إذا كان النبي الكريم صلى الله عليه وسلم حريصاً على تألف الناس للدخول في الإسلام، فإنّه كان أشد حرصاً على تعليم من أسلم منهم بالرفق واللين في حالة حدوث تصرفات من بعضهم بسبب جهلهم بتعاليم الإسلام أو لقربهم من العهد الجاهلي وعاداته السيئة، من ذلك:
1- قصة الأعرابي (1) الذي قدم من البادية ممتطياً بعيره حابساً بوله حتى
__________
(1) اختلف في اسم هذا الأعرابي، فقيل: ذو الخويصرة، وقيل: عيينة بن حصن، وقيل: الأقرع بن حابس، انظر: الفتح (1/323-324) .
قدم المدينة، بل وحتى دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنبي الكريم عليه الصلاة والسلام جالس مع أصحابه إذ بهذا الأعرابي ينيخ بعيره، ويتوجَّه إلى ناحية من نواحي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمام أعين الناس يرفع ثوبه ويجلس ليتخلص من بوله في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه منظر يثير الدهشة، سلك طريقاً طويلة لم يجد مكاناً يتبول فيه إلا مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم!!
لذلك أثار فعله هذا حفيظة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاموا ليمنعوه وينهروه، ولكن الرجل استمر في بوله غير عابئ بتلك الصرخات التي تعالت عليه من جوانب المسجد تستنكر هذا الفعل، إلا أن النبي الكريم والمربي الحكيم أنقذ الموقف بقوله صلى الله عليه وسلم للصحابة: "دعوه".
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي فقام يتبوَّل في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مَهْ مَهْ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزرموه (1) دعوه" (2) ، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه، فقال له: "إنّ هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول، ولا القَذَر، إنّما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن" أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأمر رجلاً من القوم فجاء بدلو من ماء فشنه عليه (3) (4) .
__________
(1) لا تُزْرموه: بضم التاء وإسكان الزاي، وبعدها راء، أي: لا تقطعوا عليه بوله. النووي مع مسلم (3/190) .
(2) قال النووي: ((قال العلماء: كان قوله (: دعوه، لمصلحتين: إحداهما: أنه لو قطع عليه بوله تضرر، وأصل التنجيس قد حصل، فكان احتمال زيادته أولى من إيقاع الضرر به، والثانية: أن التنجيس قد حصل في جزء يسير من المسجد، فلو أقاموه في أثناء بوله لتنجس ثيابه وبدنه ومواضع كثيرة من المسجد، والله أعلم» ا.?. النووي على مسلم (3/191) .
(3) فَشَنَّه عليه: أي صَبَّه. المصدر السابق.
(4) مسلم، رقم (661) ، والبخاري مختصراً رقم (220) .
فانظر إلى هذه الحادثة العجيبة، وكيف ساق الله هذا الأعرابي ليعمل ذلك العمل وكيف تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع تلك الحادثة، ليتعلم الصحابة ومن بعدهم إلى يوم الدين الرفق واللين منه عليه الصلاة والسلام.
2- وهناك موقف آخر حدث لبعض الصحابة تجلت فيه حكمة النبي صلى الله عليه وسلم وتربيته في معالجة الأمور، فقد دخل رجل في الصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم فبينما هم كذلك إذ عطس رجل ممن كان يصلي معهم، فَشَمَّت هذا الرجل ذلك العاطس بقوله: ((يرحمك الله)) ويظهر أنه كان قد تعلم أن العاطس يُشَمَّت مطلقاً، لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله، وليقل له أخوه – أو صاحبه – يرحمك الله …" الحديث (1) . ولا سيما أن الكلام في الصلاة في أول الإسلام كان جائزا ً، فقد قال زيد بن أرقم رضي الله عنه: ((كنّا نتكلم في الصلاة يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] فأُمِرنا بالسكوت، ونُهِينا عن الكلام)) (2) . ويظهر أيضاً أنه لم يبلغه النهي، إما لأنه كان يسكن خارج المدينة أو لأمر آخر، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم استدعاه، وعلَّمه تعليماً نبويّاً تجلَّت فيه التربية المحمدية.
عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذ عطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: وا ثُكْل (3) أمياه! ما شأنكم تنظرون إليّ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يُصَمِّتونني لكني سكتّ، فلما صلى
__________
(1) البخاري، رقم (6226) .
(2) صحيح مسلم بشرح النووي (5/26) .
(3) الثُّكْل: بضم الثاء وإسكان الكاف وبفتحها: فقدان المرأة ولدها. شرح النووي على مسلم (5/20) .
رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلّماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما كَهَرَني (1) ، ولا ضربني، ولا شتمني، قال: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنّما هو التسبيح، والتكبير، وقراءة القرآن" أوكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم …الحديث (2) .
قال الإمام النووي في شرحه للحديث: ((فيه بيان ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عظيم الخُلُق الذي شهد الله تعالى له به، ورفقه بالجاهل، ورأفته بأمته، وشفقته عليهم، وفيه التخلق بخلقه صلى الله عليه وسلم في الرفق بالجاهل، وحسن تعليمه واللطف به، وتقريب الصواب إلى فهمه (3) .
هذه هي تعاليم الإسلام التي جاء بها الهادي البشير صلى الله عليه وسلم، وهكذا كان يعلم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، والتعليم بهذا الأسلوب النبوي العجيب هو المثمر، وهو الذي يجعل الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، أما الغلظة والجفاء والسخرية والاستهزاء والازدراء فليست من الإسلام في شيء.
وصدق الله سبحانه إذ يقول في حق نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] ، والقائل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159] فصلوات الله وسلامه عليه.
__________
(1) ما كَهَرَني: أي ما انتهرني. المصدر السابق.
(2) صحيح مسلم بشرح النووي (5/20) .
(3) المصدر السابق.