يا لجلال الإيمان وروعة قوّته! حمل زيد بن حارثة راية النبيّ واندفع بها في صدر العدو وهو موقن أن ليس من موته مفرّ. لكن الموت في هذا المقام هو الاستشهاد في سبيل الله! وليس إلا الاستشهاد دون النصر والظفر مكانا.
,
وحارب زيد حرب المستميت حتى مزّقته رماح العدوّ فتناول الراية من يده جعفر بن أبي طالب، وهو يومئذ في الثالثة والثلاثين من عمره، وهو شاب تعدل وسامته شجاعته. وقاتل جعفر بالراية، حتى إذا أحاط العدوّ بفرسه اقتحم عنها فعقرها، واندفع بنفسه وسط القوم منطلقا انطلاقة السهم يهوي سيفه برؤسهم حيثما وقع. وكان اللواء بيمين جعفر فقطعت، فأخذه بشماله فقطعت، فاحتضنه بعضديه حتى قتل. يقال إن رجلا من الروم ضربه يومئذ ضربة قطعته نصفين. فلمّا قتل جعفر أخذ ابن رواحة الراية، ثم تقدم بها وهو على فرسه؛ فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض التردد ثم قال:
أقسمت يا نفس لتنزلنّه ... لتنزلنّ أو لتكرهنّه
إن أجلب الناس وشدّوا الرّنّة ... مالي أراك تكرهين الجنّة
ثم أخذ سيفه فتقدّم فقاتل حتى قتل.
هؤلاء زيد وجعفر وابن رواحة استشهدوا ثلاثتهم في سبيل الله في موقعة واحدة. لكن النبيّ لمّا علم بخبرهم كان على زيد وجعفر أكبر أسى، وقال: لقد رفعوا إلىّ الجنة فيما يرى النائم على سرر من ذهب، فرأيت في سرير عبد الله بن رواحة ازورارا عن سرير صاحبيه؛ فسأل: لم هذا؟ فقيل: مضيا، وتردّد عبد الله بعض التردد ثم مضى. أترى إلى هذه العبرة والموعظة الحسنة! فإنما معناها أن المؤمن لا يجوز له أن يتردد أو يخاف الموت في سبيل الله؛ بل يجب عليه، كلما مضى في أمر يؤمن بأنه لله والوطن، أن يحمل حياته على كفّه، وأن يلقى بها في وجه من يقف في سبيله؛ فإما فاز وظفر فبلغ ما يؤمن به من حق الله والوطن، وإمّا استشهد فكان المثل الحيّ لمن بعده والذكر الباقي لروح عظيم عرف أن قيمة الحياة ما يضحّى بالحياة في سبيله، وأن الإمساك على الحياة في مذلة إهدار للحياة، فما يستحق صاحبها بعد ذلك في الحياة ذكرا؛ وأن الرجل يلقي بيديه إلى التهلكة إذا هو عرّض حياته تعريضا تذهب معه ضحية غرض وضيع، وأنه كذلك يلقي بيديه إلى التهلكة إذا هو أمسك على حياته حين يدعوه داعي الحق جلّ شأنه ليقذف بها في وجه الباطل ليستحقه، فيواريها هو بالحجاب ويخاف عليها الموت خوفا هو شرّ من الموت. وإذا كان التردّد القليل من ابن رواحة مع إقدامه بعد ذلك واستشهاده، قد جعله في غير مكانة زيد وجعفر اللذين اقتحما صفوف الموت اقتحاما وطارا للاستشهاد فرحا، فما بالك بالذي ينكص على عقبيه طمعا في جاه أو مال أو غرض من أغراض الحياة! إنه إذا للحشرة الحقيرة وإن عرض عند السواد جاهه، وإن بزّ مال قارون ماله. وهل لنفس إنسانية أن تغتبط حقّا لشيء اغتباطها للتضحية في جانب ما تؤمن بأنه الحقّ، حتى تنتهي من ذلك إلى الاستشهاد في سبيل الحق، أو إلى تمليك الحق الحياة!