روى الإمام أحمد والشيخان عن المسوّر ابن مخرمة، ومروان بن الحكم، قالا: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- صالح أهل مكة، وكتب كتاب الصلح بينه وبينهم فلما فرغ قال للناس:
قوموا فانحروا، ثم احلقوا قالا: فو الله ما قام منهم رجل، حتى قالها ثلاثا! فلما لم يقم أحد، ولا تكلّم أحد منهم قالت: لن يقوموا حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك فخرج ففعل ذلك، فلما رأوا ذلك، قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا. وتقدم مبسوطا في غزوة الحديبية.
الثامن: في وفاتها- رضي الله تعالى عنها-.
قال ابن أبي خيثمة- رحمه الله تعالى- توفّيت أمّ سلمة في ولاية يزيد بن معاوية سنة إحدى وستين على الصحيح، واستخلف يزيد سنة ستين بعد ما جاء خبر الحسين بن علي- رضي الله تعالى عنهما- عليهم، ولها أربع وثمانون سنة على الصواب.
وروى الطبراني برجال ثقات عن الهيثم بن عدي- رحمه الله تعالى- قال: أول من مات من أزواج النبي- صلى الله عليه وسلّم- زينب بنت جحش، وآخر من مات منهنّ أمّ سلمة زمن يزيد بن معاويّة سنة اثنتين وستين.
التاسع: في ولدها- رضي الله تعالى عنها-
كان لها ثلاثة أولاد: سلمة أكبرهم، وعمر، وزينب أصغرهم ربّوا في حجر النبي- صلى الله عليه وسلّم- واختلف الرواة فيمن زوّجها من النبي- صلى الله عليه وسلم- فروى الإمام أحمد والنسائي أنه عمر، وقيل سلمة أبو عمر، وعليه الأكثر، وزوجه- صلى الله عليه وسلّم- أمامة بنت حمزة بن عبد المطلب، عاش في خلافة عبد الملك بن مروان، ولم تحفظ له رواية، وأما عمر- رضي الله تعالى عنه- فله رواية وتوفّي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وله تسع سنين، وكان مولده بالحبشة، في السنة الثانية من الهجرة، واستعمله علي- رضي الله تعالى عنها- على فارس، والبحرين، وتوفّي بالمدينة سنة ثلاث وثمانين في خلافة عبد الملك. وأما زينب فولدت بأرض الحبشة وكان اسمها (برة) فسمّاها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- زينب، دخلت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم وهو يغتسل فنضح في وجهها الماء فلم يزل ماء الشّباب في وجهها- رضي الله تعالى عنها- حتى كبرت وعجزت.
روى الطبرانيّ عنها- رضي الله تعالى عنها- قالت: كانت أمّي إذا دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- يغتسل تقول أمي: اذهبي فادخلي، قالت: فدخلت، فنضح في وجهي بالماء، وقال: ارجعي، وقال العطاف: قالت أمي: فرأيت وجه زينب وهي عجوز كبيرة ما نقص من وجهها شيء.
وتزوّجها عبد الله بن زمعة بن الأسود الأسديّ وولدت له، وكانت من أفقه أهل زمانها.
,
الأوّل: اختلف فيمن زوّجها فروي عن سعيد بن العاص، وروي عن عثمان بن عفان وليس بصواب، لأنّ عثمان كان مقدمه من الحبشة قبل وقعة بدر، وهي ابنة عمّته، وقال البيهقيّ: إنّ الذي زوّجها خالد بن سعيد بن العاص- رضي الله تعالى عنه- وهو ابن عمّ أبيها، لأن العاص بن أميّة عم أبي سفيان بن حرب بن أمية، وروى النجاشيّ ويحتمل أن يكون النجاشي هو الخاطب، والعاقد إما عثمان أو خالد بن سعيد بن العاص على ما تضمّنه الحديث السّابق، وقيل: عقد عليها النجاشي وكان قد أسلم، وقيل: إنّما تزوّجها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عند مرجعها من الحبشة، والأوّل أثبت من ذلك كله.
وروي أن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- بعث عمر بن أمية الضمري إلى النّجاشي ليخطبها عليه فزوّجه إيّاها، وأصدقها أربعمائة دينار، وبعث بها مع شرحبيل ابن حسنة- رضي الله تعالى عنه- فجاءه- صلى الله عليه وسلّم- بها، فيحتمل أنه- صلى الله عليه وسلم بعث عمرا للخطبة، وشرحبيل لحملها إليه، وكان ذلك في سنة سبع من الهجرة، وكان أبوها حال نكاحها بمكة مشركا محاربا لرسول الله- صلى الله عليه وسلم.
الثاني: روى ابن حبان عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: هاجر عبيد الله بن جحش بأمّ حبيبة بنت أبي سفيان وهي امرأته إلى أرض الحبشة، فلما قدم أرض الحبشة مرض، فلمّا حضرته الوفاة أوصى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-، فتزوّج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أمّ حبيبة،
وبعث معها النجاشي شرحبيل بن حسنة- رضي الله تعالى عنه- وفي هذا إشكالان أحدهما:
في الإسم، فإن المشهور أنه عبيد الله بالتصغير، كما تقدّم ذكره وأنه تنصّر.
ثانيهما: أن عبيد الله ثبت على إسلامه حتّى استشهد بأحد- رضي الله تعالى عنه-.
الثالث:
روى مسلم عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما-[قال: كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يقاعدونه. فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا نبيّ الله! ثلاث أعطنيهنّ. قال «نعم» قال: عندي أحسن العرب وأجمله، أم حبيبة بنت أبي سفيان، أزوجكها. قال «نعم» قال:
ومعاوية، تجعله كاتبا بين يديك. قال «نعم» . قال: وتؤمّرني حتّى أقاتل الكفّار، كما كنت أقاتل المسلمين. قال «نعم» .
قال أبو زميل: ولولا أنّه طلب ذلك من النبي صلى الله عليه وسلّم، ما أعطاه ذلك. لأنه لم يكن يسأل شيئاً إلا قال «نعم» ] .
الرابع: في بيان غريب ما سبق: أكبّ: [أقبل عليه وشغل به] .
ما شعرت [ ... ] .
لا يقرع أنفه [أي أنه كفء كريم لا يرد] .
الباب السابع في بعض فضائل أم المؤمنين سودة بنت زمعة- رضي الله تعالى عنها-
وفيه أنواع
,
والسبب في ذلك ما رواه الفريابيّ، وعبد بن حميد وابن جرير، والبيهقي عن مجاهد، وعبد بن حميد، وابن جرير عن قتادة، وابن جرير عن ابن زيد، ومحمد بن عمر عن شيوخه قالوا: أرى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنّه دخل مكة هو وأصحابه آمنين محلّقين رؤوسهم ومقصرين، وأنه دخل البيت، وأخذ مفتاحه وعرّف مع المعرّفين.
قال ابن سعد، ومحمد بن عمر، وغيرهما: واستنفر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- العرب ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب، ليخرجوا معه وهو يخشى من قريش للذي صنعوا أن يعرضوا له بحرب أو يصدّوه عن البيت. فأبطأ عليه كثير من الأعراب.
قال محمد بن عمر: وقدم عليه بسر- بضم الموحدة وسكون المهملة. وأعجمها ابن إسحاق، وكسر الموحدة- ابن سفيان بن عمرو الخزاعي في ليال بقيت من شوال مسلما، فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «يا بسر لا تبرح حتى تخرج معنا، فإنّا إن شاء الله معتمرون» ،
فأقام وابتاع لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- بدنا فكان يبعث بها إلى ذي الجدر حتّى حضر خروجه، فأمر بها فجلبت إلى المدينة، وسلّمها إلى ناجية بن جندب الأسلمي فقدّمها إلى ذي الحليفة.
واستخلف على المدينة- قال محمد بن عمر، وابن سعد-: ابن أم مكتوم. وقال ابن هشام: ومن تبعه: نميلة- بالنون تصغير نملة- بن عبد الله اللّيثي، وقال البلاذري بعد أن ذكر ابن أم مكتوم ويقال: أبو رهم كلثوم بن الحصين قال: وقوم يقولون: استخلفهم جميعا وكان ابن أم مكتوم على الصّلاة.
ذكر خروجه- صلى الله عليه وسلم-
روى عبد الرزاق، والإمام أحمد، وعبد بن حميد، والبخاري وأبو داود، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر عن معمر عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، وابن إسحاق عن الزّهري عن عروة بن الزبير عن المسور- بكسر الميم وسكون السين المهملة- ابن مخرمة- بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة، ومروان بن الحكم: أنهما حدثاه ومحمد بن عمر عن شيوخه، يزيد بعضهم على بعض- قال محمد بن عمر: دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- بيته فاغتسل، ولبس ثوبين من نسج صحار، وركب راحلته القصواء من عند بابه، وخرج بأم سلمة معه، وأم عمارة وأم منيع أسماء بنت عمرو، وأم عامر الأشهلية، وخرج بمن معه من المهاجرين والأنصار، ومن لحق به من العرب لا يشكّون في الفتح للرؤيا المذكورة، وليس معهم سلاح إلا
السّيوف في القرب، وساق قوم الهدي فسار رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم الاثنين لهلال ذي القعدة حتى نزل ذا الحليفة فصلى الظهر، ثم دعا بالبدن- وهي سبعون- فجلّلت، ثم أشعر منها عدّة وهي موجهات إلى القبلة في الشّق الأيمن، ثم أمر ناجية بن جندب فأشعر ما بقي وقلّدهن نعلا نعلا، وأشعر المسلمون بدنهم وقلدوها، وكان معهم مائتا فرس، وبعث- صلى الله عليه وسلّم- بسر بن سفيان عينا له، وقدم عباد بن بشر طليعة في عشرين فارسا، ويقال جعل أميرهم سعد بن زيد الأشهلي [ (1) ] .
ذكر إحرامه- صلى الله عليه وسلّم-
ثم صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- ركعتين، وركب من باب المسجد بذي الحليفة، فلما انبعثت به راحلته مستقبلة القبلة أحرم بالعمرة، ليأمن النّاس حربه، وليعلم الناس أنّه إنّما خرج زائرا لهذا البيت، ومعظّما له.
ولفظ تلبية «لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك، والملك لا شريك لك» .
وأحرم غالب أصحابه، وأم المؤمنين أم سلمة بإحرامه، ومنهم من لم يحرم إلا «بالجحفة» وسلك طريق البيداء ومرّ فيما بين مكة والمدينة بالأعراب من بني بكر، ومزينة، وجهينة فاستنفرهم، فتشاغلوا بأموالهم، وقالوا فيما بينهم: يريد محمّد يغزو بنا إلى قوم معدّين في الكراع والسّلاح، وإنّما محمد، وأصحابه أكلة جزور، لن يرجع محمد وأصحابه من سفرهم هذا أبدا، قوم لا سلاح معهم ولا عدد.
ثم قدم رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- ناجية بن جندب بالهدي مع فتيان من أسلم، ومعهم هدي المسلمين، ولقى طائفة من بني نهد فدعاهم إلى الإسلام فأبوا، وأهدوا له لبنا من نعمهم، فقال: «لا أقبل هديّة مشرك»
فابتاعه المسلمون منهم، وابتاعوا منهم ثلاثة أضبّ فأكل قوم أحلّة
وسأل المحرمون رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عنها فقال: «كلوا فكل صيد البرّ لكم حلال في الإحرام تأكلونه إلّا ما صدتم أو صيد لكم» .
وعطب من ناجية بن جندب بعير من الهدي، فجاء بالأبواء إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- وأخبره، فقال: «انحره واصبغ قلائده في دمه، ولا تأكل أنت ولا أحد من أهل رفقتك منه، وخلّ بين النّاس وبينه» [ (2) ] .
,
روى ابن إسحاق وأبو عبيد وعبد الرزاق والإمام أحمد وعبد بن حميد والبخاري وأبو داود والنسائي وابن جرير وابن مردويه، ومحمد بن عمر عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، والشيخان عن سهيل بن حنيف أن عثمان لما قدم من مكة هو ومن معه رجع سهيل بن عمرو وحويطب ومكرز إلى قريش فأخبروهم بما رأوا من سرعة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 7/ 507 (4153) .
[ (2) ] البخاري في المصدر السابق (4155) ومسلم 3/ 1485 (75/ 1857) .
[ (3) ] أخرجه البخاري 7/ 507 (4154) ، وأخرجه مسلم 3/ 1484 (71/ 1856) .
[ (4) ] أخرجه أبو داود (4653) والترمذي (3860) وأحمد 3/ 350 وابن المبارك في الزهد (498) وابن سعد 2/ 1/ 73 ومسلم في الفضائل باب 37 (163) .
[ (5) ] أخرجه أحمد 3/ 26 والحاكم 3/ 36 وابن أبي شيبة 8/ 481، 14/ 443 وأبو نعيم في تاريخ أصفهان 2/ 169.
إلى البيعة وتشميرهم إلى الحرب اشتدّ رعبهم، فقال أهل الرأي منهم: ليس خير من أن نصالح محمدا على أن ينصرف عنّا عامه هذا، ولا يخلص إلى البيت حتى يسمع من سمع بمسيره من العرب أنّا قد صددناه، ويرجع قابلا فيقيم ثلاثا وينحر هديه وينصرف، ويقيم ببلدنا ولا يدخل علينا، فأجمعوا على ذلك. فلما أجمعت قريش على الصلح والموادعة بعثوا سهيل بن عمرو وحويطب ومكرز وقالوا لسهيل: ائت محمدا فصالحه وليكن في صلحك ألّا يدخل عامه هذا، فو الله لا تحدّث العرب أنه دخل علينا عنوة فأتى سهيل رسول الله- صلى الله عليه وسلم-
فلما رآه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «قد أراد القوم الصّلح حين بعثوا هذا» وفي لفظ: فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «سهل أمركم»
وجلس رسول الله- صلى الله عليه وسلم- متربعا، وكان عباد بن بشر وسلمة بن أسلم بن حريش على رأسه- وهما مقنّعان في الحديد- فبرك سهيل على ركبتيه فكلم رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- فأطال الكلام وتراجعا، وارتفعت الأصوات وانخفضت، وقال عباد بن بشر لسهيل: اخفض من صوتك عند رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- والمسلمون حول رسول الله- صلى الله عليه وسلم- جلوس، فجرى بين رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- وبين سهيل القول حتى وقع الصلح على أن توضع الحرب بينهما عشر سنين، وأن يأمن الناس بعضهم بعضا، وأن يرجع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عامه هذا، فإذا كان العام المقبل قدمها فخلّوا بينه وبين مكة، فأقام فيها ثلاثا فلا يدخلها إلا بسلاح الراكب والسيوف في القرب لا يدخلها بغيره، وأنّه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليّه- وإن كان على دين محمّد- ردّه إلى وليّه، وأنه من أتى قريشا ممن اتّبع محمدا لم يردوه عليه، وأن بينهم وبين رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- عيبة مكفوفة، وأنه لا إسلال [ (1) ] ولا إغلال، وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحبّ أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل، فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن في عقد محمد وعهده، وتواثبت بنو بكر فقالوا: نحن في عقد قريش وعهدهم.
فكره المسلمون هذه الشروط وامتعضوا منها، وأبى سهيل إلّا ذلك فلما اصطلحوا ولم يبق إلا الكتاب
وثب عمر بن الخطاب إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله ألست نبيّ الله حقا؟ قال: بلى. قال: ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال: بلى، قال: أليس قتلانا في الجنّة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى. قال: علام نعطي الدّنيّة في ديننا؟ ونرجع ولم يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-: «إني عبد الله ورسوله ولست أعصيه ولن يضيّعني وهو ناصري» قال: أو ليس كنت تحدثنا أنّا سنأتي البيت فنطوف حقا؟ قال: «بلى، أفأخبرتك أنّك تأتيه العام؟ قال: لا: قال: «فإنّك آتيه ومطوّف به» ،
فذهب عمر إلى أبي بكر متغيّظا ولم يصبر،
__________
[ (1) ] الإسلال: السّرقة، انظر المعجم الوسيط 1/ 448.
فقال: يا أبا بكر: أليس هذا نبيّ الله حقا؟ قال: بلى. قال: ألسنا على الحق وهم على الباطل؟
أليس قتلانا في الجنّة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى. قال: فعلام نعطي الدّنيّة في ديننا ونرجع ولم يحكم الله بيننا وبينهم؟ قال: أيّها الرّجل أنه رسول الله وليس يعصي ربّه، وهو ناصره فاستمسك بغرزه حتى تموت، فو الله إنه لعلى الحق. وفي لفظ فإنّه رسول الله. فقال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله، قال: أو ليس كان يحدّثنا أنّه سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرك أنّك تأتيه العام؟ قال: لا. قال: فإنّك آتيه ومطوّف به. فلقي عمر من هذه الشّروط أمرا عظيما [ (1) ] . وقال كما في الصحيح: والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ، وجعل يردّ على رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- الكلام فقال أبو عبيدة بن الجراح- رضي الله عنه-: ألا تسمع يا ابن الخطاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول ما يقول، تعوّذ بالله من الشّيطان واتّهم رأيك، قال عمر:
فجعلت أتعوذ بالله من الشيطان حياء فما أصابني شيء قط مثل ذلك اليوم وعملت بذلك أعمالا- أي صالحة- لتكفر عني ما مضى من التوقف في امتثال الأمر ابتداء كما عند ابن إسحاق وابن عمر الأسلمي. قال عمر: فما زلت أتصدّق وأصوم وأصلّي وأعتق من الّذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الّذي تكلمت به حتّى رجوت أن يكون خيرا.
وروى البزار عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- قال: اتهموا الرأي على الدين فلقد رأيتني أردّ أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- برأيي، وما ألوت على الحق، قال: فرضي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأبيت حتى قال: «يا عمر تراني رضيت وتأبى»
[ (2) ] .
فقال سهيل: هات، اكتب بيننا وبينك كتابا،
فدعا رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- عليّا- كما في حديث البراء عند البخاري في كتاب الصّلح وكتاب الجزية، ورواه إسحاق بن راهويه من حديث المسور ومروان، وأحمد، والنسائي، والبيهقي والحاكم- وصححه عن عبد الله بن مغفل [ (3) ] ، فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-: «اكتب بسم الله الرحمن الرّحيم» ، فقال سهيل- وأسلم بعد ذلك- أمّا الرّحمن الرّحيم فو الله ما أدري ما هو، ولكن اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب اكتب في قضيّتنا ما نعرف. فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلّا بسم الله الرحمن الرّحيم. فقال النبي- صلى الله عليه وسلم- «اكتب باسمك اللهمّ» ثم قال: «هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله- صلى الله عليه وسلم» فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن
__________
[ (1) ] البخاري 4/ 26، 125، أخرجه مسلم 3/ 1412 (94/ 1785) والطبراني في الكبير 6/ 109 وابن سعد 1/ 1/ 20، وانظر المجمع 3/ 312، 5/ 67.
[ (2) ] أخرجه الدولابي في الكنى 2/ 69.
[ (3) ] عبد الله بن مغفل: بمعجمة وفاء ثقيلة، ابن عبيد بن نهم: بفتح النون وسكون الهاء، أبو عبد الرحمن المزني، صحابي، بايع تحت الشجرة، ونزل البصرة، مات سنة سبع وخمسين، وقيل بعد ذلك، التقريب 1/ 453.
البيت، ولا قاتلناك، اكتب في قضيّتنا ما نعرف، اكتب محمد بن عبد الله. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لعلي امحه، فقال على: ما أنا بالّذي «أمحاه» وفي لفظ «أمحاك» وفي حديث محمد ابن كعب القرظيّ: فجعل عليّ يتلكّأ، وأبى أن يكتب إلّا محمد رسول الله، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-: اكتب فإنّ لك مثلها تعطيها وأنت مضطهد
[ (1) ] انتهى.
وذكر محمد بن عمر أن أسيد بن الحضير وسعد بن عبادة أخذا بيد علي ومنعاه أن يكتب إلّا «محمد رسول الله» ، وإلّا فالسّيف بيننا وبينهم، فارتفعت الأصوات، فجعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يخفضهم ويومئ بيده إليهم: اسكتوا. فقال: أرنيه، فأراه إياه فمحاه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بيده وقال: اكتب محمد بن عبد الله. قال الزهري: وذلك لقوله- صلى الله عليه وسلم- لا يسألوني خطّة يعظّمون بها حرمات الله إلّا أعطيتهم إياها، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- لسهيل على أن تخلّوا بيننا وبين البيت، فنطوف، فقال سهيل: لا والله لا تحدّث العرب أنّا أخذنا ضغطة، ولكن لك من العام المقبل، فكتب. فقال سهيل: على أنه لا يأتيك منّا أحد بغير إذن وليّه- وإن كان على دينك إلّا سددته إلينا فقال المسلمون: سبحان الله، أيكتب هذا؟ كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: نعم إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله، ومن جاء منهم إلينا سيجعل الله له فرجا ومخرجا» [ (2) ] .
وفي حديث عبد الله بن مغفل عند الإمام أحمد، والنسائي، والحاكم بعد أن ذكر نحو ما تقدم، قال فبينا نحن كذلك إذ خرج علينا ثلاثون شابا عليهم السّلاح فثاروا إلى وجوهنا، فدعا عليهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأخذ الله بأسماعهم- ولفظ الحاكم بأبصارهم- فقمنا إليهم فأخذناهم،
فقال لهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «هل جئتم في عهد أحد وهل جعل لكم أحد أمانا» ؟
فقالوا: لا. فخلّى سبيلهم فانزل الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ [سورة الفتح 24]
[ (3) ] .
وروى ابن أبي شيبة، والإمام أحمد، وعبد بن حميد، ومسلم، والثلاثة عن أنس قال:
لما كان يوم «الحديبية» هبط على رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- وأصحابه ثمانون رجلا من أهل مكّة في
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 5/ 357 (2699) ، وأحمد 4/ 328، 4/ 86، 5، 23، 33 والبيهقي 9/ 220، 227 وعبد الرزاق في المصنف (9720) ، والطبري في التفسير 26/ 59، 63 وابن كثير في التفسير 7/ 324 وانظر المجمع 6/ 145، 146.
[ (2) ] انظر التخريج السابق وأخرجه أبو داود في الجهاد باب (167) واحمد 4/ 329، 330 والسيوطي في الدّر المنثور 6/ 76.
[ (3) ] أخرجه أحمد 4/ 87 والبيهقي 6/ 319 والحاكم في المستدرك 2/ 461 وابن الجوزي في زاد المسير 7/ 438 وانظر الدر المنثور 6/ 78.
السّلاح من قبل جبل التّنعيم يريدون غرّة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فدعا عليهم، فأخذوا فعفا عنهم [ (1) ] .
وروى عبد بن حميد، وابن جرير عن قتادة قال: ذكر لنا أن رجلاً من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقال له ابن زنيم اطلع الثنية «يوم الحديبية» فرماه المشركون فقتلوه، فبعث نبي الله- صلّى الله عليه وسلم- خيلا، فأتوا باثني عشر فارسا، فقال لهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «هل لكم عهد أو ذمّة» ؟ قالوا: لا. فأرسلهم
[ (2) ] .
وروى الإمام أحمد، وعبد بن حميد، ومسلم، عن سلمة بن الأكوع. رضي الله عنه قال: إن المشركين من أهل مكة أرسلونا في الصّلح فلما اصطلحنا واختلط بعضنا ببعض أتيت شجرة فاضطجعت في ظلّها، فأتاني أربعة من مشركي أهل مكة، فجعلوا يقعون في رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- فأبغضهم وتحوّلت إلى شجرة أخرى، فعلّقوا سلاحهم واضطجعوا، فبينما هم كذلك إذ نادى مناد من أسفل الوادي يا للمهاجرين، قتل ابن زنيم فاخترطتّ سيفي فاشتددت على أولئك الأربعة وهم رقود، فأخذت سلاحهم، وجعلته في يدي، ثم قلت: والّذي كرّم وجه محمد- صلى الله عليه وسلم- لا يرفع أحد منكم رأسه إلّا ضربت الّذي في عينيه، ثم جئت بهم أسوقهم إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- وجاء عمّي عامر برجل من العبلات يقال له مكرز من المشركين يقوده حتّى وقفناه على رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- فقال: دعوهم يكون لهم بدء الفجور وثنياه فعفا عنهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأنزل الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ [الفتح 24] فبينما الناس على ذلك إذ أبو جندل- بالجيم والنّون وزن جعفر- بن سهيل ابن عمرو يرسف في قيوده قد خرج من أسفل مكّة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، وكان أبوه سهيل قد أوثقه في الحديد وسجنه، فخرج من السّجن واجتنب الطّريق وركب الجبال حتّى أتى «الحديبية- فقام إليه المسلمون يرحّبون به ويهنّئونه، فلما رآه أبوه سهيل قام إليه فضرب وجهه بغصن شوك وأخذ بتلبيبه
ثم قال: «يا محمد، هذا أوّل ما أقاضيك عليه أن تردّه، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- «إنّا لم نقض الكتاب بعد» قال فو الله إذا لا أصالحك على شيء أبدا. قال: «فأجزه لي» قال: ما أنا بمجيزه لك. قال: «بلى فافعل» . قال:
ما أنا بفاعل.
فقال مكرز وحويطب: بلى قد أجزناه لك. فأخذاه فأدخلاه فسطاطا فأجازاه وكفّ عنه أبوه. فقال أبو جندل أي معاشر المسلمين أردّ إلى المشركين وقد جئت مسلما؟ ألا
__________
[ (1) ] أخرجه مسلم 3/ 1442 (133/ 1808) ، وأحمد 3/ 124 والغرة هي الغفلة أي يريدون أن يصادفوا منه ومن أصحابه غفلة عن التأهب لهم ليتمكنوا من غدرهم والفتك بهم.
[ (2) ] أخرجه الطبري 26/ 59 وذكره السيوطي في الدر المنثور 6/ 76.
ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عذّب عذابا شديدا،
فرفع رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- صوته وقال: يا أبا جندل، اصبر واحتسب فإنّ الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، إنّا قد عقدنا مع القوم صلحا وأعطيناهم وأعطونا على ذلك عهدا، وإنّا لا نغدر»
ومشى عمر بن الخطاب إلى جنب أبي جندل، وقال له: اصبر واحتسب فإنّما هم المشركون وإنّما دم أحدهم دم كلب، وجعل عمر يدنى قائم السّيف منه. قال عمر: رجوت أن يأخذ السّيف فيضرب به أباه. قال فضنّ الرّجل بأبيه. [ (1) ]
وقد كان أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد خرجوا وهم لا يشكّون في الفتح لرؤيا رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فلمّا رأوا ما رأوا من الصّلح والرجوع وما تحمل عليه رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- في نفسه دخل علي الناس من ذلك أمر عظيم حتّى كادوا يهلكون. فزادهم أمر أبي جندل على ما بهم، ونفذت القضية وشهد على الصلح رجال من المسلمين ورجال من المشركين:
أبو بكر وعمر، وعبد الرحمن ابن عوف، وعبد الله بن سهيل بن عمرو، وسعد بن أبي وقاص، ومحمود بن مسلمة وعلي بن أبي طالب- رضي الله عنهم- ومكرز بن حفص وهو مشرك.
فلما فرغ من قضيّة الكتاب
قال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-: «قوموا فانحروا ثم احلقوا» فو الله ما قام رجل منهم، حتى قال ذلك ثلاث مرات، فاشتدّ ذلك عليه، فدخل على أم سلمة فقال:
«هلك المسلمون، أمرتهم أن ينحروا ويحلقوا فلم يفعلوا» . وفي رواية: «ألا ترين إلى النّاس أمرهم بالأمر فلا يفعلونه- وهم يسمعون كلامي وينظرون وجهي» .
فقالت: يا رسول الله، لا تلمهم فإنّهم قد دخلهم أمر عظيم ممّا أدخلت على نفسك من المشقّة في أمر الصّلح، ورجوعهم بغير فتح يا نبي الله اخرج ولا تكلّم أحدا كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك فجلى الله- تعالى- عن الناس بأم سلمة- فقام رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- واضطبع [ (2) ] بثوبه، فخرج فأخذ الحربة ويمّم هديه وأهوى بالحربة إلى البدن رافعا صوته «بسم الله والله أكبر» ونحر، فتواثب المسلمون إلى الهدي وازدحموا عليه ينحرونه حتى كاد بعضهم يقع على بعض، وأشرك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بين أصحابه في الهدي، فنحر البدنة عن سبعة، وكان هدي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سبعين بدنة، وكان الهدي دون الجبال التي تطلع على وادي الثّنيّة، فلما صدّه المشركون ردّ وجوه البدن [ (3) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه أحمد في المسند 4/ 330 والبيهقي في دلائل النبوة 5/ 331.
[ (2) ] اضطبع: أخذ الإزار أو البرد فيجعل وسطه تحت إبطه الأيمن ويلقي طرفيه على كتفه الأيسر من جهتي صدره وظهره، انظر النهاية 3/ 73.
[ (3) ] أخرجه البخاري 3/ 257 وأبو داود في الجهاد باب 167 واحمد 4/ 331 والبيهقي في الدلائل 4/ 106 وعبد الرزاق (9720) والطبري 26/ 63 وابن أبي شيبة 14/ 450.
قال ابن عباس: لما صدّت عن البيت حنّت كما تحنّ إلى أولادها. رواه الإمام أحمد والبيهقي [ (1) ] . فنحر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بدنه حيث حبسوه وهي الحديبية، وشرد جمل أبي جهل من الهدي وهو يرعى وقد قلد وأشعر. وكان نجيبا مهريا في رأسه برّة من فضة، أهداه ليغيظ بذلك المشركين، فمر من الحديبية حتى انتهى إلي دار أبي جهل بمكة، وخرج في أثره عمرو بن عنمة بن عديّ الأنصاري، فأبى سفهاء مكّة أن يعطوه حتّى أمرهم سهيل بن عمرو بدفعه إليه، قيل: ودفعوا فيه عدّة نياق،
فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم «لولا أن سمّيناه في الهدي فعلنا» ،
ونحره عن سبعة، ونحر طلحة بن عبيد الله، وعبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان، بدنات ساقوها.
وروى ابن سعد عن أبي سفيان عن جابر قال: نحر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سبعين بدنة عام الحديبية، البدنة عن سبعة، وكنّا يومئذ ألفا وأربعمائة، ومن لم يضح أكثر ممن ضحى، وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- مضطربا في الحل وإنّما يصلّي في الحرم. وبعث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من هديه بعشرين بدنة لتنحر عنه عند «المروة» مع رجل من أسلم، فلما فرغ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من نحر البدن دخل قبة له من أدم حمراء ودعا بخراش- بمعجمتين- بن أمية بن الفضل الكعبي، فحلق رأسه ورمى شعره على شجرة كانت إلى جنبه من سمرة خضراء، فجعل الناس يأخذون الشّعر من فوق الشّجرة فيتحاصونه، وأخذت أمّ عمارة طاقات من شعره فكانت تغسلها للمريض وتسقيه فيبرأ، وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غمّا.
وحلق بعض المسلمين وقصّر بغض،
فأخرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رأسه من قبته وهو يقول: رحم الله المحلقين، قيل: يا رسول الله والمقصرين قال: «رحم الله المحلّقين ثلاثا» . ثم قال و «المقصرين»
[ (2) ] .
وروى ابن أبي شيبة عن ابن عباس أنهم قالوا: يا رسول الله ما بال المحلّقين ظاهرت عليهم الترحيم؟ قال: لأنّهم لم يشكّوا [ (3) ] . ورواه البيهقي موقوفا.
وبعث الله تعالى ريحا عاصفة فاحتملت أشعارهم فألقتها في الحرم كما رواه ابن سعد عن مجمع بن يعقوب عن أبيه، وأقام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «بالحديبية تسعة عشر يوما، ويقال عشرين ليلة، ذكره محمد بن عمر، وابن سعد. قال ابن عائذ: وأقام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في غزوته هذه شهرا ونصفا.
__________
[ (1) ] أخرجه البيهقي في الدلائل 4/ 152.
[ (2) ] أخرجه الحاكم 4/ 230 والبيهقي 5/ 236 والدعاء للمحلّفين متفق عليه من حديث ابن عمر البخاري 3/ 561 (1727) ومسلم 2/ 945 (317/ 1301) .
[ (3) ] أخرجه البيهقي في الدلائل 4/ 151.
ذكر رجوع رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-
روى مسلم عن سلمة بن الأكوع، والبيهقي عن ابن عباس، وابن سعد، والبيهقي، والحاكم عن أبي عمرة الأنصاري، والبزار، والطبراني، والبيهقي عن أبي خنيس الغفاري، ومحمد بن عمر عن شيوخه، يزيد بعضهم على بعض: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لما انصرف من «الحديبية» نزل بمرّ «الظّهران» ثم نزل «بعسفان» وأرملوا من الزّاد، فشكا الناس إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنهم قد بلغوا من الجوع الجهد، وفي الناس ظهر، فقالوا: ننحره يا رسول الله، وندهن من شحومه ونتّخذ من جلوده أحذية فأذن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأخبر بذلك عمر ابن الخطاب فجاء إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله لا تفعل، فإن يكن في النّاس بقيّة ظهر يكن أمثل، كيف بنا إذا نحن لقينا العدوّ غدا جياعا رجالا؟! ولكن إن رأيت أن تدعو النّاس ببقايا أزوادهم فتجمعها ثمّ تدعو فيها بالبركة فإنّ الله سيبلّغنا بدعوتك، ودعا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- النّاس ببقايا أزوادهم وبسط نطعا فجعل النّاس يجيئون بالحفنة من الطّعام وفوق ذلك، فكان أعلاهم من جاء بصاع تمر، فاجتمع زاد القوم على النّطع، قال سلمة: فتطاولت لأحرّركم هو فحررته كربضة عنز ونحن أربع عشرة مائة، فقام رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- فدعا بما شاء الله أن يدعو، فأكلوا حتّى شبعوا، ثم حشوا أوعيتهم، وبقي مثله،
فضحك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى بدت نواجذه، وقال: «أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، والله لا يلقي الله- تعالى- عبد مؤمن بهما إلّا حجب من النار» .
ثم إذن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في الرّحيل، فلما ارتحلوا أمطروا ما شاءوا وهم صائفون، فنزل رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- ونزلوا، فشربوا من ماء السماء.
ثم قام رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- فخطبهم، فجاء ثلاثة نفر فجلس اثنان مع النبي- صلى الله عليه وسلم- وذهب واحد معرضا،
فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-: «ألا أخبركم عن الثّلاثة؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: أما واحد فاستحيا فاستحيا الله منه، وأمّا الآخر فتاب فتاب الله عليه، أمّا الثّالث فأعرض. فأعرض الله عنه» .
وروى البيهقي عن عروة قال: قفل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- راجعا فقال رجل من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- ما هذا بفتح، لقد صددنا عن البيت وصدّ هدينا. وردّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رجلين من المؤمنين كانا خرجا إليه، فبلغ ذلك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «بئس الكلام، بل هو أعظم الفتح، قد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم. ويسألوكم القضيّة، ويرغبون إليكم في الأمان، ولقد رأوا منكم ما كرهوا، وأظفركم الله- تعالى- عليهم وردّكم سالمين مأجورين فهو أعظم الفتح، أنسيتم يوم أحد؟ إذ تصعدون ولا تلوون على أحد، وأنا
أدعوكم في أخراكم!! أنسيتم يوم الأحزاب؟ إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنّون بالله الظّنونا
!! فقال المسلمون: صدق الله ورسوله، فهو أعظم الفتوح، والله يا نبي الله ما فكّرنا فيما فكّرت فيه، ولأنت أعلم بالله وبالأمور منا.
ذكر نزول سورة الفتح ومرجع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وما ظهر في ذلك من الآيات
روى الإمام أحمد، والبخاري، والترمذي، والنسائي، وابن حبان وابن مردويه عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- قال: كنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في سفر يعني «الحديبيّة» فسألته عن شيء ثلاث مرّات، فلم يرد على، فقلت في نفسي: ثكلتك أمك يا ابن الخطّاب، نزّرت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثلاث مرات فلم يردّ عليك، فحركت بعيري، ثم تقدّمت أمام النّاس، وخشيت أن ينزل فيّ القرآن، فما نشبت أن سمعت صارخا يصرخ بي، فرجعت وأنا أظنّ أنه نزل في شيء،
فقال النبي- صلى الله عليه وسلم- «لقد أنزلت عليّ اللّيلة سورة هي أحب إلي من الدنيا وما فيها إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ
[الفتح 1، 2] .
وروى ابن أبي شيبة والإمام أحمد، وابن سعد، وأبو داود، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم- وصححه- وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، عن مجمع بن جارية الأنصاري- رضي الله عنه- قال: شهدنا «الحديبية» مع رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- فلمّا انصرفنا عنها إلى كراع الغميم إذا الناس يوجفون الأباعر، فقال الناس بعضهم لبعض: ما للنّاس؟ قالوا: أوحى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- فخرجنا مع الناس نوجف، فإذا رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- على راحلته عند «كراع الغميم»
فاجتمع النّاس إليه فقرأ عليهم إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً الفتح [ (1) ] فقال رجل من أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم- أو هو فتح؟ فقال: «أي والذي نفسي بيده إنَّه فتح»
زاد ابن سعد: فلما نزل بها جبريل قال: ليهنئك يا رسول الله، فلما هنأه جبريل هنّأه النّاس [ (1) ] .
وروى عبد الرازق والإمام أحمد، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والشيخان والترمذي، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم عن أنس- رضي الله عنه- قال: لما رجعنا من «الحديبية» قال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- «أنزلت عليّ ضحّى آية هي أحب إلي من الدّنيا جميعا»
__________
[ (1) ] أخرجه أحمد في المسند 3/ 420 وأخرجه أبو داود في الجهاد باب فيمن أسهم له سهما وذكره الحافظ بن كثير في التفسير 7/ 308 والبيهقي في الدلائل 4/ 155.
ثلاثا- قلنا- وفي لفظ قالوا- هنيئا مريئا لك يا رسول الله قد بين الله لك ماذا يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فنزلت، وفي لفظ فنزلت عليه: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [الفتح 5] حتّى بلغ فَوْزاً عَظِيماً [ (1) ] .
وروى ابن أبي شيبة، والإمام أحمد، والبخاري في تاريخه، وأبو داود والنسائي، وابن جرير، وغيرهم عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: «أقبلنا من الحديبية» مع رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- فبينا نحن نسير إذ أتاه الوحي، وكان إذا أتاه اشتدّ عليه، فسرّي عنه وبه من السرور ما شاء الله، فأخبرنا أنّه أنزل عليه إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً [ (2) ] .
وروى البيهقي من طريق المسعودي عن جامع بن شداد عن عبد الرحمن بن أبي علقمة عن ابن مسعود- رضي الله عنه- قال: لمّا أقبل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من «الحديبية» جعلت ناقته تثقل فانزل الله تعالى إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً فأدركنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من السرور ما شاء، فأخبرنا أنها أنزلت عليه،
فبينا نحن ذات ليلة إذ عرّس بنا، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- «من يحرسنا» ؟ فقلت أنا يا رسول الله، فقال: «إنّك تنام» ثم قال: «من يحرسنا» فقلت:
أنا. فقال: أنت، فحرستهم، حتى إذا كان وجه الصبح أدركني قول رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- إنّك تنام، فما استيقظت إلّا بالشمس، فلما استيقظنا قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إن الله لو شاء أن لا تناموا عنها لا تناموا، ولكنّه أراد أن يكون ذلك لمن بعدكم» ، ثم قام فصنع كما كان يصنع، ثم قال: «هكذا لمن نام أو نسي من أمّتي» ثم ذهب القوم في طلبهم رواحلهم فجاءوا بهن غير راحلة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: فقال لي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «اذهب هاهنا» ووجّهني وجها فذهبت حيث وجّهني فوجدت زمامها قد التوى بشجرة ما كانت تحلها الأيدي.
قال البيهقي:
كذا قال المسعودي عن جامع بن شداد: أن ذلك كان حين أقبلوا من الحديبية [ (3) ] ، ثم روى من طريق شعبة- وناهيك به عن جامع بن شداد عن عبد الرحمن بن أبي علقمة عن ابن مسعود قال: أقبلنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- من غزوة تبوك قال البيهقي: يحتمل أن يكون مراد المسعوديّ بذكر الحديبية تاريخ نزول السّورة حين أقبلوا من الحديبية فقط، ثم ذكر معه حديث النّوم عن الصّلاة، وحديث الراحلة، وكانا في غزوة تبوك قلت لم ينفرد المسعوديّ بذلك، قال ابن أبي شيبة في المصنّف: حدثنا منذر عن شعبة عن جامع بن شداد به، ولا مانع من التعدد.
__________
[ (1) ] أخرجه ابن حبان ذكره الهيثمي في الموارد ص (436) (1760) ، والبيهقي 5/ 217 وأحمد 4/ 152، والحاكم 4/ 460 وذكره السيوطي في الدر المنثور 6/ 71 والخطيب في التاريخ 3/ 319، البيهقي في الدلائل 4/ 155.
[ (2) ] أخرجه البخاري في التفسير 8/ 582 (4833) ، والبيهقي في الدلائل 4/ 155.
[ (3) ] أخرجه البيهقي في الدلائل 4/ 155.
ذكر قدوم أبي بصير على رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- ورده إليهم وما حصل له ولأصحابه من الفرج
روى عبد الرزاق والإمام أحمد وعبد بن حميد والبخاري وأبو داود والنسائي عن المسور بن مخرمة، والبيهقي عن ابن شهاب الزّهريّ [ (1) ] . إن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- لما قدم المدينة من الحديبية أتاه أبو بصير عتبة- بضم العين المهملة- ابن أسيد- بوزن أمير- بن جارية- بجيم- الثقفي، حليف بني زهرة- مسلما قد أفلت من قومه- فسار على قدميه سعيا، فكتب الأخنس بن شريق، وأزهر بن عبد عوف الزّهريّ إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- كتابا وبعثا خنيس- بمعجمة ونون وآخره مهملة- مصغّر- ابن جابر من بني عامر بن لؤيّ، استأجراه ببكر بن لبون، وحملاه على بعير، وكتبا يذكران الصّلح الذي بينهم، وأن يردّوا إليهم أبا بصير، فخرج العامريّ ومعه مولّى له يقال له كوثر دليلا، فقد ما بعد أبي بصير بثلاثة أيام فقرأ أبي بن كعب الكتاب على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فإذا فيه: قد عرفت ما شارطناك عليه، وأشهدنا بينك وبيننا من ردّ من قدم عليك من أصحابنا فابعث إلينا بصاحبنا.
فأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- أبا بصير أن يرجع معهما، ودفعه إليهما فقال: يا رسول الله تردّني إلى المشركين يفتنونني في ديني؟ فقال: «يا أبا بصير إنّا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر وأن الله- تعالى جاعل لك ولمن معك من المسلمين فرجا ومخرجا» ، فقال: يا رسول الله تردّنّي إلى المشركين؟!! قال: «انطلق يا أبا بصير، فإنّ الله سيجعل لك فرجا ومخرجا» فخرج معهما،
وجعل المسلمون يسرّون إلى أبي بصير: يا أبا بصير أبشر فإن الله جاعل لك فرجا ومخرجا، والرّجل يكون خيرا من ألف رجل، فافعل وافعل: يأمرونه بقتل اللذين معه، وقال له عمر: أنت رجل، ومعك السيف، فانتهيا به عند صلاة الظهر بذي الحليفة، فصلى أبو بصير في مسجدها ركعتين، صلاة المسافر، ومعه زاد له من تمر يحمله، يأكل منه. ودعا العامري وصاحبه ليأكلا معه فقد ما سفرة فيها كسر فأكلوا جميعا وقد علّق العامريّ سيفه في الجدار وتحادثا. ولفظ عروة: فسلّ العامريّ سيفه ثمّ هزّه فقال: لأضربنّ بسيفي هذا في الأوس والخزرج يوما إلى الليل. فقال له أبو بصير: أصارم سيفك هذا؟ قال: نعم، قال: ناولنيه أنظر إليه إن شئت، فناوله إيّاه، فلمّا قبض عليه ضربه به حتى برد. قال ابن عقبة: ويقال بل تناول أبو بصير السّيف بفيه وصاحبه نائم، فقطع إساره ثمّ ضربه به حتّى برد، وطلب الآخر فجمز مذعورا مستخفيا، وفي لفظ: وخرج كوثر هاربا يعدو نحو المدينة وهو عاضّ على أسفل ثوبه قد بدا طرف ذكره،
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 5/ 329 في الشروط وأبو داود في الجهاد باب 167 وأحمد 4/ 331 والبيهقي في الدلائل 4/ 107 وفي السنن 9/ 221 وعبد الرزاق في المصنف (9720) وانظر البداية والنهاية 4/ 176.
والحصى يطير من تحت قدميه من شدّة عدوه، وأبو بصير في أثره، فأعجزه
وأتى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو جالس في أصحابه بعد العصر، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- حين رآه: «لقد رأى هذا ذعرا فلما انتهى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم قال: «ويحك مالك» قال: قتل والله صاحبكم صاحبي وأفلت منه ولم أكد، وإني لمقتول. واستغاث برسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأمّنه، وأقبل أبو بصير فأناخ بعير العامريّ. ودخل متوشّحا سيفه. فقال: يا رسول الله قد وفت ذمّتك وأدّى الله عنك، وقد أسلمتني بيد العدو، وقد امتنعت بديني من أن أفتن، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-: «ويل أمّه مسعر حرب [ (1) ] » وفي لفظ «محشّ حرب، لو كان معه رجال» وفي لفظ له أحد
قال عروة ومحمد بن عمر: وقدّم سلب العامريّ لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليخمسه، فقال: «إني إذا خمسته رأوني لم أوف لهم بالّذي عاهدتهم عليه، ولكن شأنك بسلب صاحبك، واذهب حيث شئت» وفي الصحيح أن أبا بصير لما سمع
قول رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- «ويل امّه مشعر حرب لو كان معه أحد»
عرف أنّه سيرده، فخرج أبو بصير ومعه خمسة كانوا قدموا معه مسلمين من مكة حين قدم على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فلم يكن طلبهم أحد حتى قدموا سيف البحر، ولمّا بلغ سهيل بن عمرو قتل أبو بصير العامريّ اشتدّ عليه وقال: ما صالحنا محمدا على هذا. فقالت قريش: قد برئ محمد منه قد أمكن صاحبكم منه فقتله بالطريق، فما على محمد في هذا؟ فأسند سهيل ظهره إلى الكعبة وقال: والله لا أؤخّر ظهري حتّى يودى هذا الرجل، قال أبو سفيان بن حرب: إنّ هذا لهو السّفه، والله لا يودى ثلاثا- وأنّى قريش تديه وإنما بعثته بنو زهرة؟ فقال الأخنس بن شريق: والله ما نديه، ما قتلناه ولا أمرنا بقتله، قتله رجل مخالف فأرسلوا إلى محمد يديه. فقال أبو سفيان بن حرب: لا، ما على محمد دية ولا غرم قد برئ محمد. ما كان على محمد أكثر مما صنع، فلم تخرج له دية فأقام أبو بصير وأصحابه بسيف البحر، وقال ابن شهاب: بين العيص وذي المروة من أرض جهينة على طريق عيرات قريش.
قال محمد بن عمر: لما خرج أبو بصير لم يكن معه إلّا كفّ تمر فأكله ثلاثة أيام، وأصاب حيتانا قد ألقاها البحر بالسّاحل فأكلها، وبلغ المسلمين الذين قد حبسوا بمكّة خبر أبي بصير، فتسللوا إليه.
قال محمد بن عمر: كان عمر بن الخطاب هو الذي كتب إليهم بقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لأبي بصير «ويل أمّه محش حرب لو كان له رجال» وأخبرهم أنه بالسّاحل، وانفلت أبو جندل بن سهيل بن عمرو الذي ردّه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى المشركين بالحديبية، فخرج هو وسبعون راكبا ممّن أسلموا فلحقوا بأبي بصير، وكرهوا أن يقدموا على رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- في
__________
[ (1) ] مشعر حرب أي موقدها، انظر المعجم الوسيط 1/ 432.
هدنة المشركين، وكرهوا الثواء بين ظهراني قومهم، فنزلوا مع أبي بصير، ولمّا قدم أبو جندل على أبي بصير سلم له الأمر، لكونه قرشيا فكان أبو جندل يؤمّهم، واجتمع إلى أبي جندل- حين سمع بقدومه- ناس من بني غفار وأسلم وجهينة، وطوائف من الناس حتى بلغوا ثلاثمائة مقاتل- كما عند البيهقي عن ابن شهاب- لا تمرّ بهم عير لقريش إلّا أخذوها وقتلوا من فيها، وضيّقوا على قريش، فلا يظفرون بأحد منهم إلّا قتلوه.
ومما قاله أبو جندل بن سهيل في تلك الأيام:
أبلغ قريشا عن أبي جندل ... أنّا بذي المروة في السّاحل
في معشر تخفق راياتهم ... بالبيض فيها والقنا الذّابل
يأبون أن تبقى لهم رفقة ... من بعد إسلامهم الواصل
أو يجعل الله لهم مخرجا ... والحقّ لا يغلب بالباطل
فيسلم المرء بإسلامه ... ويقتل المرء ولم يأتل
فأرسلت قريش إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أبا سفيان بن حرب يسألونه ويتضرعون إليه أن يبعث إلى أبي بصير وأبي جندل ومن معهم، وقالوا من خرج منّا إليك فأمسكه فهو لك حلال غير حرج أنت فيه. وقال: فإن هؤلاء الرّكب قد فتحوا علينا بابا لا يصلح إقراره، فكتب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى أبي بصير وأبي جندل يأمرهما أن يقدما عليه، ويأمر من معهما ممّن اتّبعهما من المسلمين أن يرجعوا إلى بلادهم وأهليهم فلا يتعرضوا لأحد مر بهم من قريش وعيراتها، فقدم كتاب رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- على أبي بصير وهو يموت. فجعل يقرؤه، ومات وهو في يديه، فدفنه أبو جندل مكانه، وجعل عند قبره مسجدا.
وقدم أبو جندل على رسول الله صلى الله عليه وسلّم ومعه ناس من أصحابه ورجع سائرهم إلى أهليهم، وأمنت بعد ذلك عيرات قريش.
قال عروة: فلمّا كان ذلك من أمرهم علم الذين كانوا أشاروا على رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- أن يمنع أبا جندل من أبيه بعد القضيّة أنّ طاعة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خير لهم فيما أحبّوا وفيما كرهوا من رأى من ظن أن له قوّة هي أفضل مما خص الله تعالى به رسوله من الفوز والكرامة- صلى الله عليه وسلّم-
ولمّا دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- عام القضية وحلق رأسه قال: «هذا الذي وعدتكم» .
ولمّا كان يوم الفتح أخذ المفتاح
وقال: «ادعوا لي عمر بن الخطاب. فقال: «هذا الّذي قلت لكم» .
ولما كان في حجة الوداع وقف بعرفة وقال: «أي عمر هذا الذي قلت لكم إني رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والله ما كان فتح في الإسلام أعظم من صلح الحديبية، وكان الناس قصر
رأيهم عمّا كان،
وكان أبو بكر- رضي الله عنه- يقول: ما كان فتح في الإسلام أعظم من صلح الحديبية، وكان النّاس قصر رأيهم عمّا كان بين رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- وبين ربّه، والعباد يعجلون، والله- تعالى- لا يعجل لعجلة العبد حتى يبلغ الأمور ما أراد، لقد رأيت سهيل بن عمرو في حجة الوداع قائما عند المنحر يقرّب لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- بدنه ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- ينحرها بيده، ودعا الحلّاق فحلق رأسه فأنظر إلى سهيل يلقط من شعره، وأراه يضعه على عينيه، وأذكر امتناعه أن يقرّ يوم الحديبية بأن يكتب: «بسم الله الرحمن الرّحيم» فحمدت الله- تعالى- الذي هداه للإسلام.
ذكر ما أنزل الله سبحانه وتعالى في شأن غزوة الحديبية: قال الله سبحانه وتعالى «إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً»
بيّنا وظاهرا، وهذا إخبار عن صلح الحديبية، وسمّاه فتحا لأنه كان بعد ظهوره على المشركين حتّى سألوه الصّلح، وتسبب عنه فتح مكة، وفرغ به- صلى الله عليه وسلّم- لسائر العرب فغزاهم، وفتح مواضع.
وروى البخاري عن أنس- رضي الله عنه- في الآية قال: الفتح صلح الحديبية [ (1) ] .
وروى أيضا عن البراء رضي الله عنه- قال: تعدّون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكّة فتحا، ونحن نعدّ الفتح بيعة الرّضوان يوم الحديبية.
قال الحافظ رحمه الله يعني قوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً وهذا موضع وقع فيه اختلاف قديم: والتحقيق: أنه يختلف باختلاف المراد من الآيات. فقوله- تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً المراد بالفتح هنا الحديبية، لأنها كانت مبدأ الفتح المبين على المسلمين لما ترتّب على الصلح الذي وقع من الأمن ورفع الحرب وتمكّن من كان يخشى الدخول في الإسلام والوصول إلى المدينة من ذلك، كما وقع لخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص وغيرهما، ثم تبعت الأسباب بعضها بعضا، إلى أن كمل الفتح.
قال الزهري: لم يكن في الإسلام فتح قبل فتح الحديبية أعظم منه إنما كان الكفر حيث القتال، فلمّا أمن الناس كلّهم، كلّم بعضهم بعضا، وتفاوضوا في الحديث والمنازعة، ولم يكلّم أحد بالإسلام يعقل شيئا إلّا بادر إلى الدخول فيه، فلقد دخل في تينك السّنتين مثل من كان دخل في الإسلام قبل ذلك أو أكثر.
__________
[ (1) ] البخاري 8/ 447 (4834) .
قال ابن هشام: ويدل عليه أنه- صلى الله عليه وسلم- خرج في الحديبية في ألف وأربعمائة، ثم خرج بعد سنتين إلى فتح مكّة في عشرة آلاف انتهى.
وأما قوله- تعالى- في هذه السّورة: وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً فالمراد به فتح خيبر على الصحيح، لأنها وقعت فيها المغانم الكثيرة، وقسمت خيبر على أهل الحديبية، وأما قوله- تعالى: فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً فالمراد به الحديبية، وأما قوله- تعالى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وقوله- صلى الله عليه وسلم «لا هجرة بعد الفتح» [ (1) ] فالمراد به فتح مكّة باتّفاق، فبهذا يرتفع الإشكال وتجتمع الأقوال بعون الله.
وقال في موضع آخر: ومما ظهر من مصلحة الصلح المذكور غير ما ذكره الزّهري، أنه كان مقدمة بين يدي الفتح الأعظم الذي دخل الناس عقبه في دين الله أفواجا» فكانت الهدنة معناها كذلك، ولمّا كانت قصة الحديبية مقدمة للفتح سميّت فتحا، لأنّ الفتح في اللغة فتح مغلق، والصّلح كان مغلقا حتّى فتحه الله- تعالى. وكان من أسباب فتحه صدّ المسلمين عن البيت، فكان في الصورة الظاهرة ضيماً للمسلمين، وفي الصورة الباطنة عزاً لهم، فإن الناس لأجل الأمن الذي وقع بينهم اختلط بعضهم ببعض من غير نكير، وأسمع المسلمون المشركين القرآن وناظروهم على الإسلام جهرة آمنين، وكانوا قبل لا يتكلمون عندهم بذلك إلّا خفية.
وظهر من كان يخفى إسلامه، فذلّ المشركون من حيث أرادوا العزّة، وقهروا من حيث أرادوا الغلبة، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ اللام للعلة الغائيّة، جعل الغفران علة للفتح من حيث إنه سبب عن جهاد الكفّار والسّعي في إعلاء الدين، وإزاحة الشّرك وتكميل النّفوس النّاقصة قهرا، ليصير ذلك بالتّدريج اختيارا، وتخليص الضّعفة من أيدي الظّلمة، وتقدم الكلام على هذه الآية في أواخر تنبيهات المعراج، ويأتي له تتمة في الخصائص وَيُتِمَّ بالفتح المذكور نِعْمَتَهُ إنعامه بإِعلاء الدين وضم الملك إِلى النُّبُوّة عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ في تبليغ الرسالة وإقامة مراسيم الديانة صِراطاً طريقا مُسْتَقِيماً يثبّتك عليه، وهو دين الإسلام وَيَنْصُرَكَ الله به نَصْراً عَزِيزاً ذا عز لا ذلّ معه هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ الثّبات والطّمأنينة فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ حتى يثبتوا، حتى لا تقلق النفوس وتدحض الأقدام لِيَزْدادُوا إِيماناً يقيناً مَعَ إِيمانِهِمْ يقينهم برسوخ العقيدة واطمئنان النفس عليها، أو أنزل فيه السّكون إلى ما جاء به رسول الله- صلى الله عليه وسلم لِيَزْدادُوا إِيماناً بالشرائع مَعَ إِيمانِهِمْ بالله واليوم الآخر وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فلو أراد نصرَ دينه بغيركم لف,
فمن المسلمين محرز بن نضلة، أحد بني أسد بن خزيمة، وابن وقّاص بن مجزّز- بميم مضمومة فجيم فزايين معجمتين، الأولى مشددة مكسورة المدلجيّ- فيما نقل ابن هشام عن غير واحد من أهل العلم.
ومن الكفار مسعدة بن حكمة- بفتحتين، وأوثار- بضم الهمزة وبالثاء المثلثة عند محمد بن عمر، وابن سعد، وبالموحدة عند ابن إسحاق، وقال ابن عقبة: أوبار- بفتح الهمزة وسكون الواو فموحدة والله أعلم.
وابنه عمرو بن أوبار، وحبيب بن عيينة، وقرفة بن مالك بن حذيفة بن بدر، ووقع عند ابن عقبة: وقرفة امرأة مسعدة.