في شهر صفر من عام 4 هـ، عند ماء لقبيلة هذيل بناحية الحجاز بين رابغ ومكة.
قادها عاصم بن ثابت برواية البخاري، وقيل مرثد بن أبي مرثد الغنوي برواية ابن إسحاق.
خديعة وفد قبائل مشركة ببعثة مسلمة، طلبوها لتعليمهم الدين، ولكنهم باعوهم لرؤوس الشرك بقريش، فجاهد الصحابة الكرام حتى استشهدوا وقتل بعضهم في الأسر .
قدم على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم قوم من عضل وقارة، وذكروا أنهم يريدون الإسلام، وسألوا أن يبعث معهم من يعلمهم الدين، ويقرئهم القرآن، فبعث معهم نحو عشرة برواية البخاري، فذهبوا معهم، فلما جاءوا ماء لقبيلة هذيل نادى المشركون على بني لحيان، وكان المسلمون بقيادة عبد الله بن أنيس قد قتلوا قائدهم خالد بن هذيل، وقد تبعوا الصحابة هذه المرة في نحو مائة من الرماة، حتى لحقوهم عند جبل لجأ المسلمون إليه لما شعروا بالغدر.
ادعى الرماة المشركون أن للمسلمين عهد إن نزلوا من الجبل، بألا يقتلوا منهم رجلا، فأبى القائد المسلم عاصم بن ثابت وقاتلهم، وقتل هو وسبعة من أصحابه، وكان ينشد قبل موته:
الموت حق والحياة باطل ** وكل ما قضى الإله نازل
أعطى المشركون عهدا جديدا لمن بقي، أي الثلاثة : خبيب وزيد بن الدثنة وعبدالله بن طارق، فنزلوا إليهم، فتحقق الغدر وربطوهم بأوتار قسيهم، فقال عبدالله: هذا أول الغدر، وأبى أن يصحبهم، فحاولوا علاجه على أن يصحبهم، فلم يفعل، فقتلوه.
وقد باع المشركون من هذيل الصحابيين خبيب وزيد بمكة، وكانا قتلا من رؤوسهم يوم بدر، فأما خبيب فمكث عندهم مسجونا، ثم أجمعوا على قتله، فخرجوا به من الحرم إلى التنعيم، فلما أزمعوا على صلبه قال: دعوني حتى أركع ركعتين، فتركوه فصلاهما، فلما سلم قال: والله لولا أن تقولوا: إن بي جزع لزدت، ثم قال: اللهم احصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تبق منهم أحدا، ثم أنشد أبياتا منها:
وقد خيروني الكفر والموت دونه فقد ذرفت عيناي من غير مدمع
ولست أبالي حين أقتل مسلما على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع
وقيل عن خُبيب أنه "بليع الأرض" فقد نقل ابن الجوزي رحمه الله، أن عمرو بن أمية هو الذي أنزل خبيبا عن صليبه، فعنه قال: جئت إلى خشبة خبيب فرقيت فيها فحللته فوقع إلى الأرض، ثم التفت فلم أر خبيبا ابتلعته الأرض.
وكان خبيب تحرك على الخشبة فانقلب وجهه عن القبلة: أي الكعبة فقال: اللهم إن كان لي عندك خير فحول وجهي نحو قبلتك، فأجابه الله بتحويل وجهه، فحمده كثيرا.
ولما سمع أبوسفيان دعاء خبيب على المشركين، ألقى بنفسه إلى الأرض على جنبه خوفا، وكان هو من سأله قبل القتل: أيسرك أن محمدا عندنا نضرب عنقه، وأنك في أهلك؟ فقال: لا والله ما يسرني أني في أهلي وأن محمدا في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه. وقد دعت قريش 40 ولدا ممن قُتِل آباؤهم يوم بدر فطعنوا خبيب برماحهم، ثم صلبوه ووكلوا به من يحرس جثته. وكان أول من تولى قتل خبيب هو عقبة بن الحارث وكان خبيب قد قتل أباه حارثا يوم بدر.
تمنى خبيب قبل شهادته أن يقريء أحدهم عنه السلام لنبي الله صلى الله عليه وسلم، وعن أسامة بن زيد أن الرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم كان جالسا مع أصحابه فأخذه ما كان يأخذه عند نزول الوحي فسمعناه يقول: ورحمة الله وبركاته، فلما سري عنه قال: هذا جبريل عليه السلام يقرئني من خبيب السلام، خبيب قتلته قريش
فأرسل الرسول محمد صلى الله عليه وسلم المقداد والزبير بن العوام في إنزال خبيب عن خشبته. وفي لفظ قال: «أيكم ينزل خبيبا عن خشبته وله الجنة؟ فقال له الزبير بن العوام : أنا يا رسول الله وصاحبي المقداد بن الأسود، فجاءا فوجدا عندها أربعين رجلا لكنهم سكارى نيام فأنزلاه» وذلك بعد أربعين يوما من صلبه وموته.
وقدما على الرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم المدينة وكان عنده جبريل عليه السلام، فقال له جبريل: يا محمد إن الملائكة تباهي بهذين الرجلين من أصحابك، وقيل أنه نزلت فيهما: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله} البقرة : 207
وفي الصحيح أن خبيبا أول من سن الركعتين عند القتل، وأن امرأة من بني الحارث الذين أسروه رأته وهو أسير يأكل قطفا من العنب، وما بمكة ثمرة واحدة، وقد أرسل إليها يطلب موسي "حديدة" يستحد بها قبل القتل، وقد أرسلت إليه غلاما، وسبحان الله لم تتوقع غدره رغم أنه أسير عندهم، وشهدت بأنها ما شهدت أسيرا في صلاحه.
وأما زيد بن الدثنة فابتاعه صفوان بن أمية فقتله بأبيه الذي قتل ببدر.
كان المشركون قد أسروا الثلاثة حتى انقضت الأشهر الحرم فخرجوا بهم لقتلهم، وبعثت قريش إلى عاصم ليؤتوا بشيء من جسد يعرفونه- وكان عاصم قتل عظيما من عظمائهم يوم بدر- فبعث الله عليه مثل الظلة فضل رسل قريش فلم يقدروا منه على شيء. وكان عاصم أعطى لله عهدا أن لا يمسه مشرك، ولا يمس مشركا، وكان عمر لما بلغه خبره يقول : يحفظ الله العبد المؤمن بعد وفاته كما يحفظه في حياته
"زاد المعاد" لابن القيم 2/109، "السيرة النبوية" لابن هشام ،2/620، "الرحيق المختوم" للمباركفوري ص 293، و"السيرة الحلبية"