لقد وقف كفّار قريش من النبيّ - صلى الله عليه وسلم - موقفًا لا يقف مثله إِلا سلفهم من أمثال فرعون وهامان وقارون (3)، ومن أوجه مشابهتهم لأولئك؛ الاستكبار عن الإِيمان مع تيقنهم
__________
(1) أخرجه البخاري في المناقب، باب مالقي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ح (3856)
(2) أخرجه البخاري في التفسير، باب {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} ح (4958) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما -.
(3) أخرج أحمد في مسنده (1/ 404) من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه - أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وصف أبا جهل بأنه فرعون هذه الأمّة، وفي سنده انقطاع.
بصدق ما يُدعَون إِليه من الحقّ، قال الله تعالى عن فرعون: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} (1).
روى ابن إسحاق عن الزهري، أنّ أبا جهل، وأبا سفيان، والأخنس بن شريق، خرجوا ليلة يتسللون، يتسمّعون من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -وهو يصلي بالليل في جوف بيته، وأخذ كل رجل منهم مجلسًا، وكلًا لا يعلم بمكان صاحبه، فلما أصبحوا تفرّقوا فجمعهم الطريق، فتلاوموا وقالوا: لا نعود، فلو رآنا بعض السّفهاء لوقع في نفسه شيءٌ، ثم عادوا لمثل ليلتهم، فلما تفرقوا تلاقوا فتلاوموا كذلك، فلما كان في الليلة الثالثة وأصبحوا جمعتهم الطريق فتعاهدوا أن لا يعودوا، ثم إِن الأخنس بن شريق أتى أبا سفيان في بيته، فقال: أخبرني عن رأيك فيما سمعت من محمَّد؟ فقال: يا أبا ثعلبة، والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يُراد بها. وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها. فقال الأخنس: وأنا، والذي حلفت به كذلك. ثم أتى أبا جهل فقال: ما رأيك؟ فقال: ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشّرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إِذا تجاثينا على الركب، وكنّا كفرسي رهان، قالوا: منّا نبيّ يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه؟! والله لا نؤمن به أبدًا، ولا نصدقه. فقام عنه الأخنس وتركه (2).
كم كانت قوة التأثير بالقرآن الكريم قويّة على السامعين، فهؤلاء صناديد الكفر يتسللون ليلًا ليستمع كل واحد منهم قراءته - صلى الله عليه وسلم -، لا يملكون لأنفسهم دفعًا دون استماع القرآن يتدفق من فيِ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - غضَّا طريَّا.
__________
(1) سورة النمل، آية 14.
(2) سيرة ابن هشام، 1/ 315. وقد صرح ابن إسحاق بالتحديث عن الزهري، وذكره الصالحي في سبل الهدى والرشاد 2/ 470: وقال: أخرجه محمَّد بن يحيى الذهلي، في الزهريات عن سعيد بن المسيب، بسند صحيح.
ولكن غلبة الهوى والكبر على العقل، والمنافسة بالباطل أذهبت ذلك الأثر، فلا درَك لهم من الهلاك، فأبعدهم الله.
وعن المغيرة بن شعبة، قال: إِن أول يوم عرفت فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنّي أمشي أنا وأبو جهل، إِذ لقينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال لأبي جهل: يا أبا الحكم، هلُمّ إِلى الله وإلى رسوله، أدعوك إِلى الله .. فقال أبو جهل: يا محمَّد، هل أنت منتهٍ عن سبّ آلهتنا، هل تريد إِلا أن نشهد أن قد بلّغتَ، فوالله لو أني أعلم أن ما تقول حقّا ما اتّبعتك. فانصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأقبل عليَّ فقال: والله، إِنى لأعلم أن ما يقول حقّ، ولكنّ بني قصي قالوا: فينا الحجابة، فقلنا: نعم. فقالوا: ففينا الندوة. قلنا: نعم. ثم قالوا: فينا اللواء. فقلنا: نعم. وقالوا: فينا السقاية. فقلنا: نعم، ثم أطعموا وأطعمنا؛ حتى إِذا تحاكت الركب، قالوا: منّا نبيّ، والله لا أفعل (1).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن الوليد بن المغيرة جاء إِلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقرأ عليه القرآن، فكأنّه رقَّ له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال: يا عمّ، إنّ قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً؟ قال: لِمَ؟ قال: ليعطوكه، فإِنّك قد أتيتَ محمدًا لِتعرضَ لِمَا قِبَله. قال: قد علِمتْ قريشٌ أنّي من أكثرها مالاً. قال: فقل فيه قولًا يبلغ قومك أنّك منكرٌ له. قال: وماذا أقول؟ فوالله ما منكم رجلٌ أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه، ولا بقصيده مني، ولا بأشّعار الجّن، والله ما يشبه الذي يقول شيئًا من هذا، ووالله إِنّ لقوله الذي يقوله حلاوة، وإِنّ عليه لطلاوة، وإِنّه لمثمرٌ أعلاه، مُغْدق أسفله، وإِنّه ليعلو ولا يُعلى، وإِنّه ليَحْطِمُ ما تحته. قال: فدعني حتى أفكر فيه. فلمّا فكر قال: هذا سحرٌ
__________
(1) السيرة النبوية للذهبي 1/ 130. وانظر دلائل النبوة للبيهقي 2/ 207.
يؤثر، يأثرُه عن غيره. فنزلت: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا} الآيات (1)
عن جابر بن عبد الله، قال: اجتمعت قريش يومًا، فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذي فرّق جماعتنا، وشتّت أمرنا، وعاب ديننا، فليكلمْه، ولينظر ماذا يردّ عليه فقالوا: ما نعلم أحد غير عتبة بن ربيعة. ققالوا: أنت يا أبا الوليد. فأتاه عتبة، فقال: يا محمَّد، أنت خير أم عبد الله؟ فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أنت خيرٌ أم عبد المطلب؟ فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إِن كنتَ تزعم أن هؤلاء خير منك، فقد عبدوا الآلهة التي عِبْت، وإن كنت تزعم أنّك خيرٌ منهم، فتكلّم حتى نسمع قولك، إِنا والله ما رأينا أشأم على قومه منك، فرقت جماعتنا وشتت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحرًا، وأنّ في قريش كاهنًا، والله ما ننتظر إِلا مثل صيحة الحُبْلى، أن يقوم بعضنا إِلى بعض بالسيوف حتى نتفانى، أيها الرجل إِن كان إِنّما كان بك الحاجة، جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلًا، وأن كان إِنّما بك الباءة، فاختر أيّ نساء قريش شئت، فلْنزوّجْك عشرًا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فرغت؟!. قال: نعم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} إلى أن بلغ {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} (2).
فقال عتبة: حسبك حسبك، ما عندك غير هذا؟ قال: لا. فرجع إِلى قريش، فقالوا: ما وراءك؟ قال: ما تركت شيئًا أرى أنكم تكلمونه إِلا كلمته. قالوا: فهل أجابك؟
__________
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك (2/ 506)، وقال: (صحيح الإسناد على شرط البخاري، ولم يخرجاه) ووافقه الذهبي. والآيات من سورة المدثر 11 - 13.
(2) سورة فصلت، آية 1 - 13.
فقال: نعم. ثم قال: لا، والذي نصبها بَنيّة (1)، ما فهمتُ شيئًا ممّا قال غير أنّه قد أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود. قالوا: ويلك، يكلمك الرجل بالعربية لا تدري ما قال؟! قال: لا والله، ما فهمت شيئًا مما قال غير ذكر الصاعقة (2).
فكل هذه الروايات دلائل على أن القوم لديهم في أنفسهم اعتراف بالحقّ، وإصرار على الباطل، واعتصام بالدنيا، وركون إِلى الجاه والمنزلة، وانتهى الأمر بكبار هؤلاء إِلى قليب من قُلُب بدر الكبرى جيفة نتنة: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} (3).