قال الواقدي: فاغتسل في بيته، ولبس ثوبين من نسج صحار [ (4) ] ، وركب راحلته القصواء من عند بابه، وخرج المسلمون. فصلى الظهر بذي الحليفة، ثم دعا بالبدن فجلّلت [ (5) ] ، ثم أشعر [ (6) ] منها عدة- وهي موجهات إلى القبلة- في
__________
[ (1) ] الهدى: ما يهدى إلى الحرم من النعم. (المعجم الوسيط) ج 2 ص 978.
[ (2) ] في (المغازي) ج 2 ص 573.
[ (3) ] قال ابن القيم في (زاد المعاد) ج 3 ص 285، 287: «وقال هشام بن عروة، عن أبيه: خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الحديبيّة في رمضان، وكانت في شوال، وهذا وهم، وإنما كانت غزاة الفتح في رمضان» .
[ (4) ] صحار: قرية باليمن ينسب الثوب إليها (النهاية) ج 2 ص 12.
[ (5) ] من الجلل: وهو البسط أو الأكسية التي تلبسها فتصان به (ترتيب القاموس) ج 1 ص 518.
[ (6) ] أشعر البدنة: أعلمها، وهو أن يشق جلدها، أو يطعنها حتى يظهر الدم (ترتيب القاموس) ج 2 ص 720.
الشق الأيمن.
,
فبعثت قريش سهيل بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود بن نضر بن مالك ابن حسل بن عامر بن لؤيّ بن غالب بن فهر [ (3) ] ، وحويطب بن عبد العزّى، ومكرز بن حفص (ليصالحوه) [ (4) ] .
,
فلما اصطلحوا ولم يبق إلا الكتاب،
وثب عمر رضي اللَّه عنه فقال: يا رسول اللَّه! ألسنا بالمسلمين؟ قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: بلى! فقال: فعلام [ (3) ] نعطي الدنية في ديننا؟ فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أنا عبد اللَّه ورسوله ولن أخالف أمره، ولن يضيعني.
فذهب عمر إلى أبي بكر رضي اللَّه عنهما فقال: يا أبا بكر! ألسنا بالمسلمين؟ قال: بلى! قال: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ فقال: الزم غرزه [ (4) ] ! فإنّي أشهد أنه رسول اللَّه، وأن الحق ما أمر به، ولن يخالف أمر اللَّه، ولن يضيعه اللَّه.
ولقي عمر رضي اللَّه عنه من القضية أمرا كبيرا، وجعل يردّد على رسول
__________
[ (1) ] التنعيم: موضع بمكة في الحل، وهو بين مكة وسرف (معجم البلدان) ج 2 ص 49.
[ (2) ] في (خ) «ركبته» .
[ (3) ] في (خ) «فعلى ما» .
[ (4) ] كناية عن لزوم الاتباع وعدم المخالفة.
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الكلام، وهو يقول: أنا رسوله ولن يضيعني!
ويردد ذلك أبو عبيدة ابن الجراح رضي اللَّه عنه: ألا تسمع يا ابن الخطاب رسول اللَّه يقول ما يقول! تعوذ باللَّه من الشيطان واتهم رأيك!. فجعل يتعوذ باللَّه من الشيطان الرجيم حينا.
,
وكان المسلمون يكرهون الصلح، لأنهم خرجوا ولا يشكون في الفتح لرؤيا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه حلق رأسه، وأنه دخل البيت فأخذ مفتاح الكعبة وعرّف مع المعرفين، فلما رأوا الصلح داخلهم من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون. فجعل اللَّه عاقبة القضية خيرا- فأسلم في الهدنة أكثر ممن كان أسلم- من يوم دعا رسول اللَّه إلى يوم الحديبيّة-، وما كان في الإسلام فتح أعظم من الحديبيّة، فإن الحرب كانت قد حجزت بين الناس. فلما كانت الهدنة وضعت الحرب أوزارها، وأمن الناس بعضهم بعضا، ودخل في تلك الهدنة صناديد قريش الذين كانوا يقومون بالشرك، وما يحدث عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وأشباههما، وفشا الإسلام في جميع نواحي العرب. وكانت الهدنة إلى أن نقضوا العهد اثنين وعشرين شهرا.
,
فلما حضرت الدواة والصحيفة- بعد طول الكلام والمراجعة- دعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أوس بن خولي يكتب، فقال سهيل: لا يكتب إلا ابن عمك علي، أو عثمان بن عفان، فأمر عليا فكتب،
فقال: اكتب بسم اللَّه الرحمن الرحيم. فقال سهيل: لا أعرف الرحمن، اكتب ما نكتب، باسمك اللَّهمّ. فضاق المسلمون من ذلك، وقالوا: هو الرحمن، واللَّه ما نكتب إلا الرحمن. قال سهيل: إذا لا أقاضيه على شيء. فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: اكتب، باسمك اللَّهمّ. هذا ما اصطلح عليه محمد رسول اللَّه. فقال سهيل: لو أعلم أنك رسول اللَّه ما خالفتك واتبعتك، أفترغب عن اسمك واسم أبيك، محمد بن عبد اللَّه؟ فضجّ المسلمون منها ضجّة هي أشد من الأولى حتى ارتفعت الأصوات، وقام رجال يقولون: لا نكتب إلا محمد رسول اللَّه! وأخذ أسيد بن حضير وسعد بن عبادة رضي اللَّه عنهما بيد الكاتب فأمسكاها وقالا: لا تكتب إلا محمد رسول اللَّه، وإلا فالسيف بيننا، علام نعطي هذه الدّنية في ديننا؟ فجعل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يخفّضهم ويومئ إليهم بيده: اسكتوا.
وجعل حويطب يتعجب مما يصنعون، ويقول لمكرز: ما رأيت قوما أحوط لدينهم من هؤلاء! فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أنا محمد بن عبد اللَّه، فاكتب. فكتب.
,
«باسمك اللَّهمّ، هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد اللَّه وسهيل بن عمرو، اصطلحا على وضع الحرب عشر سنين، يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض، على أنه لا إسلال ولا إغلال [ (1) ] ، وأنّ بيننا عيبة مكفوفة. وأنه من أحب أن يدخل في عهد محمد وعقده فعل، وأنه من أحب أن يدخل في عهد قريش وعقدها فعل، وأنه من أتى محمدا منهم بغير إذن وليه رده محمد إليه. وأنه من أتى قريشا من أصحاب محمد لم يردوه، وأن محمدا يرجع عنا عامه هذا بأصحابه، ويدخل علينا من قابل في أصحابه فيقيم بها ثلاثا، لا يدخل علينا بسلاح إلا سلاح المسافر: السيوف في القرب» .
__________
[ (1) ] الإسلال والإغلال: السرقة والخيانة. والعيبة: سبق شرحها ص 285 تعليق رقم (4) .
,
وأقام صلّى اللَّه عليه وسلّم بالحديبية بضعة عشر يوما، ويقال: عشرين يوما، ثم انصرف.
فلما نزل عسفان أرمل [ (4) ] المسلمون من الزاد، وشكوا أنهم قد بلغوا [ (5) ] من الجوع، وسألوا أن ينحروا من إبلهم، فأذن لهم صلّى اللَّه عليه وسلّم في ذلك، فقال عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه: يا رسول اللَّه! لا تفعل، فإن يك في الناس بقية ظهر يكن أمثل، ولكن ادعهم بأزوادهم، ثم ادع لهم فيها اللَّه. فأمر صلّى اللَّه عليه وسلّم بالأنطاع فبسطت، ثم
__________
[ (1) ] يأخذ كل منهم حصته.
[ (2) ] زيادة للبيان.
[ (3) ] يقول ابن القيم في (زاد المعاد) ج 3 ص 308 في الكلام عن الفوائد الفقهية المستفادة من صلح الحديبيّة: «ومنها جواز صلح الكفار على ردّ من جاء منهم إلى المسلمين وألا يرد من ذهب من المسلمين إليهم، هذا في غير النساء، وأما النساء فلا يجوز ردهن إلى الكفار، وهذا موضع النسخ خاصة في هذا العقد بنص القرآن، ولا سبيل إلى دعوى النسخ في غيره بغير موجب» .
[ (4) ] أرمل المسافر: نفد زاده.
[ (5) ] بلغوا: أدركتهم المشقة.
نادى مناديه: من كان عنده بقية زاد فلينثره على الأنطاع. فكان منهم من يأتي بالتمرة الواحدة وأكثرهم لا يأتي بشيء، ويؤتى بالكف من الدقيق والكف من السّويق، وذلك كله قليل.
فلما اجتمعت أزوادهم وانقطعت موادهم مشى صلّى اللَّه عليه وسلّم إليها فدعا فيها بالبركة، ثم قال: قربوا بأوعيتكم.
فجاءوا بأوعيتهم، فكان الرجل يأخذ ما شاء من الزاد حتى إنّ أحدهم ليأخذ ما لا يجد له محملا.
,
ومشى خالد بن سعيد بن العاص بينهم وبين النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى كتبوا الكتاب- وكتبه خالد- وأسلموا، وتعلموا فرائض الإسلام وشرائعه، وصاموا بقية شهر رمضان.
فأمّر عليهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عثمان بن أبي العاص، وهو أصغرهم، وقال له: اتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا: وخرجوا إلى الطائف.
هدم ربّة ثقيف
وسار في إثرهم أبو سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة لهدم الربة صنمهم، فدخل القوم الطائف، وكانت لهم مع قومهم أنباء حتى أسلموا. ودخل المغيرة في بضعة عشر رجلا فهدموا الرّبّة، وانتزع كسوتها وما فيها من طيب وذهب وفضة.
فأعطى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ممّا وجد فيه أبا مليح بن عروة، وقارب بن الأسود، وناسا: وجعل في سبيل اللَّه وفي السّلاح منها.
ثم كتب لثقيف بعد البسملة:
كتابه صلّى اللَّه عليه وسلّم لثقيف
«من محمد النبي رسول اللَّه [ (1) ] ، [هذا كتاب من النبي رسول اللَّه] [ (2) ] ، إلى المؤمنين: إن عضاه وج وصيده لا يعضد [ (3) ] ، ومن وجد يفعل [شيئا] [ (4) ] من ذلك يجلد وتنزع ثيابه، فإن تعدى [ذلك] [ (4) ] فإنه يؤخذ فيبلغ [به] [ (4) ] النبيّ محمد، وإن [ (5) ] هذا أمر النبي محمد رسول اللَّه.
وكتب خالد بن سعيد بأمر النبيّ
__________
[ (1) ] في (خ) «ورسول اللَّه» ، وما أثبتناه نص (ابن هشام) ج 4.
[ (2) ] هذا الكتاب، أعاد المؤلف صياغته من روايات مختلفة وكلها صحيحة إلا أنه نسي التنبيه على اختلاف الرواية.
[ (3) ] في (خ) «عضاة» .
[ (4) ] زيادات من (ابن هشام) ج 4.
[ (5) ] في (خ) «فإن» وهذا نص (ابن هشام) ج 4.
محمد بن عبد اللَّه، فلا يتعده أحد فيظلم نفسه فيما أمر به محمد رسول اللَّه.