فصل ثُمَّ بَاتَ بِهَا، وَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، والصبح والظهر، وَكَانَ نِسَاؤُهُ كُلُّهُنَّ مَعَهُ، وَطَافَ عَلَيْهِنَّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَلَمَّا أَرَادَ الْإِحْرَامَ، اغْتَسَلَ غُسْلًا ثَانِيًا لإحرامه، ثُمَّ طَيَّبَتْهُ عائشة بِيَدِهَا بِذَرِيرَةٍ وَطِيبٍ فِيهِ مِسْكٌ فِي بَدَنِهِ وَرَأْسِهِ حَتَّى كَانَ وَبِيصُ الْمِسْكِ يُرَى فِي مَفَارِقِهِ وَلِحْيَتِهِ، ثُمَّ اسْتَدَامَهُ، ولم يغسله، ثم لبس إزاره ورداؤه، ثُمَّ صَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ والعمرة في مصلاه. ولم ينقل أنه صلى للإحرام ركعتين.
وَقَلَّدَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ بُدُنَهُ نَعْلَيْنِ، وَأَشْعَرَهَا فِي جَانِبِهَا الْأَيْمَنِ، فَشَقَّ صَفْحَةَ سَنَامِهَا، وَسَلَتَ الدَّمَ عَنْهَا.
وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ أَحْرَمَ قَارِنًا. لِبَضْعَةٍ وعشرين حديثا صريحة صحيحة في ذلك، وَلَبَّدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ بالغسل وهو بالمعجمة: وَهُوَ مَا يُغْسَلُ بِهِ الرَّأْسُ مِنْ خِطْمِيِّ وَنَحْوِهِ يُلَبَّدُ بِهِ الشَّعْرُ حَتَّى لَا يَنْتَشِرَ، وأهل في مصلاه، ثم ركب ناقته، فأهل أيضا ثم أهل أيضا لما استقلت به على الْبَيْدَاءِ، وَكَانَ يُهِلُّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ تَارَةً، وَبِالْحَجِّ تَارَةً، لِأَنَّ الْعُمْرَةَ جُزْءٌ مِنْهُ، فَمِنْ ثَمَّ قيل: قرن. وقيل: تمتع. وقيل: أفرد. وقول ابن حزم إن
_________
(1) 196 البقرة.
ذلك قبل الظهر بيسير. وَهْمٌ مِنْهُ، وَالْمَحْفُوظُ أَنَّهُ إِنَّمَا أَهَلَّ بَعْدَ الظُّهْرِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ قَطُّ: إِنَّ إِحْرَامَهُ كان قبل الظهر. فلا أدري من أين له هذا.
ثُمَّ لَبَّى، فَقَالَ: «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ» وَرَفَعَ صَوْتَهُ بِهَذِهِ التَّلْبِيَةِ حَتَّى سَمِعَهَا أَصْحَابُهُ، وَأَمَرَهُمْ بِأَمْرِ الله له أن يرفعوا أصواتهم بها وكان حجه على رحل لا محمل وَزَامِلَتُهُ تَحْتَهُ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ رُكُوبِ المحرم في المحمل والعمارية ونحوهما.
وخيرهم صلى الله عليه وسلم عِنْدَ الْإِحْرَامِ بَيْنَ الْأَنْسَاكِ الثَّلَاثَةِ، ثُمَّ نَدَبَهُمْ عِنْدَ دُنُوِّهِمْ مِنْ مَكَّةَ إِلَى فَسْخِ الْحَجِّ وَالْقِرَانِ إِلَى الْعُمْرَةِ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ، ثُمَّ حَتَّمَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ عِنْدَ الْمَرْوَةِ.
وولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر فأمرها أن تغتسل، وتستثفر بثوب وتحرم وتهل.
ففية جواز غسل المحرم، وأن الحائض تغتسل، وأن الْإِحْرَامَ يَصِحُّ مِنَ الْحَائِضِ.
ثُمَّ سَارَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسم وَهُوَ يُلَبِّي بِتَلْبِيَتِهِ الْمَذْكُورَةِ، وَالنَّاسُ مَعَهُ يَزِيدُونَ فيها وينقصون، وهو يقرهم.
فلما كان بالروحاء، رأى حمار وحش عقيرا قال: «دَعُوهُ، فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ صَاحِبُهُ فَجَاءَ صاحبه، فقال: شأنكم به فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا بكر فقسمه بين الرفاق،» ففيه جواز أكل المحرم صيد الحلال إذا لم يصد لأجله، ويدل على أن الصيد يملك بالإثبات.
ثم مضى حتى إذا كان بَيْنَ الرُّوَيْثَةِ وَالْعَرْجِ إِذَا ظَبْيٌ حَاقِفٌ فِي ظِلٍّ فِيهِ سَهْمٌ، فَأَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَقِفَ عنده لا يريبه أحد، والفرق بينه وبين الحمار أنه لم يعلم أن الذي صاده حلال.
ثُمَّ سَارَ حَتَّى إِذَا نَزَلَ بِالْعَرْجِ، وَكَانَتْ زاملته وزاملة أبي بكر واحدة مع غلام لأبي بكر، فطلع الغلام وليس معه البعير، فقال: أين بعيرك؟ قال: أضللته البارحة. فقال أبو بكر: بعيرا واحدا وتضله! فَطَفِقَ يَضْرِبُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يبتسم، وَيَقُولُ: «انْظُرُوا إِلَى هَذَا الْمُحْرِمِ مَا يَصْنَعُ»
- 91 - ثم مضى حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْأَبْوَاءِ، أَهْدَى لَهُ الصعب بن جثامة عجز حمار وحش، فرده، وقال: «إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ» فَلَمَّا مَرَّ بِوَادِي عُسْفَانَ قَالَ: «يَا أبا بكر أَيَّ وَادٍ هَذَا؟ قَالَ: وَادِي عُسْفَانَ. قَالَ: لَقَدْ مَرَّ بِهِ هُودٌ وَصَالِحٌ عَلَى بكرين أحمرين خطمهما الليف، وأزرهما العباء، وأرديتهما النمار يلبون يحجون البيت العتيق» ذكره
أحمد.
فلما كان بسرف حاضت عائشة وقال لأصحابه بسرف: «مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ، فَأَحَبَّ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً، فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلَا» وَهَذِهِ رُتْبَةٌ أُخْرَى فَوْقَ رُتْبَةِ التَّخْيِيرِ عِنْدَ الْمِيقَاتِ، فَلَمَّا كَانَ بِمَكَّةَ، أَمَرَ أَمْرًا حَتْمًا مَنْ لَا هَدْيَ مَعَهُ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً، وَيَحِلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ، وَمَنْ مَعَهُ هَدْيٌ أَنْ يُقِيمَ عَلَى إِحْرَامِهِ، وَلَمْ يَنْسَخْ ذَلِكَ شَيْءٌ الْبَتَّةَ، بَلْ «سَأَلَهُ سراقة بن مالك عَنْ هَذِهِ الْعُمْرَةِ الَّتِي أَمَرَهُمْ بِالْفَسْخِ إِلَيْهَا: هَلْ هِيَ لِعَامِهِمْ ذَلِكَ أَمْ لِلْأَبَدِ؟ فَقَالَ بل للأبد» قال: ثُمَّ نَهَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أن نزل بذي طوى وهي المعروفة بِآبَارِ الزَّاهِرِ، فَبَاتَ بِهَا لَيْلَةَ الْأَحَدِ لِأَرْبَعٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَصَلَّى بِهَا الصُّبْحَ، ثُمَّ اغْتَسَلَ مِنْ يَوْمِهِ، وَنَهَضَ إِلَى مَكَّةَ، فَدَخَلَهَا نَهَارًا مِنْ أَعْلَاهَا مِنَ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا الَّتِي تُشْرِفُ عَلَى الْحَجُونِ، وَكَانَ فِي الْعُمْرَةِ يدخلها مِنْ أَسْفَلِهَا، ثُمَّ سَارَ حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ، وذلك ضحى.
وذكر الطبري أنه دخل من باب بني عبد مناف الذي يسمى باب بني شيبة، وذكر أَحْمَدُ أَنَّهُ كَانَ إِذَا دَخَلَ مَكَانًا مِنْ دار يعلى استقبل البيت، ودعا، وذكر الطبري أَنَّهُ كَانَ إِذَا نَظَرَ إِلَى الْبَيْتِ قَالَ: «اللَّهُمَّ زِدْ هَذَا الْبَيْتَ تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا وَتَكْرِيمًا وَمَهَابَةً»
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ يَرْفَعُ يَدَيْهِ، وَيُكَبِّرُ، وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ، وَمِنْكَ السَّلَامُ، حَيِّنَا رَبَّنَا بِالسَّلَامِ، اللَّهُمَّ زِدْ هَذَا الْبَيْتَ تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا، وَتَكْرِيمًا وَمَهَابَةً، وَزِدْ مَنْ حَجَّهُ أَوِ اعْتَمَرَهُ تَكْرِيمًا وَتَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا وبرا» وهو مرسل.
فَلَمَّا دَخَلَ الْمَسْجِدَ، عَمَدَ إِلَى الْبَيْتِ، وَلَمْ يَرْكَعْ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ، فَإِنَّ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الطواف، فلما حاذى الحجر، اسْتَلَمَهُ، وَلَمْ يُزَاحِمْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ عَنْهُ إِلَى جِهَةِ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ، وَلَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ، وَلَمْ يَقُلْ: نَوَيْتُ بِطَوَافِي هَذَا الْأُسْبُوعَ كَذَا وكذا. ولا افتتحه بالتكبير، ولا حاذى الحجر بِجَمِيعِ بَدَنِهِ، ثُمَّ انْفَتَلَ عَنْهُ وَجَعَلَهُ عَلَى شقه الأيمن، بل استقبله واستلمه، ثم أخذ على يمينه، ولم يدع عند الباب، وَلَا تَحْتَ الْمِيزَابِ، وَلَا عِنْدَ ظَهْرِ الْكَعْبَةِ وأركانها، ولا وقت للطواف ذكرا معينة، بَلْ حُفِظَ عَنْهُ بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201]
ورمل فيطوافه هذه الثلاثة الأشواط، وقارب بين خطاه، واضطبع بردائه، فجعله على أحد كتفيه، وأبدى
كتفه الآخر وَمَنْكِبَهُ، وَكُلَّمَا حَاذَى الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ أَشَارَ إِلَيْهِ، واستلمه بمحجنه وقبل المحجن، وهو عصا محنية الرأس.
وَثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ استلم الركن اليماني، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَبَّلَهُ، وَلَا قَبَّلَ يَدَهُ عِنْدَ اسْتِلَامِهِ، وَثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَبَّلَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ، وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ اسْتَلَمَهُ بِيَدِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَبَّلَهَا، وَثَبَتَ عنه أنه استلمه بمحجنه، فهذه ثلاث صفات وذكر الطبراني بإسناد جيد أنه إذا استلم الركن قال: «بسم الله والله أكبر» وكلما أَتَى عَلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ قَالَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ» وَلَمْ يَسْتَلِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يمس من الأركان إلا اليمانيين فقط.
فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ جَاءَ إِلَى خَلْفِ الْمَقَامِ، فَقَرَأَ {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] (1) فركع رَكْعَتَيْنِ، وَالْمَقَامُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ، قَرَأَ فِيهِمَا بعد الفاتحة بـ " سورتي الإخلاص " وقراءته الآية بيان منه المراد منها لله بفعله، فلما فرغ من صلاته أقبل على الحجر، فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّفَا مِنَ الْبَابِ الذي يقابله، فلما دني مِنْهُ قَرَأَ « {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] أبدأ بما بدأ الله به» وللنسائي: «ابدءوا» على الْأَمْرِ.
ثُمَّ رَقِيَ عَلَيْهِ حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَوَحَّدَ اللَّهَ وَكَبَّرَهُ، وَقَالَ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ» ثم دعا بين ذلك قال مثل هذا ثلاث مرات، ثُمَّ نَزَلَ إِلَى الْمَرْوَةِ يَمْشِي فَلَمَّا انْصَبَّتْ قدماه سَعَى حَتَّى إِذَا جَاوَزَ الْوَادِيَ وَأَصْعَدَ، مَشَى، وذلك قبل الميلين الأخضرين في أول المسعى، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْوَادِيَ لَمْ يَتَغَيَّرْ عَنْ وَضْعِهِ.
فكان صلى الله عليه وسلم إذا وصل الْمَرْوَةِ رَقِيَ عَلَيْهَا ; وَاسْتَقْبَلَ الْبَيْتَ، وَكَبَّرَ اللَّهَ وَوَحَّدَهُ، وَفَعَلَ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا، فَلَمَّا أَكْمَلَ سَعْيَهُ عِنْدَ الْمَرْوَةِ، أَمَرَ كُلَّ مَنْ لا هدي معه أن يحل حتما، وأمرهم أن يحلوا الحل كله، وَأَنْ يَبْقَوْا كَذَلِكَ إِلَى يَوْمِ التَّرْوِيَةِ، وَلَمْ يحل مِنْ أَجْلِ هَدْيِهِ، وَهُنَاكَ قَالَ: «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمَا سُقْتُ الْهَدْيَ، ولجعلتها عمرة» وَهُنَاكَ دَعَا لِلْمُحَلِّقِينَ بِالْمَغْفِرَةِ ثَلَاثًا، وَلِلْمُقَصِّرِينَ مَرَّةً.
وأما نساؤه فَأَحْلَلْنَ، وَكُنَّ قَارِنَاتٍ إِلَّا عائشة، فَإِنَّهَا لَمْ تحل من أجل تعذر الحل بالحيض، وأمر من أهل كإهلاله أن يقيم على
_________
(1) البقرة: 125.
إِحْرَامِهِ إِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ، وَأَنْ يَحِلَّ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ.
وَكَانَ يُصَلِّي مدة مقامه إلى يوم التروية بمنزله بالمسلمين بظاهر مكة، فأقام أربعة أيام يقصر الصلاة، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْخَمِيسِ ضُحًى تَوَجَّهَ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى مِنًى، فَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ مَنْ كَانَ أَحَلَّ مِنْهُمْ مِنْ رِحَالِهِمْ، وَلَمْ يدخلوا إلى المسجد، بَلْ أَحْرَمُوا وَمَكَّةُ خَلْفَ ظُهُورِهِمْ.
فَلَمَّا وَصَلَ إلى منى، نزل وصلى بها الظهر والعصر وبات بها، فلما طلعت الشمس، سار إِلَى عَرَفَةَ، وَأَخَذَ عَلَى طَرِيقِ ضَبٍّ عَلَى يمين طريق الناس اليوم، وكان من الصحابة الملبي، ومنهم المكبر، وهو يسمع ولا ينكر، فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ بِأَمْرِهِ، وَهِيَ قَرْيَةٌ شَرْقِيَّ عَرَفَاتٍ، وَهِيَ خَرَابٌ الْيَوْمَ، فنزل فيها حَتَّى إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بِنَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ فَرُحِلَتْ، ثُمَّ سَارَ حَتَّى أَتَى بَطْنَ الْوَادِي مِنْ أَرْضِ عُرَنَةَ.
فَخَطَبَ النَّاسَ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ خُطْبَةً عَظِيمَةً، قَرَّرَ فِيهَا قَوَاعِدَ الْإِسْلَامِ، وَهَدَمَ فِيهَا قَوَاعِدَ الشِّرْكِ وَالْجَاهِلِيَّةِ، وَقَرَّرَ فِيهَا تَحْرِيمَ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي اتِّفَقَتِ الْمِلَلُ عَلَى تَحْرِيمِهَا وَهِيَ الدِّمَاءُ وَالْأَمْوَالُ وَالْأَعْرَاضُ، وَوَضَعَ فِيهَا أُمُورَ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيْهِ، وَوَضَعَ فِيهَا رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ كُلَّهُ وَأَبْطَلَهُ، وَأَوْصَاهُمْ بِالنِّسَاءِ خَيْرًا وَذَكَرَ الْحَقَّ الذي لهن وعليهن، وَأَنَّ الْوَاجِبَ لَهُنَّ الرِّزْقُ، وَالْكِسْوَةُ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَمْ يقدر ذلك تقديرا، وَأَبَاحَ لِلْأَزْوَاجِ ضَرْبَهُنَّ إِذَا أَدْخَلْنَ إِلَى بُيُوتِهِنَّ من يكرهه أزواجهن، وأوصى فيها الأمة بِالِاعْتِصَامِ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَنْ يَضِلُّوا مَا دَامُوا مُعْتَصِمِينَ بِهِ، ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُمْ مَسْئُولُونَ عَنْهُ ; وَاسْتَنْطَقَهُمْ بِمَاذَا يَقُولُونَ، وَبِمَاذَا يَشْهَدُونَ ; فَقَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ. فَرَفَعَ أُصْبُعَهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَاسْتَشْهَدَ اللَّهَ عَلَيْهِمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُبَلِّغَ شَاهِدُهُمْ غَائِبَهُمْ وَخَطَبَ خُطْبَةً وَاحِدَةً وَلَمْ تَكُنْ خُطْبَتَيْنِ جَلَسَ بَيْنَهُمَا.
فَلَمَّا أَتَمَّهَا، أَمَرَ بلالا فَأَذَّنَ، ثُمَّ أقام، فصلى الظهر ركعتين أسر فيهما القراءة وَكَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُسَافِرَ لا يصلي الجمعة، ثُمَّ أَقَامَ، فَصَلَّى الْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ أَيْضًا، وَمَعَهُ أهل مكة، فصلوا بصلاته قصرا وجمعا، وفيه أَوْضَحُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ سَفَرَ الْقَصْرِ لَا يتحدد بمسافة معلومة.
فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ، رَكِبَ حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ، فَوَقَفَ فِي ذَيْلِ الْجَبَلِ عِنْدَ الصَّخَرَاتِ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، وَجَعَلَ حَبْلَ الْمُشَاةِ بَيْنَ
يَدَيْهِ، وَكَانَ عَلَى بَعِيرِهِ، فَأَخَذَ فِي الدُّعَاءِ والتفرع وَالِابْتِهَالِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَرْفَعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ، وَأَخْبَرَ أَنَّ «عَرَفَةَ كُلُّهَا مَوْقِفٌ» وَأَرْسَلَ إِلَى النَّاسِ أَنْ يَكُونُوا على مشاعرهم، ويقفوا بها، فإنها من أثر إرث أبيهم إبراهيم، وَكَانَ فِي دُعَائِهِ رَافِعًا يَدَيْهِ إِلَى صَدْرِهِ، كاستطعام المسكين، وأخبرتم أن «خير الدعاء يَوْمِ عَرَفَةَ»
وَذَكَرَ مِنْ دُعَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَوْقِفِ: «اللُّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كالذي تقول، وَخَيْرًا مِمَّا نَقُولُ، اللَّهُمَّ لَكَ صَلَاتِي وَنُسُكِي ومحياي ومماتي، وإليك مآبي، ولك رب ترابي، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَوَسْوَسَةِ الصَّدْرِ، وَشَتَاتِ الْأَمْرِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَجِيءُ بِهِ الرِّيحُ» ذَكَرَهُ الترمذي.
وَمِمَّا ذُكِرَ مِنْ دُعَائِهِ هُنَاكَ: «اللهم إنك تَسْمَعُ كَلَامِي، وَتَرَى مَكَانِي، وَتَعْلَمُ سِرِّي وَعَلَانِيَتِي ولا يَخْفَى عَلَيْكَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِي، أَنَا الْبَائِسُ الفقير، المستغيث المستجير، الوجل المشفق، المقر المعترف بذنوبه، أَسْأَلُكَ مَسْأَلَةَ الْمِسْكِينِ، وَأَبْتَهِلُ إِلَيْكَ ابْتِهَالَ الْمُذْنِبِ الذَّلِيلِ، وَأَدْعُوكَ دُعَاءَ الْخَائِفِ الضَّرِيرِ مَنْ خَضَعَتْ لَكَ رَقَبَتُهُ، وَفَاضَتْ لَكَ عَيْنَاهُ، وَذَلَّ جَسَدُهُ، وَرَغِمَ أَنْفُهُ لَكَ، اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيَّا، وَكُنْ بِي رَءُوفًا رَحِيمًا يَا خَيْرَ الْمَسْئُولِينَ، وَيَا خَيْرَ الْمُعْطِينَ» ذَكَرَهُ الطَّبَرَانِيُّ.
وذكر أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ، عن جده: كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عَرَفَةَ «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قدير» وأسانيد هذه الأدعية فيها لين.
وهنا أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] (1) .
وهناك سقط رجل عن راحلته، فَمَاتَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُكَفَّنَ فِي ثْوْبَيْهِ، وَلَا يُمَسَّ بِطِيبٍ وَأَنْ يُغَسَّلَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَلَا يُغَطَّى رَأْسُهُ وَلَا وَجْهُهُ، وَأَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يبعثه يوم القيامة يلبي. وفيه اثْنَا عَشَرَ حُكْمًا: الْأَوَّلُ: وُجُوبُ غُسْلِ الْمَيِّتِ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ، لِأَنَّهُ لَوْ تنجس، لم يزده غسله إلا نجاسة. الثالث: أن الميت يغسل بماء وسدر. الرَّابِعُ: أَنَّ تَغَيُّرَ الْمَاءِ بِالطَّاهِرَاتِ لَا يَسْلُبُهُ طهوريته. الخامس: إباحة الغسل للمحرم. السادس: أن المحرم
_________
(1) 3: المائدة.
غير ممنوع من الماء والسدر. السَّابِعُ: أَنَّ الْكَفَنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمِيرَاثِ وَعَلَى الدين، لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَنْ يُكَفَّنَ فِي ثَوْبَيْهِ وَلَمْ يَسْأَلْ عَنْ وَارِثِهِ وَلَا عن دين عليه. الثَّامِنُ: جَوَازُ الِاقْتِصَارِ فِي الْكَفَنِ عَلَى ثَوْبَيْنِ. التاسع: أن المحرم ممنوع من الطيب. الْعَاشِرُ: أَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ تَغْطِيَةِ رَأْسِهِ. الْحَادِيَ عَشَرَ: مَنْعُ الْمُحْرِمِ مِنْ تَغْطِيَةِ وَجْهِهِ وبإباحته قال ستة من الصحابة، واحتج المبيحون بأقوال هؤلاء، وأجابوا عن قوله: «لا تُخَمِّرُوا وَجْهَهُ» بِأَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ غَيْرُ مَحْفُوظَةٍ. الثاني عشر: بقاء الإحرام بعد الموت. فَلَمَّا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَاسْتَحْكَمَ غُرُوبُهَا بِحَيْثُ ذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ، أَفَاضَ مِنْ عَرَفَةَ، وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ خَلْفَهُ، وَأَفَاضَ بِالسَّكِينَةِ وَضَمَّ إِلَيْهِ زِمَامَ ناقته حتى إن رأسها ليضرب طرف رجليه، وهو يقول: «أيها الناس عليكم بالسكينة، فإن البر ليس بالإيضاع» أي: بِالْإِسْرَاعِ.
وَأَفَاضَ مِنْ طَرِيقِ الْمَأْزِمَيْنِ، وَدَخَلَ عَرَفَةَ مِنْ طَرِيقِ ضَبٍّ، وَهَكَذَا كَانَتْ عَادَتُهُ صَلَوَاتُ الله وسلامه عليه في الأعياد أن يخالف بين الطريق، ثُمَّ جَعَلَ يَسِيرُ الْعَنَقَ وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ المسير لَيْسَ بِالسَّرِيعِ وَلَا الْبَطِيءِ فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً - وَهُوَ الْمُتَّسَعُ - نَصَّ سَيْرَهُ، أَيْ: رَفَعَهُ فَوْقَ ذلك، وكلما أتى ربوة من الرُّبَى أَرْخَى لِلنَّاقَةِ زِمَامَهَا قَلِيلًا حَتَّى تَصْعَدَ.
وكان يلبي في مسيره ذلك لا يَقْطَعِ التَّلْبِيَةَ، فَلَمَّا كَانَ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ نزل، فَبَالَ وَتَوَضَّأَ وُضُوءًا خَفِيفًا، فَقَالَ لَهُ أسامة: الصلاة يا رسول الله. قال: «المصلى أمامك» ثم سار حتى أتى مزدلفة فَتَوَضَّأَ وُضُوءَ الصَّلَاةِ، ثُمَّ أَمَرَ بِالْأَذَانِ، فَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ، ثُمَّ أَقَامَ، فَصَلَّى الْمَغْرِبَ قَبْلَ حَطِّ الرِّحَالِ، وَتَبْرِيكِ الْجِمَالِ، فَلَمَّا حَطُّوا رِحَالَهُمْ أَمَرَ، فأقيمت الصلاة، ثم صلى العشاء بِإِقَامَةٍ بِلَا أَذَانٍ، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا، ثم نام حتى أصبح.
ولم يحيي تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَلَا صَحَّ عَنْهُ فِي إِحْيَاءِ ليلتي العيدين شيء، وأمر في تلك الليلة بضعفة أَهْلِهِ أَنْ يَتَقَدَّمُوا إِلَى مِنًى قَبْلَ طُلُوعِ الفجر، وكان عِنْدَ غَيْبُوبَةِ الْقَمَرِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَرْمُوا الجمرة حتى تطلع الشمس، وأما الحديث الذي فيه أن أم سلمة رمت قبل الفجر، فحديث منكر أنكره أحمد وغيره، ثم ذكر حديث سودة وأحاديث غيره، ثم قال:
ثُمَّ تَأَمَّلْنَا فَإِذَا أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ، فَإِنَّهُ أَمَرَ الصِّبْيَانَ أَنْ لَا يَرْمُوا الْجَمْرَةَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَإِنَّهُ
لَا عُذْرَ لَهُمْ فِي تَقْدِيمِ الرَّمْيِ، أَمَّا مَنْ قَدَّمَهُ مِنَ النِّسَاءِ: فَرَمَيْنَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس للعذر، والخوف عليهن من المزاحمة، وَهَذَا الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ: جَوَازُ الرَّمْيِ قبل طلوع الشمس لعذر من مرض أو كبر، وَأَمَّا الْقَادِرُ الصَّحِيحُ "، فَلَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ. وَالَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ إِنَّمَا هُوَ التَّعْجِيلُ بَعْدَ غَيْبُوبَةِ الْقَمَرِ لَا نِصْفِ اللَّيْلِ، وَلَيْسَ مع من حده بالنصف دليل.
فَلَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ صَلَّاهَا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ - لا قبله قطعا - بأذان وإقامة، ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى أَتَى مَوْقِفَهُ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، وَأَخَذَ فِي الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ والتكبير والتهليل والذكر حتى أسفر جدا، ووقف صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوْقِفِهِ، وَأَعْلَمَ النَّاسَ أَنَّ مُزْدَلِفَةَ كُلَّهَا مَوْقِفٌ، ثُمَّ سَارَ مردفا للفضل وهو يلبي في مسيره، وانطلق أسامة عَلَى رِجْلَيْهِ فِي سُبَّاقِ قُرَيْشٍ.
وَفِي طَرِيقِهِ ذَلِكَ أَمَرَ ابْنَ عَبَّاسٍ أَنْ يَلْقُطَ لَهُ حَصَى الْجِمَارِ سَبْعَ حَصَيَاتٍ، وَلَمْ يَكْسِرْهَا مِنَ الجبل تلك الليلة، كما يفعله مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ، وَلَا الْتَقَطَهَا بِاللَّيْلِ، فالتقط له سبعا من حصى الحذف، فجعل ينفضهن في كفه، ويقول: «أمثال هَؤُلَاءِ فَارْمُوا، وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ» فَلَمَا أَتَى بَطْنَ مُحَسِّرٍ حَرَّكَ نَاقَتَهُ وَأَسْرَعَ السَّيْرَ، وَهَذِهِ كَانَتْ عَادَتَهُ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي نزل بها بأس الله بأعدائه، فإن هناك أصاب أصحاب الفيل ما قص الله، ولذلك سمي وَادِيَ مُحَسِّرٍ، لِأَنَّ الْفِيلَ حُسِرَ فِيهِ، أَيْ: أعيا وَانْقَطَعَ عَنِ الذَّهَابِ إِلَى مَكَّةَ.
وَكَذَلِكَ فَعَلَ في سلوكه الحجر. ومحسر: برزخ بين منى ومزدلفة، والمشعر الحرام لا من هذه، ولا من هذه، وعرفة: برزخ بين عرفة والمشعر الحرام لَيْسَ مِنْهُمَا، فَمِنًى مِنَ الْحَرَمِ وَهِيَ مَشْعَرٌ، وَمُحَسِّرٌ مِنَ الْحَرَمِ، وَلَيْسَ بِمَشْعَرٍ، وَمُزْدَلِفَةُ: حَرَمٌ ومشعر، وعرفة لَيْسَتْ مَشْعَرًا، وَهِيَ مِنَ الْحِلِّ، وَعَرَفَةُ حِلٌّ ومشعر.
وسلك الطَّرِيقَ الْوُسْطَى بَيْنَ الطَّرِيقَيْنِ وَهِيَ الَّتِي تَخْرُجُ عَلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى حَتَّى أَتَى مِنًى، فَأَتَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، فَوَقَفَ فِي أَسْفَلِ الْوَادِي، وَجَعَلَ الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ، وَمِنًى عَنْ يَمِينِهِ، وَاسْتَقْبَلَ الْجَمْرَةَ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَرَمَاهَا رَاكِبًا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ يُكَبِّرُ مَعَ كل حصاة وحينئذ قطع التلبية وبلال
وَأُسَامَةُ مَعَهُ أَحَدُهُمَا آخِذٌ بِخِطَامِ نَاقَتِهِ، وَالْآخَرُ يظلله بثوبه من الحر، وفيه جواز استظلال الحرم بالمحمل ونحوه.
فصل ثم رجع إلى منى، فخطب خُطْبَةً بَلِيغَةً أَعْلَمَهُمْ فِيهَا بِحُرْمَةِ يَوْمِ النَّحْرِ وتحريمه وفضله، وحرمة مكة على جميع البلاد، وأمر بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِمَنْ قَادَهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِأَخْذِ مَنَاسِكِهِمْ عَنْهُ، وَقَالَ: «لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ عَامِي هَذَا» وَعَلَّمَهُمْ مَنَاسِكَهُمْ، وَأَنْزَلَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ مَنَازِلَهُمْ، وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ لَا يَرْجِعُوا بَعْدَهُ كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُهُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، وَأَمَرَ بِالتَّبْلِيغِ عَنْهُ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ «رُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ» وَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: «لَا يَجْنِي جَانٍ إِلَّا عَلَى نَفْسِهِ» وَأَنْزَلَ الْمُهَاجِرِينَ عَنْ يَمِينِ الْقِبْلَةِ، وَالْأَنْصَارَ عَنْ يَسَارِهَا، وَالنَّاسُ حَوْلَهُمْ، وَفَتَحَ اللَّهُ لَهُ أَسْمَاعَ النَّاسِ حَتَّى سمعه أَهْلُ مِنًى فِي مَنَازِلِهِمْ، وَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ تِلْكَ: «اعْبُدُوا رَبَّكُمْ، وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ، وَأَطِيعُوا ذَا أَمْرِكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ» وَوَدَّعَ حينئذ الناس، فقالوا: حجة الوداع.
ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمَنْحَرِ بِمِنًى، فَنَحَرَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةً بِيَدِهِ وَكَانَ يَنْحَرُهَا قَائِمَةً مَعْقُولَةً يدها اليسرى، وكان عددها عَدَدَ سِنِي عُمْرِهِ، ثُمَّ أَمْسَكَ، وَأَمَرَ عليا أن ينحر ما بقي من المائة، ثم أمره أن يتصدق بجلالها وجلودها ولحومها فِي الْمَسَاكِينِ، وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يُعْطِيَ الْجَزَّارَ فِي جِزَارَتِهَا شَيْئًا مِنْهَا، وَقَالَ: «نَحْنُ نُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِنَا وَقَالَ: مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ» فَإِنْ قيل ففي " الصحيحين " عن أنس في حجته: «ونحر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ سَبْعَ بُدْنٍ قياما» قيل: يخرج على أحد وجوه ثلاثة:
أحدها: أنه لم ينحر بيده أكثر من سبع، وأنه أمر من نحر إِلَى تَمَامِ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، ثُمَّ زَالَ عَنْ ذلك المكان وأمر عليا، فَنَحَرَ مَا بَقِيَ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أنس لم يشاهد إلا السبع، وشاهد جابر تمام النحر. الثالث: أنه نحر بيده منفردا سبعا، ثُمَّ أَخَذَ هُوَ وعلي الْحَرْبَةَ مَعًا فَنَحَرَا كَذَلِكَ تَمَامَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ كَمَا قَالَ غرفة بن الحارث الكندي أَنَّهُ شَاهَدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ قَدْ أَخَذَ بِأَعْلَى الْحَرْبَةِ، وَأَمَرَ عليا فَأَخَذَ بِأَسْفَلِهَا، وَنَحَرَا بِهَا الْبُدْنَ. ثُمَّ انْفَرَدَ
علي بِنَحْرِ الْبَاقِي مِنَ الْمِائَةِ كَمَا قَالَ جابر، والله أعلم.
ولم ينقل أحد أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا أَصْحَابَهُ جَمَعُوا بَيْنَ الْهَدْيِ وَالْأُضْحِيَةِ، بَلْ كَانَ هَدْيُهُمْ هُوَ ضحاياهم، فَهُوَ هَدْيٌ بِمِنًى، وَأُضْحِيَةٌ بِغَيْرِهَا، وَأَمَّا قَوْلُ عائشة: «ضَحَّى عَنْ نِسَائِهِ بِالْبَقَرِ،» فَهُوَ هَدْيٌ أطلق عليه اسم الأضحية، فإنهن كن متمتعات، وعليهن الهدي، وهو الذي نحره عنهن، لكن فِي قِصَّةِ نَحْرِ الْبَقَرَةِ عَنْهُنَّ وَهُنَّ تِسْعٌ إِشْكَالٌ وَهُوَ: إِجْزَاءُ الْبَقَرَةِ عَنْ أَكْثَرَ مِنْ سبعة، وهذا الحديث جاء بثلاثة ألفاظ.
أحدها: بقرة واحدة بينهن. الثاني: أنه ضحى عنهن يومئذ بالبقر. الثالث: دَخَلَ عَلَيْنَا يَوْمَ النَّحْرِ بِلَحْمِ بَقَرٍ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ فَقِيلَ: ذَبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَزْوَاجِهِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ فِي عَدَدِ مَنْ تُجْزِئُ عَنْهُمُ الْبَدَنَةُ وَالْبَقَرَةُ، فقيل: سبعة، وقيل: عشرة. وهو قول إسحاق، ثم ذكر أحاديث، ثم قال: وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تُخَرَّجُ عَلَى أَحَدِ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ إِمَّا أَنْ يُقَالَ ; أَحَادِيثُ السَّبْعَةِ أَكْثَرُ وَأَصَحُّ، وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: عَدْلُ الْبَعِيرِ بِعَشَرَةٍ مِنَ الغنم في الغنائم، لأجل تعديل القسمة، وأما في الهدايا والضحايا، فهو تقدير شرعي، وإما أن يقال: ذلك يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والإبل والله أعلم.
ونحر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْحَرِهِ بِمِنًى وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ «مِنًى كُلَّهَا مَنْحَرٌ» وَأَنَّ «فِجَاجَ مَكَّةَ طريق ومنحر» وفيه دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّحْرَ لَا يَخْتَصُّ بِمِنًى، بَلْ حَيْثُ نَحَرَ مِنْ فِجَاجِ مَكَّةَ أَجْزَأَهُ، لقوله: «وقفت ههنا وعرفة كلها موقف» وسئل أن يبنى له بمنى مظلة مِنَ الْحَرِّ، فَقَالَ: «لَا مِنًى مُنَاخُ مَنْ سبق» وفيه دَلِيلٌ عَلَى اشْتِرَاكِ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا، وَأَنَّ مَنْ سبق إلى مكان، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ حَتَّى يَرْتَحِلَ عَنْهُ، وَلَا يملك بذلك.
فلما أكمل نحره، استدعى بالحلاق، فحلق رأسه، وقال: «يا معمر أمكنك رسول الله مِنْ شَحْمَةِ أُذُنِهِ، وَفِي يَدِكَ الْمُوسَى، فَقَالَ: أما والله يا رسول الله إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيَّ وَمَنِّهِ قال: أجل» ذكره أحمد وقال له: " خذ " وأشار إلى جانبه الأيمن، ثم قسمه بين من يليه، ثم أشار إليه، فحلق الأيسر، ثم قال: " ههنا أبو طلحة؟ " فدفعه إليه.
ودعا للمحلقين بالمغفرة ثلاثا، وللمقصرين مرة، وهو دليل على أن الحلق نسك ليس بإطلاق من محصور.
فصل ثم أفاض إِلَى مَكَّةَ قَبْلَ الظُّهْرِ رَاكِبًا، فَطَافَ طَوَافَ الإفاضة، وَلَمْ يَطُفْ غَيْرَهُ، وَلَمْ يَسْعَ مَعَهُ، هَذَا هو الصواب، ولم يرمل فيه، وَلَا فِي طَوَافِ الْوَدَاعِ، وَإِنَّمَا رَمَلَ فِي طواف القدوم.
ثم أتى زمزم وَهُمْ يَسْقُونَ، فَقَالَ: «لَوْلَا أَنْ يَغْلِبَكُمُ النَّاسُ لَنَزَلْتُ فَسَقَيْتُ مَعَكُمْ» ثُمَّ نَاوَلُوهُ الدَّلْوَ، فَشَرِبَ وهو قائم، قيل: لأن النهي عن الشرب قائما على وجه الاختيار، وقيل: للحاجة وهو أظهر، وفي " الصحيح " عن ابن عباس «طَافَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حجة الوداع على بعيره يستلم الركن بمحجنه،» وفيه مثله من حديث جابر، وفيه: لِأَنْ يَرَاهُ النَّاسُ، وَلِيُشْرِفَ، وَلِيَسْأَلُوهُ، فَإِنَّ النَّاسَ غشوه. وهذا ليس بطواف الوداع، فإنه طافه ليلا، ولا طواف القدوم، فإنه رمل فيه، ولم يقل أحد: رملت به راحلته. ثم رجع إلى منى.
واختلف هل صلى الظهر بها أو بمكة؟ وطافت عَائِشَةَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ طَوَافًا وَاحِدًا، وَسَعَتْ سَعْيًا وَاحِدًا أَجْزَأَهَا عَنْ حَجِّهَا وَعُمْرَتِهَا، وَطَافَتْ صفية ذلك اليوم، ثم حاضت فأجزأها ذلك عن طواف الوداع، فاستقرت سنته صلى الله عليه وسلم إذا حاضت المرأة قبل الطواف أَنْ تَقْرِنَ وَتَكْتَفِيَ بِطَوَافٍ وَاحِدٍ، وَسَعْيٍ وَاحِدٍ، وإن حاضت بعد طواف الإفاضة أجزأها عن طواف الوداع.
ثم رجع إِلَى مِنًى مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ فَبَاتَ بِهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ انْتَظَرَ زَوَالَ الشَّمْسِ، فَلَمَّا زَالَتْ مشى إلى الجمرة وَلَمْ يَرْكَبْ فَبَدَأَ - 105 - بِالْجَمْرَةِ الْأُولَى الَّتِي تَلِيَ مَسْجِدَ الْخَيْفِ، فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ يَقُولُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ: اللَّهُ أَكْبَرُ، ثم تقدم عن الْجَمْرَةِ أَمَامَهَا حَتَّى أَسْهَلَ فَقَامَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَدَعَا دُعَاءً طَوِيلًا بِقَدْرِ سورة البقرة، ثم أتى الْوُسْطَى، فَرَمَاهَا كَذَلِكَ.
ثُمَّ انْحَدَرَ ذَاتَ الْيَسَارِ مِمَّا يَلِي الْوَادِي، فَوَقَفَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ رَافِعًا يَدَيْهِ يَدْعُو قَرِيبًا مِنْ وُقُوفِهِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ أتى جمرة العقبة، فاستبطن الوادي وجعل البيت عن يساره، فرماها بسبع حصيات كذلك، ثم رجع، ولم يبق عندها، فقيل: لضيق المكان. وَقِيلَ - وَهُوَ أَصَحُّ -: إِنَّ دُعَاءَهُ كَانَ فِي نَفْسِ الْعِبَادَةِ، قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْهَا، فَلَمَّا رَمَى جمرة العقبة،
فرغ الرمي، والدعاء في صلب العبادة أفضل. وَلَمْ يَزَلْ فِي نَفْسِي هَلْ كَانَ يَرْمِي قبل الصلاة أَوْ بَعْدَهَا، وَالَّذِي يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ قبلها، لِأَنَّ جابرا وَغَيْرَهُ قَالُوا: كَانَ يَرْمِي إِذَا زالت الشمس.
[فصل قد تَضَمَّنَتْ حَجَّتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتَّ وقفات للدعاء]
فَصْلٌ فَقَدْ تَضَمَّنَتْ حَجَّتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ست وقفات للدعاء: على الصفا، وعلى المروة، وبعرفة، وبمزدلفة، وعند الجمرة الأولى، وعند الجمرة الثانية.
وخطب بمنى خطبتين، يوم النحر وتقدمت، والثانية في أوسط أيام التشريق، واستأذنه العباس أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ، فَأَذِنَ لَهُ، وَاسْتَأْذَنَهُ رِعَاءُ الْإِبِلِ فِي الْبَيْتُوتَةِ خَارِجَ مِنًى عِنْدَ الْإِبِلِ، فَأَرْخَصَ لَهُمْ أَنْ يَرْمُوا يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ يَجْمَعُوا رَمْيَ يومين بعده يَرْمُونَهُ فِي أَحَدِهِمَا. قَالَ مالك: ظَنَنْتُ أَنَّهُ قَالَ: فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْهُمَا، ثُمَّ يَرْمُونَ يَوْمَ النَّفْرِ. وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: رَخَّصَ لِلرُّعَاءِ أَنْ يَرْمُوا يَوْمًا، وَيَدَعُوا يَوْمًا، فَيَجُوزُ لِلطَّائِفَتَيْنِ بِالسُّنَّةِ تَرْكُ الْمَبِيتِ بِمِنًى، وَأَمَّا الرَّمْيُ، فَإِنَّهُمْ لَا يَتْرُكُونَهُ، بَلْ لَهُمْ أن يؤخروه إلى الليل، وَلَهُمْ أَنْ يَجْمَعُوا رَمْيَ يَوْمَيْنِ فِي يَوْمٍ.
ومن لَهُ مَالٌ يَخَافُ ضَيَاعَهُ، أَوْ مَرِيضٌ يَخَافُ مِنْ تَخَلُّفِهِ عَنْهُ، أَوْ كَانَ مَرِيضًا لَا يمكنه الْبَيْتُوتَةُ، سَقَطَتْ عَنْهُ بِتَنْبِيهِ النَّصِّ عَلَى هَؤُلَاءِ، ولم يتعجل في يومين، بل تأخر حتى أكمل الرمي في الأيام الثَّلَاثَةِ، وَأَفَاضَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ بَعْدَ الظُّهْرِ إِلَى الْمُحَصَّبِ، وَهُوَ الْأَبْطَحُ، وَهُوَ خَيْفُ بَنِي كِنَانَةَ ; فوجد أبا رافع قد ضرب قبته هُنَاكَ، وَكَانَ عَلَى ثِقْلِهِ تَوْفِيقًا مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ دُونَ أَنْ يَأْمُرَهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فصلى بِهِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، وَرَقَدَ رَقْدَةً، ثُمَّ نَهَضَ إِلَى مَكَّةَ، فَطَافَ لِلْوَدَاعِ لَيْلًا سحرا.
وَرَغِبَتْ إِلَيْهِ عائشة تَلِكَ اللَّيْلَةَ أَنْ يُعْمِرَهَا عُمْرَةً مُفْرَدَةً، فَأَخْبَرَهَا أَنَّ طَوَافَهَا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا والمروة قد أجزأها عَنْ حَجِّهَا وَعُمْرَتِهَا، فَأَبَتْ إِلَّا أَنْ تَعْتَمِرَ عمرة مفردة، فأمر أخاها أَنْ يُعْمِرَهَا مِنَ التَّنْعِيمِ، فَفَرَغَتْ مِنْ عُمْرَتِهَا ليلا، ثم وافت المحصب مع أخيها في جوف الليل، فقال: فرغتما؟ قالت: نعم فنادى بالرحيل، فارتحل الناس.
وفي حديث الأسود في " الصحيح " عنها: «فَلَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ
مُصْعِدٌ مِنْ مَكَّةَ، وَأَنَا مُنْهَبِطَةٌ عَلَيْهَا، أَوْ أنا مصعدة وهو منهبط منها» . ففيه أنهما تلاقيا، وفي الأول أنه انتظرها في منزله، فإن كان حديث الأسود محفوظا، فصوابه: لقيني وَأَنَا مُصْعِدَةٌ مِنْ مَكَّةَ وَهُوَ مُنْهَبِطٌ إِلَيْهَا. فإنها قضت عمرتها، ثم أصعدت لميعاده، فوافته وقد أخذ في الهبوط إلى مكة للوداع، وله وجه غير هذا. واختلف فِي التَّحْصِيبِ هَلْ هُوَ سُنَّةٌ أَوْ مَنْزِلُ اتفاق؟ على قولين.
فصل وَيَرَى كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أَنَّ دُخُولَ الْبَيْتِ مِنْ سُنَنِ الْحَجِّ؛ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ سُنَّتُهُ أَنَّهُ لم يدخله في حجة ولا في عمرة، وإنما دخله عام الفتح، وكذلك الوقوف في الملتزم الذي روي عنه أنه فعله يوم الفتح، وأما ما رواه أبو داود مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عن جده، أنه وضع صدره ووجهه وذراعيه وكفيه وبسطهما وَقَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ-فَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وَقْتِ الْوَدَاعِ، وَأَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِهِ، وَلَكِنْ قال مجاهد وغيره: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقِفَ فِي الْمُلْتَزَمِ بَعْدَ طَوَافِ الوداع. وكان ابن عباس يلتزم ما بين الركن والباب. وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَرَادَ الْخُرُوجَ، وَلَمْ تَكُنْ أم سلمة طافت بالبيت وهي شاكية، وأرادت الخروج، فقال لها: «إِذَا أُقِيمَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ، فَطُوفِي عَلَى بَعِيرِكِ والناس يصلون» . ففعلته، ولم تصل حتى خرجت، وهذا محال أَنْ يَكُونَ يَوْمَ النَّحْرِ، فَهُوَ طَوَافُ الْوَدَاعِ بِلَا رَيْبٍ، فَظَهَرَ أَنَّهُ صَلَّى الصُّبْحَ يَوْمَئِذٍ بمكة، وسمعته أم سلمة يقرأ بـ " الطور "، ثم ارتحل رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ، «فَلَمَّا كَانَ بِالرَّوْحَاءِ، لَقِيَ رَكْبًا، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ: مَنِ الْقَوْمُ؟ فَقَالُوا: الْمُسْلِمُونَ، قَالُوا: فَمَنِ الْقَوْمُ؟ فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فرفعت إليه امرأة صبيا لها من محفة، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلِهَذَا حَجٌّ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَكِ أَجْرٌ» . فَلَمَّا أَتَى ذَا الْحُلَيْفَةِ، بَاتَ بِهَا، فَلَمَّا رَأَى الْمَدِينَةَ، كَبَّرَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَقَالَ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، آيِبُونَ تَائِبُونَ، عَابِدُونَ، سَاجِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ، صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ» . ثُمَّ
دَخَلَهَا نَهَارًا مِنْ طَرِيقِ الْمُعَرَّسِ، وَخَرَجَ مِنْ طريق الشجرة.
[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا وَالْعَقِيقَةِ]
فَصْلٌ
فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا وَالْعَقِيقَةِ وَهِيَ مُخْتَصَّةٌ بِالْأَزْوَاجِ الثَّمَانِيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي " سُورَةِ الأنعام "، وهذا مأخوذ من القرآن من أربع آيات: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} [المائدة: 1] (1) الثانية: {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 34] (2) الثالثة: {وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا} [الأنعام: 142] (3) الآية، والتي تليها الرابعة قوله: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [الْمَائِدَةِ: 95] (4) . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الَّذِي يَبْلُغُ الْكَعْبَةَ مِنَ الْهَدْيِ هُوَ هَذِهِ الْأَزْوَاجُ الثَّمَانِيَةُ، وَهَذَا اسْتِنْبَاطُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه. والذبائح التي هي عبادة ثلاث: الهدي، والأضحية، والعقيقة، فأهدى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَنَمَ، وَأَهْدَى الْإِبِلَ، وأهدى عن نسائه البقر والهدي في مقامه، وفي حجته، وفي عمرته، وكانت سنته تقليد الغنم دون إشعارها، وإذا بعث بهديه وهو مقيم، لم يحرم منه شيئا كان منه حلالا، وإذا أَهْدَى الْإِبِلَ، قَلَّدَهَا وَأَشْعَرَهَا، فَيَشُقُّ صَفْحَةَ سَنَامِهَا الأيمن يسيرا حتى يسيل الدم، وإذا بعث بهدي أَمَرَ رَسُولَهُ إِذَا أَشْرَفَ عَلَى عَطَبٍ شَيْءٌ منه أن ينحر، ثُمَّ يَصْبُغَ نَعْلَهُ فِي دَمِهِ، ثُمَّ يَجْعَلَهُ على صفحته، ولا يأكل منه ولا أحد من رُفْقَتِهِ، ثُمَّ يَقْسِمُ لَحْمَهُ، وَمَنَعَهُ مِنْ هَذَا الأكل سدا للذريعة؛ لئلا يقصر فِي حِفْظِهِ. وَشَرَّكَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ فِي الْهَدْيِ، البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة، وَأَبَاحَ لِسَائِقِ الْهَدْيِ رُكُوبَهُ بِالْمَعْرُوفِ إِذَا احْتَاجَ حتى يجد غيره، وقال علي: يَشْرَبُ مِنْ لَبَنِهَا مَا فَضَلَ عَنْ وَلَدِهَا. وكان هديه ينحر الإبل قياما معقولة يدها اليسرى، وَكَانَ يُسَمِّي اللَّهَ عِنْدَ نَحْرِهِ وَيُكَبِّرُ، وَكَانَ يَذْبَحُ نُسُكَهُ بِيَدِهِ، وَرُبَّمَا وَكَّلَ فِي بَعْضِهِ، وكان إذا ذبح الغنم وضع قدميه على صفاحها، ثم سمى وكبر ونحر، وأباح لِأُمَّتِهِ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ هَدَايَاهُمْ وَضَحَايَاهُمْ، وَيَتَزَوَّدُوا منها، ونهاهم أَنْ يَدَّخِرُوا مِنْهَا بَعْدَ ثَلَاثٍ لِدَافَّةٍ دَفَّتْ عليهم ذلك العام. وربما
_________
(1) سورة الأنعام، الآية: 2.
(2) سورة الحج، الآية: 34.
(3) سورة