333- هذا هو الأمر الثالث الذى ابتدأ به النبى صلّى الله عليه وسلّم إقامته فى المدينة المنورة.
لقد ابتدأ صلّى الله عليه وسلّم ببناء مسجد فى قباء، وهو المسجد الذى ذكر الله سبحانه وقال فيه.. لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ «1» وأنه يجىء إليه الذين يحبون أن يتطهروا، والله يحب المطهرين، ولما نزل فى بيت أبى أيوب اتجه تفكيره إلى إنشاء مسجد بالمدينة المنورة الذى هو أحد المساجد الثلاثة التى تشد إليها الرحال وهى: المسجد الحرام، ومسجد بيت المقدس (المسجد الأقصى) ، وهذا المسجد، أو كما قال عليه الصلاة والسلام (مسجدى هذا) .
روى عن ابن شهاب الزهرى أنه قال: بركت ناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى موضع مسجده، وهو يصلى فيه رجال من المسلمين، فكان مصلى لهم قبل أن يا بنى صلّى الله عليه وسلّم فيه مسجده.
ولقد كان ذلك الموضع الذى بركت فيه الناقة مربدا لغلامين يتيمين فى المدينة المنورة من أولاد الأنصار، وكان اليتيمان فى كفالة أسعد بن زرارة الذى كان أول داع للإسلام فى المدينة المنورة قبل هجرة النبى صلّى الله عليه وسلّم إليها.
ساوم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الغلامين، أو وصيهما أو هما بحضرة وصيهما، فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله، ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام أبى إلا أن يكون بالثمن، فابتاعه منهما بعشرة دنانير.
وكان قبل شراء رسول الله عليه الصلاة والسلام جدارا لا سقف له، وكان يصلى فيه، ويقيم الجماعات والجمعة أسعد بن زرارة، قبل مقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو بمكة المكرمة وقد جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فجعل ذلك المصلى مسجده كما أشرنا.
وقد جعله صلّى الله عليه وسلّم بناء مربعا، طول كل بعد من أبعاده مائة ذراع، وقد قال ابن القيم رضى الله عنه، جعل أساسه قريبا من ثلاثة أذرع، وتم بناؤه باللبن، وبعضهم قال إن بعضه كان بالحجر المنصنود.
__________
(1) التوبة: 108.
وقد اشترك فى بنائه كل من حضر البناء من المهاجرين والأنصار، والنبى صلّى الله عليه وسلّم كان يعمل فى بنائه، وكان ينقل اللبن والحجارة بنفسه، ويقول راجزا.
اللهم لا عيش إلا عيش الاخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرة.
ولقد جعلوا يرتجزون، وينقلون اللبن ويقول بعضهم فى رجزه مستحثا الهمم:
لئن قعدنا والرسول يعمل ... لذاك منا العمل المضلل.
وجعل عليه الصلاة والسلام قبلته إلى بيت المقدس، وجعل له ثلاثة أبواب، بابا فى مؤخره، وبابا يقال له باب الرحمة، والباب الذى يدخل منه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وجعل عمده بالجذوع، وذكر السهيلى أنها جذوع نخل، وسقف بالجريد، وجعلت قبلته من اللبن، وقيل من الحجارة منضودة بعضها على بعض.
وقد نخرت عمده فى خلافة الإمام عمر فجردها، واستبدل بها، ولما كانت خلافة عثمان ذى النورين رضى الله عنه بناها بالحجارة المقوسة، وسقفه بالساج، وجعل قبلته من الحجارة، وهذه رواية واحدة، وفى عهد عبد الملك بن مروان أضيفت حجرات نسائه، وكانت تسعا.
ولما كانت أيام بنى العباس، بناه المهدى ثالث ملوكهم، ووسعه وزاد فيه، وذلك فى سنة ستين ومائة، ثم زاد فيه عبد الله المأمون، وأتقن بنيانه.
ونخلص من هذا الى أن سنة النبى صلّى الله عليه وسلّم فى بناء مسجده، ومسجد قباء كانت بأقل كلفة لتشجيع بناء المسجد.
وكما كان مسجده الطاهر الذى هو أحد المساجد التى تشد إليها الرحال كان أيضا مسكنه، وكانت بيوته عليه الصلاة والسلام تسعا، بعضها من جريد مطين بالطين، وسقفها جريد، وبعضها من حجارة مرصوصة بعضها فوق بعض، وسقف أيضا بالجريد، ولم يكن سقفه عاليا.
وكان سريره عليه الصلاة والسلام خشبات مشدودة بالليف، فهل من معتبر، فذلك نبى الخليقة، فهل من الناس من يتسامى إلى حياة كحياته!!
تم بحمد الله المجلد الأول ويحوي الجزء الأول ويليه المجلد الثانى ويحوي الجزء الثاني
الجزء الثانى
بناء الدولة الإسلامية- معاهدة جوار مع اليهود- نقضهم لها- إجلاؤهم من المدينة- المنافقون- الإذن بالجهاد- الغزوات والسرايا- غزوة بدر- غزوة أحد- غزوة الأحزاب- الأحكام الشرعية التى شرعت.
[