سميت حجة الوداع لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ودع الناس فيها، وسميت حجة الإِسلام لأنه لم يحج من المدينة غيرها، وسميت حجة البلاغ لأنه بَلّغ الناس فيها شرع الله في الحج قولًا وعملًا وأشهدهم على ذلك.
خرج - صلى الله عليه وسلم - من المدينة لخمس بقين من ذي القعدة في السنة العاشرة، وبات في الوادي المبارك وادي العقيق، فلما كان بذي الحليفة صلى الظهر وأحرم من مصلاه، ثم لبىّ عندما استوى على راحلته راكبًا، فلما أخذت به في البيداء لَبّى بالحج، وساق معه الهدي.
وسار حتى وصل مكة لخمس خلون من ذي الحجة، وعندما وصل مكة بات بذي
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب حج أبي بكر بالناس في سنة تسع ح 4363.
طوى (1) حتى أصبح، فاغتسل ودخل مكة من ثنية كداء (الحجون) ثم دخل الحرم من باب بني شيبة (2)، ثم طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة.
وفي اليوم الثامن من ذي الحجة توجه إِلى مني فصلى بها الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والفجر، ثم مكث قليلًا حتى طلعت الشمس، ثم سار إِلى عرفه وخطب خطبة عظيمة بعرفه جاء فيها: إِن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإِن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب -كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل- وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه من ربانا ربا العباس بن عبد الطلب فإِنه موضوع كله، واتقوا الله في النساء، فإِنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإِن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مُبرِّح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تَضِلّوا بعده إِن اعتصمتم به: كتابُ الله، وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت ونصحت وأديت. فقال: اللهم اشهد ثلاثًا (3).
ثم صلى الظهر والعصر جمعًا وقصرًا، ووقفى بعرفة حتى غربت الشمس، ونزل عليه في موقفه ذلك قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (4).
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الحج ح رقم 1574 ومسلم ح 1259.
(2) تهذيب سيرة ابن كثير ص 613.
(3) صحيح مسلم من حديث جابر ح رقم 1218.
(4) سورة المائدة، آية 3.
قال عمر: نزلت على رسول الله عشية عرفة يوم الجمعة (1)، ثم سار حتى وصل مزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء، ثم نام حتى الفجر، ثم استقبل القبلة ودعا وحمد الله وكَبّره وهلّله ووحّده حتى أسفر جدًا.
ثم انطلق إِلى منى، والتُقِطت له سبع حصيات مثل حصى الخذف، ورمى بهن جمرة العقبة، ثم انصرف إِلى المنحر، فنحر ثلاثًا وستين بدنة بيده، ثم أعطى عليًّا فنحر ما غبر، وأشركه في هديه وهو مائة بدنة، ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قِدْر فطبخت، فأكلا من لحمها وشربا مِن مرقها (2)، ثم أمر الحلاق فحلق رأسه، ثم أفاض من يومه وطاف بالبيت سبعًا، ثم عاد إِلى منى فبات بها ليالي أيام التشريق، يرمي الجمرات إِذا زالت الشمس، كل جمرة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة.
وقد خطب يوم النحر خطبة عظيمة كرر فيها بعض ما جاء في خطبته يوم عرفه وزاد مثل قوله: لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض. وقوله: إِن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا منها أربعة حرم، ثلاث متواليات، ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان (3).
وقوله: إن أمِّر عليكم عبدٌ مُجدَّع يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا.
وقال: إِنما هن أربع، لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إِلا بالحق، ولا تزنوا، ولا تسرقوا.
وقال: أمك وأباك، وأختك وأخاك، ثم أدناك أدناك. وقال: ولا يجنى جان على
__________
(1) صحيح البخاري كتاب الإيمان ح رقم (45) ومسلم ح رقم (3017).
(2) صحيح مسلم ح رقم (1218).
(3) صحيح البخاري ح رقم 4405 و 4406.
ولده، إلا إِن الشيطان قد يئس أن يُعبد في بلدكم هذا، ولكن سيكون له طاعة في بعض ما تحتقرون من أعمالكم فيرضى.
وقال: اعبدوا ربكم، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم وأطيعوا ذا أمركم، تدخلوا جنة ربكم.
وقال: إِن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث، والولد للفراش، وللعاهر الحجر، وحسابهم على الله، ومن ادعى إِلى غير أبيه أو انتمى إِلى غير مواليه فعليه لعنة الله متتابعة إِلى يوم القيامة، لا تنفق امرأة شيئًا من بيتها إِلا بإِذن زوجها. وقال: العارية مؤداة والمنحة مردودة، والدَّين مَقْضِيّ، والزعيم (1) غَارِمٌ (2).
,
وقد حزن الأنصار رضي الله عنهم لمرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمر بهم العباس وهم يبكون، فقال: ما يبكيكم؟ قالوا: ذكرنا مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - منا، فدخل العباس على رسول الله فأخبره بذلك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: صُبّوا عليّ من سبع قِرَب من سبع آبار شتى، حتى أخرج إِلى الناس فأعهد إِليهم، فصبوا عليه فوجد راحة فخرج -وذلك قبل أن يموت بخمس- عاصبًا رأسه بخرقة حتى أهوى إِلى المنبر، وكان آخر مجلس جلسه، فحمد الله وأثنى عليه واستغفر للشهداء من أصحاب أحد ودعا لهم ثم قال: أيها الناس ثوبوا (1) إِلي، فثابوا إِليه ثم قال:
أما بعد: أوصيكم بالأنصار خيرا فإِنهم كرشي وعيبتي (2)، فأكرموا كريمهم وتجاوزوا عن مسيئهم إِلا في حَدّ (3)، وإِن عبدًا خَيّره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده فاختار ما عنده، فلم يفطن لها أحدُ غير أبي بكر فبكى وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا -يقول أبو سعيد الخدري- فعجبنا له وقلنا ما لهذا الشيخ يبكي، فكان رسول الله هو المخَيّر وكان أبو بكر أعَلَمنَا، وقال رسول الله: يا أبا بكر لا تبك، إِن من أمَنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذًا خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكن أخوة الإِسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إِلا سُدّ إِلا بابَ أبي بكر (4).
وإِني بين أيديكم فرط (5)، وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض، وإِني لأنظر إِليه من مقامي هذا. وإن عرضه كما بين أيلة إِلى الجحفة.
__________
(1) ثوبوا إلي: اجتمعوا واقتربوا حتى يسمعوا ما يقول.
(2) كرشي وعيبتي: خاصتي وموضع سري.
(3) صحيح البخاري ح 3799، ومسلم ح 2510.
(4) صحيح البخاري ح 3654.
(5) فرط: متقدم وسابق إِلى الحوض.
وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها وتقتتلوا فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم (1).
ألا وإِن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إِني أنهاكم عن ذلك (2).
هذه الخطبة خطبها النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو متألم متوجع، ولم يمنعه المرض أن يقول ما أمر الله به أن يبلّغه لأمته وفي هذا دلالة على عظيم شفقته على الأمة، ولذلك فإِنها بحاجة إِلى دراسة وتأمل واهتمام بما تضمنته. مثل الوصية بالأنصار، وبيان فضائل أبي بكر وأنه أعلم الصحابة، وفيها تبشير الأمة بحوضه الشريف، وأن موعدهم معه الورود على الحوض وبيان سعته، وشهادته على الأمة، وفيها التحذير من الدنيا والتنافس فيها والاقتتال عليها، وكذا التحذير من طرائق اليهود والنصارى واتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد والنهي الصريح عن ذلك.
,
من رحمة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمته وخشيته عليهم من الشهوات والشبهات ونصحه لهم، أنه أوصاهم بجملة من الوصايا في أيام مرضه، وكرّر بعضها أكثر من مرة وهو في تلك الحالة، وأكد عليها قبل موته مما يوجب العناية بها، فمن تلك الوصايا:
1 - الوصية بالأنصار - رضي الله عنهم - وإِكرام كريمهم والتجاوز عن مسيئهم إِلا في حدود الله.
2 - الوصية بإِخراج المشركين من جزيرة العرب.
3 - الوصية بالصلاة، وبملك اليمين من العبيد والخدم وما شابههم من الضعفاء.
__________
(1) صحيح البخاري ح 1344، ومسلم 2296.
(2) رواه مسلم ح 532، وانظر نص الخطبة وتخريجها في كتاب الأيام الأخيرة من حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ص 43 - 75.
4 - إِحسان الظن بالله، قال - صلى الله عليه وسلم - قبل موته بثلاثة أيام: لا يموتن أحدكم إِلا وهو يحسن الظن بالله عَزَّ وَجَلَّ (1)، وفائدة حسن الظن بالله عند الممات بينها النبي بقوله: يبعث كل عبد على ما مات عليه (2).
5 - التحذير من التنافس في الدنيا والاقتتال عليها فإِن ذلك من أسباب الهلاك.
6 - أوصى أن يصلي بالناس أبو بكر، فراجعته عائشة وقال: إِن أبا بكر رجل رقيق متى يقم مقامك لا يستطيع يصلي بالناس، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "إِنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس"، فصار أبو بكر يصلي بهم.
وفي فجر يوم الإِثنين الذي توفي فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كشف ستر الحجرة ونظر إِليهم وهم صفوف خلف أبي بكر فتبسم يضحك، فهمّ الصحابة أن يفتتنوا من الفرح برؤية النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف وظن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خارج إِلى الصلاة، فأشار النبي أن أتموا صلاتكم وأرخى الستر (3)، فتوفي من يومه، وفي لفظ: فلم يُقْدَر عليه حتى مات.
وقد أعتق - صلى الله عليه وسلم - قبل وفاته غلمانه وتصدق بمال كان عنده، وجاءته ابنته فاطمة في يوم وفاته فحدثها سِرًا فبكت، ثم حدثها فضحكت، وعند سؤالها بعد ذلك قالت: إِنه أخبرها أنه يقبض من وجعه فبكت، ثم أخبرها أنها أول أهله لحاقًا به فضحكت (4).