وكانت كما قال ابن عبد البر وغيره: مرتين، الأولى بمكة قبل الهجرة بين المهاجرين بعضهم بعضا على الحق والمواساة، فآخى بين أبي بكر وعمر وطلحة والزبير، وبين عثمان وعبد الرحمن، رواه الحاكم. وفي رواية له: بين الزبير وبين ابن مسعود، وبين حمزة وزيد بن حارثة، وهكذا بين كل اثنين منهم إلى أن بقي علي، فقال: آخيت بين أصحابك، فمن أخي؟ قال: "أنا أخوك". وجاءت أحاديث كثيرة في مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم لعلي، وقد روى الترمذي وحسنه الحاكم وصححه عن ابن عمر: أنه صلى الله عليه وسلم قال لعلي: "أما ترضى أن أكون أخاك"؟ قال: بلى، قال: "أنت أخي في الدنيا والآخرة"، وأنكر ابن تيمية هذه المؤاخاة بين المهاجرين خصوصا بين المصطفى وعلي، وزعم أن ذلك من الأكاذيب وأنه لم يؤاخ بين مهاجري ومهاجري، قال: لأنها شرعت لإرفاق بعضهم بعضا، ولتتألف قلوب بعضهم على بعض، فلا معنى لمؤاخاته لأحد ولا لمؤاخاة المهاجرين، ورده الحافظ بأنه رد للنص بالقياس، وإغفال عن حكمة المؤاخاة؛ لأن بعض المهاجرين كان أقوى من بعض بالمال والعشيرة، فآخى بين الأعلى والأدنى، ليرتفق الأدنى بالأعلى ويستعين الأعلى بالأدنى، وبهذا تظهر حكمة مؤاخاته لعلي؛ لأنه هو الذي يقوم به من الصبا قبل البعثة واستمر، وكذا مؤاخاة حمزة وزيد لأن زيدا مولاهم فقد ثبتت أخوتهما وهما من المهاجرين.
وفي الصحيح في عمرة القضاء أن زيدا، قال: إن بنت حمزة ابنة أخي، وأخرج الحاكم وابن عبد البر بسند حسن عن ابن عباس: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين الزبير وابن مسعود، وهما من المهاجرين، وأخرجه الضياء في المختارة، وابن تيمية يصرح بأن أحاديث المختارة أصح وأقوى
ولما كان بعد قدومه بخمسة أشهر، آخى صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، وكانوا تسعين رجلا، من كل طائفة خمسة وأربعون،...................................
__________
من أحاديث المستدرك، انتهى.
والثانية هي التي ذكرها المصنف، فقال: "ولما كان بعد قدومه بخمسة أشهر" كما قال أبو عمر، وقيل: بثمانية، وقيل: بسبعة، وقيل: بسنة وثلاثة أشهر قبل بدر، وقيل: والمسجد يبنى، وقيل: قبل بنائه، "آخى صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار" قال السهيلي: ليذهب عنهم وحشة الغربة ويؤنسهم من مفارقة الأهل والعشيرة ويشد أزر بعضهم ببعض، فلما عز الإسلام واجتمع الشمل وذهبت الوحشة أبطل المواريث وجعل المؤمنين كلهم أخوة، وأنزل {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة} [الحجرات: 10] يعني: في التوادد وشمول الدعوة، انتهى. وقال العز بن عبد السلام: الأخوة حقيقية ومجازية، فالحقيقية المشابهة، يقال: هذا أخو هذا؛ لأنه شابهه في خروجه من البطن الذي خرج منه ومن الظهر أيضا، وآثارها المعاضدة والمناصرة، فتستعمل في هذه الآثار من التعبير بالسبب عن المسبب، ومنه قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة} [الحجرات: 10] هو خبر معناه الأمر، أي، لينصر بعضهم بعضا، وقوله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن أخو المؤمن" خبر أيضا، بمعنى الأمر، ولما انقسمت الحقيقية إلى أعلى المراتب كالشقيق وإلى ما دون ذلك، كالأخ للأب أو للأم كانت المجازية كذلك، فالأخوة الناشئة عن الإسلام هي الدنيا من المجازية، ثم إنها كملت بالأخوة التي سنها صلى الله عليه وسلم بمؤاخاته بين جماعة من أصحابه ومعناها أنه أمر ندب أن يعين كل واحد أخاه على المعروف ويعاضده وينصره، فصار المسلمان في هذه الأخوة الثانية في أعلى مراتب الأخوة المجازية كالشقيقين في الحقيقة، فإن قيل هذه الأخوة مستفادة من أصل الإسلام، فإنه يقتضي المعاونة على كل أمر جوابه، أن الأمر الثاني مؤكد لا منشئ لأم آخر؛ لأنه لا يستوي من وعدته بالمعروف من المسلمين ومن لم تعده، فإن الموعود قد وجد في حقه سببان الإسلام والمواعدة وهذه الأخوة هي التزام ومواعدة، ولا شك أن طلب الشارع للوفاء بالخير الموعود به أعلى رتبة من طلب الخير الذي لم يعد به، فقد تحقق طلب لم يكن ثابتا بأصل الإسلام وفيها فائدة أخرى، وهي أن هذه العزم المتجدد من هذا الوعد يترتب عليه من الثواب على عدد معلوماته لقوله صلى الله عليه وسلم: "ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة"، ولا شك أن هذا ثواب عظيم، وكذلك كل من وعد بخير فإنه يثاب على عزمه ووعده ما لا يثاب على العزم المتلقى عن أصل الإسلام، انتهى.
"وكانوا تسعين رجلا من كل طائفة خمسة وأربعون" كما ذكره ابن سعد بأسانيد الواقدي، قائلا: وقيل مائة من كل طائفة خمسون. وروى ابن إسحاق: أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم: "تآخوا في الله
على الحق والمواساة والتوارث.
وكانوا كذلك إلى أن نزل بعد بدر {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] تتميم.
__________
أخوين أخوين"، ثم أخذ بيد علي فقال: "هذا أخي" وآخى بينهم في دار أنس بن مالك، كما في الصحيح. وعند أبي سعد في الشرف: آخى بينهم في المسجد، "على الحق والمواساة" وبذل الأنصار رضي الله عنهم في ذلك جهدهم حتى عرض سعيد بن الربيع على أخيه عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه نصف ماله، وكان له زوجان فقال: اختر إحداهما أطلقها وتزوجها، كما في الصحيح.
وروى أبو داود والترمذي عن أنس: لقد رأيتنا وما الرجل المسلم أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم، وعزاه اليعمري لمسلم والترمذي والنسائي عن ابن عمر وتعقبه في النور بأنه لم يره فيهما بعد التفتيش. "و" على "التوارث" وشدد الله عقد نبيه بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا} [الأنفال: 72] ، إلى قوله: {وَرِزْقٌ كَرِيم} [الأنفال: 74] ، فاحكم الله بهذه الآيات العقد الذي عقده بينهما بتوارث الذين تآخوا دون من كان مقيما بمكة والقرابا. "وكانوا كذلك إلى أن نزل بعد بدر" حين أعز الله الإسلام وجمع الشمل وذهبت الوحشة، {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] الآية" فانقطعت المؤاخاة في الميراث، وبقيت في التوادد وشمول الدعوة والمناصرة "تتميم". روى البخاري عن عاصم، قلت لأنس: أبلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا حلف في الإسلام"، فقال: قد حالف النبي صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار في داري، وأخرجه أبو داود بلفظ: حالف بين المهاجرين والأنصار في دارنا مرتين أو ثلاثا، وروى أبو داود عن جبير بن مطعم مرفوعا: "لا حلف في الإسلام، وأي حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة".
وروى أحمد والترمذي وحسنه عن عبد الله بن عمرو بن العاصي رفعه: "أوفوا بحلف الجاهلية، فإن الإسلام لم يزده إلا شدة، ولا تحدثوا حلفا في الإسلام".
قال في النهاية: أصل الحلف المعاقدة والمعاهدة على التعاضد والتساعد والإنفاق، فما كان منه في الجاهلية على الفتن والقتال والغارات فذاك الذي نهى عنه، بقوله: "لا حلف في الإسلام" وما كان منه على نصر المظلوم وصلة الأرحام كحلف المطيبين وما جرى مجراه فذاك الذي قال فيه: "وأي حلف ... " إلخ، يريد من المعاقدة على الخير ونصر الحق، انتهى. وقول سفيان بن عيينة: حمل العلماء قول أنس على المؤاخاة تعقبه الحافظ بأن سياق عاصم عنه يقتضي
وبنى بعائشة على رأس تسعة أشهر, وقيل ثمانية، وقيل ثمانية عشر شهرا في شوال.
__________
أنه أراد المحالفة حقيقة، وإلا لما كان الجواب مطابقا. وقول البخاري باب الإخاء: والحلف ظاهر في المغايرة بينهما.
"وبنى بعائشة على رأس تسعة أشهر" من هجرته، "وقيل: ثمانية عشر شهرا" من الهجرة فيكون البناء في السنة الثانية، وبه صدر المصنف في الزوجات، وجزم به النووي في تهذيبه، قال الحافظ: ويخالفه ما ثبت أنه دخل بها بعد خديجة بثلاث سنين، "في شوال" كما في مسلم عنها، ولذا كانت تحب أن تدخل أهلها وأحبتها على أزواجهن في شوال، قاله أبو عمر. وقيل: بنى بها في الثامن والعشرين من ذي الحجة، والأول أصح. قال الحافظ: وإذ ثبت أنه بنى بها في شوال من السنة الأولى، قوي قول من قال دخل بها بعد الهجرة بسبعة أشهر، ووهاه النووي في تهذيبه وليس بواه إذا عددناه من ربيع الأول. انتهى.
"باب بدء الأذان":
وكان الناس -كما في السير وغيرها- إنما يجتمعون إلى الصلاة لتحين مواقيتها،.......................................
__________