«فصل» وأما تواضعه صلى الله عليه وسلم على علو منصبه فانه منتشر والخبر به مشهور وحسبك انه خيّر بين أن يكون نبيا ملكا أو نبيا عبدا فاختار أن يكون نبيا عبدا فقال له اسرافيل فان الله قد أعطاك بما تواضعت له انك سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من تنشق عنه الارض وأول شافع. وكان صلى الله عليه وسلم يجيب من دعاه وان كان دنيا بلبيك ويعود المساكين ويسلم على الصبيان اذ امر عليهم ويجالس الفقراء ويجلس بين أصحابه محيطا بهم حيث ما انتهى به المجلس ويعجب مما يعجبون ويضحك مما يضحكون. وقالت عائشة كان في بيته في مهنة أهله يفلى ثوبه ويحلب شاته ويرقع ثوبه ويخصف نعله ويخدم نفسه ويقم البيت ويعقل البعير ويهنئه ومر بغلام يسلخ شاة وما يحسن فقال له تنح حتى أريك فادخل يده صلى الله عليه وسلم بين اللحم والجلد فدحس حتى دخلت الى الابط وكان يذبح أضحيته وبدنه ويعلف ناضحه ويأكل مع الخادم ويعجن مع أزواجه ويحمل بضاعته من السوق ودخل عليه صلى الله عليه وسلم رجل فارتعد من هيبته فقال هون عليك فانى لست بملك انما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد ودخل صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح مطأطئا رأسه حتى كاد يمس عثنونه قادمة الرحل والطبراني وابن أبى عدى عن أبي امامة وأخرجه ابن جرير عن ابن عمر.
(فصل) في تواضعه صلى الله عليه وسلم (وحسبك أنه خير الي آخره) هذا لفظ عياض في الشفاء (ويسلم على الصبيان) فيه استحباب السلام على الصبى المميز وذكر أبو نعيم في كتابه عمل اليوم والليلة أن صفة السلام على الصبيان السلام عليكم يا صبيان (في مهنة أهله) أي خدمتهم وهو بفتح الميم وحكي أبو زيد والكسائي الكسر وانكره الاصمعي وعن المزي أن كسر الميم أحسن ليكون على الخدمة وزنا ومعني (وكان يفلي ثوبه) أخرجه أبو نعيم في الحلية عن عائشة. قال الشمنى قيل إنه عليه الصلاة والسلام لم يقع عليه ذباب قط ولم يكن القمل يؤذيه تكريما له وتفخيما (ويحلب شاته) أخرجه أبو نعيم أيضا عنها وكذا قوله ويخدم نفسه (ويرقع ثوبه ويخصف نعله) أخرجه أحمد عنها والخصف باعجام الخاء واهمال الصاد هو الخرز (ويقم) بضم القاف أي يكنس (البيت) زاد أحمد ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم (ويهنئه) بالنون بوزن يلزمه أى يطلبه بالبناء بالهمز والمد وهو القطران (فدحس) بمهملات (وكان يذبح أضحيته) بيده أخرجه أحمد عن أنس (ناضحه) باعجام الضاد واهمال الحاء أي بعيره وأصل الناضح الذي يستقى عليه ثم استعمل في غيره توسعا (فارتعد من هيبته) ولعياض في الشفاء فاصابته من هيبته رعدة (تأكل) بالفوقية (القديد) اللحم المقدد أي المقطع (عثنونه) بضم المهملة والنون المكررة وسكون المثلثة بينهما قال في القاموس العثنون اللحية أو ما فضل منها بعد العارضين أو نبت على الذقن وتحته سفلى أو هو طولها أو شعرات
وذلك حين عجب النفوس وحج في حجة الوداع على رحل رث عليه قطيفة ما تساوى أربعة دراهم. وقال اللهم اجعله حجا لا رياء فيه ولا سمعة واهدى فيها مائة بدنة وعن أنس ان امرأة كان في عقلها شيء جاءت الى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت ان لى اليك حاجة قال اجلسى يا أم فلان في أى طرق المدينة شئت اجلس اليك قال وكانت الامة تأخذ بيده صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت وقال أبو هريرة اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم سراويل من السوق فذهبت لاحملها عنه فقال صاحب الشيء أحق بشيئه أن يحمله ولما جاء أبو بكر بابيه يوم الفتح قال له صلى الله عليه وسلم لم عنيت الشيخ الا تركته حتى أكون انا آتيه في منزله وكان صلى الله عليه وسلم يقول لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى انما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله وقال لا تفضلوا بين الانبياء ولا تفضلونى على يونس بن متى ولا تخيرونى على موسى ونحن أحق بالشك من ابراهيم طوال تحت حنك البعير (رث) بتشديد المثلثة أي خلق بال (وقال) تعليما لامته (اللهم اجعله حجا لا رياء فيه ولا سمعة) أخرجه ابن ماجه عن أنس (حاجة) بالنصب (يا ام فلان) هي ام زفر بضم الزاى وفتح الفاء ثم راء ماشطة خديجة واسمها شعيرة الحبشية (وقال أبو هريرة) كما أخرجه عنه الطبراني في الاوسط وابن عساكر (سراويل) قال الشمنى لم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم لبسها ولكنه اشتراها ولم يلبسها وفي الهدى لابن قيم الجوزية انه لبسها قالوا وهو سبق قلم قال واشتراها باربعة دراهم وفي الاحياء أنه اشتراها بثلاثة دراهم (ألا تركته) بالتخفيف على العرض وبالتشديد بمعن هلا (لا تفضلوا بين الانبياء) قال العلماء هو محمول على تفضيل يؤدي الى تنقيص المفضول أو يؤدي الى الخصومة والفتنة كما هو سبب الحديث أو مختص بالتفضيل في نفس النبوة ولا تفاضل فيها وانما التفاضل بالخصائص وفضائل اخرى. قال النووي ولا بد من اعتقاد التفضيل بعد ما قال تعالى تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ (لا تخيروني على موسى) قال ذلك قبل أن يعلم أنه أفضل منه أو هضما لنفسه وتواضعا (لا تفضلوني على يونس) في رواية اخرى في الصحيحين من قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب وفي الاخرى ما ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى فاما على الرواية الاولى فالكلام عليه كما سبق في قوله لا تخيرونى على موسى وكذلك في الروايتين الأخيرتين ان قلنا ان الضمير في اناله صلى الله عليه وسلم وأما ان قلنا الضمير للقائل فمعناه لا يقول ذلك بعض الجاهلين المجتهدين في نحو العبادة فانه لو بلغ من الفضائل ما بلغ لم يبلغ درجة النبوة (نحن أحق بالشك من ابراهيم) قال في التوشيح قيل هو شك كان قبل النبوة وقال ابن جرير سببه حصول وسوسة من الشيطان لكنها لم تستقر ولا زلزلت الايمان الثابت والمختار خلاف ذلك وأن معنى الحديث نفي ذلك الشك عنه أى لم يحصل لابراهيم شك حين قال ربى أرني كيف تحيى الموتى وأنه لا أعظم من ذلك ولو شك لكنا نحن أحق منه بذلك قال ذلك تواضعا منه أي وقد علمتم اني لم أشك وابراهيم لم يشك وانما أراد طمأنينة القلب بالترقى الى مرتبة عين اليقين التى هي أبلغ من علم اليقين وقيل سأل ذلك
ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف ثم جاء الداعى لاجبته.
[