دخل الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة في ضحى يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول بعد ثلاث عشرة سنة من مبعثه وكان راكبا ناقته (القصواء) وكلما مر بعشيرة من أنصاره رجوه أن ينزل فيهم وقالوا: يا رسول الله أقم عندنا في العدد والعدة والمنعة فيجيبهم: خلوا سبيلها- أي الناقة- فإنها مأمورة، فجاوزت به بني سالم بن عوف وبني بياضة وبني ساعدة وبني الحارث بن خزرج وبني عدي بن النجار، حتى إذا أتت دار بني مالك بن النجار بركت في المكان الذي بنى فيه الرسول صلى الله عليه وسلم مسجده، وكان يومئذ مربدا «1» لغلامين يتيمين من بني النجار يربيهما معاذ بن عفراء، فنزل عنها الرسول صلى الله عليه وسلم وحمل أبو أيوب خالد بن زيد رحله ووضعه في بيته حيث نزل عليه الرسول صلى الله عليه وسلم ضيفا لحين إتمام بناء المسجد والحجرات التي أقام فيها الرسول وأهله بعد قليل. وعندما سأل عن المربد لمن هو؟ أجابه معاذ بن عفراء: هو يا رسول الله لسهل وسهيل ابني عمرو وهما يتيمان وسأرضيهما عنه فاتخذه مسجدا «2» .
__________
(1) المربد: موضع يجفف فيه التمر.
(2) ابن هشام: تهذيب ص 130- 131 الطبري: تاريخ 2/ 396 ابن سعد: طبقات 1/ 1/ 160 المسعودي: مروج
أصدر الرسول صلى الله عليه وسلم أمره في البدء ببناء المسجد وأسهم بنفسه في العمل جنبا إلى جنب مع المهاجرين والأنصار، وعندما رأى هؤلاء رسولهم الكريم يجهد كما يجهدون نشطوا في أداء المهمة وراحوا ينشدون:
لئن قعدنا والرسول يعمل ... لذاك منا العمل المضلل
لا عيش إلا عيش الآخره.. ... اللهم ارحم الأنصار والمهاجره
فيجيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم:
لا عيش إلا عيش الآخره.. ... اللهم ارحم المهاجرين والأنصار «1»
كان أسعد بن زرارة الأنصاري قد بنى- قبيل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم- جدارا حول المربد دونما سقف وجعل قبلته إلى بيت المقدس وراح يصلي فيه بأصحابه حتى مقدم الرسول صلى الله عليه وسلم الذي بدأ بأن أمر أصحابه باقتلاع ما في الباحة من نخيل وأشجار وتصريف ما فيها من ماء آسن وبدأ بناء المسجد باللبن فجعله مربع الشكل طوله مما يلي القبلة إلى مؤخره مائة ذراع وعرضه كذلك وجعل أساسه قريبا من ثلاثة أذرع أقيم اللبن فوقها، وجعل قبلته صوب بيت المقدس وجعل له ثلاثة أبواب، وجيء بجذوع الأشجار ليقام عليها سقف متواضع من جريد رغبة من الرسول صلى الله عليه وسلم في إنجاز العمل بأسرع وقت، وإلى جانب المسجد أقيم عدد من الحجرات سقفت هي الآخرى بجذوع النخل لسكنى الرسول وأهله «2» .
وسرعان ما غدا (المسجد) رمزا لما يتسم به الإسلام من شمولية وتكامل، فقد أصبح مركزا روحيا لممارسة الشعائر وأداء العبادات، ودائرة سياسية عسكرية لتوجيه علاقات الدولة في الداخل والخارج، ومدرسة علمية وتشريعية يجتمع في ساحاتها أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وتدار في باحاتها الندوات وتلقى على منبرها المتواضع التعاليم والكلمات، ومؤسسة اجتماعية يتعلم المسلمون فيها النظام والمساواة ويمارسون التوحد والأخاء والانضباط. ومما لا ريب فيه أن (نقص)
__________
الذهب 2/ 279- 280 البلاذري: فتوح البلدان 10/ 4- 5 أنساب الأشراف 1/ 266 البخاري: تجريد 2/ 272 ابن الأثير: الكامل 2/ 109- 110 ابن كثير: البداية والنهاية 3/ 214- 221 وانظر بالتفصيل السمهودي: وفاء الوفا 1/ 229- 256.
(1) ابن هشام 131 الطبري 2/ 396- 397 ابن سعد 1/ 2/ 2- 3 البخاري 2/ 73 وانظر بالتفصيل السمهودي 1/ 229- 256.
(2) ابن سعد 1/ 2/ 2- 3 البلاذري: فتوح البلدان. 1/ 4- 5 وانظر بالتفصيل المسهودي 229- 256.
أموال الدولة الإسلامية في سنيّها الأولى وانشغالها الدائم في الداخل والخارج لم يمكنها من بناء وإنشاء مزيد من المؤسسات المتخصصة لكي تمارس كل منها المهمة التي عهدت إليها، الأمر الذي جعل المسجد يزدحم بالوظائف والمهام ويغدو- على بساطته- (مجمعا) تلتقي فيه وتصدر منه كافة عمليات الحكومة وجزآ مهما من نشاطات الجماعة الإسلامية في علاقاتها الداخلية والخارجية على السواء.
لقد كان بناء المسجد هو الخلية الأولى للبناء الاجتماعي للأسرة والجماعة بوصفه أداة صهر المؤمنين بالإسلام في وحدة فكرية واحدة من خلال حلقات العلم والقضاء والعبادة والبيع والشراء وإقامة المناسبات المختلفة.. فلم يكن المسجد معبدا أو مقرا للصلاة وحدها بل كان شأنه شأن الإسلام نفسه متكاملا في مختلف جوانب الدين والسياسة والاجتماع «1» .