جميع الأديان المخالفة له {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33] ، ذلك "وهذا ظاهر في العيان"، "بكسر العين" المشاهدة، "بأن دين الإسلام كما أخبر"، بأنه يظهره "عال" مرتفع "على جميع الأديان" باعتبار زاعميها {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} .
"ومن ذلك" الإخبار بالغيب "قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} [النصر: 1] نبيه صلى الله عليه وسلم
القسم الثاني: في ما أخبر به عليه الصلاة والسلام من الغيوب سوى ما في القرءان العزيز فكان كما أخبر به في حياته وبعد مماته.
أخرج الطبراني عن ابن عمر قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "إن الله قد رفع لي الدنيا، فأنا أنظر إليها وإلى ما هو كائن فيها إلى يوم القيامة، كأنما أنظر إلى كفي هذه".
وعن حذيفة قال: قام فينا رسول الله عليه الصلاة والسلام مقاما، فما ترك شيئا في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدث به، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه، قد علمه أصحابي هؤلاء، وإنه ليكون منه الشيء قد نسيته فأراه فأعرفه فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه، ثم إذا رآه عرفه، ثم قال
__________
على أعدائه "والفتح" فتح مكة "إلى آخرها" أي السورة، "فكان كما أخبر، دخل الناس في دين الله أفواجا": جماعات بعدما كان فيه واحد واحد، بعد فتح مكة جاءته العرب من أقطار الأرض طائعين، "فما مات صلى الله عليه وسلم وفي بلاد العرب كلها موضع لم يدخله الإسلام، إلى غير ذلك مما يطول استقصاؤه" تتبعه والكشف عنه.
"القسم الثاني" بيان "ما" أي شيء كثير "أخبر به عليه الصلاة والسلام من الغيوب سوى ما في القرآن العزيز" الغالب على غيره، "فكان" فوجد بعد إخباره "كما أخبر" أي على الوجه الذي أخبر "به" بعضه وقع "في حياته" بعضه وقع "بعد مماته" على طبق ما قال.
"أخرج الطبراني عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد رفع" أي أظهر وكشف "لي الدنيا"، بحيث أحطت بجميع ما فيها، "فأنا أنظر إليها وإلى ما هو كائن فيها إلى يوم القيامة، كأنما أنظر إلى كفي هذه" إشارة إلى أنه نظر حقيقة، دفع به احتمال أنه أريد النظر العلم، ولا يرد أنه إخبار عن مشاهدة، فلا يلاقي الترجمة، لأن إخباره بذلك إخبار عن غيب عن الناس ثم يعلم باعتبار صدقه ووجوب اعتقاد ما يقوله أن كل ما علمه الناس بعده من جملة ما رآه رفعت له الدنيا صلى الله عليه وسلم.
"وعن حذيفة" بن اليمان رضي الله عنهما، "قال: قام" أي خطيبا، فعبر بالقيام عن الخطبة، لأن الخطيب يخطب قائما "فينا"، أي الصحابة، أي قام ونحن عنده، فالظرفية مجازية "رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما"، "بفتح الميم" اسم لموضع القيام، ومنه: {لَا مُقَامَ لَكُمْ} ، أي لا موضع، أما على قراءة "ضم الميم" فالمراد موضع الإقامة أو نفس الإقامة، بجعله مصدرا من أقام، "فما ترك
حذيفة: ما أدري أنسي أصحابي أم تناسوه؟ والله ما ترك رسول الله عليه الصلاة والسلام من قائد فتنة إلى أن تنقضي الدنيا يبلغ من معه ثلثمائة فصاعدا إلا سماه لنا باسمه واسم أبيه وقبيلته. رواه أبو داود.
وروى مسلم من حديث ابن مسعود في الدجال: فيبعثون عشرة فوارس طليعة، قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "إني لأعرف أسماءهم وأسماء آبائهم وألوان خيولهم، هم خير فوارس على ظهر الأرض يومئذ".
__________
شيئا" يكون كما في أبي داود، أي يوجد ويحدث بعده من فهم أحوال المسلمين، ومن يتولى أمورهم بعده، وما يكون بعده من الفتن، والحرب، فيكون تامة، والجملة صفة "شيئا"، "في مقامه ذلك" من وضع الظاهر موضع المضمر، لكمال العناية به "إلى قيام الساعة" القيامة "إلا حدث به" أي ذكر أنه سيوجد، والفعل في تأويل الاسم، كقولهم: أنشدك الله لا فعلت، والاستثناء متصل لدخول المحدث به في "شيئا"، وقيل: منقطع بمعنى لكن، "حفظه" أي ما حدث به "من حفظه" أي استمر على حفظه بعض من سمعه لاعتنائهم به، "ونسيه من نسيه" ممن سمعه، أي لم يداوموا بذكرهم له فنسوه، وأفرد ضمير حفظه ونسيه رعاية للفظ "شيئا"، "قد علمه أصحابي هؤلاء" الحاضرون عنده من الصحابة، "وأنه" أي الشأن "ليكون" يوجد "منه الشيء" في الخارج، "قد نسيته" لطول العهد "فأراه" بعد وجوده، "فأعرفه فأذكره" أي أتذكره وأستحضره، "كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه، ثم إذا رآه عرفه" فيه تقديم وتأخير أي كما أن الرجل إذا غاب عنه رجل كان يعرف وهه وسمته، وهو في مخيلته، لكنه لم يذكره، فإذا رآه تذكره وعرفه، فليس إذا متعلقا بيذكر، بل ينسى المعلوم من الكلام، وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس تشبيها تمثيليا "ثم قال حذيفة: ما أدري أنسي أصحابي" هذا الحديث "أم تناسوه"، أي أظهروا نسيانه خوف الفتنة، لا لقلة الاهتمام به، كما زعم، بل لأنه من الأسرار التي لا ينبغي أن يحدث بها كل أحد، "والله" أقسم للتأكيد "ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم من قائد"، "بقاف ودال مهملة" ومن زائدة، أي محرك "فتنة" محاربة وإيقاع ضرر بالمسلمين، كالحجاج وغيره الذين معهم جند تتبعهم، كما يتبع الجمل والفرس من يقوده، وفيه استعارة بالكناية، شبه الفتنة بخيل تقاد بمقاودها، وأثبت لها القائد تخييلا، "إلى أن تنقضي الدنيا" تتم وتنتهي مدتها، ويخرب العالم "يبلغ" يصل "من معه" من أتباعه، والضمير للقائد "ثلاثمائة فصاعدا إلا" قد "سماه لنا" صلى الله عليه وسلم "باسمه واسم أبيه وقبيلته" التي عرف بها أعم من كونها منها نسبا أو حلفا أو مقيما عندهم أو غير ذلك، بحيث لم يبق فيه شبهة، والجملة صفة قائد فتنة، أي أنه إنما ذكر منهم من جمعه ثلاثمائة، فأزيد، فإن نقص عنها لم يذكره
فوضح من هذا الخبر وغيره مما سيأتي من الأخبار، وسنح من خواطر الأبرار الأخيار أنه عليه الصلاة والسلام عرفهم بما يقع في حياته وبعد موته، وما قد انحتم وقوعه فلا سبيل إلى فوته.
__________
"رواه أبو داود" من طريق أبي وائل، عن حذيفة به، وروى صدره الشيخان، حتى قوله: عرفه، ولذا عزاه المصنف لأبي داود لزيادة، ثم قال حذيفة إلى آخر الحديث.
"وروى مسلم" في أواخر صحيحه، في كتاب الفتن، "من حديث ابن مسعود في" أمر "الدجال" من طريق أبي قتادة العدوي، عن يسير بن جابر "بضم التحتية فسين مهملة مصغر" أو يقال أصله أسير، فسهلت الهمزة، قال: هاجت ريح حمراء بالكوفة، فجاء رجل ليس له هجيري، ألا يا عبد الله بن مسعود جاءت الساعة، قال: فقعد وكان متكئا، فقال: إن الساعة لا تقوم حتى لا يقسم ميراث ولا يفرح بغنيمة، ثم قال: بيده هكذا ونحاها نحو الشام، فقال: عدو يجتمعون لأهل الشام، ويجتمع لهم أهل الشام، قلت: الروم، يعني قال: نعم، ويكون عند ذلكم القتال ردة شديدة "بفتح الراء" أي هزيمة، فيشترط المسلمون شرطة الموت، لا ترجع إلا غالبة، فيقتتلون حتى يحجز بينهم الليل، فيبقى هؤلاء وهؤلاء، كل غير غالب وتفنى الشرطة، ثم يشترط المسلمون شرطة الموت، لا ترجع إلا غالبة، فيقتتلون حتى يمسوا، فيبقى هؤلاء وهؤلاء كل غير غالب وتفنى الشرطة، فإذا كان اليوم الرابع نهد إليهم بقية الإسلام، فيجعل الله الدبرة عليهم فيقتتلون مقتلة إما قال لا يرى مثلها، وإما قال لم ير مثلها، حتى أن الطائر ليمر بجنبتهم، فما يخلفهم حتى يخر ميتا، فيتعاد بنو الأب، كانوا مائة فلا يجدون بقي منهم إلا الرجل الواحد، فبأي غنيمة يفرح، أو أي ميراث يقاسم، فبينما هم كذلك إذ سمعوا بناس هم أكثر من ذلك، فجاءهم الصريخ أن الدجال قد خلفهم في ذراريهم، فيرفضون ما في أيديهم، ويقبلون، "فيبعثون عشرة فوارس طليعة"، "بطاء مهملة بوزن فعيلة" القوم، يبعثون أما الجيش، يتعرفون طلع العدو "بالكسر" أي خبره.
"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم": "إني لأعرف أسماءهم وأسماء آبائهم، وألوان خيولهم" التي يركبون عليها، "هم خير فوارس على ظهر الأرض يومئذ" أو من خير فوارس على ظهر الأرض يومئذ، هكذا في مسلم بالشك لبذلهم نفوسهم في نصر دين الله تعالى، وقوله: ليس له هجيري "بكسر الهاء والجيم مشددة والقصر"، أي شأن ودأب، وقوله: فيشترط المسلمون ضبط بوجهين "بتحتية ثم فوقية، وفتح الشين والراء المشددة، فطاء وبتحتية فشين ساكنة، ففوقية فطاء مهملة"، والشرطة "بضم المعجمة" أول طائفة من الجند تتقدم للقتال، ومعنى نهد بدال مهملة نهض، والدبرة "بفتح المهملة وسكون الموحدة" أي الهزيمة على الروح، وقوله فما يخلفهم، أي
وقال أبو ذر: لقد تركنا رسول الله عليه الصلاة والسلام وما يحرك طائر جناحيه في السماء إلا ذكرنا منه علما.
ولا شك أن الله تعالى قد أطلعه على أزيد من ذلك، وألقى عليه علم الأولين والآخرين. وأما علم عوارف المعارف الإلهية فتلك لا يتناهى عددها، وإليه عليه الصلاة والسلام ينتهي مددها.
ومن ذلك ما رواه الشيخان عن أبي هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام نعى النجاشي للناس في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وصلى عليه وكبر أربع تكبيرات.
وفي حديث أنس عند أحمد والبخاري: أن النبي عليه الصلاة والسلام صعد أحدًا، ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم الجبل فضربه برجله وقال له: "اثبت
__________
يتجاوزهم، "فوضح" انكشف وانجلى "من هذا الخبر وغيره مما سيأتي من الأخبار، وسنح"، "بمهملتين بينهما نون"، أي ظهر وعبر به تفننا، إذ هو بمعنى وضح "من خواطر الأبرار الأخيار أنه صلى الله عليه وسلم عرفهم" أعلمهم "بما يقع في حياته وبعد موته، وما قد انحتم وقوعه" أي وجب وجوبا لا يمكن إسقاطه، "فلا سبيل إلى فوته" بل لا بد منه.
"وقال أبو ذر" في حديث رواه أحمد والطبراني وغيرهما: "لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي ذهب عنا وانتقل إلى الآخرة "و" الحال أنه "ما يحرك طائر جناحيه في" جو "السماء إلا ذكرنا منه علما" أي عرفنا بعلامات فيه تدل على أشياء تقصد من طيرانه على الصفة التي هو عليها، كذا في الشرح.
وقال غيره: أي ذكر لنا من طيرانه علما يتعلق به، فكيف بغيره مما يهمنا في الأرض، وهذا تمثيل لبيان كل شيء تفصيلا تارة، وإجمالا أخرى، والمعنى لم يدع شيئا إلا بينه لنا، بحيث لا يخفى علينا شيء بعده، وقد كان خطب قبل وفاته خطبا، أطال فيها مرة من الصباح إلى الظهر ومرة من الظهر إلى قبيل الغروب، لم يدع شيئا إلا بينه لأصحابه.
وفي رواية: إلا ذكر لنا منه علما، "ولا شك أن ال,
اعلم أن علم الغيب يختص بالله تعالى، وما وقع منه على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام وغيره فمن الله تعالى، إما بوحي أو إلهام، والشاهد لهذا قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 27] ، ليكون معجزة له.
واستدل به على إبطال الكرامات.
وأجيب: بتخصيص الرسول بالملك، والإظهار بما يكون بغير توسطه،
__________
الفصل الثالث: في إنبائه
"بكسر الهمزة" أي إخباره "صلى الله عليه وسلم بالأنباء" "بفتح الهمز" جمع نبأ "بالهمز" أي الأخبار "المغيبات" أي الأمور التي بعدت عنا، فلم يتعلق علمنا بها.
"اعلم أن علم الغيب" أي ما غاب عنا جمعه غيوب، "يختص بالله تعالى" علام الغيوب، "وما وقع منه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم" وعلى لسان "غيره" من الأنبياء والصالحين، "فمن الله تعالى، إما بوحي" للأنبياء "أو إلهام" لغيرهم، "والشاهد لهذا" أي الدليل عليه "قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ} ما غاب عن العباد، {فَلَا يُظْهِرُ} يطلع {عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} من الناس {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} ، "ليكون" العلم به "معجزة له" أي لمن أظهر على يديه.
وكرامات الأولياء على المغيبات إنما تكون برؤيا الملائكة، كإطلاق اطلاعنا على أحوال الآخرة بتوسط الأنبياء، وفي حديث مر: أنه عليه الصلاة والسلام قال: "والله إني لا أعلم إلا ما علمني ربي". فكل ما ورد عنه عليه الصلاة والسلام من الأنباء المنبئة عن الغيوب ليس هو إلا من إعلام الله له به، إعلاما على ثبوت نبوته، ودلائل على صدق رسالته، وقد اشتهر وانتشر أمره عليه الصلاة والسلام بين أصحابه بالاطلاع على الغيوب، حتى إن كان بعضهم ليقول لصاحبه: اسكت فوالله لو لم يكن عنده من يخبره لأخبرته حجارة البطحاء، ويشهد له قول ابن رواحة:
وفينا رسول الله يتلو كتابه ... إذا انشق معروف من الصبح ساطع
__________
"واستدل به على إبطال الكرامات" لأنها إذا كانت إخبارا عن غيب، فالعلم بها مناف لقوله: {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} ، فإن المستثنى منه شامل لما يظهر على يد بعض الأولياء من اغيب.
"وأجيب بتخصيص الرسول بالملك والإظهار بما يكون بغير توسطه" أي الملك "وكرامات الأولياء" الحاصلة باطلاعهم "على المغيبات" فهو متعلق بمحذوف، "إنما تكون برؤيا الملائكة" للغيوب، ويلقون ما يطلعون عليه إلى من شاء الله بوحي أو إلهام، فلا حاجة إلى تأويل رؤيا براءة الملاكئة للناس، وأن يطلعوهم على ذلك بطريق من الطرق، "كإطلاق اطلاعنا على أحوال الآخرة" أي علمنا بها "بتوسط الأنبياء".
"وفي حديث مر" في غزوة تبوك: "أنه عليه الصلاة والسلام قال" لما ضلت ناقته وقال بعض المنافقين: لو كان نبيا لعلم مكانها فقال صلى الله عليه وسلم: "والله إني لا أعلم إلا ما علمني ربي" وأنه أخبرني أنها بمكان، كذا حبستها شجرة، وأرسل فأتى بها، "فكل ما ورد عنه عليه الصلاة والسلام من الأنباء المنبئة عن الغيوب ليس هو إلا من إعلام الله له به" لتكون تلك الغيوب "أعلاما" "بفتح الهمزة" جمع علم، أي دلائل "على ثبوت نبوته ودلائل" أي علامات "على صدق رسالته" "عطف تفسير"، وقد تواترت الأخبار واتفقت معانيها على اطلاعه صلى الله عليه وسلم على الغيب، كما قال عياض، ولا ينافي الآيات الدالة على أنه لا يعلم الغيب إلا الله، وقوله: {لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} ، لأن المنفي علمه من غير واسطة، كما أفاده المتن، أما اطلاعه عليه بإعلام الله، فمحقق لقوله: {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} .
قال في لطائف المنن: اطلاع العبد على غيب من غيوب الله بنور منه، لدليل خبر: "اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله" لا يستغرب، وهو معنى "كنت بصره الذي يبصر به"، فمن كان الحق بصره أطلعه على غيبه، فلا يستغرب.
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات أن ما قال واقع
وقول حسان بن ثابت:
__________
وقال بعض العارفين: قوله: {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} ، لا ينافي قول العارف المرسي في تفسيرها، أو صديق، أو ولي، ولا زيادة فيه على النص، فإن السلطان إذا قال: لا يدخل علي اليوم إلا الوزير، لا ينافي دخول أتباع الوزير معه، فكذلك الولي إذا أطلعه الله على غيبه لم يره بنور نفسه، وإنما رآه بنور متبوعه، وما كلفنا الله الإيمان بالغيب إلا وقد يفتح لنا باب غيبه، وإلى هذا أشار الغزالي في أماليه على الإحياء، ثم قال: ويحتمل أن المراد بالرسول في الآية ملك الوحي، الذي بواسطته تنكشف الغيوب، فيرسله للإعلام بمشافهة، أو إلقاء في روع، أو ضرب مثل في يقظة، أو منام، ليطلع على الغيب من أراد، وفائدة ذلك الامتنان على من رزقه الله ذلك، وإعلامه بأنه لم يصل إليه بحوله وقوته، فلا يظهر على غيبه أحدا من عباده إلا على يدي رسول من ملائكته، أرسله لمن فرغ قلبه لانصباب أنهار العلوم الغيبية في أوديته، حتى يصل لأسرار الغيب المكنونة في خزائن الألوهية. انتهى.
وهو نفيس من المهمات، والثاني: هو ما أشار إليه المصنف بقول: واستدل ... إلخ، تبعا للبيضاوي، لكن لم ينمقه هذا التنميق الحسن.
"وقد اشتهر وانتشر أمره عليه الصلاة والسلام بين أصحابه" ولو ظاهرا كالمنافقين والمؤلفة، "بالاطلاع على الغيوب، حتى أن" مخففة من الثقيلة، أي أنه "كان بعضهم" أي بعض أصحابه بحسب الظاهر، وهم بعض المؤلفة قبل خلوص إسلامهم والمنافقون، "ليقول لصاحبه" أي من هو معه: إذا أراد أن يتكلم بشيء في حقه صلى الله عليه وسلم "اسكت": لا تنطق بشيء من أمره، "فوالله لو لم يكن عنده من يخبره" بما نقوله في شأنه من ملك ونحوه، "لأخبرته حجارة البطحاء" أرض مستوية يسيل فيها، وحجارتها ما فيها من الحصباء، أي أنها تخبره بما غاب عنه حقيقة، إن فرض أنه ليس عنده من يخبره غيرها، فلا داعي لجعله مبالغة في هذا المقام.
روي أنه صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة وأمر بلالا، بأن يؤذن فوق الكعبة، قال عتاب بن أسيد: لقد أكرم الله أسيدا إذا لم ير هذا اليوم، وقال الحارث بن هشام: أما وجد محمد مؤذنا غير هذا الغراب الأسود.
وقال أبو سفيان بن حرب: لا أقول شيئا، ولو تكلمت لأخبرته هذه الحصباء، فخرج صلى الله عليه وسلم وقال: قد علمت الذي قلتم، وذكر مقالتهم، فقال الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول الله، ما كان معنا أحد فنقول: أخبرك، ثم حسن إسلام الثلاثة بعد، فالغاية إنما تتعلق ببعض المؤلفة والمنافقين، وسماهم أصحابه بحسب الظاهر، كما أشرت إليه، فأما أصحابه المؤمنون، فإنهم جازمون بإطلاعه
نبي يرى ما لا يرى الناس حوله ... ويتلو كتاب الله في كل مشهد
فإن قال في يوم مقالة غائب ... فتصديقها في ضحوة اليوم أو غد
وهذا الفصل ينقسم قسمين:
الأول: فيما أخبر به عليه الصلاة والسلام مما نطق به القرآن العظيم.
من ذلك: في قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} إلى قوله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة: 24] ، فقوله: {وَلَنْ تَفْعَلُوا} إخبار عن غيب تقضي العادة بخلافه.
ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنعام: 7] الآية فإنها كان لقريش قافلتان:
__________
على الغيب، لكنهم لا يتكلمون بشيء في حقه، ولا يريدون إخفاء كلام عنه حتى يأمر بعضهم بعضا بالسكوت، ولذا قصر في شفاء الغاية على المنافقين، "ويشهد له قول ابن رواحة" عبد الله الأنصاري، الأمير، الشهيد بموته من قصيدة: "وفينا رسول الله يتلو كتابه" القرآن "إذا انشق معروف من الصبح ساطع" أي مرتفع، يقال: سطع الصبح يسطع "بفتحتين": ارتفع "أرانا الهدى" يعني الإيمان "بعد العمى" أي الكفر "فقلوبنا به" أي بالهدى "موقنات أن ما قال واقع" لا محالة.
"وقول حسان بن ثابت" الأنصاري في جملة قصيدة: "نبي يرى ما لا يرى الناس حوله" كرؤيته لجبريل وغيره من الملائكة، وكرؤيته الجنة والنار وغيرهما في صلاة الكسوف دون الناس وهم حوله.
وقد قال: إني أرى ما لا ترون، "ويتلو كتاب الله" القرآن العظيم "في كل مشهد" محضر، "فإن قال في يوم مقالة غائب" أي مقالة أخبر بها عن أمر غائب، "فتصديقها" أي نسبتها إلى الصدق حاصل بسرعة، فيظهر "في ضحوة اليوم" الذي قالها فيه، "أو غد" أي ما يليه "وهذا الفصل ينقسم قسمين: الأول: فيما أخبر به عليه الصلاة والسلام مما نطق به القرآن العظيم، من ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} شك {مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن أنه من عند الله، {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} " أي المنزل، ومن للبيان، أي هي مثله في البلاغة وحسن النظم والأخبار عن الغيب، فإنكم عربيون فصحاء، مثله، "إلى قوله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} " ما ذكر لعجزكم، {وَلَنْ تَفْعَلُوا} ذلك أبدًا لظهور إعجازه، "فقوله: {وَلَنْ تَفْعَلُوا} إخبار عن غيب" هو عدم
إحداهما ذات غنيمة دون الأخرى، فأخبر الله تعالى عما في ضمائرهم، وأنجز لهم ما وعد، ولا شك أن الوعد كان قبل اللقاء، لأن الوعد بالشيء بعد وقوعه غير جائز.
ومن ذلك قوله تعالى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45] ، وهذا إخبار عن المستقبل، لأن "السين" تعين الاستقبال، يعني كفار قريش يوم بدر، وقد كان عددهم ما بين تسعمائة إلى ألف، وكانوا مستعدين بالمال والسلاح، وكان عدد المسلمين ثلاثمائة عشر رجلا، وليس معهم إلا فرسان، إحداهما للزبير بن العوام، والأخرى للمقداد بن الأسود فهزم الله المشركين ومكن المسلمين من قتل أبطالهم واغتنام أموالهم.
__________
إتيانهم بسورة من مثله "تقضي العادة بخلافه" لأنهم كانوا غاية في البلاغة، مع استنكافهم أن يغلبوا خصوصا في الفصاحة، فما فعلوا ولا قدروا، ومر بسط هذا في المعجزات.
"ومن ذلك قوله تعالى": اذكر {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ} [الأنفال: 7] ، العير أو النفير {أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ} تريدون {أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ} ، أي البأس والسلاح {تَكُونُ لَكُمْ} " لقلة عَددها، وعُددها بخلاف النفير، "الآية فإنها" أي القصة، وفي نسخة: فإنه، أي الشأن "كان لقريش قافلتان، إحداهما ذات غنيمة دون الأخرى، فأخبر الله تعالى عما في ضمائرهم" وهو ودهم للغنيمة دون القتال، "وأنجز لهم ما وعد" من النصر البالغ يوم بدر، "ولا شك أن الوعد كان قبل اللقاء، لأن الوعد بالشيء بعد وقوعه غير جائز" إذ هو مجرد عبث.
"ومن ذلك قوله تعالى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45] ، قال الزجاج: يعني الأدبار، لأن اسم الواحد يقع على الجمع، أي سيفرق جمعهم ويغلبون، "وهذا إخبار عن المستقبل، لأن السين تعين الاستقبال يعني" بالجمع "كفار قريش يوم بدر" وفيه علم من أعلام النبوة، لأن الآية: نزلت بمكة، وأخبرهم أنهم سيهزمون في الحرب، فكان كما قال.
وعند ابن أبي حاتم عن عكرمة، وعبد الرزاق, عن معمر، عن قتادة أن عمر بن الخطاب قال: لما نزلت، أي جمع يهزم، أي جمع يغلب، قال: فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم تثبت في الدرع، وهو يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} ، فعرفت تأويلها يومئذ، "وقد كان عددهم ما بين تسعمائة إلى ألف" أي تسعمائة وخمسين مقاتلا عند ابن عقبة وابن عائذ.
وفي صحيح مسلم عن عمر: كانوا ألفا، وهو أولى بالصواب على أنه يمكن الجمع، بأن الخمسين غير مقاتلين، لأنهما قيدا بمقاتلا، ومر بسط ذلك، "وكانوا مستعدين بالمال والسلاح،
ومن ذلك في كفار قريش: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} [آل عمران: 151] ، يريد ما قذف في قلوبهم من الخوف يوم أحد حتى تركوا القتال ورجعوا من غير سبب، ونادى أبو سفيان: يا محمد! موعدنا موسم بدر القابل إن شئت، فقال عليه الصلاة والسلام: "إن شاء الله تعالى". قيل: لما رجعوا وكانوا ببعض الطريق ندموا، وعزموا أن يعودوا عليهم ليستأصلوهم، فألقى الله تعالى الرعب في قلوبهم.
ومن ذلك قوله تعالى: {الم، غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 601] إلى قوله: {لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} ، وسبب نزول هذه الآية أن كسرى وقيصر تقاتلا فغلب كسرى قيصر، فساء المسلمين ذلك، لأن الروم أهل كتاب، ولتعظيم قيصر كتاب النبي صلى الله عليه وسلم وتمزيق كسرى كتابه، وفرح المشركون به، فأخبر الله تعالى بأن الروم بعد أن غلبوا سيغلبون في بضع سنين، والبضع ما بين
__________
وكان عدد المسلمين ثلاثمائة وثلاثة عشر رلا" على أرجح الأقوال، "وليس معهم إلا فرسان، أحدهما للزبير بن العوم، والأخرى للمقداد بن الأسود، فهزم الله المشركين ومكن المسلمين، من قتل أبطالهم" سبعين، "و" من "اغتنام أموالهم" وأسر سبعين.
"ومن ذلك في كفار قريش: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} بسكون العين وضمها {بِمَا أَشْرَكُوا} بسبب إشراكهم {بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} حجة على عبادته، وهو الأصنام، "يريد ما قذف" تفسير نلقي "في قلوبهم من الخوف" تفسير الرعب "يوم أحد حتى تركوا القتال، ورجعوا من غير سبب" بحسب الظاهر، "ونادى أبو سفيان" صخر بن حرب: "يا محمد! موعدنا موسم بدر القابل" أي الآتي بعد هذا، وفي نسخ: لقابل، أي لعام قابل "إن شئت فقال عليه الصلاة والسلام" لعمر بن الخطاب: قل: "نعم هو موعد بيننا وبينكم إن شاء الله تعالى".
"قيل: لما رجعوا وكانوا ببعض الطريق ندموا، وعزموا أن يعودوا عليهم" على المؤمنين "ليستأصلوهم" بالقتل، "فألقى الله تعالى الرعب في قلوبهم" فاستمروا راجعين.
ومن ذلك قوله تعالى: {الم، غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} [الروم: 1-3] ، أي أقرب أرض الروم إلى فارس، بالجزيرة التي التقى فيها الجيشان والبادئ بالغزو الفرس {وَهُمْ} أي الروم {مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ} .
أضيف المصدر إلى المفعول به، أي غلبة فارس إياهم، {سَيَغْلِبُونَ} فارس {فِي بِضْعِ
الثلاثة إلى العشرة، فغلبت الروم أهل فارس يوم الحديبية، وأخرجوهم من بلادهم، وذلك بعد سبع سنين.
ومن ذلك، قوله تعالى: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا} [الجمعة: 7] ، فأخبر أنهم لا يتمنون الموت بالقلب ولا بالنطق باللسان مع قدرتهم عليه أبدا، فأخبر فوجد مخبره كما أخبر، فلو لم يعلموا ما يلحقهم من الموت لسارعوا إلى تكذيبه، بالتمني، ولو لم يعلم ذلك لخشي أن يجيبوا إليه فيقضى عليه بالكذب، قال البيضاوي: وهذه الجملة إخبار بالغيب وكان كما أخبر، لأنهم لو تمنوا الموت ثقل وانتشر، فإن التمني ليس من عمل القلب فيخفى، وروي مرفوعا: "لو تمنوا الموت لغص كل إنسان منهم بريقه فمات مكانه وما بقي يهودي على وجه الأرض".
ومن ذلك قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
__________
سِنِينَ} إلى قوله: {لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} بالنصر، "وسبب نزول هذه الآية أن كسرى" ملك الفرس، "وقيصر" ملك الروم "تقاتلا، فغلب كسرى قيصر، فساء" أحزن "المسلمين ذلك، لأن الروم أهل كتاب" وفارس عباد أوثان، "ولتعظيم قيصر كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، وتمزيق كسرى كتابه" من باب العلة الغائية، وإلا فالآية مكية، والكتابة إليهما وإلى غيرهما من الملوك إنما كانت سنة سبع من الهجرة، "وفرح المشركون به" وقالوا للمسلمين: نحن نغلبكم كما غلبت فارس الروم، وهذا السبب رواه ابن أبي حاتم عن الزهري بلاغا، "فأخبر الله تعالى بأن الروم بعد أن غلبوا سيغلبون في بضع سنين، والبضع ما بين الثلاثة إلى العشرة، فغلبت الروم أهل فارس يوم الحديبية وأخرجوهم من بلادهم، وذلك بعد سبع سنين" من غلبة فارس على الروم.
"ومن ذلك قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 94] تعلق بتمنيه الشرطان على أن الأول قيد في الثاني، أي إن صدقتم في زعمكم أنها لكم، ومن كانت له يؤثرها والموصل إليها، فتمنوه {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة: 94] "فأخبر" بالبناء للمفعول النبي، أي أخبره الله "أنهم لا يتمنون الموت بالقلب، ولا" يتمنونه "بالنطق باللسان مع قدرتهم عليه أبدا" فنفى عنهم تمنيه في جميع الأزمنة المستقبلة بقوله: {أَبَدًا} ، وبقوله: {لَنْ} ، "فأخبر" صلى الله عليه وسلم بذلك الذي أوحي إليه، "فوجد مخبره، كما أخبره فلو لم يعلموا ما يلحقهم من الموت"، أي العذاب الأليم بعده "لسارعوا إلى تكذيبه بالتمني", إذ هم أحرص شيء على تكذيبه لو قدروا "ولو لم يعلم ذلك" صلى الله عليه وسلم "لخشي أن يجيبوا إليه، فيقضى عليه بالكذب،" فظهر
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 55] الآية.
هذا وعد من الله لرسوله عليه الصلاة والسلام بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض، أئمة الناس والولاة عليهم، وبهم تصلح البلاد، وتخضع لهم العباد،
__________
بذلك معجزته، وبانت حجته بصدق خبره عن الغيب.
"قال البيضاوي: وهذه الجملة إخبار بالغيب، وكان كما أخبر، لأنهم لو تمنوا الموت لثقل وانتشر، فإن التمني ليس من عمل القلب فيخفى", بل هو أن يقول: ليت كذا، ولو كان بالقلب لقالوا تمنينا، هذا كلام البيضاوي، وهو اختصار لقول الكشاف: إن قلت التمني من أعمال القلوب، وهو سر لا يطلع عليه أحد، فمن أين علم أنهم لن يتمنوه، قلت: ليس التمني من أعمال القلوب، وإنما هو قول الإنسان بلسانه: ليت لي كذا، وليت كلمة تمنٍ، ومحال أن يقع التحدي بما في الضمائر والقلوب، ولو كان بالقلوب لقالوا: قد تمنيناه بقلوبنا، ولم ينقل أنهم قالوه.
قال القطب في حواشيه: استدل على أن التمني ليس من أفعال القلوب، بأن التحدي إنما يكون بأمر ظاهر، وفيه أن التحدي إنما يكون بإظهار المعجز لإلزام من لم يقبل الدعوى، والتمني ليس بمعجز، فهو كقول الخصم: احلف لي إن كنت صادقا، ويمكن أن يقال التحدي هنا لطلب دفع المعجزة، فإن إخباره بأنهم لن يتمنوه أبداً معجزة، طلب دفعها بتمنيهم، والدفع إنما يكون بأمر ظاهر.
"وروي مرفوعا: لو تمنوا الموت لغص" "بفتح المعجمة والصاد المهملة"، أي مات، كما جز به التلمساني وضبطه غيره "بضم المعجمة وفتح المهملة المشددة"، وهما لغتان، "كل إنسان منهم بريقه" أي رضاب فمه، وخصه لأنه إذا جف فمه أسرع هلاكه، "فمات مكانه" سريعا، "وما بقي يهودي على وجه الأرض"، كذا ساق الحديث البيضاوي، وأشار محشيه الحافظ السيوطي، إلى أنه لم يرد بهذ اللفظ، فقال: أخرج البخاري والترمذي عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه" ولابن جرير من وجه آخر عن ابن عباس، موقوفا: "لو تمنوه يوم قال ذلك ما بقي على وجه الأرض يهودي إلا مات"، وللبيهقي عنه، رفعه: "لا يقولها رجل منهم إلا غص بريقه". انتهى.
وأخرجه أحمد بسند جيد عن ابن عباس، مرفوعا: "لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا" وأخرجه البيهقي من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، رفعه: "والذي نفسي بيده، لا يقولها رجل منهم إلا غص بريقه"، وبهذا اللفظ الأخير، أورده في الشفاء وقال: يعني يموت مكانه، وقدمت هذا وما قبله في وجوه إعجاز القرآن.
"ومن ذلك قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ
{وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ} من الناس {أَمْنًا} وحكما فيهم، وقد فعل ذلك فيهم ولله الحمد والمنة، فإنه لم يمت عليه الصلاة والسلام حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين وسائر جزيرة العرب وأرض اليمن بكمالها، وأخذ الجزية من مجوس هجر، ومن بعد أطراف الشام، وهاداه هرقل ملك الروم، وصاحب مصر والإسكندرية، وهو المقوقس، وملوك عمان، والنجاشي ملك الحبشة الذي تولى بعد أصحمة رحمه الله.
ثم لما مات رسول الله عليه الصلاة والسلام واختار الله له ما عنده من الكرامة، قام بالأمر بعد خليفته أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- فلمَّ شعث ما
__________
فِي الأَرْضِ} ، بدلا من الكفار، {كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 55] من بني إسرائيل بدلا عن الجبابرة، "الآية" سبب نزولها ما أخرجه ابن مردويه في تفسيره والدارمي، ومن طريقه الطبراني والضياء في المختارة، والحاكم، وصححه عن أبي بن كعب، قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة، وآوتهم الأنصار، رمتهم العرب عن قوس واحدة، فكانوا لا يبيتون إلا بالسلاح، ولا يصبحون إلا فيه، فقالوا: ترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين، لا نخاف إلا الله، "هذا وعد من الله لرسول صلى الله عليه وسلم بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض، أئمة الناس" قادتهم، "و" يجعلهم "الولاة" أي الحكام "عليهم، وبهم تصلح البلاد، وتخضع" وتذل "لهم العباد" وهذا كالتفسير لقوله: {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} ، وهو الإسلام، بأن يظهره على جميع الأديان، ويوسع لهم في البلاد فيملكونها، {وَلَيُبِدِّلَنَّهُمْ} "بالتخفيف والتشديد"، " {مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ} من الناس" الكفار " {أَمْنًا} وحكما فيهم"، "لفظا ومعنى"، "وقد فعل تعالى ذلك فيهم، والحمد لله والمنة"؛ لأن وعده عز وجل متحتم الوقوع، "فإنه لم يمت صلى الله عليه وسلم حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين" بلفظ تثنية بحر اسم لموضع بين البصرة وعمان, "وسائر جزيرة العرب".
قال أبو عبيدة: هي ما بين حفر أبي موسى إلى أقصى تهامة طولا، وأما العرض فما بين يبرين إلى منقطع السماوة.
وقال الأصمعي: هي ما بين عدن أبين إلى أطراف الشام طولا، وأما العرض فمن جدة وما والاها من شاطئ البحر إلى ريف العراق "وأرض اليمن بكمالها", وهو إقليم كبير معروف، "وأخذ الجزية من مجوس هجر"، "بفتحتين" إقليم معلوم، "ومن بعد أطراف الشام" كأيلة وغيرها، "وهاداه هرقل ملك الروم وصاحب مصر والإسكندرية، وهو المقوقس" مع أنه لم يسلم واحدة منهما "وملوك عمان"، "بضم العين وتخفيف الميم" موضع باليمن، أما عمان:
وهي عند موته عليه الصلاة والسلام وأطد جزيرة العرب ومهدها، وبعث الجيوش الإسلامية إلى بلاد فارس صحبة خالد بن الوليد ففتحوا منها طرفا، وجيشا آخر صحبة أبي عبيدة إلى أرض الشام، وجيشا ثالثا صحبة عمرو بن العاصي إلى بلاد مصر، ففتح الله للجيش الشامي في أيامه بصرى ودمشق ومخاليفها من بلاد حوران وما والاها. وتوفاه الله واختار له ما عنده. ومنّ على الإسلام وأهله بأن ألهم الصديق أن يستخلف عمر الفاروق.
فقام في الأمر بعده قياما تاما، لم يدر الفلك بعد الأنبياء على مثله في قوة سيره وكمال عدله، وتم في أيامه فتح البلاد الشامية بكمالها، وديار مصر إلى آخرها، وأكثر إقليم فارس، وكسر كسرى وأهانه غاية الهوان وتقهقر إلى أقصى مملكته، وقصر قيصر وانتزع يده من بلاد الشام، فانحاز إلى قسطنطينية، وأنفق
__________
"بالفتح والتشديد" بلدة بطرف الشام من بلاد البلقاء، فلا تراها هنا، "والنجاشي ملك الحبشة الذي تولى بعد أطحمة رحمه الله" دعاء لأصحمة كما هو ظاهر، إذ هو الذي أسلم، وكان رد المهاجرين إلى الحبشة، ونعاه النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه يوم موته وصلى عليه، أما الذي تولى بعده فكافر، لم يعرف له إسلام ولا اسم، والنجاشي لقب لكل من ملك الحبشة، "ثم لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم واختار الله له ما عنده من الكرامة" التي لا يدرك مداها، "قام بالأمر بعده خليفته أبو بكر الصديق رضي الله عنه فلمَّ": جمع "شعث ما وهى" تفرق "عند موته عليه الصلاة والسلام" من ضعف الأمر بردة قبائل تقدم ذكرها في الرؤيا، ومنع الزكاة حتى رجعوا إلى الحق وهو جواب لما دخلته "الفاء على قلة"، "وأطد"، "بفتح الهمزة والطاء المهملة المشددة ودال مهملة ثبت"، "جزيرة العرب ومهدها، وبعث الجيوش الإسلامية إلى بلاد فارس صحبة خالد بن الوليد" سيف الله، "ففتحوا منها طرفا، وجيشا آخر صحبة أبي عبيدة" عامر بن الجراح، أمين هذه الأمة "إلى أرض الشام، وجيشا ثالثا صحبة عمرو بن العاصي إلى بلاد مصر، ففتح الله للجيش الشامي في أيامه بصرى"، "بضم
الموحدة"، "ودمشق" بكسر الدال وفتح الميم وقد تكسر"، "ومخالفيها جمع مخلاف "بكسر الميم والحاء معجمة" بناء على استعمال مخلاف في غير اليمن، بمعنى الناحية، أي نواحيها "من بلاد حوران" وما والها، وتوفاه الله واختار له ما عنده ومنّ على الإسلام وأهله بأن ألهم الصديق أن يستخلف عمر الفاروق، فقام في الأمر بعده قياما تاما، لم يدر الفلك"، "بفتحتين" بعد الأنبياء" وبعد أبي بكر، كما زاده السخاوي "على مثله في قوة سيره وكمال عدله، وتم في أيامه فتح البلاد
أموالهما في سبيل الله، كما أمر بذلك ووعد به صلى الله عليه وسلم.
ثم لما كانت الدولة العثمانية امتدت الممالك الإسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها، ففتحت بلاد المغرب إلى أقصى ما هنالك أندلس وقيروان وسبتة مما يلي البحر المحيط ومن ناحية المشرق إلى أقصى بلاد الصين، وقتل كسرى، وباد ملكه بالكلية، وفتحت مدائن العراق وخراسان والأهواز، وقتل المسلمون من الترك مقتلة عظيمة جدا، وجيء بالخراج من المشارق والمغارب إلى حضرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان، وذلك ببركة تلاوته ودراسته وجمعه الأمة على حفظ القرآن، فها نحن نتقلب فيما وعدنا الله، ورسوله، وصدق الله ورسوله.
ومن ذلك قوله تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} [البقرة: 61] ، فاليهود أذل الكفار في كل مكان وزمان كما أخبر.
__________
الشامية بكمالها، وديار مصر إلى آخرها، وأكثر إقليم فارس، وكسر": هزم "كسرى، وأهانه غاية الهوان، وتقهقر" رجع "إلى أقصى مملكته، وقصر قيصر وانتزع يده من بلاد الشام، فانحاز إلى قسطنطينية"، "بضم القاف"، "وأنفق أموالهما في سبيل الله، كما أخبر بذلك ووعد به صلى الله عليه وسلم".
وقد قال بعض السلف: خلافة أبي بكر وعمر حق في كتاب الله، ثم تلا هذه الآية، وفي المجالسة عن ابن قتيبة: هذه الآية شاهدة لخلافة الصديق، وقوله: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} ، أي بعد النبي صلى الله عليه وسلم والمراد بقوله: من بعد خوفهم أمنا الصحابة، لأنهم كانوا الخائفين في صدر الإسلام وقبل الهجرة المستضعفين، ثم وجدوا بعد هذا جميع ما وعدهم الله من النصر والظهور والعز، قاله في التماس السعد، "ثم لما كانت الدولة العثمانية" أي خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، "امتدت الممالك الإسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها، ففتحت بلاد المغرب إلى أقصى ما هنالك أندلس"، "بفتح الهمزة والدال وضم اللام" إقليم بالمغرب، "وقيروان"، "بفتح القاف والراء والواو" بلد بإفريقية "وسبتة"، "بفتح المهملة وسكون الموحدة وفوقية" مدينة "مما يلي البحر والمحيط و" فتح "من ناحية المشرق إلى أقصى بلا الصين"، بكسر الصاد: إقليم "وقتل كسرى وباد" هلك "ملكه بالكلية" تصديقا لقوله صلى الله عليه وسلم لما مزق كتابه: "والله ممزقه وملكه". "وفتحت مدائن العراق وخراسان"، "بضم المعجمة والتخفيف" إقليم من الري إلى مطلع الشمس "والأهواز"، "بفتح الهمزة والواو بينهما هاء ساكنة، ثم ألف فزاي" بلد مشهور "وقتل المسلمون من الترك مقتلة عظيمة جدا، وجيء بالخراج من المشارق والمغارب إلى حضرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان، وذلك ببركة تلاوته ودراسته وجمعه الأمة على حفظ
ومن ذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33] ، وهذا ظاهر في العيان بأن دين الإسلام كما أخبر عال على جميع الأديان.
ومن ذلك، قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} إلى آخرها، فكان كما أخبر، دخل الناس في دين الله أفواجا، فما مات عليه الصلاة والسلام وفي بلاد العرب كلها موضع لم يدخله الإسلام, إلى غير ذلك مما يطول استقصاؤه.
__________
القرآن، فها نحن نتقلب فيما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله" وهذا جاء به المصنف من مؤلف لطيف لشيخه السخاوي، سماه التماس السعد في الوفاء بالوعد، وقال عقب هذا: وبهذا ظهر قوله صلى الله عليه وسلم، الذي ثبت في الصحيح: "إن الذي زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها". وقوله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم حين وفد عليه: "أتعرف الحرة"؟. قلت: لم أرها، سمعت بها. قال: "فوالذي نفسي بيده ليتمنَّ الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت في غير جوار أحد، ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز". قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: "نعم كسرى بن هرمز، وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد". قال عدي: فهذه الظعينة تخرج من الحيرة، فتطوف بالبيت في غير جوار، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى، والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها، وقوله: "بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة، والدين والنصر، والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا، لم يكن له في الآخرة نصيب".
"ومن ذلك قوله تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} [آل عمران: 112] ، الذل والهوان {وَالْمَسْكَنَةُ} أي أثر الفقر من السكون والخزي، فهي لازمة لهم وإن كانوا أغنياء لزوم الدرهم المضروب لسكته، "فاليهود أذل الكفار في كل مكان وزمان، كما أخبر" الله تعالى، ومن ذلك أنه ليس لهم مملكة قط، بل هم مبددون في البلدان.
"ومن ذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ} محمدًا صلى الله عليه وسلم: {بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ} يعليه {عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} جميع الأديان المخالفة له {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33] ، ذلك "وهذا ظاهر في العيان"، "بكسر العين" المشاهدة، "بأن دين الإسلام كما أخبر"، بأنه يظهره "عال" مرتفع "على جميع الأديان" باعتبار زاعميها {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} .
"ومن ذلك" الإخبار بالغيب "قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} [النصر: 1] نبيه صلى الله عليه وسلم
القسم الثاني: في ما أخبر به عليه الصلاة والسلام من الغيوب سوى ما في القرءان العزيز فكان كما أخبر به في حياته وبعد مماته.
أخرج الطبراني عن ابن عمر قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "إن الله قد رفع لي الدنيا، فأنا أنظر إليها وإلى ما هو كائن فيها إلى يوم القيامة، كأنما أنظر إلى كفي هذه".
وعن حذيفة قال: قام فينا رسول الله عليه الصلاة والسلام مقاما، فما ترك شيئا في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدث به، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه، قد علمه أصحابي هؤلاء، وإنه ليكون منه الشيء قد نسيته فأراه فأعرفه فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه، ثم إذا رآه عرفه، ثم قال
__________
على أعدائه "والفتح" فتح مكة "إلى آخرها" أي السورة، "فكان كما أخبر، دخل الناس في دين الله أفواجا": جماعات بعدما كان فيه واحد واحد، بعد فتح مكة جاءته العرب من أقطار الأرض طائعين، "فما مات صلى الله عليه وسلم وفي بلاد العرب كلها موضع لم يدخله الإسلام، إلى غير ذلك مما يطول استقصاؤه" تتبعه والكشف عنه.
"القسم الثاني" بيان "ما" أي شيء كثير "أخبر به عليه الصلاة والسلام من الغيوب سوى ما في القرآن العزيز" الغالب على غيره، "فكان" فوجد بعد إخباره "كما أخبر" أي على الوجه الذي أخبر "به" بعضه وقع "في حياته" بعضه وقع "بعد مماته" على طبق ما قال.
"أخرج الطبراني عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد رفع" أي أظهر وكشف "لي الدنيا"، بحيث أحطت بجميع ما فيها، "فأنا أنظر إليها وإلى ما هو كائن فيها إلى يوم القيامة، كأنما أنظر إلى كفي هذه" إشارة إلى أنه نظر حقيقة، دفع به احتمال أنه أريد النظر العلم، ولا يرد أنه إخبار عن مشاهدة، فلا يلاقي الترجمة، لأن إخباره بذلك إخبار عن غيب عن الناس ثم يعلم باعتبار صدقه ووجوب اعتقاد ما يقوله أن كل ما علمه الناس بعده من جملة ما رآه رفعت له الدنيا صلى الله عليه وسلم.
"وعن حذيفة" بن اليمان رضي الله عنهما، "قال: قام" أي خطيبا، فعبر بالقيام عن الخطبة، لأن الخطيب يخطب قائما "فينا"، أي الصحابة، أي قام ونحن عنده، فالظرفية مجازية "رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما"، "بفتح الميم" اسم لموضع القيام، ومنه: {لَا مُقَامَ لَكُمْ} ، أي لا موضع، أما على قراءة "ضم الميم" فالمراد موضع الإقامة أو نفس الإقامة، بجعله مصدرا من أقام، "فما ترك
حذيفة: ما أدري أنسي أصحابي أم تناسوه؟ والله ما ترك رسول الله عليه الصلاة والسلام من قائد فتنة إلى أن تنقضي الدنيا يبلغ من معه ثلثمائة فصاعدا إلا سماه لنا باسمه واسم أبيه وقبيلته. رواه أبو داود.
وروى مسلم من حديث ابن مسعود في الدجال: فيبعثون عشرة فوارس طليعة، قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "إني لأعرف أسماءهم وأسماء آبائهم وألوان خيولهم، هم خير فوارس على ظهر الأرض يومئذ".
__________
شيئا" يكون كما في أبي داود، أي يوجد ويحدث بعده من فهم أحوال المسلمين، ومن يتولى أمورهم بعده، وما يكون بعده من الفتن، والحرب، فيكون تامة، والجملة صفة "شيئا"، "في مقامه ذلك" من وضع الظاهر موضع المضمر، لكمال العناية به "إلى قيام الساعة" القيامة "إلا حدث به" أي ذكر أنه سيوجد، والفعل في تأويل الاسم، كقولهم: أنشدك الله لا فعلت، والاستثناء متصل لدخول المحدث به في "شيئا"، وقيل: منقطع بمعنى لكن، "حفظه" أي ما حدث به "من حفظه" أي استمر على حفظه بعض من سمعه لاعتنائهم به، "ونسيه من نسيه" ممن سمعه، أي لم يداوموا بذكرهم له فنسوه، وأفرد ضمير حفظه ونسيه رعاية للفظ "شيئا"، "قد علمه أصحابي هؤلاء" الحاضرون عنده من الصحابة، "وأنه" أي الشأن "ليكون" يوجد "منه الشيء" في الخارج، "قد نسيته" لطول العهد "فأراه" بعد وجوده، "فأعرفه فأذكره" أي أتذكره وأستحضره، "كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه، ثم إذا رآه عرفه" فيه تقديم وتأخير أي كما أن الرجل إذا غاب عنه رجل كان يعرف وهه وسمته، وهو في مخيلته، لكنه لم يذكره، فإذا رآه تذكره وعرفه، فليس إذا متعلقا بيذكر، بل ينسى المعلوم من الكلام، وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس تشبيها تمثيليا "ثم قال حذيفة: ما أدري أنسي أصحابي" هذا الحديث "أم تناسوه"، أي أظهروا نسيانه خوف الفتنة، لا لقلة الاهتمام به، كما زعم، بل لأنه من الأسرار التي لا ينبغي أن يحدث بها كل أحد، "والله" أقسم للتأكيد "ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم من قائد"، "بقاف ودال مهملة" ومن زائدة، أي محرك "فتنة" محاربة وإيقاع ضرر بالمسلمين، كالحجاج وغيره الذين معهم جند تتبعهم، كما يتبع الجمل والفرس من يقوده، وفيه استعارة بالكناية، شبه الفتنة بخيل تقاد بمقاودها، وأثبت لها القائد تخييلا، "إلى أن تنقضي الدنيا" تتم وتنتهي مدتها، ويخرب العالم "يبلغ" يصل "من معه" من أتباعه، والضمير للقائد "ثلاثمائة فصاعدا إلا" قد "سماه لنا" صلى الله عليه وسلم "باسمه واسم أبيه وقبيلته" التي عرف بها أعم من كونها منها نسبا أو حلفا أو مقيما عندهم أو غير ذلك، بحيث لم يبق فيه شبهة، والجملة صفة قائد فتنة، أي أنه إنما ذكر منهم من جمعه ثلاثمائة، فأزيد، فإن نقص عنها لم يذكره
فوضح من هذا الخبر وغيره مما سيأتي من الأخبار، وسنح من خواطر الأبرار الأخيار أنه عليه الصلاة والسلام عرفهم بما يقع في حياته وبعد موته، وما قد انحتم وقوعه فلا سبيل إلى فوته.
__________
"رواه أبو داود" من طريق أبي وائل، عن حذيفة به، وروى صدره الشيخان، حتى قوله: عرفه، ولذا عزاه المصنف لأبي داود لزيادة، ثم قال حذيفة إلى آخر الحديث.
"وروى مسلم" في أواخر صحيحه، في كتاب الفتن، "من حديث ابن مسعود في" أمر "الدجال" من طريق أبي قتادة العدوي، عن يسير بن جابر "بضم التحتية فسين مهملة مصغر" أو يقال أصله أسير، فسهلت الهمزة، قال: هاجت ريح حمراء بالكوفة، فجاء رجل ليس له هجيري، ألا يا عبد الله بن مسعود جاءت الساعة، قال: فقعد وكان متكئا، فقال: إن الساعة لا تقوم حتى لا يقسم ميراث ولا يفرح بغنيمة، ثم قال: بيده هكذا ونحاها نحو الشام، فقال: عدو يجتمعون لأهل الشام، ويجتمع لهم أهل الشام، قلت: الروم، يعني قال: نعم، ويكون عند ذلكم القتال ردة شديدة "بفتح الراء" أي هزيمة، فيشترط المسلمون شرطة الموت، لا ترجع إلا غالبة، فيقتتلون حتى يحجز بينهم الليل، فيبقى هؤلاء وهؤلاء، كل غير غالب وتفنى الشرطة، ثم يشترط المسلمون شرطة الموت، لا ترجع إلا غالبة، فيقتتلون حتى يمسوا، فيبقى هؤلاء وهؤلاء كل غير غالب وتفنى الشرطة، فإذا كان اليوم الرابع نهد إليهم بقية الإسلام، فيجعل الله الدبرة عليهم فيقتتلون مقتلة إما قال لا يرى مثلها، وإما قال لم ير مثلها، حتى أن الطائر ليمر بجنبتهم، فما يخلفهم حتى يخر ميتا، فيتعاد بنو الأب، كانوا مائة فلا يجدون بقي منهم إلا الرجل الواحد، فبأي غنيمة يفرح، أو أي ميراث يقاسم، فبينما هم كذلك إذ سمعوا بناس هم أكثر من ذلك، فجاءهم الصريخ أن الدجال قد خلفهم في ذراريهم، فيرفضون ما في أيديهم، ويقبلون، "فيبعثون عشرة فوارس طليعة"، "بطاء مهملة بوزن فعيلة" القوم، يبعثون أما الجيش، يتعرفون طلع العدو "بالكسر" أي خبره.
"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم": "إني لأعرف أسماءهم وأسماء آبائهم، وألوان خيولهم" التي يركبون عليها، "هم خير فوارس على ظهر الأرض يومئذ" أو من خير فوارس على ظهر الأرض يومئذ، هكذا في مسلم بالشك لبذلهم نفوسهم في نصر دين الله تعالى، وقوله: ليس له هجيري "بكسر الهاء والجيم مشددة والقصر"، أي شأن ودأب، وقوله: فيشترط المسلمون ضبط بوجهين "بتحتية ثم فوقية، وفتح الشين والراء المشددة، فطاء وبتحتية فشين ساكنة، ففوقية فطاء مهملة"، والشرطة "بضم المعجمة" أول طائفة من الجند تتقدم للقتال، ومعنى نهد بدال مهملة نهض، والدبرة "بفتح المهملة وسكون الموحدة" أي الهزيمة على الروح، وقوله فما يخلفهم، أي
وقال أبو ذر: لقد تركنا رسول الله عليه الصلاة والسلام وما يحرك طائر جناحيه في السماء إلا ذكرنا منه علما.
ولا شك أن الله تعالى قد أطلعه على أزيد من ذلك، وألقى عليه علم الأولين والآخرين. وأما علم عوارف المعارف الإلهية فتلك لا يتناهى عددها، وإليه عليه الصلاة والسلام ينتهي مددها.
ومن ذلك ما رواه الشيخان عن أبي هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام نعى النجاشي للناس في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وصلى عليه وكبر أربع تكبيرات.
وفي حديث أنس عند أحمد والبخاري: أن النبي عليه الصلاة والسلام صعد أحدًا، ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم الجبل فضربه برجله وقال له: "اثبت
__________
يتجاوزهم، "فوضح" انكشف وانجلى "من هذا الخبر وغيره مما سيأتي من الأخبار، وسنح"، "بمهملتين بينهما نون"، أي ظهر وعبر به تفننا، إذ هو بمعنى وضح "من خواطر الأبرار الأخيار أنه صلى الله عليه وسلم عرفهم" أعلمهم "بما يقع في حياته وبعد موته، وما قد انحتم وقوعه" أي وجب وجوبا لا يمكن إسقاطه، "فلا سبيل إلى فوته" بل لا بد منه.
"وقال أبو ذر" في حديث رواه أحمد والطبراني وغيرهما: "لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي ذهب عنا وانتقل إلى الآخرة "و" الحال أنه "ما يحرك طائر جناحيه في" جو "السماء إلا ذكرنا منه علما" أي عرفنا بعلامات فيه تدل على أشياء تقصد من طيرانه على الصفة التي هو عليها، كذا في الشرح.
وقال غيره: أي ذكر لنا من طيرانه علما يتعلق به، فكيف بغيره مما يهمنا في الأرض، وهذا تمثيل لبيان كل شيء تفصيلا تارة، وإجمالا أخرى، والمعنى لم يدع شيئا إلا بينه لنا، بحيث لا يخفى علينا شيء بعده، وقد كان خطب قبل وفاته خطبا، أطال فيها مرة من الصباح إلى الظهر ومرة من الظهر إلى قبيل الغروب، لم يدع شيئا إلا بينه لأصحابه.
وفي رواية: إلا ذكر لنا منه علما، "ولا شك أن ال